أفريقيا.. قارة الغد
أحمد ساعد
باحث في العلاقات الدولية.
عندما يذكر اسم أفريقيا فإن أول ما يتبادر إلى أذهان الكثير من الناس تلك الصور النمطية المتمثلة في الفقر والجوع والأمراض والحروب والتخلف وغير ذلك، وإن أي حديث عن غير هذه الأشكال لربما اعتبروه بعيدا عن الواقع أو فيه شيء من المبالغة في أقل تقدير، وكأن القارة لم يعد لها وجه مستنير، واكتفى الناس بما يشاهدونه ويسمعونه تاركين عناء البحث عن الحقائق وعمن يحرك خيوط اللعبة.
في الحقيقة إن الناس قد سئموا من الحديث عن الاستعمار، والمؤامرة، وأن الغرب هو سبب مشاكلنا وتخلفنا، لقد سئمنا من ذلك ولا نريده أن يكون ذريعة لعدم تحمل المسئولية علما بأن مسئولية بناء أي أمة أو دولة تعود في الأساس إلى عاتق أبنائها، لكننا في ذات الوقت لا يمكننا إغفال ما مرت به وما تزال تمر به أفريقيا مما يمكن تسميته بالخبث السياسي أو خبث السياسة الدولية التي تعرقل مسيرة نهضتها بشكل مدروس، ولنقل حتى صورة القارة تم التخطيط لتشويهها.
وقد تكفلت وسائل الإعلام الدولية والغربية على وجه الخصوص بهذا الدور فعمدت على ألا تظهر لأفريقيا إلا تلك الأوجه السلبية فحسب، الأمر جعل أفريقيا في أذهان الكثيرين قارة هامشية يقترن اسمها بصورة الرجل الجائع المريض القابع على قارعة الطريق منتظرا يد العون والمساعدة، وذلك ما تريد القوى الغربية تحقيقه والتاريخ مثقل بأمثلة عديدة من الخبث الذي كان وما زال يمارس ضد أفريقيا، وإن كان الناس لا يتحدثون عن ذلك إلا ندرة فإن ما يدور في جمهورية الكونغو وحدها يكفي جوابا.
الفرنسيون ما فتئوا ينتهجون سياسة العقلية الاستعمارية الاستغلالية وما زالوا يجبرون 14 بلدا أفريقيا على التعامل بعملة "الفرنك سيفا" وهي عملة استعمارية فرنسية فرضتها فرنسا على مستعمراتها عام 1945م
رويترز
وبعيدا عن هذا الخبث والعبث فإن أفريقيا تعتبر قارة شابة ناهضة ومهمة بكل المعايير السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية إذا ما ألقينا نظرة إلى موقعها الجغرافي المميز وثرواتها الطبيعية الهائلة وحتى تاريخها وحضارتها المهيبة، وإن التركيز فقط على الجوانب السلبية لن يغير ذلك من الأهمية الحقيقية لهذه القارة.
وليس غريبا أن أولئك التي تشوه وسائل إعلامهم ليل نهار أفريقيا تراهم اليوم جميعا في حلبة السباق واللحاق فيما يعرف بالتنافس الدولي على أفريقيا، والقصة مفادها أن من يريد البقاء قويا أو يصبح قويا عليه بأفريقيا خزان الموارد الأولية؛ لذا فإنهم جميعا هناك، فبريطانيا وفرنسا قد سمحت لهما الفترة الاستعمارية بتوطيد أركان نفوذهما الكلونيالي الذي استمر لعقود حتى بعد الاستقلال قبل أن تنضم إليهما وإلى ساحات المنافسة كل من الولايات المتحدة والصين ودول أخرى، وبات لكل منهم طريقته لكسب المعركة.
فالفرنسيون ما فتئوا ينتهجون سياسة العقلية الاستعمارية الاستغلالية وما زالوا يجبرون 14 بلدا أفريقيا على التعامل بعملة "الفرنك سيفا- Franc CFA" وهي عملة استعمارية فرنسية فرضتها فرنسا على مستعمراتها عام 1945م، وعلى هذه البلدان دفع نصف دخلها العام إلى الخزينة الفرنسية، وهذا ما كان يجري حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى أوجه الاستغلال الأخرى والقصص الخفية التي تتم تحت عباءة ما يسمى بخلية فرنسا أفريقيا "Françafrique" علاوة على القواعد العسكرية الفرنسية التي تقوم هي الأخرى بأدوارها المنوطة بها.
