الاستيطان لم يترك حيزاً للدولة الفلسطينية
سقوط وهم حل الدولتين
تيسير حسن محيسن
منذ أن طُرحت نظرية حل الدولتين، لم تكن إلا وسيلة لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي ما زال يراوح مكانه، والحقيقة التي أضحت ماثلة للعيان أكثر مما سبق هي أن "إسرائيل" التي وقّعت على اتفاق سلام مع الفلسطينيين في عام 1993 "أوسلو"؛ والذي قام على أساس حل الدولتين، لم تكن صادقة إلى الحد الذي يوحي بجديتها للتوصل إلى حالة من السلام الحقيقي مع الفلسطينيين. هذه القناعة لا تنسحب فقط على من يُسمون بالمتطرفين في دولة "إسرائيل"، بل بات الأمر يشمل كل مكونات المجتمع الإسرائيلي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لقد باتت القناعة الجامعة للكل الإسرائيلي هي أن تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم على حدود الرابع من حزيران 1967 هي بداية النهاية للوجود الإسرائيلي في المنطقة، وبالتالي فإن الاستراتيجية الإسرائيلية المُعتمدة للتعامل مع هذه الفكرة حالياً هي من خلال تفكيك مكوناتها عن طريق خلق واقع يحول دون إنجاحها عملياً.
تأصيل فكرة حل الدولتين
"
مبدأ حل الدولتين يعود إلى ما طرحته الرباعية الدولية (الولايات المتحدة – روسيا الاتحادية – الاتحاد الأوروبي – الأمم المتحدة) كوثيقة رسمية في إبريل 2003، والتي حملت اسم خارطة الطريق
" من المهم أن نشير إلى أن مبدأ حل الدولتين يعود إلى ما طرحته الرباعية الدولية (الولايات المتحدة – روسيا الاتحادية – الاتحاد الأوروبي – الأمم المتحدة) كوثيقة رسمية في إبريل 2003، والتي حملت اسم خارطة الطريق، وتضمنت ثلاث مراحل تنتهي عام 2005 بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة تعيش في أمن وسلام بجوار دولة "إسرائيل". وكان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن هو ووزير خارجيته آنذاك كولن باول ومستشارة الأمن القومي حينها كونداليزا رايس أول من روج لهذا الحل.
البُعد الأمني لحل الدولتين
يتموضع البعد الأمني لدى "إسرائيل" في أعلى سُلم أولوياتها، فهي تحارب من أجل الأمن وتصنع السلام من أجله أيضاً، ولذلك فقد حرصت على أن يكون البرتوكول الأمني في اتفاق "أوسلو" حاضراً بالتفاصيل، ولم تكتف بذلك بل أولت اهتماماً بالغاً لترجمة هذا البروتوكول من خلال ما بات يُعرف بالتنسيق الأمني بينها وبين أجهزة أمن السلطة الذي وضع الأخيرة أمام اتهام وانتقاد من قبل قطاع واسع من الشعب الفلسطيني، فضلاً عن "إسرائيل" التي تُشيد بإنجازات أجهزة السلطة في هذا السياق وفي نفس الوقت تُطالب بالمزيد دوماً. هذا يعطينا مؤشراً على أن "إسرائيل" لا يمكن أن تثق بالفلسطينيين؛ وبالتالي فإنها لن تُمكنهم من إقامة دولة لهم على حدود الرابع من حزيران 1967، فهندسة أي اتفاق أمني مع الفلسطينيين تتطلب وجود قناعة لدى الإسرائيليين؛ ويبدو أن ذلك في غاية الصعوبة وخاصة عندما تستدعي "إسرائيل" تجربة الانسحاب من غزة عام 2005 التي باتت نموذجاً يؤرق مضاجعها، فغزة المحاصرة والمعزولة تُشكل هذا العبء على "إسرائيل"، فما بالنا بالضفة التي تُمثل خاصرة "إسرائيل" الأضعف؟ حتماً لن تكون "إسرائيل" بهذا الغباء إذا ما قررت السماح بدولة للفلسطينيين على أراضي الضفة الغربية.
