كركوك بين بسط سلطة بغداد ودعوات إصلاح الإقليم والتدخل الخارجي
مصطفى العبيدي
بغداد ـ «القدس العربي»: شكلت استعادة القوات العراقية، محافظة كركوك و»المناطق المتنازع عليها» شمال العراق، بعد انسحاب قوات البيشمركه الكردية منها بدون قتال، في سيناريو غامض مثير للتساؤلات، مؤشرا على واقع جديد لافت في المشهد العراقي، أنهى جدلا حول استفتاء كردستان وفتح آخر حول مستقبل الإقليم وآفاق علاقته مع العراق، وفجر من جهة أخرى الخلافات الكردية الكردية لتفتح المجال واسعا أمام التدخلات الخارجية.
وجاء التقدم السريع للقوات العراقية في «عملية فرض القانون» نحو محافظة كركوك الغنية بالنفط شمال العراق، بعد رسالة وجهها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى الشعب العراقي، أعلن فيها توجيه القوات المسلحة لفرض سلطة الحكومة الاتحادية على كركوك، وطمأن فيها سكان تلك المناطق بالحرص عليهم وعلى مصالحهم، ومؤكدا انه حريص على تنفيذ قرارات البرلمان الاتحادي في المحافظة على وحدة العراق. وقد فعل العبادي خيرا عندما أعلن في رسالته وتصريحاته «نريد كركوك مدينة للتعايش بين مكونات المحافظة» نافيا أي اتفاق لتشكيل أقاليم في كردستان. وفي وقت أكد أن استفتاء الإقليم انتهى وأصبح من الماضي، فإنه دعا القادة الكرد إلى معاودة الحوار لحل الأزمات، وهو الأمر الذي رحبت به حكومة الإقليم، كما أمر بمنع تواجد أي جماعات مسلحة غير جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة المحلية في المحافظة، في إشارة إلى الحشد الشعبي.
وتابع غالبية العراقيين والعالم باستغراب، سيناريو تقدم القوات العراقية السريع وسيطرتها على كركوك وباقي المناطق، وانسحاب قوات البيشمركه منها، دون قتال، في وقت كانت هناك مخاوف حقيقية من إندلاع معارك عنيفة تسفر عن سقوط ضحايا بين قوات الطرفين والمدنيين، وذلك استنادا إلى التهديدات والتحشيدات المتبادلة خلال الأيام الأخيرة، إلا ان نتائج العمليات العسكرية قوبلت بالارتياح البالغ لأنها حققت أهدافها بأقل الخسائر وهو إنجاز كبير يحسب للعبادي.
وكانت الأزمة بين حكومتي بغداد وأربيل تفجرت عقب غصرار رئيس الإقليم مسعود بارزاني على إجراء الاستفتاء حول الانفصال عن العراق الذي اعتبره خطوة نحو بناء الدولة الكردية، وسط رفض قاطع من الحكومة العراقية والبرلمان الاتحادي والمجتمع الدولي، باعتباره غير دستوري ويهدد وحدة العراق.
ورغم ان الكثير استغربوا سحب الاتحاد الوطني الكردستاني لقوات البيشمركه من كركوك أمام تقدم القوات العراقية، إلا ان مصادر ومنها النائب عن كتلة التغيير مسعود حيدر، كشف جوانب من إتفاقية تسليم كركوك للقوات العراقية التي جرت كما أعلن بين عائلة رئيس الجمهورية السابق جلال طالباني وهادي العامري القيادي في الحشد الشعبي.
وذكر في بيان ان «الاتفاقية نصت على عودة القوات العراقية إلى المناطق المتنازع عليها والمناطق التي سيطرت عليها قوات البيشمركه بعد حزيران/يونيو 2014 والإدارة المشتركة لكركوك، واستئناف الرحلات في مطار السليمانية، وقيام الحكومة الاتحادية بمنح رواتب موظفي وبيشمركه السليمانية وكركوك».
ولم تخل عملية فرض القانون من انتهاكات من بعض عناصر الحشد الشعبي وخاصة في طوزخورماتو وبعض أحياء كركوك رغم حرص حكومة العبادي على ضبط الأمور، حيث عبرّت الأمم المتحدة، عن قلقها إزاء تقارير عن تهجير أكراد وتدمير ونهب منازل في كركوك، داعية الحكومة العراقية إلى وقف الانتهاكات. وبدورها أدانت حركة «التغيير» و»الجماعة الإسلامية» في بيان مشترك، الجرائم والاعتداءات التي ارتكبها الحشد الشعبي، ضد مواطني كركوك وطوزخورماتو، وطالبوا الحكومة باتخاذ القرارات الكفيلة بتطبيع الأوضاع في تلك المناطق وإعادة النازحين وتعويضهم، والابتعاد عن النزعة الانتقامية.
