"مصافحة الشيطان".. كيف تدفع الرياض إسرائيل لحرب بالوكالة بلبنان؟
كان الأحد يومًا غير عادي للعاملين بمطار رفيق الحريري الدولي بالعاصمة اللبنانية بيروت، الثامن والعشرون من رمضان، الثالث من (يوليو/تموز) للعام الماضي 2016، حين هبطت رحلة قادمة من طهران رأسا تابعة لشركة "طيران إيران"، حاملة على متنها ضيفا جديدا من نوعه على الساحة اللبنانية، في زيارة شبه سرية(1) للقاء رجل لا يقل عنه أهمية إيرانيا، ويزيد عنه بما لا يُقاس بالداخل اللبناني، رأس أكبر تنظيم مسلح في الشرق الأوسط: حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله.
كان الزائر الإيراني رفيع المستوى، نتاج شهر سابق عاصف في طهران، قام فيه "علي خامنئي"، رأس إيران الأهم والمرشد الأعلى للثورة، بالتخلص من أحد أهم صقور العاصمة الفارسية، ومطيحا بقائد أعلى هيئة عسكرية في البلاد: الجنرال "حسن فيروز أبادي"، المقرب من الرئيس الإيراني "حسن روحاني".
خلّف "خامنئي" عاصفة قصيرة من تكهنات برئيس هيئة الأركان العامة الإيرانية الجديد، ولم تكن القائمة طويلة بأي شكل: غلام علي راشد، ويحيى رحيم صفوي، مستشارا المرشد الأعلى العسكريان الأساسيان، واللواء محسن رضائي، أمين عام مجلس تشخيص مصلحة النظام وقائد الحرس الثوري السابق، لكن "خامنئي" خالف كل ذلك، وتجاهل رضائي مرة أخرى، معيّنا في 28 (يونيو/حزيران) في المنصب شديد الحساسية أصغر جنرالات إيران وأحد أكثرهم غموضًا(2): اللواء محمد حسين باقري.
عندما هبط الجنرال باقري بمطار الحريري بعد خمسة أيام فقط من توليه منصبه كان للقائه الخاص مع نصر الله عنوان عريض غير مألوف يناقش عملية تحويل الحزب الهيكلية إلى "قوة تدخّل عسكرية كاملة، يمكن نشرها بجميع أنواع مسارح الصراع". عملية داخلية بدأت منذ اغتيال قائد قوات الحزب الأول "مصطفى بدر الدين" قبل لقاء بيروت بشهر ونصف، منتصف (مايو/أيار)، واستمرت مع تولي "فؤاد شكر"، الملقب بـ "الحج محسن"، ذي الرأس المقيّم عالميا بخمسة ملايين دولار مكافأة أميركية لمن يُرشد عنه لمنصب بدر الدين. حتى حينه، لم يمتلك حزب الله، رغم وجوده العسكري الفعلي في ثلاث دول مختلفة (العراق وسوريا ولبنان)، أي عقيدة انتشار عسكرية واضحة. باختصار، كان هدف باقري تحويل الحزب بشكل نهائي إلى جيش نظامي، وإلى مؤسسة عسكرية كاملة، وفي الوقت نفسه حمل الأمر ضربة جديدة لعاصمة عربية أخرى تُعاني من اختلال قبضتها في فنائها الشمالي منذ أشهر عديدة.
خامنئي (يمين) يعين اللواؤ محمد باقري (يسار) رئيسا لأركان القوات المسلحة
بدأ العام الماضي، قبيل تولي الجنرال باقري منصبه بأربعة أشهر، في نهاية (فبراير/شباط) 2016، بأسوأ وسيلة ممكنة للرياض، عن طريق تقرير سري(3) لاطلاع أعين القصر الملكي السعودي، أوضح توغل وتزايد نفوذ حزب الله في لبنان، وشكوك جادة بسيطرة الحزب على المديرية العامة للأمن العام اللبناني "GDGS"، المكافئ اللبناني لمكتب المباحث الفيدرالية الأميركي، والمتحكم الأول في الأمن الداخلي، وكذا عمل عدد كبير من ضباط المخابرات العسكرية اللبنانية لصالح الحزب، لكن الأهم أتى في تسليط التقرير الضوء على تزايد نفوذ الحزب في الموانئ والمطارات اللبنانية، ما عنى بشكل مباشر أن لبنان أصبحت ممر انتقال مهم وواسع للحرس الثوري الإيراني، ما يعني بالضرورة نافذة واسعة على الخليج كاملا.
