الدكتور عبدالحميد القضاة*
كثيراً ما تنم تساؤلات أبنائنا في المدارس والكليات والجامعات والنوادي، عن جهل عميق في الأمور الجنسية وضوابطها الشرعية وعلاقتها بكمال العبادة! وهي مستغربة لأنها تستوضح عن بدهيات، أحرى بهم أن يعرفوها من صغرهم، ومقلقة لأنها بُنيت على معلومات خاطئة، استقيت من مصادر غير سليمة، ونتج عنها انعكاسات سلبية على حياتهم وأسرهم ومجتمعاتهم، الأمر الذي يستوجب تدارك الحال؛ لتلاقي هذا الجهل من واقعنا كبارا وصغارا، وذلك بتثقيفهم بأسلوب تربوي هادف، ينسجم مع قيمنا الإسلامية ومبادئنا الأخلاقية وضوابطنا الشرعية.
وحيث أن إدراك المشكلة وتشخيصها بشكل واضح ومباشر هو نصف الحل، بينما تجاهلها يمكن أن يؤدي إلى تفاقمها بصورة لا يصلح معها أي حل عند اكتشافها في وقت متأخر؛ فإننا نحاول أن ندخل إلى صلب الموضوع من خلال هذا الفصل، ونسبر غوره لتحديد ما إذا كنا بحاجة فعلية إلى التثقيف الجنسي، أم أن المسألة لا تعدو كونها اعتداء على أخلاقيات المجتمع، وتجاوز لحدود الأدب؟ كما تقضي به بعض موروثاتنا التقليدية، التي لا ترتكز إلى معتقد أو دين. ولن نقتفي في بحث الموضوع إثر المنهج الدارج باعتباره سراً، أو حراماً، لا يُسمح بمجرد الاقتراب منه، ولو لمعرفة ما إذا كانت هناك مشكلة أم لا؟
لقد اقتضت حكمة الله عز وجل في خلقه، أن وُضعت الغرائز في النفوس، وزُيِّنت الشهوات للناس، كما قال تعالى(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) وفتنة الشهوات من أشد ما يخشاه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على أمته حيث قالما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء) .ولعظم هذه الفتنة ضمن النبي صل الله عليه وسلم، الجنة لمن اتصف بالعفة فقال: (من يضمن لي مابين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة). فإذا كان هذا البيان والتقرير، والمكافأة والتكريم، في الوضع العادي والطبيعي للإنسان، في مجتمع اسلامي محافظ ونظيف، فكيف سيكون التكريم وكم ستكون المكافأة مع تطور وسائل الإعلام والاتصال؟ وانفتاح المجتمعات الإسلامية على المجتمعات الأخرى؟ حيث زادت وسائل الإثارة والإغراء، ووُظِّفت التقنيات الحديثة في استثارة الغرائز وتأجيجها، إما بدافع الربح المادي، أو تنفيذا لمخططات أبناء صهيون التي ترمي إلى تدمير أخلاق الأمم والشعوب؛ ليسهل قيادها واستعبادها،وعليه أفلا نكون بحاجة إلى تثقيف جنسي؟! أو ما يسمى بالتربية الجنسية؟!
إن نظرة متمعنة لما يدور حولنا وفي مجتمعاتنا، تجعلنا نجزم أن الملتزمين ممن هم في سن المراهقة، يُعانون بصمت، من وطأة هذه المشاعر الجنسية!! ويتساءلون بحيرة أين هم من المباح والممنوع؟ ومن الحلال والحرام؟ ثم إذا بقي الحال على ما هو عليه، وترك هؤلاء الأبناء من غير دليل! فكيف سيتم إعدادهم لاستقبال هذه المرحلة الحساسة من حياتهم القادمة، بكل ما تحويه من متغيرات نفسية وجنسية وفسيولوجية؟ ... فالأم: محرجة من أن تحدّث ابنتها في هذه الأمور، حتى في ضوابط الدورة الشهرية! ويزداد حرجها مع الابن الذكر. والأب المنشغل دوما بأعماله، لا يلتفت لذلك.
وهكذا بين الحرج والإهمال، تستمر المعاناة ويبقى الموضوع سرًا غامضًا، تتناقله ألسنة المراهقين همسا فيما بينهم، وهم يستشعرون الحرج، كأنهم يمارسون فعلا خاطئاً، يرتكبونه بعيدًا عن أعين الرقابة الأسرية! وفي عالم الأسرار والغموض، تنشأ الأفكار والممارسات الخاطئة، وتتضخم الرؤى، وتكبر الأوهام، وتنمو وتتشعب دون رقيب أو حسيب، حتى لتسمع احيانا أحدهم يهمس عن هذه الرؤى مع انفعالات نفسية لا ارادية، تراها من لغة جسده المنفعلة لا شعوريا! ثم تأتي الطامة، ويجد الشاب نفسه فجأة امام الزواج، ولم يتأهل بعد لهذا الموقف. وتزداد حيرته وقد أصبح في مواجهة حقيقية مع هذا الأمر، ويحتاج إلى ممارسة شرعية وواقعية وصحيحة.
