الذّات العربية المهزومة والتّبعية الشاملة في ظلّ الرأسمالية المتوحشة
واسيني الأعرج
Nov 15, 2017
هناك تحولات جذرية تجري اليوم في عمق العالم العربي الذي شُكِّل منذ البداية، كيانات تم تصنيعها منذ اتفاقيات سايكس بيكو
من دون مراعاة حقيقية للمكونات التاريخية الأساسية لهذا البلد أو ذاك. كل شيء خُلق خَلْقًا، فقد تحدث إدوارد سعيد عن
شرق مُختَلَق. شرق لا وجود له إلا في أذهان من خلقوه. شرق غربي نبت وفق الحاجة التاريخية.
كانت بلاد الشام أرضا واسعة، بسلطة عثمانية ظالمة، ومكونات بشرية خلاقة متعطشة للحرية. تمزيق هذا الكيان الواسع كان
جزءا من نتاج الحرب العالمية الأولى التي ختمت باندحار الدولة العثمانية المريضة. بموجب اتفاقيات سايكس بيكو، انتهت
سوريا الطبيعية ــ بلاد الشام ــ التي دلتنا عليها الخرائط. ومزقت شر تمزيق، وأصبح وعد بلفور مطبقًا عمليًا على الأرض.
تم فصل لبنان والأردن، عن سوريا الطبيعية، وتم منح لواء إسكندرون السوري، لتركيا المهزومة مقابل صمتها واسترضائها،
ووضعت فلسطين في وضع المنتظر قبل أن يتم تسليمها للحركة الصهيونية وقوافل الشترن والهاغانا. بينما الشريف حسين
ظل يتأرجح بين تقاطبات الدول الكبرى، التي بدأت تتعرف على ما يحتويه باطن الأراضي العربية، بالمسح العلمي الدائم،
والتقارير المخابراتية التي تبين بوضوح الأهداف الاستراتيجية للغرب المتقاتل سريا على مصالحه.
وبدأت التقسيمات السرية التي تمت بالمسطرة والقلمين الأزرق والأحمر، لرسم حدود المصالح وكأنها لعب أطفال، وليست
مصائر بلدان ومدن وقرى ومناطق آهلة بالسكان، تم تمزيقها هنا وهناك وفق المصالح الفرنسية والإنكليزية تحديدا. وضع
الإنكليز على ما تبقى من سوريا أحد أبناء الملك الشريف حسين، الأمير فيصل، قبل أن يتم نقله إلى العراق، كما تم وضع
الابن الثاني له، الأمير عبد الله، على رأس الأردن التي أسست بموجب التقسيم نفسه.
هناك عمل فعلي صاحب هذا التقسيم ولا يزال مستمرا إلى اليوم، إضعاف الدولة العربية أمام الزحف الصهيوني، وتأمين
إسرائيل كدولة كانت ترتسم في الأفق. وكان من الطبيعي أن توضع على رأس الدويلات العربية سلطات موالية أو قريبة. هذا
الإشكال لم يطرح في دول المغرب العربي لأنها كانت كلها ترزح تحت الاستعمار الفرنسي بشكل استيطاني أو حماية.
لم تخرج عن هذه المدارات الاستعمارية. فقد تحول الكثير من السبل الثقافية الفرنسية واللغوية، في الكثير من الحالات، إلى
وسيلة تبعية لا تزال إلى اليوم تشكل مشكلة كبيرة في هذه البلدان التي لم تحسم عمليا إشكال التبعية الثقافية. وأعيد تركيب
العالم العربي قطعة قطعة، مثل البزل puzzle، ولكن بنقائص عدة ظل يرممها المشرف على تركيب وتفكيك وإعادة
تركيب البزل، فهو المتحكم فيه، يُسيَّره كما يشاء، ويدين له الجميع بالولاء والاحترام.
من هنا، فتبعية العالم العربي هي محصلة لنظام فرض عليه وليست خيارا. إلى اليوم، لا يمكن للعالم العربي أن يختار طريقه
خارج الإرادات الغربية والدولية، الأمريكية تحديدا، وكلما تحرر أو حاول فعل ذلك، يتم كسره وتدميره من خلال حروب
اشترك فيها باستمرار الغرب الاستعماري لإمالة الكفة تُجاه إسرائيل. انتفت قضية فلسطين كقضية تحرر، جوهرية، أو كادت.
