[rtl]أكد د. معاوية إبراهيم عالم الآثار واللغات الشرقية القديمة في محاضرته "الأردن وفلسطين مع بدايات الاستقرار وأولى المدن" ضمن الفعاليات التي خصصتها دارة الفنون لمؤسسة خالد شومان لعام كامل تحت عنوان "فلسطين الحضارة عبر التاريخ"، أن فلسطين والأردن كانتا وحدة حضارية واحدة منذ أن عرف الإنسان الاستقرار، أي أن نهر الأردن لم يكن حدّاً فاصلاً بين ما يجري في فلسطين وما يجري في الأردن منذ البدايات، فمنذ الألف العاشر قبل الميلاد كان الإنسان على صلة مباشرة بما يجري في الأردن وفلسطين، والدلائل الأثرية تثبت ذلك"، مستعرضا في هذا الإطار العديد من الأمثلة، كما سلط الضوء على بداية الاستقرار وأولى المدن في الأردن وفلسطين.[/rtl]
[rtl]تساءل د. معاوية: ماذا كان يجري في فلسطين من خلال البعثات الأثرية الأجنبية طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟ وقال "إنه لم يكن من بين العرب من هو مهتم بالبحث عن الآثار، وكان البحث مقصوراً على البعثات الأجنبية التي كان لها أجندات خاصة تتركز على التاريخ التوراتي، فأسس الإنجليز على سبيل المثال سنة 1865 صندوقاً أسموه "صندوق استكشاف فلسطين"، ووضعوا من أهدافه البحث في التاريخ والجغرافيا والآثار من أجل توضيح الكتاب المقدس، وهؤلاء أصدروا مجلة دورية منذ ذلك الحين لهذه الغاية. لم يكتفِ الأميركان بعد ذلك بخمس سنوات بالأهداف التي وضعها الإنجليز، وعملوا بجهد من أجل تكريس هذه البحوث لإثبات صحة الكتاب المقدس. لأنه كان هناك شكوك في الأحداث التوراتية التي كانت موجودة في الكتب وفي المناهج الدراسية الموجودة بالغرب آنذاك، فغالبية هذه البحوث كانت تتركز على المنهج التوراتي ولا تبحث بشكل هادف عن التراث وماهيته كما هو، وقبل تسعين سنة تأسس في شيكاغو معهد للدراسات الشرقية بقيادة مؤرخ معروف اسمه جيمس هنري وخرجوا عن هذه القاعدة، وقاموا ببعض التنقيبات في فلسطين وفي مناطق أخرى من الشرق، وبخاصة في "مرج ابن عامر"، لكن من الملحوظ أن التوراتيين لم يتعاونوا مع هذا المعهد، وكانوا أنشأوا معهداً في القدس أسموه (The American School Oriental Research) سنة 1900، وفي وقت لاحق قاد هذا المعهد شخص توراتي معروف اسمه وليام أولبرايت الذي لم يكن فقط توراتياً في منهجه، وإنما كان له توجه صهيوني، وكان يوجه الصهاينة الذين يأتون إلى فلسطين من أجل ما يعرف بـ"علاقة فلسطين بالتاريخ اليهودي".[/rtl]
[rtl]وأضاف "نشأت مدارس أخرى في فرنسا وألمانيا وكانت مختلفة عن المنهجين الإنجليزي والأميرك. والمنهج الألماني بشكل خاص كان يرى ضرورة الدراسات التوراتية، ولكن بشكل منعزل عن الآثار، وأنه لا يجوز أن نفسر الآثار قسوة تبعاً للمنهج التوراتي، وكان من أبرز من قاد هذا المنهج ألبرشت آلت. وفي انجلترا ظهر تيار جديد بإشراف شخصية علمية اسمها "جولدن شايب" انشأ معهد الآثار بمعهد لندن، وكان من بين تلاميذه "كاثلين كينون" التي قادت مجموعة من الحملات الأثرية في المنطقة بما في ذلك "غزة"، و"تل السلطان"، و"القدس" في الستينات إلى أن حصل الاحتلال عام 1967. طبعاً هذه المدارس كان لها مكتبات، وكانت تستقطب باحثين من مختلف بلدان العالم، إلا أن العرب كانوا في غياب تام عن الدراسات الأثرية، سواء في جامعاتهم أو في مؤسساتهم، وحتى الآن ما زالوا في شبه غياب عن هذا الميدان، نحن الذين درسنا في الغرب وعدنا في وقت مبكر حاولنا أن نكوّن مدرسة من أجل إنشاء فرق وكوادر تستطيع أن تقوم بهذه المهمة، إلا أن تعاون مؤسسات التعليم العالي لم يكن كما يجب، نجحنا إلى حد ما في الثمانينات وفي التسعينات وتخرج مجموعة من الكوادر خاصة في جامعة اليرموك التي كانت تحمل رسالة بعيدة عن المنهج التوراتي، وتقوم على المنهج العلمي، إلا أن الكثير من الخريجين اضطر للهجرة إلى الخارج والعمل هناك. وفي كل بلداننا العربية لا توجد مكتبة واحدة متخصصة في هذا المجال".[/rtl]