هذا بالنسبة للشاب والفتاة الملتزمين العفيفين، حيث سيواجه كل منهما الآخر بكل مخزونه من الأفكار والرؤى والأوهام والخجل والخوف والمفاهيم المغلوطة، ويظل الجهل هو القاسم المشترك بينهما، وكذلك عدم المصارحة بالرغبات والاحتياجات التي تحقق الإحصان، وفي الغالب الأعم من الحالات يُضاف لهذا المزيج، الخوف من الاستفسار عن المشكلة أو طلب المساعدة، وعدم طرق أبواب المكاشفة بما يجب أن يحدث… وكيف يحدث؟!
لقد أفضى هذا المزيج المعقد، إلى العديد من الحالات، لمراهقين أوقعهم جهلهم في الخطأ وأحياناً بالخطيئة. وأزواج يشكون من توتر العلاقة، أو العجز عن القيام بعلاقة كاملة، أو غير قادرين على إسعاد زوجاتهم ... وزوجات لا يملكن شجاعة البوح بمعاناتهن من عدم الإشباع لأن الزوج لا يعرف كيف يحققها لهن، وغالباً لا يُبالي ... ومع الأسف يُشارك المجتمع في تفاقم الأزمة بالصمت الرهيب، حيث لا تُقدم المناهج التعليمية -فضلاً عن وسائل الإعلام -أية مساهمة حقيقية في هذا الاتجاه، رغم كل الغثاء والفساد على شاشات الفضائيات، الذي لا يُقدم ثقافة بقدر ما يُقدم صورا خليعة وحركات تهيج غرائز الشباب الهاجعة.
ويزداد الأمر سوءاً حينما تظل المعاناة سرًا بين الزوجين، فتتلاقى أعينهما حائرة متسائلة، الزوجة لا تجرؤ على السؤال، والزوج – أيضًا –لايجرؤ على طلب المساعدة، وهكذا تستمر الأزمة، وتكبر المعاناة يوما بعد يوم، مما قد يؤدي إلى الطلاق؛ من أجل مشكلة ربما لا يستغرق حلها نصف ساعة من أهل الخبرة والمعرفة.
وربما تستمر الحياة حزينة كئيبة، لا طعم لها ولا لون، إلا التوترات والمشاحنات والملل والشكوى التي ننتحل لها ألف سبب وسبب… بعيداً عن السبب الحقيقي.
هذه المشكلة العميقة التي تتوارى خلف أستار من الخجل والجهل، وتطل علينا كل حين بوجه قبيح من الكوارث الأسرية، لا شك أنها تحتاج إلى العلاج والإصلاح. ولا بد أن ننطلق في ذلك من رؤية علاجية خاصة بنا، تتناسب مع ديننا الحنيف وثقافتنا الإسلامية. وأن نبدأ بناء تجربتنا الخاصة رغم حقول الأشواك والألغام، وأن نطلب الحلول من أهل العلم دون تردد أو تكلف مصطنع. وهذا يحتاج إلى فتح باب للحوار على مختلف الأصعدة وبين كل المهتمين، نبراسنا السنـة، وسياجنا التقوى والجدية والعلم الرصين.
فلقد كانت حياة الإنسان–قبل عصر الفضائيات والانترنت وتدخلات الإنسان العابثة –تنمو وتتطور مع فطرته وفي ضوئها بشكل طبيعي، بدنياً وعقلياً ومعرفياً، وبتوازن تام وتناغُمٍ رائع وتناسُقٍ بديع. تكشف له فطرتُهُ عن مكنونات خلقهِ – حسب المرحلَةِ التي يَمرُّ بها يوما بعد يوم – كماً ونوعاً، لا يحتاج إلاّ إلى القليل من التَّوجيهات الخارجية؛ ليُتابع حياته بيسر وسُهولة دونما قلق أو حيرة أو خوف، وحينها كان كل من حوله – الأصدقاء والجيران والأقارب والأهل وكل من في الشارع – يُوجِّهُهُ التّوجيهَ السليم.