على إثر التقرير، وقبل أن ينتهي (فبراير/شباط)، أوقف "محمد بن سلمان"، وزير الدفاع السعودي وقتها عقد الـ "DONAS"(4) الشهير، صفقة ثلاثية وعدت بموجبها الرياض تزويد الجيش اللبناني بأسلحة ومعدات أمنية بقيمة قياسية بلغت ثلاثة مليارات دولار، على أن تكون فرنسا المزود الأساسي لمعظمها، وكانت شاهدة على معركة نفوذ(5) في الداخل السعودي للإشراف الكامل عليها عام 2013، بين ابن سلمان، نجل سلمان عبد العزيز وزير الدفاع السعودي، وخالد التويجري، رئيس الديوان الملكي ورجل التكنوقراط الأقوى حينها، قبل أن يحسمها سلمان لابنه بعد تدخله بثقله لصالح الأخير.
كان محمد بن نايف، ولي العهد السابق ووزير الداخلية في حينه، أحد مهندسي العقد الثلاثي، عقدٌ حاولت به الرياض تكوين محور سني ضخم بالداخل اللبناني مقابل المحور الشيعي، يدين للبلاط السعودي بالولاء، ويمثل حاجزًا سميكًا أمام تزايد نفوذ حزب الله، قبل أن يكتشف السعوديون، كعادة اكتشافات متأخرة ومتكررة غالبا، أن المال ليس الوسيلة الأمثل للتغلب على نفوذ جيوسياسي وبيروقراطي وعسكري واجتماعي عميق، كنفوذ حزب الله داخل رقعة الصراع اللبنانية.
الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" (يمين) وولي العهد السعودي "محمد بن نايف"، أمام قصر الإليزيه، (مارس/آذار) العام الماضي 2016
في بداية الشهر التالي (مارس/آذار)، وبعد أيام قليلة من وصول التقرير إلى القصر الملكي، أطلع "محمد بن نايف" وزراء داخلية دول مجلس التعاون الخليجي "GCC" على محتواه، مفسرا به اتجاه الرياض الجديد والعنيف سياسيا ضد بيروت، لتشهد الأشهر التالية فصول الرواية السابقة: تراجع الرياض، صعود حزب الله، ظهور باقري على الساحة، رؤيته للحزب، ثم حجر الدومينو الأخير للعام الماضي: تقارب غير مسبوق(6) بين الاستخبارات العامة السعودية "GIP"، وجهاز الاستخبارات الإسرائيلية، المعروف عالميا بـ "الموساد".
أتى التقارب السعودي الإسرائيلي الاستخباراتي الحثيث، في (أكتوبر/تشرين الأول)، وبعد سبعة أشهر من تقرير نفوذ حزب الله، راسما محور الصراع المنتظر، وحمل الرسالة السعودية شديدة الوضوح: ستتحالف الرياض مع أي شخص وكيان، حتى الشيطان نفسه، ما دام ضد طهران، ما سهّل التقارب السعودي الإسرائيلي التاريخي، قبل أن تدور الدائرة لعام كامل، ثم تقدم الرياض على تسلسل أفعال شديد السرعة والتوتر منذ أيام قليلة، بدأه ابن سلمان بليلة الخناجر الطويلة، وأتبعه بفعل ربما لم يسبق له مثيل عالميا: احتجاز رأس دولة أخرى وإجباره على الاستقالة مباشرة. "إجبار سعودي" كما أسماه صراحة صحافي الواشنطن بوست الشهير "ديفيد إغناتيوس" في مقاله(7) الجمعة الماضية، جازما بشكل شبه كامل بما حدث عن طريق ما أسماه بـ "مصدر لبناني مطلع"، بينما تبدو من بعيد ملامح ما صاغه محلل هآرتس الإسرائيلية الشهير "عاموس هاريل" في سؤال غير مألوف: "هل تدفع الرياض إسرائيل إلى القيام بمهامها القذرة؟"(
.
