غابَ شاه إيران أم غيّبوه؟«كش شاه» وثائقي يكشف مّا غفل عنه التاريخ
ندى حطيط
مهما حاولت إيران الدولة الابتعاد عن الأضواء والانزواء في ظلام الكواليس، فإن تلك البلاد تبقى أقلّه من خمسينيات القرن الماضي إلى وقتنا الراهن موضوعة مركزيّة تتصدر كل شأن سياسي في الشرق الأوسط المعاصر، بداية من مؤامرة الاستخبارات البريطانيّة والأمريكيّة لإسقاط حكم محمد مصدّق عام 1953، مروراً بالثورة الإسلاميّة عام 1979 ، والحرب العراقيّة – الإيرانية، وانتهاء بتصعيد المحور الأمريكي الأخير ضد الدولة الإيرانيّة، واتهامها بمحاولة الهيمنة على المشرق العربي والاستمرار في تطوير الأسلحة النووية والباليستيّة.
ورغم الفيض الهائل من البحوث الأكاديميّة والدّراسات التاريخيّة التي غطت مختلف جوانب التجربة الإيرانيّة وتأثيراتها على الشعب الإيراني وشعوب الشرق الاوسط الأخرى سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، لا سيما نقطة التحوّل الحاسمة في السادس عشر من يناير/كانون الثاني 1979 عندما غادر محمد رضا بهلوي آخر شاه إيران قصره الامبراطوري بطهران بلا أمل إلى مناف اختياريّة متلاحقة قبل أن يغيبه الموت بعد أقل من عامين في القاهرة، مع ذلك فقد ألقيت ظلال كثيفة على بعض معالم تلك التجربة، وأزيلت من السيّاق لمصلحة سرديّة تُرضى معظم الأطراف المنتصرة سواء في الداخل الإيراني أو أوساط الغرب.
الشيطان يكمن دائماً في التفاصيل
بوباك كالهور صانع الأفلام الأمريكي – من أصل إيراني – اعتبر مسألة وفاة الشاه تحديداً، والتي تعامل معها التاريخ وكأنها قضاء وقدر محتوم لكل بشريّ بيدقاً كان أم شاهاً، يكتنفها غموض كثير يبهت الروايات المقبولة إلى الآن عن نقطة التحول تلك، سواء لناحية تأثير الوضع الصحي للشاه على إدارته لمعركة إسقاطه، أو العلاقة بين أزمة رهائن السفارة الأمريكيّة بطهران وعلاج الشاه في الولايات المتحدة، وعن طبيعة الدّور الأمريكي في أثناء تلك المرحلة الحرجة من تحولات الأزمنة.
ولذا فقد انطلق من مقابلة مع أحد الأطباء الذين شاركوا في علاج الشاه بمنفاه إثر مقالة طبيّة كتبها الأخير بعنوان (طحال الشاه) سجّل فيها تفاصيل مرضه، ومحاولات علاجه ووفاته. «لقد خرجت من تلك المقابلة بأسئلة أكثر من الإجابات» يقول كالهور معلقاً وهو يصف كيف كانت تلك المقابلة تدشين لرحلة استمرت سبع سنوات تنقل فيها من طهران وعبر الولايات المتحدة إلى العواصم التي شهدت أيام منفى الشاه في بحث محموم يحاول فهم ترابط وضع الشاه الصحي مع تقدم الأحداث وقتها.
النتيجة كانت تستحق كل ذلك العناء. فهذا المخرج والكاتب مستقلاً نجح فيما غفل عنه المؤرخون أو تغافلوا، وأعاد كتابة حلقة هامة من تاريخ المنطقة وإن تمحورت حول طحال رجل واحد. ففي (كش شاه – أو ملك يموت وفق النسخة الإنكليزيّة) الفيلم الوثائقي الذي يقوم على مقابلات مكثفة مع العديد من الأطباء الذين عالجوا الشاه في مواقع مختلفة كما دبلوماسيين وبروفيسورات متخصصين مع مشاهد أرشيفيّة ثمينة سجلت أجواء تلك المرحلة، يقدّم تفسيرات شديدة الدلالة والعمق لترابط الصحي بالسياسي على نحو يجعلنا نقف مجدداً عند تلك اللحظات التاريخيّة، مقترحاً قراءة مختلفة على مستوى ما لدوافع اللاعبين الكبار فيما اتخذوه من مواقف وما قاموا به من إجراءات. و(كش شاه) بالطبع تعبير فارسي معروف يصف موقف شاه الشطرنج عندما يصبح محاصراً دون أمل بالنجاة، والتقاطه لاسم الوثائقي بدا خياراً شديد البلاغة لسرد حصار الشاه الأخير.
الشاه لم يهزمه الإسلاميّون
حسب الفيلم الذي أطلق قبل أسابيع قليلة فإن الشاه الذين تولى حكم إيران منذ 1941 أصيب بنوع من سرطان اللوكيميا الليمفاويّة شخصّه الأطباء الفرنسيون بينما كان في رحلة استجمام فرنسية وذلك قبل ست سنوات من سقوط حكمه عام 1979. وقد بدأت صحة الرجّل تتردّى من بعدها بشكل متصاعد واضطر للسفر سرّا عدة مرات إلى الخارج طلباً للعلاج في عواصم غربيّة، الأمر الذي تسبب بإضعاف قدراته على إدارة الشأن السياسي للبلاد، وطاقته على اتخاذ القرار بينما قطاعات عريضة من الإيرانيين تنشط سواء في تنظيمات اليسار أو الحركات الدينيّة في معارضة نظامه.