أما اليوم فقد تغير الحال، ففي السوق والشارع ووسيلة المواصلات والمكتب والجامعة، حتى في وسائل الإعلام والترفيه المختلفة، أصبحت عين الشباب لا تقع إلا على ما يهيج العواطف، ويُثير الشهوات ويحرك الغرائز الكامنة: فمن القصة الهابطة، إلى الأغنية الماجنة، إلى الفلم الخليع، إلى الصورة الفاحشة. كل هذه يحركها شياطين الإنس وبشكل مستمر ليصوغوا لجيل اليوم تصوراته وثقافته ونظرته للأمور، وتنتهي من ذاكرته كل نوازع الخير. وأما شبكة الانترنت –التي اتسعت رقعة استخدامها حتى أصابت كل فرد–فتحفل بالمواقع الإباحية التي تختزن –حسب الإحصائيات العالمية المنشورة – مائتين وثمانين مليون صورة وفلم إباحي، حيث تعلن عن نفسها صباح مساء، وتتطوع حتى لغير طالبيها، وزيادة في تسويقها وتعميمها أصبح بالإمكان مشاهدتها على جهاز الهاتف النقال الذي لا يفارق الشباب ساعة من ليل أو نهار حيثما كانوا. تردفها من خلفها الفضائيات–التي انتشرت حتى لم تغادر بيتا إلا واحتلت منه ركناً– فتغصب برامج الإباحة والسفور، وانحلال الأخلاق والتحلل من القيم...!!!
لقد عملت هذه الظروف مجتمعة، حتى لم يعد هناك من الضوابط ما يُحدد للإنسان المعلومات التي يحتاج إليها في كل مرحلة من مراحل حياته. فأصبح بمقدور الطفل أن يطلع على أدق التفاصيل، وأن يراقب الممارسات الجنسية بمنتهى الوضوح؛ فتتحرك غريزته وتستيقظ شهوته قبل أوانها، فتتولد لديه جوعة جنسية عارمة، يزداد سعارها يوما بعد يوم.
وإذ تقدم له المعلومات بصورة شوهاء، لا تحمل بين طياتها غير الدمار، يندفع بكل قوته لإطفاء لهيب جوعته ويدخل في سباق محموم. وتستمر وتتجدد المؤثرات فيستمر بالاندفاع نحو الرذيلة دون أن يشبع...!! ويستمر السباق بحيث لا تهدأ غريزته، ولا يتوقف عن اللهاث وراء الشهوات... !! والشيطان يقهقه بملء فيه.
كل هذا يدق ناقوس الخطر بمستقبل قاتم ... غامض ... لأبنائنا، إذا لم تتداركهم يد العناية الإلهية أولاً، ثُمَّ وعي الغيورين من المعنيين "المختصين والمربين وأولياء الأمور" واهتمامهم ... وتصديهم لما يُراد بهم. فمن أجل فلذات أكبادنا ... من أجل سلامة أجيال المستقبل ... من أجل مستقبل الأمة والوطن ... من أجل الحفاظ على الفطرة الإنسانية، التي فطر الله الناس عليها ... من أجل بقاء الحياء في عيون العذارى ... من أجل أخلاق الناس ... من أجل إنسانية الإنسان؛ حتى لا يمشي ميِّتاً يَدُبُّ على الأرض ... من أجل البشرية كافة ... لا بُد من العمل الجاد لنُحصِّن الجيل شباباً وأطفالاً، ضِدَّ السُّقوط في مستنقعات الرذيلة التي ينشرها المفسدون، الذين ينصبون شراكهم لشبابنا في كل مكان ....
لكل ما سبق؛ تتأكد لنا ضرورة التثقيف الجنسي السليم، المتفق مع شرعنا الحنيف، وأهميته البالغة. كي نُّجنِّبَ ابناءنا من اليافعين والمراهقين والشّبابَ، ما يُحيكه لهم أعداءُ الإنسانيَّةِ الذين لا همّ لهم إلاّ جمع المال، عبر الاتجار بالغريزة الجنسية، وقوتها الضّاغطة على عواطف الصغار؛ لإفساد فِطرتهم وبالتالي سقوطهم في الرذيلة، وانحرافِهم عن الجادة. فإذا استطعنا تجنيبهم ذلك؛ نكونُ قد ساهمنا في حمايةِ فلذات أكبادنا من الفساد والإفساد، وسلسلة الانحرافات المهلكة لهم، والمدمرة لمستقبل الوطن والأمة؛ بل والبشريّةُ جمعاء.فالأمر ليس ترفا، انما هو ضرورة أخلاقية واجتماعية وسلوكية ...!!
أما برامج التثقيف الجنسي المتدرجة الهادفة التي تصلح لبيئتنا الاسلامية ... وما تحتويه من معلومات...ثم الفئات العُمُريَّة المُستهدَفة لكلٍ منها، وجهات الإشراف عليها وكيفية تنفيذها ... هذا الذي يجب أن نتميز به عن غيرنا، بحيث نستله من تعاليم ديننا الحنيف ونمرره من خلال الوسائل التربوية المعاصرة ... نبراسنا في ذلك السنـة المطهرة، وسياجنا تقوى الله عز وجلثم الجدية والعلم الرصين ... حتى نحفظ ابناءنا ونحافظ على قيمنا ونخدم امتنا ونفوز بالأجر العميم.
(البوصلة)