ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: الغرائز والأخلاق: محاولة في تهذيب الوحش الإنساني الإثنين 09 أكتوبر 2017, 5:04 am | |
| الغرائز والأخلاق: محاولة في تهذيب الوحش الإنساني (1 - 2)
معاذ بني عامر في الجزء الثالث من مسلسل "سبارتاكوس Spartacus" الذي أنتج في العام 2013، يُحاصَر سبارتاكوس وأتباعه في منطقة ثلجية ويبقون هناك لفترة طويلة، حيث تعرّضوا لظروف قاسية ومؤلمة إلى حدّ أن المُشاهِد يتمنى أن يدخل في الشاشة لينقلهم من هذه المنطقة إلى منطقة أكثر دفئاً وأمناً. فالمُشترك الإنساني بين المُشاهِد والمُشاهَد يجعلهما يدخلان في علاقة حميمة حتى ولو في العالَم الافتراضي. لكن السؤال المطروح: ماذا لو كان سبارتاكوس وأتباعه هم أعداء هذا المُشاهِد على أرض الواقع؛ هل سيبقى هذا المشترك قائماً بينهما، أم سيكون ثمة سعي كبير لإيرادهم موارد التهلكة والقضاء عليه قضاء مبرماً؟ لكي يحلّ سبارتاكوس معضلة الحصار والثلوج، فإنه يلجأ إلى اقتحام إحدى المدن القريبة، لكنها تستعصي عليه لبعض الوقت نظراً للتحصينات التي حظيت بها ومن ضمنها خندق واسع يسوّرها ويجعلها منيعة أمام أي اقتحام. لكن في النهاية يتمكن سبارتاكوس وأتباعه من دخول المدينة فيُعْمِلْوَنَ السيف في أعناق سكّان المدينة ويذبحونهم عن آخرهم. وسط هذه المشهدية الميلودرامية يعمد سبارتاكوس، في واحدة من أفظع مشاهد المسلسل، إلى عمل جسر من جثث الأعداء لكي يردموا جزءاً من الخندق ويسهلّوا عمليات التنقّل؛ فتنعدم القيمة الحقيقة للإنسان ولا يعود له من معنى إلا بالقدر الذي يخدم الغرائز الوحشية لدى الطرف الآخر. سؤال آخر هَهُنا مُكمّل للسؤال السابق: ما هو حجم الحقد والكراهية الذي كان يعتمل في نفوس سبارتاكوس وأتباعه لكي يلجأوا إلى هذا الخيار العبثي وذلك بإهانة الإنسان ومعاملته معاملة حيوانية؟. بالعودة إلى الخلف، أشيرُ إلى أن سبارتاكوس كان قد تعرّض لمعاملة مُهينة في الجزء الأول من المسلسل الذي أنتج في العام 2011، وقد عمل الرومان على إفقاده كل ما من شأنه أن يُشعره بإنسانيته، وفوق هذا فقد دربّوه لكي يقاتل الوحوش، إذ عملوا على مسخ آدميته والانحدار بها بما يليق بحيوانٍ ضارٍ، لا بإنسان كريم. سؤال ثالث مهم قد ينبثق إلى ذهن القارئ حول مشروعية ما أتحدث عنه، فأنا أتحدث عن مسلسل تلفزيوني لا عن حدث واقعي، بما يفقد السؤالين السابقين مشروعيتهما الواقعية، فهما محض سؤالين افتراضيين ليس إلا؟ سؤال رابع: هل الواقع أقل وحشية من العالم الافتراضي، بما يجعل من الأسئلة السابقة أسئلة خيالية أكثر منها حقيقية؟. فهل –من جهة- كان قادة روما على أرض الواقع أكثر حناناً وإنسانية في تعاملها مع سبارتاكوس حتى لا يثور عليها ويقذف حمم حقده وغضبه في وجهها؟ ومن جهة ثانية، هل استلزمَت المعاملة القاسية التي تعرّض لها "سبارتاكوس" انتقاماً حادا لمن عاملوه تلك المعاملة؟. ما الذي فعله "معمّر القذافي" –أعي هذه النقلة الفجائية في سياق الكلام، لأقول إن الإنسان لم يتغيّر حتى بعد ألفين من السنين وأكثر عمّا كان عليه يومذاك من وحشية وقسوة- لكي لا يعمد ثوّار ليبيا إلى سحله والتنكيل بجثّته في الشارع؟. في مقالة سابقة موسومة بـ (مسلكية الذات المفصومة: المذبحة الافتراضية كأنموذج) كنتُ قد أشرتُ إلى عنف الكائن البشري، والقدرة التدميرية التي تنطوي عليها بنيته التأسيسية، سواء في الواقع المعيش أو في العالَم الافتراضي. فهو خاضع للطرف الأول من المقولة الفلسفية: "الإنسان حيوان عاقل"؛ أعني لـ "الإنسان حيوان". فمن ناحية ما يزال الإنسان وفياً لمسلكياته الحيوانية لا سيما ما تعلّق منها بفائقية بطشه وجبروته على حساب حنانه ورقّته. ومن ناحية ثانية فهو إذ يتمثّل المقولة الفلسفية ضمن سياقها الكامل، لناحية أنه "حيوان عاقل"، أي رحلة الارتقاء من الغرائز الوحشية إلى المَلَكَة العقلية، فإنّ أي استخدام لأداة العقل في التبرير –وما أكثرها- لوحشية الإنسان وقسوته تجاه الآخر المُطْلَق، على اعتبار أن الذات مُطْلَقة هي الأخرى هَهُنا، سيكون بمثابة الارتكاسة الكبيرة للإنسان ناحية الحيوانية مرة أخرى. ففي الأساس هو حيوان، واستخدامه للأداة ( = العقل) التي انتقل بموجبها من مرحلة (الحيونة) إلى مرحلة (التعقّل)، وذلك بتبرير مسلكياته البربرية والوحشية، سيجعله حيواناً مرتين. فتلك إدانة إضافية له، لأنه لم يكن أميناً على تلك الانتقالة الكبيرة في بنيته التكوينية، فهو إذ يستخدم أداة العقل ليعود القهقرى إلى مرحلة أدنى من الحيوانات الضارية، فإنه لا يقف عائقاً أمام الحضارة الإنسانية وما يمكن أن تجترحه من إنجازات جديدة فقط -التي كان للعقل دور تأسيسي في إبراز معالمها- بل إنه يعمل، من حيث يدري أو لا يدري، على تدمير ما قام من الحضارة الإنسانية ومنجزات الإنسان المادية والمعنوية في هذا العالَم. فهو يُدمّر بالاتجاهين، الاتجاه الماضوي وما يحتمله من إمكان تراكمي، والاتجاه المستقبلي الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة سليمة دونما هضم واستيعاب وتجاوز لتلك التراكمات الماضوية. إذاً، ما الذي فعلناه، أعنينا نحن البشر، لكي نعمل على تهذيب أنفسنا والانتقال بها من السياقات الوحشية التي ما تزال تمارس بضراوة حتى هذه اللحظة، إلى السياق الأخلاقي الذي ينظر إلى الإنسان على الإطلاق بصفته شريكاً في إنجاز معمار الحضارة الإنسانية؟ ماذا فعل الرومان لـ "سبارتاكوس" لكي يُعاملهم معاملة غير تلك التي عاملهم بها، ساعة تمكّن منهم؟ وما الذي أسّس له "معمّر القذافي" لليبيين على مدار أربعة عقود، لكي لا يعاملوه تلك المعاملة المهينة في شوارع طرابلس؟ هل يعيش الإنسان ردّة فعل تجاه جلاده، لكي يتمثّل دوره ساعة يتمكّن منه؟ فتلك البكائية التي يعيشها لناحية هدر الجلاد لكرامته وحقوقه، هي من باب تحيّن الفرص للانقضاض على الآخر، وممارسة الدور ذاته الذي تأذّى منه سابقاً؟. وهل يعيش الإنسان حالة من الكذب المُطْلَق تجاه منظومتي الخير والشرّ، فهو إذ يدين الشرّ فلأنه يتأذّى منه تحديداً، أما إذا طال غيره فلا ضير؟ وهو إذ يتقبّل الخير فلأنه يتكسّب منه أما إذا طال غيره سعى إلى هدره؟. هذه الأسئلة وسابقاتها يمكنني اختصارها بسؤل واحد لكنه شامل: إلى أيّ حد بقي الإنسان وفياً لمسلكياته الحيوانية في البطش والجبروت، ولم يستطع التأسيس لمُدونة أخلاقية من شأنها الانتصار للقيم العليا من حب وخير وسلام وجمال، بما يضع المقولة الفلسفية: "الإنسان حيوان عاقل"، موضع اختبار حقيقي لملكات الإنسان العليا، لا لغرائزه الدنيا؟. في المقالة القادمة سأجترح في تقديم إجابة مُتحرّكة، لكي يبقى السؤال مُشْرعَا على مزيد من التأملات والاستلهامات والمطارحات التي يمكن أن نساهم فيها جميعا. |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الغرائز والأخلاق: محاولة في تهذيب الوحش الإنساني الإثنين 09 أكتوبر 2017, 5:05 am | |
| الغرائز والأخلاق: محاولة في تهذيب الوحش الإنساني (2 - 2)إن سؤالاً من نوع (كُنت قد سألته في نهاية المقالة السابقة):إلى أيّ حدّ بقي الإنسان وفياً لمسلكياته الحيوانية في البطش والجبروت، ولم يستطع التأسيس لمُدونة أخلاقية من شأنها الانتصار للقيم العليا من حب وخير وسلام وجمال؟سيضعنا أمام (حرج) على المستوى الضميري، و(مُحارجة) على المستوى المعرفي.فالحرج الضميري سينبثق من إخفاق هذه المَلَكة الإنسانية ( = الضمير) في السيطرة على الاندفاعات الغريزية الحيوانية الكامنة في النفس، والقدرة التدميرية التي تنطوي عليها هذه الغرائز، لناحية البطش ليس بالبشر فحسب، بل وبكل ما له علاقة بالبشر من أشياء وأفكار ومقتنيات أيضاً. فما يزال الإنسان حتى هذه اللحظة غير قادر على الدفع قُدما بقوة ضميره ناحية الأمام، بل إنه يعاني اليوم معاناة شديدة جرّاء هذا الإخفاق، فالوجود الحقيقي المُتمظهر في الواقع المعيش ليس عنفاً ودما وذبحاً على المستوى المادي والجسدي فقط، بل وإهانة للجانب المعنوي عند الإنسان أيضاً، عبر تحقيره والنيل من كرامته ومعاملته معاملة فيها ما فيها من هدر له ولقيمه العليا.وفي هذا المجال قد يتأتى هاجس لدى أحد مِنَّا أنه ليس شريكاً في الإعلاء من شأن الغرائز الوحشية، والتقليل من شأن القوة الضميرية. أنا أقول: كلنا شركاء –لكي نعي المسؤولية جميعاً، ولا نلقي باللوم على أحد من دون الآخرين- فليس من أحد لا يُعزّز هذه المسلكية يوماً إثر يوم، وإذا ما صحونا على أحد يريد أن يعكس الآية اتهمناه بالخيانة أو الصفاقة أو التنكّر للسياق الجمعي الذي لا يرى الحقّ ومواضعاته خارج هذا السياق أو لروح الأمة أو لقيم الصداقة أو الانتصار للأعداء أو محاباتهم...الخ. نعم، إننا نُعجب اليوم بصلاح الدين الأيوبي بصفته تعامل بأخلاق نبيلة مع "ريتشارد قلب الأسد". لكن ماذا لو حدث مثل هذا الأمر بين ظهرانينا؟ هل سنقبل به بصفته مسلكية أخلاقية كبرى تستوجب احتراماً، أم خيانة عظمى تستوجب قتلاً؟.