تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1-2)
د. علي العتوم
الكتاب من تأليف الأستاذ حسين خلف الشيخ خزعل إصدار دار الهلال بيروت سنة 1968م . وهو في ثلاثمئة وتسعين صفحة . وسيدور حديثي هنا على لمحات من أقوال الشيخ ابن عبد الوهاب وأقوال بعض أنصاره وأفعالهم ممّا يُبيِّن العناوين الرئيسة لمذهبه الفقهي وما انبنى عليه من أحكام على الآخرين وطريقة التعامل معهم، وبالتالي الموقف السياسي تُجاه الدولة العثمانية، سواءٌ ما جرى في عصره أو ما حدثَ بعد وفاته (1792م) إلى بدايات العِقد الأول من القرن التاسع عشر . وقد قصدْتُ إلى قراءة الكتاب في ظلال ما يجري في عالمنا العربي اليوم من أحداث سياسية وخاصة في بلاد الحرمين الشريفين بالذات .
وُلِدَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العُيَيْنة سنة (1903م) وهو : محمد بن عبد الوهاب بن سليمان، يعود بنسبه إلى بني تميم القبيلة العربية المعروفة في الجاهلية والإسلام . كان والده عبد الوهاب وجده سليمان عالِمَيْنِ بالدين على مذهب الإمام أحمدبن حنبل . وقد نشأ ولدهما محمد هذا في بيت علم ودين، أخذَهما عن والده وعن علماء لَقِيَهم أو راسلهم، ولاسيما في نجد والحجاز والبصرة . وألَّفَ الشيخ العديد من الكتب تدور كلها حول عقيدة التوحيد على المذهب الحنبلي مع اطّلاعه على المذاهب السُّنية الأخرى، ومنها (كتاب التوحيد) وهو أشهرها وكتاب (كشف الشبهات) .
وقد عاش الرجل في بيئة وعصرٍ رانَ فيهما على النّاس الجهل بأمور الدين وكَثُرَتِ البدع والخرافات، إذ قلَّ العلم وشحَّ العلماء وخاصة في المناطق البعيدة عن مراكز المدن في دولةٍ مترامية الأطراف ضربتْ أطنابَها في الشرق والغرب وحَكَمَتِ الكثير من العرب والعجم باسم الخلافة، وكانت مشغولة بالفتح والجهاد ومدافعة خصومها عن سلطانها . وقد هال الرجل تفشّي البِدَع في منطقته نجد خاصةً من تعظيم القبور وبناء القِباب عليها ودعاء أصحابها والتوسُّل بهم والنذر إليهم والتبرُّك بحجارتهم وتعظيم بعض الأشجار والاعتقاد بها للنفع والضُّرِّ، مما يُنكره الإسلام أيَّما إنكار .
قام الشيخُ يحارب هذه المظاهر محاربة شديدة منذ أنْ اشتدَّ ساعده في العلم، وقد لَقِيَ في طريق ذلك عَنَتاً شديداً من العلماء التقليديين ومن مُقَلِّدِيهم من العامّة، ومن الأمراء المنتفعين من هذه البِدَع . وقد تمثَّل ذلك بالسجن والنفي والمطاردة والاتّهام بالخروج على الدين والاعتداء عليه بالسلاح . ولا ريب أنّ للرجل فضلاً كبيراً في القضاء على هذه المُنْكَرات، ولكنَّ ممّا يُلاحظه المراقِبُ كما في الكتاب، استعمال الشيخ أسلوب العنف الشديد الذي اتّخذه طريقاً للقضاء على هذه المنكرات، وخاصةً أنّه حالَفَ قبيلةً لنصرته على نشر مذهبه وتطبيقه، هم آل سعود من قبيلة عنزة، بعد أنْ صاهرهم بتزويجه ابنته لأمير دولتهم الأولى محمد بن سعود (1725 – 1765م)، فقد بقيتِ الحروبُ قرابةَ قرنٍ من الزمان تَشُبُّ بين أتباعه والقبائل الأخرى لإخضاعها بقوَّةِ السلاح لمذهب الشيخ تحت راية إنكار البِدَع في محيط الجزيرة والعراق، فتسيل الدماء ويُقْتَل من الطرفين الرجال ذوو العدد العشرات أو المئات، مع نهبِ الأموال وتخريب الممتلكات والاستيلاء على الأنعام بالآلاف من الشاء والأغنام والخيل والإبل .
