ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75477 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: مقهي له تاريخ (قصة قصيرة) الخميس 26 أكتوبر 2017, 9:26 pm | |
| مقهي له تاريخ (قصة قصيرة) محمد جبر الريفي ما أن ينهض أبو علي الترك من فراشه في الصباح الباكر حيث يظل جسده مرتخياً تحت الفراش طيلة الليل حتى يتوضأ ويصلي ويمد كفيه متضرعاً ثم ينطلق إلى المقهى صامتا يقطع الأزقة الضيقة التي تضج بالحياة التي تكون في ذلك الوقت من النهار على أتم صخبها صياح الباعة المتجولين وخطوات تلاميذ المدارس والأطفال الصغار الذين خرجوا يلعبون أمام بيوتهم والنسوة اللواتي يذهبن إلى سوق المدينة يغبن برهة من الزمن بعد أن يكن قد فرغن من أشغالهن البيتية ليحضرن ما أمكن من متطلبات الطعام ، يفتح أبو علي باب المقهى الكبير المصنوع من ألواح من الخشب تغمره قناعة ورضا بالعمل الذي يقوم به ، يبدأ يومه بكنس أرضية المقهى ورشها بالماء ثم تصفيف الكراسي ووضع الطاولات الصغيرة بينها ويقف محدقا في المذياع الخشبي الكبير ومقترباً منه وملؤه الثقة في أن يسمع أخباراً جديدة في هذا الصباح فقد أحدثت الغارة الإسرائيلية على بئر الصفا الذي يزود مدينة غزة بالمياه فزعا كبيراً بين الناس . هناك في غرفته الصغيرة التي لا تزيد مساحتها عن مترين داخل المقهى ينظر أبو علي إلى إبريق الشاي الكبير الذي وضعه فوق وأبور الكاز يدور حول الوابور الكبير ثم يفتح فوهة الإبريق فيندفع بخار الشاي الأبيض الممزوج برائحة نبته النعناع العطرة الزكية .. في ذالك الصباح عرف أبو علي أن حارس بئر الصفا أبو صقر وجد مقتولا بين أشجار البرتقال وأن جنازته ستنطلق بعد الظهر من الجامع القريب ولهذا بدأ يستعد لتلبية طلبات الناس الذين سيأتون بعد قليل ، حمل أبو علي مهنته هذه من اللد وكان من أوائل الذين فتحوا مقهى في هذا الحي يمتلئ المقهى بالرجال فيدور أبو علي بصينية الشاي بين الكراسي والطاولات فيما تنبعث من المذياع أغنية وطنية فتشحنه بالحيوية فتأخذ شفتاه بتمتمة كلماتها ، ينتهز الوقت بين الفينة والأخرى ويعد لنفسه فنجانا من القهوة ، يحتسيها ببطء وهو في جلسته على كرسي صغير من كراسي المقهى المصنوعة من القش فيحس عند ذلك بالراحة من تعب الوقوف ، يدخن سيجارة من سجائره الرخيصة التي اعتاد عليها وينفث دخانها الأبيض في سقف المقهى ويفكر في صمت وتأثر ، ما الذي فعله الإسرائيليون هذه الليلة ؟ مزيدا من الوحشية والعدوان وقد حزن الجميع على ذلك الحارس الطيب ، أبوه وزوجته وأولاده وجيرانه وأصدقاؤه ، يأتي الوقت الذي تنطلق فيه الجنازة فيخرج معظم الرجال الجالسين ، يعود أبو علي يدير إبرة المذياع على إذاعة صوت العرب فيقول أحد الجالسين : ألم يحن بعد موعد نشرة الأخبار ؟ * * * كل ليلة يضج المقهى بأصوات الرجال والأغنيات ، يجلس كل ثلاثة أو أربعة من الزبائن الدائمين على طاولة يلعبون الورق أو الضومنو ،يخفضون رؤوسهم محدقين بصمت وفي بعض اللحظات يتكلمون بغضب وفي تلك الحالة يكون أبو علي أكثر اهتماما بهم فيلتصق بجانب الطاولة وهو في حالة من الضجر الواضح يبقى واقفا حتى تهدأ الأصوات ، تأتي وجوه وتختفي وجوه وتنبعث من داخل المقهى حرارة ودفء من جراء التصاق ظهور الرجال بعضهم ببعض ، كاسات الشاي وفناجين القهوة و الأراجيل التي تعلو رؤوسها جمرات الفحم المتوقدة والمذياع الخشبي الكبير المنتصب في صدر المقهى فوق لوحة من الخشب المقوى المثبتة بإحكام في الجدار ، ملامح الانبساط وبعض الوجوه التي تطل من باب المقهى فترى كل هذه الأشياء وتختفي ،يدخل جبريل الأكتع إلى المقهى ويستفسر بشيء من القلق : لماذا يغير علينا الإسرائيليون دائما في ظلام الليل ؟ وكان الظلام وقتها يهيمن على كل شيء فلم تكن هناك مصابيح كهربائية في الشوارع الضيقة فيثبت أبو علي عينيه في عيني جبريل ويقول غير مصدق : أأنت لا تعرف لماذا ؟ فيقول له جبريل : حقا لا أعرف فيقول له أبو علي : إنهم يهدفون إلى المفاجأة فتجتاح جبريل لحظة من الغضب وهو يتذكر غارة الليلة الماضية على مدينة خان يونس التي راح ضحيتها العديد من الشهداء الفلسطينيين والمصريين ويقول : لماذا لا نكون دائما على استعداد للمواجهة ؟! . لم يكن جبريل ليمل من تكرار الحديث عن الغارات الإسرائيلية في الليل فكل غارة كانت تسجل عدواناً جديداً على القطاع ومهما كانت صغيرة فقد كان الناس يفزعون منها لأنها تأتي في أعماق الليل قرب الفجر وغالباً من جهة الخط الشرقي .. كل يوم قبل أن تغيب الشمس كان يأتي الأقرع ريّان إلى المقهى ويجلس عند الباب على كرسي القش الصغير بانتظار أن يأتي أصحابه الذين يلتفون حوله فيملأ ضحكهم وضجيجهم مدخل المقهى ، يتحدثون عن كل شيء عن الزواج والطلاق والتجارة والشجار بين العائلات كل ذلك يحدث في وقت تنبعث من المذياع داخل المقهى أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وأغاني من ذلك الزمن الجميل ، يأتي منتصف الليل فيغادر جميع الجالسين المقهى إلى بيوتهم ، تختفي الحياة في الشارع فتجيء الكلاب تنبش في الشوارع عن شيء من بقايا الأطعمة في النفايات ويدع أبو علي قدميه المتعبتين تقودانه إلى البيت عبر الأزقة الضيقة التي تضج بأصوات صراصير الليل هناك في غرفته الصغيرة يسلم نفسه إلى فراش السرير ولكن قبل أن يغمض عينيه الذابلتين يسترجع أحداث اليوم أما زوجته فهي تنظر جهته دون أن تقول شيئا وكأنهما يسترجعان أحداثا ماضية قديمة ، جاء أبو علي إلى هذا الحي عام 48 وكان أول ما استقبله الجامع وعندما رحل منه سكن في هذا البيت القديم الذي كانت تغمره المياه في الشتاء فتنزحها أم علي بمقشة كبيرة لها عصا طويلة ، لقد تخطى الستين من عمره ولكن ما زال يحتفظ بشاربين عريضين اعتاد على تربيتهما منذ أن كان شابا في مدينة اللد لكن وجهه الآن قد بان عليه الكبر وشعره الذي كان غزيرا كفحمة سوداء قد تساقط أكثره فأصبح يغطي رأسه بطاقية من الصوف يقيسها قبل أن يشتريها من سوق فراس .. كلما تفيض الذكرى بجبريل الأكتع الذي جاوز التسعين من عمره يتصور مقهى الترك أمامه بأضواء لمبات الكاز الساطعة التي تشع في الليل ، أبو علي الترك الذي يلبي طلبات الزبائن ويتحمل طيش ونزق البعض منهم ، جسده الناحل الضئيل وسرواله الأسود الواسع الذي يشبه سراويل صيادي بحر يافا وملامح وجهه الباسمة التي تفيض بشرا وتسامحا وحبا للناس ، يتمنى لو يراه بعد هذه السنين قبل أن يموت كما مات معظم أصحابه ليلقي على ذلك الرجل الطيب التحية والسلام ويستريح قليلا بجواره فوق كرسي القش الصغير الذي كان قد اعتاد أن يجلس عليه في ذلك المقهى الذي أصبح بعد غارة إسرائيلية ليلية وقعت في تلك المنطقة في ذلك الزمان أثرا بعد عين ... . |
|