إنّ العِبرة ليست في استدعاء أمثلة تاريخية للتأكيد على أن ثمة بذرة خيّرة لدى الإنسان، بل هي في المسلكية التي يمكن أن يسلكها الإنسان هو تحديداً وفي زمنه الحاضر، بما يؤكد انتصار ضميره ونسقه الأخلاقي، على وحشيته وسياقاته الغرائزية. لكن –من جهة ثانية- هذا مطلب عظيم يخفق الناس أو الغالبية العظمى من الناس، في تمثّله واستحضار معانيه في الواقع المعيش، بما يتجاوز حدود الطوبى المُشتهاة. فـ (حرج الضمير) مقترن تمام الاقتران بـ (المحارجة المعرفية) التي يمكن أن ينتجها الصراع بين كون الإنسان وحشاً ضارياً أو كائناً أخلاقياً. إذ تنشأ المحارجة المعرفية –استكمالاً لموضوعة الحرج الضميري- من عدم تطوير الإنسان لأنساق معرفية تؤكّد وجوده ككائن أخلاقي، فما تزال مثل هذه الأنساق شحيحة وقليلة. وإذا ما وجدت فتجنح ناحية الطوبى أكثر من جنوحها ناحية الواقع. نعم، ثمة دعوات إلى أن الإنسان يمكن أن يكون ملاكاً وديعاً، لكن أينها تلك الدعوات على أرض الواقع، بما يتجاوز حدود الأفراد ويؤثر في الجماعات؟هذا من جانب، أعني جانب شحّ في الأطروحات المعرفية التي تُؤسّس للإنسان الأخلاقي في العالَم، بحيث تتحوّل مقاربات هذه الأطروحات مع الزمن إلى صور ذهنية قادرة على تغيير العقول كمرحلةٍ أولية وضرورية لتغيير الأعيان والواقع المعيش. فالمقولة الفلسفية التي أشرتُ إليها في المقالة السابقة: "الإنسان حيوان عاقل" تتأكّد كمقولة عظيمة في جانبها الأول، أعني "الإنسان حيوان". لكن عقله الذي -أشرتُ إلى ذلك أيضاً في المقالة السابقة- يستخدمه في تبرير وحشيته وعنفه، ها هو يخفق مرةً أخرى في التأسيس لأنساق معرفية تبرز موجودية الإنسان موجودية أخلاقية، لا موجودية غرائزية. فحجم المساهمات العقلية في تمجيد القتل والعنف أكثر بكثير من حجم المساهمات العقلية في تمجيد الإنسان الأخلاقي، بما يُدين الإنسان مرةً ثالثة إذا ما ادعّى أنه كائن عقلي: 1- مرةً لأنه أدعّى أنه استخدم هذه الأداة ( = أداة العقل) في الانتقال من مرحلة الحيونة إلى مرحلة التعقّل، و2- مرة ثانية ساعة استخدم هذه الأداة في تبرير سلوكياته التي تعود به إلى مرحلة الحيونة، و3- مرة ثالثة ساعة أخفق في المساهمة بمادةٍ عقلية لتأكيد سيرته الأخلاقية التي تُعلي من شأن ضميره، بقدر ما ساهم بمادةٍ تؤكد سيرته الوحشية والعنيفة.إذاً، هذا من جانب. من جانب آخر، قد نجد إنساناً أخلاقياً على المستوى الفردي، لكن على المستوى الجمعي المسألة غاية في الصعوبة. فأوروبا –مثلاً- التي عاينت أربعة قرون من التنوير دفعت ثمناً باهظاً في حربين طاحنتين بداية ومنتصف القرن الماضي، إذ انتصر الوحش الضاري على الكائن العاقل. فالمادة التكوينية أو الصورة الذهنية القارّة في العقل الجمعي ومتجذرة في أعماقه، لناحية أن "الإنسان حيوان"، أقوى بما لا يقارن بكونه كائناً عاقلاً يسعى للخلاص من رواسبه الوحشية والتموضع في نسق أخلاقي عالٍ. حتى عندما أصدر "قسطنطين جورجيو" تحفته الأدبية (الساعة الخامسة والعشرون)، ودان فيها الوحش الأوروبي مُنعت في أوروبا كلها، إلى أن أفرج عنها لاحقاً، واعتبرتُها –كما وضحّت ذلك في مقالة: الساعة الخامسة والعشرون: القيامة الجديدة