وقد كان الشيخ جدَّ متشدِّد في الأخذ بمبادئ فقهه في الإنكار على الآخرين إذ يعُدُّ المخالفينَ كُفّاراً يجِبُ قتلهم أو على الأقل فُسّاقاً . فها هو يصدر بياناً عاماً في الناس يقول فيه : (فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من الخرْج وغيرهم مشهورون عند الخاصِّ والعام بذلك، وأنهم يترشَّحون له ويأمرون به النّاس، كُلُّهم كفّار مرتدون عن الإسلام، ومَنْ جادلَ عنهم فأقلُّ أحواله أنه فاسِقٌ لا شهادة له ولا يُصلَّى خلفه) . وها هو عندما ألَّفَ كتابه (التوحيد)، وقال للناس عمّا فيه، قال له أحد وجوه أقربائه وهو علي بن ربيعة بعد أنْ قرأه : (ولكنْ كيف السبيل المُتَّبَعة لرَواجه ؟ فقال له الشيخ : النصيحة وبذل المعروف، فقال له : فإنْ لم يجرِ بذلك ؟! قال له الشيخ : فبالسيف !! فقال له علي : كيف يستحق هذا القتل ؟! فأجابه الشيخ : لأنه كافر مشرك) .
ومن المفارقات عند الشيخ في أسلوب التعامل مع الناس بشأن الإنكار أنه يقيسُ بمقياسَيْن إلى درجة التناقض، إذ يُشير بالغِلظة مع العامة كما رأينا، بينما مع أتباعه بأسلوب مختلف تماماً . فها هو في كتابٍ عامٍّ يُوجِّهه لأنصاره يقول فيه : (يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء وسببها أنّ بعض أهل الدين يُنْكِرُ مُنْكراً وهو مُصيب، لكنْ يخطِئُ في تغليظ الأمر إلى شيءٍ يوجِب الفرقة بين الإخوان . وأهلُ العِلْمِ يقولون : الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاجُ إلى ثلاث : أنْ يعرِفَ ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه صابراً على ما جاءه من الأذى . ويذكر العلماء أنّ إنكار المنكر إذا حصل بسببه افتراق لم يَجُز إنكاره، فإنّكم إن لم تفعلوا، صار إنكاركم مضرّةً على الدين) !!
تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب (2-2)
أسلوبَ القسوة البالغة مع التكفير واستعمال السلاح في وجه أصحاب المنكرات التي قد لا تُخْرِج من المِلّة،أو أنَّ في تكفير أصحابها وحملِ السلاح لقتالهم وجهات نظرٍ عند بعض العلماء . والغريب في الأمر أنّ صاحب الكتاب يقول عن الشيخ (كان كثير العفوِ حليماً رحيماً رقيق القلب نَقِيَّ السريرة لا يحب سفك الدماء،بل يترفَّع عنه ويتجنَّبه،وأكره ما لديه قتل النفوس) !! وأنا هنا لا أُشكِّك في أخلاق الشيخ،فرجلٌ مثله لا بدَّ أنْ يكون كريم الأخلاق عظيمها،ولكنَّ التعامي على ما قيل عنه من القسوة ورضائِهِ بها في التعامل مع الآخرين واستعمال السيف للمخالف إنكارٌ للحقيقة،وإلاّ فأين كان هو عن كل أعمال القتل والقِتال وإراقة الدماء التي مارسها أتباعه ؟!
وهذا الأسلوب من المبالغة في الغِلظة والقسوة فيه هو ما يقرُّ به المؤلف نفسه،إذ يقول عنه إذ بدأ دعوته : (فانطلق من مكمنه ناشراً دعوته،جاهراً بها للنّاس،حاثّاً إياهم على ترك البدع ونبذ الخرافات مُبالغاً في تعنيفهم على ذلك في أوسع نِطاق) . وعهدنا بالدعاةِ ليسوا كذلك وقدوتنا في ذلك رسول الله صل الله عليه وسلم الذي يقول عنه ربّه : (فبما رحمةٍ من اللهِ لِنْتَ لهم ولو كُنتَ فَظّاً غليظَ القلب لانفضُّوا من حولِكَ) . وخُلُقُ الغِلظة في الرجل يقرُّ به هو نفسه من رسالة بعثها إلى أهل الدرعية،شعرَ أنّ فيها شِدَّةً وقسوة،يقول في آخرها تخفيفاً من لهجتها لِمَنْ بعثها له : (ولا يدخل خواطركم غِلظةُ هذا الكلام،فاللهُ سبحانه يعلمُ قصدي) .
والأمر الثاني الذي يلحظه القارئ للكتاب اعتماداً على توجّهات مذهب الشيخ وتلامذته والمبايعين عليه من حكّام،حَطُّهُم من قدْر دولة الخلافة العثمانية،وهي وإنْ لم تُنَزَّه عن الأخطاء والخطايا،الدولةُ التي تُمثِّل خيمة المسلمين عرباً وعجماً آنذاك،والحطُّ منها أو الانتقاص من أطرافها أو الثورة عليها أو أي عمل يُشْتَمُّ منه رائحة الانفصال عنها،إنّما هو نحتٌ في أثلَتِها،وتوهينٌ لقوَّتِها،ومساعدة للأجانب الذين كانوا يتربّصون بها الدوائر،على تقويضها تحتَ رايات الصليبية والماسونية .