الخلافات الداخلية الكردية
وفي مؤشر على تفاقم الخلافات الكردية، فقد حذر رئيس الجمهورية فؤاد معصوم من مخاطر نشوب صراع كردي على خلفية أحداث كركوك. كما حذر ملا بختيار، القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، من إندلاع حرب داخلية، في إقليم كردستان بسبب الأزمة لحالية، محملا قادة الإقليم مسؤولية إجراء الاستفتاء، وتداعياته ، ومحذرا من «تقسيم الإقليم إلى إدارتين واندلاع حرب داخلية وتدخل إقليمي نتيجة عدم معالجة المشاكل».
ويبدو ان عملية كركوك، لم تشعل الخلافات وحرب الاتهامات بين أربيل والسليمانية فقط ، بل عمقت الخلافات الداخلية بين الأحزاب الكبيرة أيضا، وهو ما أدى إلى تأجيل عقد جلسة برلمان الإقليم المقررة في الأربعاء الماضي إضافة إلى تأجيل انتخابات الإقليم المقررة في الشهر المقبل.
وكشفت الاتهامات بالخيانة التي وجهها حزب بارزاني إلى الاتحاد الوطني، حجم الانقسامات بين الأحزاب والإحباط والورطة الكبيرة التي وجد بارزاني نفسه فيها بعد تخلي أبرز الحلفاء عنه وتضييق الحصار عليه.
وجاءت ردود قيادات الاتحاد الوطني على تهم الخيانة، بهجوم مقابل عنيف، حيث شن قائد جهاز مكافحة الإرهاب في كردستان لاهور شيخ زنكي، هجوما على بارزاني، مؤكدا «لن ندفع بأبنائنا للموت في سبيل كرسي بارزاني» مضيفا، انه «بينما كنا مشغولين في حماية الشعب الكردي كان مسعود بارزاني منشغلا بسرقة النفط وتعزيز نفوذه» حسب قوله.
كما دعا التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة الذي يقوده، القيادي البارز برهم صالح، إلى تشكيل حكومة انتقالية في إقليم كردستان لحين إجراء انتخابات نزيهة في الإقليم، من أجل إدارة الحوار مع الحكومة المركزية في بغداد. وأكد التحالف أن «الوضع الحالي هو أيضا نتاج محاولات الفاسدين لتغطية النهب والسلب باسم كركوك والقومية الكردية».
أما نائب رئيس مجلس النواب (من حركة التغيير) ارام الشيخ محمد، فقد اتهم قيادة إقليم كردستان بافتعالها حربا في كركوك وشمال العراق بداعي تأسيس الدولة الكردية المزعومة، مبينا ان «هذه الحرب القذرة التي فرضت بداعي الاستفتاء وكذبة تأسيس الدولة الكردية جاءت من أجل المصالح الشخصية والحزبية لبضعة أشخاص».
وبالنسبة للخلافات داخل الاتحاد الوطني حول كركوك، فقد انتقد نائب سكرتير الاتحاد الوطني الكردستاني ونائب رئيس إقليم كردستان، كوسرت رسول»الأشخاصَ الذين انحرفوا عن نهج الاتحاد الوطني الكردستاني من دون الرجوع لقيادته، والذين اقحموا أنفسهم في الصفحات السوداء من خلال تعاونهم مع الجيش العراقي» الذي وصفه بـ»المحتل» «من أجل الحصول على بعض المكاسب الشخصية والمؤقتة».
الدور الإقليمي والدولي
وبدا واضحا الدور الإقليمي والدولي في معركة سيطرة القوات العراقية على كركوك، حيث أبدى مجلس الأمن الدولي، قلقه بخصوص الوضع الراهن في كركوك، وطالب كل الأطراف «بالامتناع عن أي تهديد وعن اللجوء إلى القوة، والانخراط في حوار بنّاء على طريق تهدئة التوتر» داعيا إقليم كردستان إلى إجراء الانتخابات والعودة إلى العملية السياسية. وكشف القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني سعدي بيره في مؤتمر صحافي في السليمانية، ان الجنرال الإيراني قاسم سليماني كان ممثل إيران في أحداث كركوك وهاكال فيدال ممثل تركيا، نافيا ما يتم الحديث عنه حول وجود نية للحزبين الرئيسين الديمقراطي والاتحاد، للرجوع إلى نظام الإدارتين في الإقليم.