الشاه وقتها أراد أن يبقي موضوع مرضه سرّاً كي لا يراه رعاياه ضعيفا، ومع ذلك بقي متمسكاً بالسلطة ولم يثق بمن حوله، بينما ذهبت التقييمات الأمريكيّة وقتها أن ثمّة ربيعا آت حتماً الى طهران بسبب الضغوط الاجتماعيّة الشعبيّة الهائلة والتي لم يساعد سلوك العائلة الإمبراطوريّة الباذخ، أو سياستها التغريبيّة المتحالفة مع الأمريكي في استيعابها من قبل أغلبيّة الشعب الإيراني التي تميل إلى المحافظة.
ويبدو أن الأمريكيين وقتها رأوا انتصار التيار الديني المحافظ هو أفضل المخارج من تلك الحالة المتأزمة. فالاستثمار بالدّفاع عن بقاء الشاه في الحكم لا سيما مع حالته المرضيّة المترديّة لم يعد أمراً ذا جدوى، وتصعيد اليساريين يتناقض حكماً مع توجهات الغرب في حرب النفوذ ضد الاتحاد السوفياتي خاصة بجوار بحيرة نفط العالم حول الخليج بينما كانت واشنطن قد خبِرَتْ الإسلاميين عن قرب من خلال تحضيرهم لانقلاب أفغانستان، وساد الاعتقاد وقتها بإمكان التفاهم معهم.
وهذا لا شك يفسّر مغادرة الشاه لطهران التي حصلت فقط بعد نصيحة مسمومة من الأمريكيين رغم أن التقديرات السياسيّة والعسكريّة المتخصصة وقتها كانت تقول بأن المنظومة الأمنيّة الإيرانيّة من جيش واستخبارات وبعد كل الضغوط ما زالت حينها قادرة على استيعاب الحراكات (الشعبيّة) المطلبيّة أو حتى تلك المدعومة بشكل أو بآخر من الخارج. مغادرة الشاه للبلاد كانت كافية لدفع اليأس في صفوف العسكر الذين برحيل قائدهم فقدوا روح القتال لاسيما في مواجهة شعبيّة مع السكان المحليين.
هكذا تخلّص الجميع من الشاه
يلاحق الفيلم رحلة الشاه البائسة عبر المنافي التي أخذته خلال 19 شهراً إلى منازل أصدقائه المقربين حكام مصر والمغرب وجزر الباهاما والمكسيك والولايات المتحدة وبنما قبل رحيله عن الحياة في القاهرة عن ستين عاماً.
ويروي أن مسألة احتجاز الرهائن الأمريكيين في سفارة بلادهم بطهران وقتها كان وراءها الحكام الجدد الذين أرادوا من الولايات المتحدة تسليمهم الشاه لمحاكمته وإعدامه كرمز لانتصارهم الحاسم ولقتل أية أوهام في ذهن أنصاره – لا سيما في الجيش – من إمكان عودته مسلحاً بشرعيّة المجتمع الدولي التي يمنحها متى شاء لمن شاء.
لكن إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ترددت في فعل ذلك مباشرة نظراً لما قد تجلبه تلك المناورة من سمعة سلبيّة لتعامل الولايات المتحدة مع الحكام الخاضعين لنفوذها حول العالم، وانتهت ليس فقط بإرسال الشاه المريض إلى بلد ثالث قبل استكمال علاجه، بل والأخطر – حسبما يلمّح الفيلم ولا يقول صراحة – بسلسلة من الأخطاء الطبيّة المتلاحقة وسوء متابعة حالته الصحيّة، وتعدد الأطقم الطبيّة المكلفة بإدارة علاجه بين العواصم المختلفة على نحو قد يرقى إلى محاولة تغييبه للانتهاء من تلك الصفحة المحرجة بالكليّة. والفيلم هنا يورد مقابلات مع أطباء يعتقدون أن حالة الشاه بالمقاييس الطبيّة المحضة وبمستوى العناية التي تتوفر عادة لرؤساء الدول كان بالإمكان السيطرة عليها، وأنه لولا أن الجراح الأمريكي الذي أزال طحال الشاه في عمليّة جراحيّة أزال معها (متعمداً أو بخطأ طبي) جزءا من البنكرياس مما تسبب بالتهاب داخلي شديد قضى على الرجل المرهق والمهزوم خلال أسابيع قليلة ليغمض عينيه ويريح الجميع.
«كش شاه» يقدّم مشاهدةً مثيرةً قد تفتح أبواباً ولا تُغلقها سواء بالنسبة للمهتمين بالشأن الإيراني وتاريخ الشرق الأوسط المعاصر أو حتى للمشاهد الراغب في متابعة دراما سياسية هائلة وتحقيق طبي مشوق كخلفيّة لسرد أحداث موت معلن للشاه الذي كانت له صولات وجولات وانتهى طريداً وحيداً يتجنبه الحلفاء قبل الأعداء. لكن الفيلم بالدرجة الأولى مثال على الطاقة الجبّارة التي تمتلكها الأفلام الوثائقيّة – حتى تلك التي يقوم عليها فرد وحيد وبموازنة محدودة – لتحدي روايات المنتصرين، وصفعة على وجه كل المؤرخين الذين أغمضوا عيونهم وسقطوا في نوم لذيذ.
إعلامية من لبنان تقيم في لندن