[rtl]كما تساءل د. معاوية: كيف بدأ الاستقرار في منطقة الشرق القديم وبخاصة في جنوب بلاد الشام، في الأردن وفلسطين؟ وكيف تطورت الحياة السكنية في المنطقة، ومن ثم كيف نشأت أولى المدن؟. وأجاب "لا بد أن ننظر إلى بدايات الاستقرار بشكل واسع يضم بقعة جغرافية كبيرة، فهناك مجموعة من المواقع في سوريا، وجنوب العراق، وفي الأناضول، ولكن في فلسطين والأردن ظهرت مواقع في غاية الأهمية، وكانت بدايات هذه المواقع في منطقة إلى الشمال الغربي من القدس في "وادي الناطوف"، وهي تمثل بداية استقرار الإنسان بعد أن كان هائماً جامعاً لقوته لملايين السنين، ففي السنة 13 ألف قبل الميلاد بدأ الإنسان يتعرف على المقومات التي تساعده على الاستقرار، وكان ذلك في هذه المنطقة، ولذا يطلق على هذه الفترة اسم "الثقافة الناطوفية" التي تم التعرف عليها بشكل جيد في مجموعة من المواقع في الأردن وفلسطين، ومن أهم المواقع "تل السلطان" غربي النهر، و"عين غزال" وموقع "بعجة"، وهناك مواقع مثل "بيضا" وغيرها من المشاريع الألمانية، هذه بعض المواقع التي تمثل بدايات الاستقرار، وفيها مكتشفات تعود "للثقافة الناطوفية"، حيث كانت بداية للفن والنحت للإنسان والحيوان.[/rtl]
[rtl]وأوضح أن هناك مجموعة من المواقع والحفريات في الأردن وفلسطين تمثل بدايات الاستقرار من مثل "تل السلطان" في وسط "واحة أريحا"، وقد تركزت عليه الحفريات منذ القرن العشرين من خلال باحث ألماني اسمه أرنست سيلين، ومن ثم جاء جون كاستنج مفتش الآثار البريطاني في فلسطين آنذاك، ومن ثم جاءت كاثلين كينون في الخمسينيات وحتى الستينيات، وكاثلين تعد من أهم الباحثين الأثريين الذي جاءوا إلى المنطقة. ومن أهم المكتشفات في "أريحا" التحصينات المتعددة، سواء أسوار الموقع أو البرج الضخم الذي يعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، وهو موجود حتى الآن في موقعه، ومن ميزات هذه الفترة أيضاً أن دفن الموتى كان يتم تحت مساطب البيوت، وكان يتم عزل الجماجم عن الهياكل وتحنيط أو ترصيص الجماجم حتى يحتفظ بها لفترة طويلة، وهذا ما لوحظ في مواقع أخرى كما هو الحال في "عين غزال" بجوار عمّان، وفي بسطة بالقرب من البتراء، وبعض هذه الجماجم كانت مزينة للدلالة على الشَّعر والزِّي، وبدل العيون كان يوضع لها أصداف.[/rtl]
[rtl]وأضاف د. معاوية أنه في العام 1980 تم الكشف عن موقع "عين غزال" من خلال بعض الطلاب الذين كانوا يشاركون معنا في حفريات منطقة "سحاب"، وكان من أهم المواقع وأكبرها، والتي تعود إلى العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار؛ أي الألف التاسع قبل الميلاد، ومن أبرز الاكتشافات في هذا الموقع مجموعة كبيرة من التماثيل الجصية (حوالي أربعين تمثالاً) وجدت في منطقة واحدة، وتم نقل عدد منها إلى مركز الترميم في معهد الآثار في جامعة لندن، والمجموعة الثانية ذهبت إلى واشنطن، وبعضها عادت إلى الأردن وهي معروضة في متحف الأردن، وأول تمثالين تمت صيانتهما عرضا عند افتتاح متحف التراث في جامعة اليرموك، وكانت عملية الترميم معقدة جداً. كما تم الكشف في "عين غزال" عن معبد صغير يشير إلى أنه بدأت التقاليد والطقوس الدينية تظهر في تلك الفترة. وهناك موقع آخر مهم هو "تل الصوان" ويقع بالقرب من جرش، وفيه آثار عمرانية واضحة ومبنى عام ممكن أن يكون معبداً أو مبنى إدارياً وهو يشبه لحد كبير ما تم الكشف عنه في موقع "عين غزال".[/rtl]