انتهت الفكرة القومية التي ماتت من أجلها أجيال متعاقبة ضد العثمانيين، ثم ضد الاستعمارات الغربية المتلاحقة. انتهت أيضا
الحاجة إلى تنمية عربية تضعها خارج الحاجة الغذائية وهيمنة الآخر بعد أن تحول العرب مجتمعين إلى كيانات استهلاكية،
تشتري حتى غذاءها اليومي.
التفوق العسكري الإسرائيلي لم يعد ممكنا اللحاق به، وعلى العرب في النهاية بعد زوال الخطرين الكبير على إسرائيل:
سوريا والعراق، وتحييد مصر التي لم تعد قوة عربية قادرة على التوازن منذ وفاة جمال عبد الناصر، أن يخضعوا، بل
وينفذواالخيارات الإسرائيلية، وينحنوا للإرادة الصهيونية التي لم تعد تؤمن إلا بالغطرسة والقوة وليس بعيدا، باسم مختلف
الحجج ، أن تتوغل إسرائيل في الجسد العربي الغني أكثر، فهي متحكمة في مائه وسمائه وترابه، وما تحت ثراه، وحتى في
غذائه، بالخصوص منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
النظام العالمي الاستعماري بمختلف وجوهه وتشكلاته، هو من وضع النظام العربي ومكنه من السلطة؟ تاريخيا، وهو من حدد
مراميه، ومساحات مناوراته لحفظ ماء الوجه أمام شعوبه. وهو نفسه من اقترح عليه جامعة دول عربية بلا أية إستراتيجية
واضحة، التي لم تأت كحاجة عربية ضرورية، ولكنها استجابة لحاجة الحلفاء الذين زاد تمكنهم من هذا الخزان العملاق من
النفط العربي الذي كان في إمكانه، مع قليل من التدبير وفرض النفس، أن يخلق عالما عربيا قويا ومحددا للسياسات العالمية،
على الأقل تلك التي تهم وضعه الوجودي ومستقبله.
العكس هو الذي حدث. عالم ضعيف جدا. وكلما ضعف زاد تبعية. لا تربطه اليوم إلا روابط قومية ودينية واهية، لم تعد قادرة
على التحكم في أي شيء، حتى مصائر الدول العربية تظلّ معلقة على الإرادات الخارجية.
بعد ذهاب الحامي العثماني باسم الإسلام وتدميرالخصوصية العربية المتعطشة إلى الحرية، عوضته القومية كوسيلة للتحرر
قبل أن تتحول هي أيضا إلى ممارسة عرقية ترفض كل ما لا يشبهها من القوميات الصغيرة التي كبرت حتى أصبحت قوة لها
مطالبها، يمكن للسياسات الاستعمارية الغربية الحالية تنشيطها باتجاه اللحظة التفكيكية النهائية لعالم عربي وصل إلى الساعة
التي يواجه فيها مصيره الذي يكاد يكون قدريا.
ثم استظل بالخيارات الأيديولوجية الرأسمالية أو الاشتراكية، وخرج منها مهزوما. نفاق الدول الغربية الذي كان وراء
الهولوكست، وحده يتحمل مسؤوليته التاريخية، خلق إسرائيل واستبدل شعبا بشعب، ودمر الحلم العربي، وأكد أكثر التبعية.
المرة الوحيدة التي لملمت فيها القوة العربية أطرافها الممزقة من المغرب إلى المشرق إلى الخليج، انتصرت، ولو جزئيا،
هي حرب السبعينيات 1973.
تمكنت من الحفاظ على سريتها ولعبت السعودية خليجيا، والجزائر مغاربيا، والدول المعنية مباشرة، بالخصوص سورية
ومصر، دورا عظيما، انتهى بتحطيم الحصن الأسطوري، خط بارليف، ولكن أيضا باغتيال الملك فيصل من طرف مجنون من
داخل القصر، وهو أمر إلى اليوم، لم يفض بأسراره، بهذه الأحداث المتتالية تكون مرحلة التركيع العربي الكبرى قد بدأت
بقوة ، ليشرع التبعيات المباشرة في عالم عربي كان قد تفكك إلى قوتين متناقضتين أيديولوجيًا.
قبل أن تندثر الأيديولوجية، وتنتصر الرأسمالية المتوحشة التي فككت ودمرت جزءا من أوروبا الشرقية، ودمرت أيضا كل
القوى العربية التي وقفت في طريقها قبل تكوّن القطب الثاني المناهض للأحادية،الذي بدأت تقوده روسيا والصين، وربما
إيران أيضا الذي يبدو ظاهريا تحالفا متناقضا، لكن الجوهر الاقتصادي والمصالح الاستراتيجية وجغرافيات الهيمنة الجديدة،
تظل تحكمه في الصميم.