الكراهية
أثناء العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني عام 2006، بعد عملية حدودية لحزب الله أسر فيها جنديين من جيش الاحتلال، كان هناك انطباع عام بأن الحزب قام بما لم يقم به أي نظام عربي منذ حرب (أكتوبر/تشرين الأول) عام 1973، ومع استمرار صمود الحزب العسكري أمام آلة حرب تل أبيب فائقة القوة، وعدم قدرة الأخيرة على تدمير ترسانة الأول العسكرية، وتركيزها على تدمير بنية لبنان التحتية وقصف المدنيين بمعدلات عالية، تحوّل حسن نصر الله من مجرد رجل يترأس مليشيا شيعية إلى بطل قومي عربي، يرفع العامة صوره جوار صور الرئيس المصري الراحل "جمال عبد الناصر" في شوارع القاهرة والأردن، وأصبح الرجل، ومن ورائه الحزب، رمزين غير قابلين للانتقاد تقريبا.
عبّر الشاعر المصري الراحل الشهير "أحمد فؤاد نجم" عن ذلك بقصة بسيطة، أثناء مقابلة له في (يوليو/تموز) عام العدوان الإسرائيلي مع "نيل ماكفاركر"، رئيس مكتب نيويورك تايمز بالقاهرة(9)، حاكيا أنه أثناء خروجه صباحا قابل عامل نظافة أمام منزله، وسأله مباشرة عن رأيه فيما يحدث، ليرد الرجل: "عم أحمد، لقد أيقظ نصر الله روحي الميتة، لينصره الله". تكلم ذلك العامل وقتها بلسان كل العرب تقريبا، فعلى المستوى الشعبي، برز نجم نصر الله والحزب بشكل لم يشهده كيان في الشرق الأوسط على مدار عقدين قبل العدوان على الأقل، واكتسب هالة من الحماية العامة، وحاضنة شعبية هائلة، مقابل تراجع ممتد للأنظمة الحاكمة، ولم يكن هناك أحد في الغالب على استعداد لسماع أي كلمات تضرب على وتر علاقة الحزب بطهران، وفي المقابل، أضاءت تلك الأنظمة، وخاصة الرياض، أضواء الخطر الحمراء: لقد وضعت إيران قدمها الأولى بالفعل في العالم السُنِّي المرسوم سعوديًا.
كان موقف الأنظمة مختلفا كل الاختلاف(10)، فمن ناحية، حمَّلت الرياض، جوار القاهرة وعَمّان، مسؤولية إثارة الهجوم الإسرائيلي لحزب الله بعد أسره للجنديين، ما أدّى إلى موجة غضب شعبية عامة عربيا تجاههم، ومن ناحية أخرى كان هناك اتفاق شبه عام عربي رسمي، وخليجي بالأخص، على فائدة انتهاء العدوان بنجاح إسرائيلي في تفكيك منظومة الحزب العسكرية، وكان الهدف دائما حزب ضعيف وغير مسلح، ما يعني بالضرورة انتهاء عصر أخذ قرارات الحزب في طهران، وهو اعتقاد ملك الأردن عبد الله الثاني حينها، وربما حتى الآن.
قبل نهاية (يوليو/تموز) عُقِد مؤتمر روما لبحث سُبل وقف القصف الإسرائيلي، ووعد الملك عبد الله بمليار دولار للبنك اللبناني المركزي، ونصف مليار أخرى لإعادة إعمار الجنوب المدمر، وهو وعد رافقه تحميل الحزب مسؤولية إثارة تل أبيب كما ذكرنا(11)، وبنهاية منتصف (أغسطس/آب) أوقفت إسرائيل عدوانها. خرج الحزب أقوى، وخرج لاعبو السياسة العرب الرئيسون بحالة وهن شعبي عامة، وبدأت سلسلة إدارة الخسائر السياسية التقليدية: الكثير من التصريحات المنتقدة لإسرائيل، والكثير من التصريحات المساندة للبنان، ومؤتمرات إعادة إعمار الجنوب، وبدا أن العالم في طريقه إلى نسيان ما حدث، لكنّ عامين فقط كانا كفيلان بظهور النيّات السعودية تجاه الحزب بأوضح صورة ممكنة.