[size=30]من التراب إلي التراب ومن القصور إلي القبور[/size]
د.جمال عبد الناصر محمد أبو نحل
الإنسان وجد في الأرض لعمارتها واصلاحها وعمل الصالحات فيها وفق منهج الله عز وجل، وهي ليست له سكناً بل لفترة وجيزة يؤدي ما عليه ليعود إلي الحياة الثانية، فنحن في دار ابتلاء واختبار وبلاء وفي اوقت ممكن أن ترد الوديعة الروح إلي بارئها كمن في امتحان وانتهي وقت الاجابة وتم سحب الورقة منه؛ فالحياة مَآ هِي إلا قَصْة قَصِيرَة مِنْ تُراب، وعَلَى تُّراب، إلَى تُراَبْ ثُمْ حِّساب؛ فثواب أوْ عقاب؛ لذلك عِشْ حياتك لله تَكُنْ أسْعَدْ خَلْقَ الله وَ لَوْ يَعْلَمْ المُصَلِي مَآ يغشاهُ مِنْ الرْحَمَة عِنْد " سَجُودَه " علي الأرض لم يرفع رأسهُ إلا بعد طول سجود؛ فنحنُ منها وعليها وإليها، من الأرض وإلى الأرض، من الرماد إلى الرماد من التراب إلى التراب؛ فماذا كان الإنسان قبل أن يخلقه الله؟ قبل أن يخلق الله الإنسان «لَمْ يَكُن شَيْئا مَّذْكُورا»، فخلق الله تعالى الإنسان في أفضل وأدق صورة، فقال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، ويزيد القرآن توضيحا فيقول «...وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا» مريم (9)، وتحكى سورة الكهف حوارا بين مؤمن وكافر فيقول المؤمن للكافر «... أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا»، فما المقصود من ذكر هذا الأصل «الترابي» للإنسان؟ - هل قصد القرآن إعلام الإنسان بأصله التراب فلا يستعلى على الآخرين؟! أم قصد القرآن إعلام الإنسان بأنه صالح للإنبات والإعمار والتكوين؟! ربما قصد القرآن تنبيه الإنسان بأنه يدوس بقدمه وحذائه على مصدر وجوده، فليحذر وليراجع نفسه، ربما قصد القرآن تحذير الإنسان من نسيان نفسه فيحتقر أي مخلوق، فهل يتصور أحد أن التراب يحتقر التراب؟ أو أن التراب يتكبر على تراب مثله؟!لقد فهم أبو العلاء المعرى شيئا من حكمة «الخلق من تراب» إذ فهم ضرورة تواضع الإنسان وعدم تكبره في حياته على الأرض، فلو تكبر لكان متكبراً على نفسه وعلى آبائه وأجداده، كذلك فقد لمحت «رابعة العدوية» «معنى التراب» ففهمت أن الإنسان لا يجوز له أن يعبأ بزينة الدنيا من (سُلطة وسلطان، ومال وعتاد، وخدم وحشم، وملوك وأمراء)، فكل هذه الزينة متاع قليل وأعراض زائلة، فلذلك دعت رابعة العدوية ربها قائلة: فليت الذى بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب - إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب - فالأرض بنت التراب وأمه، والنبات والحيوان من التراب، بل والإنسان ذاته من تراب - إذا لم تصدق أيها الإنسان أنك من تراب، فقم بزيارة سريعة للقبور، وابحث عن أجساد الذين دفنتهم من قبل، فسوف لا تجد إلا التراب، فقد رجع الإنسان إلى أصله، قال تعالي: كما بدأنا أول خلق نُعيده""؛ خلقه من تراب، انتهى أمره إلى التراب: هكذا كل المنشآت تنشأ وترتفع من التراب، فإذا جاء أجلها عادت تراباً كما بدأت؛ قال تعالي :«مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ.» وإذا كان التراب كما نراه ينبت الأزهار والثمار متعددة المنافع فماذا تنتج أنت أيها الإنسان؟! فتلك الفواكه والخضروات وكل ما نقوم بزراعته ينبث في الأرض أي من التراب ونقوم بأكله لأن أساسنا من التراب؛ لذلك يدخل في تركيبة جسم الإنسان ذرات العناصر الكيمائية، ومن أكثر العناصر الموجودة في جسم الإنسان: الماء، والكربون، والهيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، كما يحتوي الجسم على كميات أقل من الكالسيوم والحديد والفوسفور والبوتاسيوم والصوديوم ، ثم تتحد هذه العناصر الكيمائية لتكون (الجزيئات)، وأكثر الجزيئات الموجودة في جسم الإنسان هو جزيء الماء، حيث يشكل الماء حوالي 65% من الجسم، كما أن كل الجزيئات الموجودة في الجسم تحتوي على عنصر الكربون، وأكثر الجزيئات التي تحتوي على الكربون هي الجزيئات الكبرية، مثل الكربوهيدرات والشحوم والبروتينات والأحماض الأمينية؛؛ كل تلك المركبات السابقة موجودة في التراب، ثم ها هو التراب يلين في يد صانعه فينبت له طعامه ويخرج له كساءه، كما يساعده في إنشاء مسكنه ومأواه، فلماذا يقدر التراب على الإعمار والستر والتجديد والإيواء وأنت لا تقدر على شيء من ذلك؟ وإذا أدرك الإنسان التعرف على ذاته، اكتشف أنها مثل جميع الذوات «من تراب ، فلا يصح أن يكون التراب المجرد نافعا، والإنسان المكرم لا نفع فيه.. فيا أيها الإنسان ابحث لنفسك عن مكانة تليق بك: إما أن تكون منتجا مُعمرًا مصلحا مثل أمك «الأرض» التي أنجبتك ومثل جدك «التراب» أو تكون «كومة» من التراب يزدريها الناس ويبتعدون عنها لما عشش بداخلها من أمراض نفسية وعقلية تتزايد أضرارها- أو تكون ترابا لا ينبت زرعا ولا يقيم سكنا ولا يصلح إلا أن يدوسه الناس كما يدوسون التراب، وربما رشوه بالمياه لمنع الأذى المتصاعد من غباره، فـ «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» الانفطار"، خلق الله سبحانه وتعالى الكون وما فيه من السماوات والأرض وخلق كل شيء من العدم بكلمة واحدة من الله سبحانه وتعالى وهي (كن)، وخلق الإنسان من طين ومن صلصال، فميّز الإنسان عن سائر الكائنات الحية وعن الجن، وكرمه بالعقل وعمارة الأرض والعيش فيها لحين يوم الحساب وبدأ خلق الإنسان من طين، فبدأ خلقه من التراب ثم وضع عليه الماء ليصبح طيناً، ثم تحول الطين إلى اللون الأسود المتغيّر (الحمأ المسنون)، ومن ثم تصلب الطين من غير وضع النار عليه فتحول إلى صلصالاً، ثمّ نفخ الله سبحانه وتعالى من روحه فيه فخلق الإنسان، وأوّل إنسان نفخ الله سبحانه وتعالى فيه الروح هو سيدنا آدم عليه السلام، ونزل الكثير من الآيات التي تدل على خلق الله سبحانه وتعالى للإنسان، ومن هذه الآيات قول الله تعالى في كتابه العزيز: " أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ". خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وخلق الإنسان لحكم عديدة، وكل شيء يخلقه الله سبحانه وتعالى تكون له حكم عديدة، فلم يخلق الله أي شيء عبثاً، وهناك الكثير من الأمور التي لم يبين الله سبحانه للبشر الحكمة من خلقها، ومن أعظم الحكم لخلق الإنسان من طين، أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بيديه الكريمتين ونفخ فيه من روحه، وميّزه عن الملائكة وعن الشيطان في أصل الخلق، وعندما طلب الله سبحانه وتعالى من إبليس السجود لآدم رفض وأبى أن يسجد له، لقول الله تعالى في كتابه الكريم: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ"، تبدأ حياة الميت الثانية بعد دخوله القبر، فلا تنتهي الحياة بموت الأنسان في حقيقة الأمر، بل إنّه ينتقل من حكم عن الحياة الدنيا بطريق الموت إلى الحياة الآخرة التي أولها القبر، والقبر ليس إلا طريق عبورٍ بين الدنيا والآخرة، فإن جاء أمر الله وقامت الساعة، فحينها ينتقل أهل القبور إلى مرحلةٍ أخرى هي مرحلة العرض والحساب، وتوزيع الجوائز والمنازل بين الجنة والنار؛؛ فعجبًا لك يا ابن آدم عندما تولد يؤذن فيك من غير صلاة وعندما تموت يصلى عليك من غير أذان ،عندما تولد لا تعلم من الذي أخرجك من بطن أمك، وعندما تموت لا تعلم من الذي حملك على الأكتاف ..وعندما ولدت تغسَّل وتنظَّف .. وعندما تموت تغسَّل وتنظَّف، عندما تولد يفرح بك والديك وأهلك، وعندما تموت يبكي عليك والديك وأهلك، فخُلقت يا ابن آدم من تراب، فسبحان من يجعلك بعد الموت تُدخل في التراب، عندما كنت في بطن أمك كنت في مكان ضيِّق وظلمة، وعندما تموت تكون في مكان ضيِّق وظلمة، عندما وُلِدت يغطى عليك بالقماش لكي يستروك، وعندما تموت تكفن بالقماش لكي يستروك، وعندما ولدت وكبرت يسألك الناس عن شهادتك وخبراتك، وعندما تموت لا تسأل إلا عن عملك الصالح فقط فماذا أعددت لذلك الموقف ولهذا السؤال من الملكين في القبر؟؟ فيا ابن التراب لا تتجبر ولا تتكبر كائناً من كنت؛ فالجميع راحل من القصور والدور إلي القبور في التراب منهُ وإليه؛ قال تعالي:" منها خلقناكم، وفيها نُعيدكم، ومنها نخرجكمُ تارةً أُخري"، أي الأرض، وترابها نسأل الله أن يختم بالصالحات أعمالنا.