ومن ذلك اتّهام الكاتب وهو من أنصار الشيخ للدولة العثمانية بتشجيع التحارب بين القبائل وانتشار البِدَع وسيادة الجهل لضمان سيطرتها على البلاد . والأنكى من ذلك وصفُ حكمها للعرب بالعبودية،وذلك بقوله : (وكانت سياسةُ الدولة العثمانية يومئذٍ تُحبِّذُ هذه الحالة،وتسعى لانتشارها وتُشجِّعُ بدورها بعض حكّام السوء وتناصرهم وتشدُّ أزرهم ليسودَ الجهل وتنتشر البِدَع ويُتهاوَن في أمر الدين ليبقى ذلك الشعب رازِحاً تحتَ نير عبوديتها أطول وقت ممكن) !!
واتهام هذه الدولة (بالسكوت على فساد ولاتها كالمماليك مُكتَفية بأخذ إتاوة سنوية منهم،مُلقِيَةً حبلهم على غاربهم،ينهبون ويسلبون ويسومون الناس سوءَ العذاب) .
ومن ذلك اتهامها بمناصرة أشراف الحِجاز على محاربة إمارة الدرعية
والسكوت عن البِدَع في بلادهم كسباً لتأييدهم (وَلِتَحُولَ في الوقت نفسه دون تكتُّلِ القبائل في البلاد العربية حول دعوة موحِّدة تجمع صفوفهم خشيةَ انتباههم للمطالبة باسترجاع الخلافة الإسلامية
من يد تلك الدولة إلى العرب) .
قلتُ : والعثمانيون في الحقيقة لم يستلبوا من العرب خلافتهم،
بل أعلنوها عندما كانت قد سقطت قبل ثلاثة قرون ولم يعد لها في الواقع حولٌ ولا طول .
وقد ظهرَ ذلك بالفعل في هجوم جيوش الدرعية على الحجاز والعراق أكثر من مرة وهما إيالتان عثمانيتان،مما اضطرَّ العثمانيين لتسيير أكثر من حملة عسكرية على الدرعية لردْع هجومها على أطرافها تنتقصُ من هيبتها وسيادتها ووحدتها،وشقِّ صف المسلمين الذينَ في رقابهم بيعة للخليفة المسلم . هذا إلى عدم تأدُّب أمير الدرعية في خطابه للسلطان العثماني سليم .
ويظهر ذلك من كتابٍ أرسله إليه بعدَ استيلائه على مكّة هكذا :
(بسم الله الرحمن الرحيم،من سعود بن عبد العزيز إلى السلطان سليم) دونما تحية أو سلام وهو على الأقلِّ مسلم يشهد الشهادتين .
وقد بان تنطُّعه في هذا الكتاب أن طلب إلى الخليفة بالأمر أن يمنع والي دمشق ووالي القاهرة أنْ يُسَيِّرا المحمل إلى الكعبة في موسم الحج لما قد يكون فيه من بِدَع ومنكرات كما يقول،بل كانَ هذا التنطُّع وبشكل أشدَّ عندما كتبَ الرجل إلى أهل مكّة ومسؤوليها بعدم الاستيلاء على مكة
وخاطبهم بقوله :
(السلام على مَنْ اتَّبع الهُدَى) !!
ومعلوم أنّ هذه تحية أهل الكتاب من نصارى ويهود .
هذا مع أنَّ والد حُكّام الدرعية محمد بن سعود أوصى أولاده في مرض موته،أن لا يحرصوا على استفزاز الدولة العثمانية بعبارته المشهورة : (لا تفجِّروا الصخر) !!
ويُفسِّر صاحب الكتاب ذلك بقوله : لا تثيروا عليكم الدول القوية الساكتة عنكم بأعمال تُفجِّرُ غضبها عليكم كما يفجر اللغم الصخور الساكنة فتُفتَّت شظاياها،وتقتل مَنْ حولها . وهذه الوصية تعني ضرورة الامتناع عن استفزاز الجيران الأقوياء وخصوصاً الدولة العثمانية،ولكن يبدو أنهم لم يأخذوا بنصيحة الوالد . وأقول ختاماً هاهي الدولة العثمانية التي عاشت ترهب الكفّار ساعدْنا نحن العرب،
الكُفّارَ على إسقاطها،وسقطت فعلاً،فماذا استفدنا من ذلك سوى الخُسران والسقوط والخضوع
اليوم جميعاً لدول الكفر من شرق ومن غرب