[rtl]وهناك موقع إلى الجنوب والشمال من البتراء هو "البيضا" وكشف فيه عن طبقات تعود إلى ما قبل الفخار وأشكال البيوت التي كانت تُبنى آنذاك بشكل دائري والسقوف المشيدة بشكل مخروطي. وأود الإشارة إلى موقع "بسطة" وهي قرية على طريق معان البتراء، وتعد موقعاً مهماً جداً فيه مبانٍ بعض الجدران فيها ترتفع لحوالي ثلاثة أمتار، وهذه البيوت في القرية تعود إلى 11 ألف سنة، وهي تشبه في إنشائها البيوت الأقدم.[/rtl]
[rtl]وأوضح أنه في بداية العصر الحجري النحاسي كانت مع اهتداء الإنسان لاكتشاف المعادن للمرة الأولى، وكانت منطقة "وادي عربة" أولى المناطق التي ظهرت بها مجموعة من أماكن التعدين في هذه الفترة، والمنتجات الخام أو المصنعة التي كانت تُصدر لمناطق أخرى في الشرق القديم، وفي فترة لاحقة؛ أي في السنة الثالثة قبل الميلاد، ظهر النحاس في جبال عُمان، ووجدت مجموعة كبيرة من مناجم النحاس في المنطقة وكان يُصدر إلى إيران والهند وشرق أفريقيا.[/rtl]
[rtl]أما في منطقة "تليلات الغسول" التي تقع قريباً من البحر الميت، فقد أقام المعهد التوراتي في روما حفريات فيها في العشرينيات من القرن الماضي، وكشف عن آثار مهمة، بما فيها لوحات جدارية تعكس مشاهد دينية معينة وأساطير، لكن لم تتمكن البعثة من تأريخ المكتشفات في ذلك الوقت لأنهم لم يكن لديهم اطلاع على ماهية الأشياء والقدرة على التعرف عليها، ولذا أطلقوا عليها اسم "ثقافة غسول"، بعد ذلك ظهرت أيضاً مواقع أخرى في مناطق "بئر السبع" وضمت ثلاثة مواقع مهمة هي: "بير صفدي"، و"بير مطر"، و"خربة البيطار" التي تعاصر إلى حد كبير موقع "تليلات الغسول"، كما ظهرت مواقع على الساحل الفلسطيني في "خضيرة"، و"يازور"، وفي الأردن في موقع "سحاب" حيث وجدت في السبعينيات قرية زراعية كبيرة تعود لهذ المرحلة، وكان يعتقد أنها ترجع لبدايات العصر النيوليثي الكاثوليثي، لكن تبين أنها إقرب إلى ثقافة تليلات الغسول.[/rtl]
[rtl]وأشار د. معاوية أنه في عام 1975 تم التعرف على "تل أبو حامد" في وادي الأردن عبر مسح أثري، حيث ظهرت أواني ضخمة من الفخار، ونلاحظ أن مثل هذه الأواني توجد في جميع المواقع التي تعود إلى العصر الحجري النحاسي، وتعبر هذه الجرار عن فائض في الإنتاج الزراعي من فلسطين والأردن. مثل هذه المواقع امتدت إلى الجنوب في مناطق مثل "وادي عربة" حتى قبيل العقبة هناك موقع مهم ظهر فيه بعض البيوت المجصصة والتي تحمل أشكالاً لحيوانات تم رسمها على جدران هذه البيوت وفي "حجارات الغزلان" ظهرت قوالب للنحاس الذي كان يتم إنتاجه في منطقة وادي عربة التي لعبت دوراً مهماً وكانت هذه المنتجات تصدر إلى مصر.[/rtl]