الموقف الدولي
ما زال الموقف الدولي بالعموم متمسكاً بمبدأ حل الدولتين كأساس لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، هذا بالرغم من التحذيرات المتتالية التي يوجهها المجتمع الدولي لسياسة "إسرائيل" تجاه الشعب الفلسطيني؛ خاصة عندما نتحدث عن الاستيطان، إذ ترى جهات عديدة أن بقاء سياسة "إسرائيل" تسير وفق هذا المنوال معتمدة على استغفال المجتمع الدولي واستثمار الوقت لخلق وقائع على الأرض، من خلال البناء المستمر في المستوطنات المقامة في أراضي الدولة الفلسطينية، إنما يهدد أساسات هذا المبدأ ويحول دون بقاء أي أمل في إنعاشه في المستقبل، هذا ما عبر عنه أعضاء في البرلمان الأوروبي أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان عندما قالوا: إن "حل الدولتين" للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي "بات مهدداً ويحتضر"؛ بسبب تواصل سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. واصفين مستقبل الأوضاع في الشرق الأوسط بـ "المُحبطة".
"
ما زال الموقف الدولي بالعموم متمسكاً بمبدأ حل الدولتين كأساس لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، هذا بالرغم من التحذيرات المتتالية التي يوجهها المجتمع الدولي لسياسة "إسرائيل" تجاه الشعب الفلسطيني
" كذلك حذر الألماني بروك من أبرتهايد جديدة في الشرق الأوسط، في ظل ارتفاع النمو الديموغرافي للفلسطينيين، وتواصل سياسة الاستيطان الإسرائيلية بالأراضي الفلسطينية.
من جانبه، قال جيل بارنيو، النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي، عن تكتل الديمقراطيين والاشتراكيين: إن حل الدولتين يتلاشى شيئاً فشيئاً؛ بسبب تواصل سياسة "إسرائيل" الاستيطانية. مؤكداً أن حل الدولتين يظل هو موقف الاتحاد الأوروبي الثابت، والحل الأمثل للتوصل إلى سلام دائم في الشرق الأوسط.
هل بقاء الفكرة قائم
بعد مرور 27 عاماً على مؤتمر "مدريد" و24 عاماً على "أوسلو" حيث خط العالم رؤيته لحل الصراع العربي - الإسرائيلي، وزرع لدى الشعب الفلسطيني أملاً في إمكانية أن يكون له دولة يعيش فيها على أرضه في أمن وسلام، تتلاشى اليوم فرص حل الدولتين، بل إنها تندثر، في ظل استباحة "إسرائيل" الأراضي الفلسطينية، وتدميرها فرص قيام الدولة الفلسطينية من خلال الاستيطان الذي بات يسيطر على 60% من الضفة الغربية، إذ تضاعف في عهد نتنياهو بنسبة 55%، وبعدما جعلت فرص التواصل الجغرافي بين الضفة وغزة غاية في التعقيد؛ أفشلت "إسرائيل" حل الدولتين، لأنها لا تؤمن بالسلام. ويطالب وزراء بارزون في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي بإنهاء خيار حل الدولتين، وضم غالبية أراضي الضفة الغربية لإسرائيل، ومنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً على ما يتبقى من أراضي الضفة. وفي نفس الوقت تُعلن دائماً عن رغبتها بالسلام، وعن تمسكها بالمفاوضات وعلى أرض الواقع تُناقض ذلك، فهناك إجماع صهيوني على أربع نقاط هي؛ ألا تكون هناك عودة لحدود 1967، ولا توجد إعادة للقدس، كذلك لا توجد نية لوقف زحف المستوطنات، أو عودة للاجئين. وعندما تبنت الإدارة الأميركية حل الدولتين، أخذت "إسرائيل" تتعامل مع هذه المبادرة الأميركية بطريقة ملتوية تنم عن سوء نية وما زالت.
إن بقاء العالم متبنياً حل الدولتين دون أن يتخذ أي خطوات عملية تجبر "إسرائيل" على التوقف عن سياساتها التي أقل ما توصف بأنها تُعرقل التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين يُنهي حالة الصراع، ورغم إدراك الجميع أن فرص حل الدولتين باتت مستحيلة بفعل سياسة الأمر الواقع التي تنتهجها "إسرائيل"، إلا أننا ما زلنا نسمع بإصرار من كل الأطراف الدولية تمسكهم بهذا المبدأ.
وفي المحصلة نقول إن حل الدولتين فقد مقومات تحققه على الأرض الجاري نهبها أمام أبصار رعاته، وإنه خسر قوة انطلاقه، ومسوغاته، وموجباته الفكرية والعملية، وهو في واقع الأمر حل ترك مكانه في مدار لا يحتمل الفراغ، ليمكّن بذلك من فتح الباب لحلول إبداعية بديلة، قد يكون حل الدولة الواحدة أحدها، أو العودة إلى حالة ما قبل عام 1967، أو إدارات مدنية في مراكز المدن في الضفة مع بقاء غزة تحت نظام الأمر الواقع.
(أكاديمي فلسطيني/غزة)