كان الزعماء الأفارقة بفترات زمنية مضطرين للتعامل مع قوى دولية كانت معروفة تاريخيا بنهبها للثروات إلا أن وجود شركاء مثل تركيا ودول البريكس فتح آفاقا جديدة يمكن اللجوء إليها كحل بديل وغير مجحف
فيما الصينيون يتحدثون عن شراكة اقتصادية مع أفريقيا وفق مبدأ "رابح رابح" وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهذا ما سمح لهم بالتوغل في القارة أكثر من غيرهم. أما الأمريكان فقد توجهوا إلى أفريقيا بشكل جدي عقب انتهاء الحرب الباردة وكانت أهدافهم تتمثل في الوصول إلى الموارد الأولية والبقاء قريبا منها وحمايتها عند الضرورة.
كما أن الممرات البحرية الأفريقية لا تغيب أهميتها بأي حال من الأحوال؛ ولهذا فقد قاموا بإبرام اتفاقيات عسكرية مع عدد كبير من الدول الأفريقية حتى أن القيادة العسكرية الأمريكية "usafricom" بدأت تدير عملياتها من جيبوتي بدلا من شتوتغارد بألمانيا.
ففي واقع الأمر إن هذا التنافس الدولي ما هو إلا استنزاف للثروات الأفريقية عند ما لا تغيب قصص الاستغلال عن المشهد، وعند غياب الشراكة بمعناها الحقيقي؛ ولكن ثمت إيجابيات يجب عدم اغفالها، والذي يجب ذكره هنا هو أن الزعماء الأفارقة كانوا في فترات زمنية غير بعيدة مضطرين إلى التعامل مع قوى دولية كانت معروفة تاريخيا بنهبها للثروات الأفريقية وبشروط مهينة ومجحفة تمرر عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلا أن وجود شركاء مثل تركيا ودول البريكس "BRICS" فتح آفاقا جديدة يمكن اللجوء إليها كحل بديل وغير مجحف.
وفي الحقيقة يفضل الأفريقيون التعامل مع من ينأى بنفسه عن التدخل في شؤونهم الداخلية، بالإضافة إلى الشراكة التي تتم على قدم المساواة، والاستعداد للاستثمار في شتى المجالات، وهذا هو سر تفوق الصين على بقية القوى المتنافسة في الساحة الأفريقية.
بالنظر لدول أفريقيا الصاعدة والمحورية، بالإضافة لنمورها القادمة مثل كينيا وإثيوبيا وغانا وأنغولا وغيرها، يمكننا القول بأن السنوات القليلة المقبلة تجعلنا نشهد وجها أكثر إشراقا للقارة الأفريقية
ومع ذلك فإن النهضة الحقيقية لأفريقيا لربما تمر من خلال غبار المتنافسين ولكنها لن تمر من تحت أقدامهم أبدا؛ وإنما بسواعد وعقول أبنائها. وبالعودة إلى الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية الهائلة نجد أن أكثر سكان القارة هم من فئة الشباب، وتحتاج هذه العناصر الهامة إلى الإرادة السياسية الصادقة التي تخلق بدورها تكاملا أفريقيا حقيقا، وإذا توج ذلك كله بشراكة حقيقية من بعض القوى الكبرى فسنشهد نهضة حقيقية في هذه القارة العظيمة.
وعلى العموم فإن وجه القارة الأفريقية قد تغير كثيرا خلال العشر سنوات الماضية وباتت جاذبة للاستثمارات الأجنبية في شتى المجالات الحيوية كالطاقة والتعدين وقطاع الخدمات والبنية التحية وغير ذلك مما جعلها صاحبة أسرع الاقتصاديات نموا في العالم في الآونة الأخيرة.
وبالنظر إلى دولها الصاعدة والمحورية مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا ومصر والجزائر والمغرب، بالإضافة نمورها القادمة مثل كينيا وإثيوبيا وغانا وأنغولا والكوت ديفوار ورواندا وغيرها، يمكننا القول بأن السنوات القليلة المقبلة تجعلنا نشهد وجها أكثر إشراقا للقارة الأفريقية يؤكد كونها بالفعل قارة المستقبل.