[rtl]ولفت د. معاوية إلى أهم المكتشفات في "بئر السبع" والتي جاءت من خلال مجموعة من الأدوات الصوانية والبيوت والكهوف التي سُكنت في الألف الرابعة قبل الميلاد، ومثل هذه الكهوف وجدناها أيضاً في سحاب، ومن أهم المكتشفات في "بئر السبع" تماثيل مصنوعة من العاج، وفي "النّقب" تم الكشف عن تماثيل لحيونات وتماثيل آدمية، والعديد من الأواني الفخارية المطلية، وفي "المخرس" بفلسطين ظهرت اكتشافات تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وهي عبارة عن كنز من الأدوات النحاسية. وفي بعض مواقع الساحل الفلسطيني ظهر ما يعرف بالتوابيت الفخارية الملونة، حيث كانت تستخدم لوضع بقايا عظام الموتى فيها، وجاءت على شكل بيوت صغيرة. ودلل انتشار القرى الزراعة المتطورة في كل مكان على كثافة سكانية كبيرة في فلسطين والأردن، وكان لا بد من إدارة هذه المواقع، والإدارة لا بد أن تحصل في مناطق حضرية، ومن هنا بدأت تظهر المدن في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وبدايات هذه الاكتشافات في الأردن كانت في موقع اسمه "باب الذراع" قريباً من البحر الميت إلى الغرب من محافظة الكرك.[/rtl]
[rtl]ومن المواقع التي تدلل على تكون المدن في الأردن موقع اسمه "جاوا" يقع إلى الشرق من المفرق بين واديين، وظهرت فيه آثار لمدينة تسمى "المدينة العليا"، وكذلك "المدينة السفلى"، وكلاهما كان محصناً، وبالإضافة للمخلفات المعمارية في "جاوا"، ظهر نظام ري متطور. وهناك موقع آخر اسمه "الزيرابون" إلى الشمال الشرقي من مدينة إربد على حافة وادي الشلالة، ويعود إل العصر البرونزي القديم، وفيه تحصينات مهمة، وظهرت فيه أواني فخارية مميزة، وكان بعضها عليه طبعات لأختام من هذه الفترة، وظهر فيه لأول مرة مجموعة من المعابد بالإضافة إلى قصر أو مبنى إداري.[/rtl]
[rtl]وفي موقع "خربة البتراوي" في الزرقاء، ظهرت مبانٍ وتحصينات مهمة، وأوانٍ فخارية. والموقع المهم الآخر هو "طبقة فحل" وهو من أهم المواقع في منطقة الشرق القديم، حيث مرت عليه كل الفترات الزمنية تقريباً، وتألف من جزأين؛ "الطبقة" و"تل الحصن" وظهرت فيه تحصينات ضخمة تعود لأوائل المدن التي تكونت في المنطقة.[/rtl]
[rtl]وفي "تل أبو الخرز" ظهرت بقايا لنسيج أو حبال من العصر البرونزي القديم وأواني فخرية، وفي الأغوار الوسطى هناك موقع "تل السعيدية" وفيه بقايا لمبنى يعود للعصر البرونزي القديم ومرحلة تكون المدن، وفي موقع مهم في وادي الأردن هو "تل الحمام" ظهرت مبانٍ تعود للعصر البرونزي القديم. وكذلك في "خربة اسكندر" جنوب محافظة مادبا.[/rtl]
[rtl]ورأى د. معاوية أن الكثافةَ السكانية غرب النهر وشرق النهر تؤكد تأسيس دويلاتُ المدن سياسياً، والتي تطورت وأصبحت فيما بعد دويلات المقاطعات ومن ثم الممالك. وقال "كنت أشرت إلى موقع "باب الذراع" الذي كُشف فيه عن معالم مدينة تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وبجوار هذه المدينة يوجد حقل مدافن يعد من أكبر حقول المدافن في الشرق القديم، ووجد فيه مئات الآلاف من الأواني الفخارية. ومن أنواع المقابر وتتكون من غرف جانبية فيها دفن متعدد ولها مداخل رأسيه، ومن ثم يتفرع عنها غرف جانبية. وآخر مرحلة من مراحل "باب الذراع" ظهر ما يسمى "المقابر ذات الغرفة الواحدة". وفي أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، حصل صراع عنيف في المنطقة سواء في فلسطين أو الأردن أو مناطق بلاد الشام أدى إلى انهيار كل هذه المدن، وأصبحنا بدل هذه المدن المحصنة نجد فقط قبوراً بسيطة، وقلما وجد فيها مكتشفات مهمة. وجدنا بعض هذه المكتشفات بالقرب من مخيم "شنلر" وفي موقع اسمه "المشيرفة".. وهذه الفترة ما يزال يكتنفها الغموض، وهناك نقاش طويل يدور بين المختصين والأثريين واللغوين في المناطق ظهرت فيها كتابات من مثل بلاد ما بين النهر وشمال سوريا، حيث ظهرت كتابات تتحدث عن قبائل سيطرت على هذه المدن، لكن أمر النقاش حولها لم يحسم بعد.[/rtl]
[rtl]محمد الحمامصي[/rtl] |