ورغم نفى إيران تدخلها في قضية كركوك، فقد أعلن نائب رئيس الجمهورية اياد علاوي ان مسعود بارزاني اتصل به وأبلغه بوجود مجاميع من الحرس الإيراني شاركوا في معركة كركوك. كما أعلن علاوي ان نجل جلال طالباني ونائب رئيس حكومة الإقليم قوباد طالباني أبلغه أيضا عن ضغوط إيرانية شديدة تمارس على الاتحاد الوطني لفك الارتباط بحزب بارزاني. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أعلن إن «أمريكا لا تنحاز إلى أي طرف في الاشتباكات بين الأكراد وبغداد» بينما دعا البيت الأبيض «بغداد وأربيل إلى تجنب العنف والتصعيد» ولكنه حذر «من التوسع الإيراني في العراق». كما تلقى العبادي، اتصالا هاتفيا من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، أكد خلاله ان «واشنطن لا تعترف بالاستفتاء في إقليم كردستان، وانها تدعم وحدة العراق وخطوات الحكومة الاتحادية في تجنب الصدام وفرض سلطة القانون».
دروس
شكلت عملية اجتياح القوات العراقية ، لكركوك والمناطق المتنازع عليها ، ضربة عنيفة لمكانة حكومة وأحزاب الإقليم أمام مواطنيهم بعد أيام من الاستفتاء، وجعلتها تواجه الواقع الجديد في القبول بتواجد السلطة الاتحادية في المناطق التي كان الإقليم يسيطر عليها ويتمسك بها، وسيتعين عليها إعادة التفكير بحلول مثل فتح حوار مع بغداد والقبول بالإدارة المشتركة للمناطق الذي كانت ترفضها سابقا، إضافة إلى التسليم بسيطرة بغداد على الصادرات النفطية والمنافذ الحدودية. وأظهرت عملية كركوك، ان الخلافات بين الأحزاب الكردية وصلت إلى مستويات لم يعد في الامكان انكارها أو التكتم عليها، وهو ما دفع أحزاب السليمانية وكركوك إلى الاتفاق مع بغداد من أجل حل الخلافات بالطرق السلمية بمعزل عن أربيل.
وبات من المؤكد ان العمليات العسكرية في كركوك والمناطق المتنازع عليها، والتي حققت أهدافها دون سفك الدماء، هي إنجاز كبير يحسب للعبادي ويعزز مكانته السياسية في الشارع العراقي، كما منحه تأييد القوى السياسية المختلفة لأنه حافظ على وحدة العراق.
وخلال هذه الأيام، ظهر واضحا تضخيم دور الجنرال قاسم سليماني من قبل القوى الشيعية، في إنجاز عملية كركوك بدون معارك، بهدف إرسال رسائل إيرانية إلى من يهمه الأمر وخاصة أمريكا، ان إيران تتحكم في شؤون العراق، وان الذي يريد التعامل مع العراق والمنطقة، عليه ان لا يغفل الدور الإيراني فيها.
كما يعتقد بعض المراقبين، ان إيران تهدف إلى القضاء على بارزاني، وهو الأمر الذي لا تقبل به أمريكا، التي ستسعى إلى فتح حوار بين بغداد وأربيل من أجل استقرار الوضع في العراق إضافة إلى ان أمريكا لن تسكت على تمدد الحشد الشعبي القريب من إيران في كركوك وشمال العراق.
ومن جانب آخر، أثارت عملية كركوك دعوات شيعية لإعادة ترتيب إقليم كردستان، طالب بعضها بتقسيمه إلى عدة أقاليم، وبعضها يدعو إلى إلغاء الإقليم وتحويله إلى محافظات مثل باقي محافظات العراق، إضافة إلى مطالبات بضم قوات البيشمركه إلى القوات المسلحة الأخرى، بينما دعا آخرون إلى التعامل مع السليمانية كمركز للإقليم بدل أربيل، بل وصل الأمر إلى المطالبة بدخول القوات العراقية إلى أربيل واسقاط بارزاني، وذلك بالتزامن مع تحذير نائب رئيس الجمهورية اياد علاوي بان تفرد التحالف الشيعي في التعامل مع الأزمة بين بغداد والإقليم، قد يؤدي إلى ضياع العراق وتدميره، داعيا إلى الحكمة في حل الأزمة.