لأوروبا- نقطة تحوّل في التاريخ الأوروبي، بصفتها أسّست للإنسان الأخلاقي في أوروبا الحديثة. إذاً، مرة أخرى، الإنسان الأخلاقي نسق فردي بالدرجة الأساسية، ولم يصر بَعْدُ إلى تحوّله إلى نسق جمعي، لذا سينتصر -آناً ومستقبلاً إذا لم يتم تدارك الأمر من هذه اللحظة- الوحش الضاري على الكائن الأخلاقي. فالسياقات الجمعية للأمم والحضارات تدفع باتجاه إعلاء قيمة "الإنسان حيوان" لديه القدرة على الفتك والبطش بإفراط شديد، وليس لـ "الإنسان عاقل" القادر على ضبط نفسه وتعزيز مسلكياته الخيّرة.لكن، أليس في ذلك مدعاة لليأس والقنوط والاستسلام من ثمَّ إلى ثيمة القتل والذبح التي تعصف بالبشرية وتجعل من الناس محض حيوانات تقتات على جثث بعضها البعض؟أنا أقول: إن المسألة صعبة لكنها بإزاء إرادة الإنسان الحُرّ، الخيّر، الطيب، العبيط، الساذج، وما إلى ذلك مما يُمكن أن يُوصَف به إذا ما قرّر البدء بهذا المشروع الكبير. فهو بحاجةٍ إلى:1 - إنسان يبدأ بتجرّع كأس السمّ، لكي لا يفكّر مجرد التفكير بإيذائه للآخرين. فالمشكلة الأساسية التي انبنت عليها المقاربة الحيوانية للإنسان كانت بفعل العسل الذي انسفح أربع مرات: مرتين على المستوى الذهني ومرتين في المستوى الواقعي. مرةً في ذهن من خطّط لسفك دماء بعينها وإهانة كرامات بعينها، تعزيزاً أو إبرازاً لإرثه الحيواني؛ ومرةً في ذهن من فكّر بنفس طريقة المُخطّط الأول، لناحية سفك دمه وإهانة كرامته، تعزيزاً أو إبرازاً لإرثه الحيواني هو الآخر. ومرة ثالثة ساعة سُفكت الدماء وأهينت الكرامات على أرض الواقع، ومرة رابعة ساعة قُرّر تشغيل مسار العقلية الثأرية والانتقام ممن سفك الدماء وأهان الكرامات، تأكيداً لما قرّ في العقول من قبل وفعل فعلته على أرض الواقع.2 - الشروع فوراً بالتأسيس لأنساق معرفية تُعلي من شأن القيمة الأخلاقية للإنسان، لكي تقرّ كصورٍ قابلة للتوريث، ليس على المستوى الثقافي فحسب، بل والبيولوجي أيضاً.وعليه، فالمسألة صعبة لكنها بإزاء الإنسان إذا ما أراد أن ينتقل نقلته النوعية والجوهرية في هذه الحياة، أعني من سياقاته الحيوانية إلى آفاقه الأخلاقية. ليس إنقاذاً له وحده بل وللأجيال القادمة. فكما أسّس شخص ما لما نحن عليه الآن منذ آلاف السنين من قتل وذبح وإهانة واستهانة، يمكن لشخصٍ ما أن يُؤسّس هو الآخر لما يمكن أن يكون عليه هو الآن من محبة وتسامح وما يمكن أن ينقله للأجيال القادمة، بما يساهم مساهمة حقيقية في نقل الإنسانية جمعاء من طور (الحيونة العاقلة) إلى طور (الأنسنة الأخلاقية).إنه مشوار صعب، كابَدَ فيه ثلّة كُنتُ قد أشرتُ إلى بعضهم في مقالة: (تطهير القلب وتدريب العقل: نظرية الإنسان الأخلاقي). والآن، يمكنك أنت، ويمكنني أنا، ويمكننا جميعاً، أن نشرع في السير على درب الآلام هذا، لأن السير عليه يعني إحداث إزاحة كبرى في المعمار الوجودي، فالذات إذ تسير فإنها تُقرّر الانفصال عن سياق عُمره آلاف مؤلفة من السنين، لكي تتصّل بسياق طازج، ستكون آثاره عظيمة على البشرية جمعاء. |
|