سوريا.. من الدكتاتورية إلى الثورة
عمر كوش
كاتب وباحث سوري
عاش السوريون في تاريخهم الحديث أحداثا عنيفة لعدد من الصراعات السياسية، خاصة خلال فترة
حكم النظام الأسدي، بنسختيه الأب والابن، حيث تمكن حافظ الأسد -الذي كان ضابطا في القوى
الجوية- شيئا فشيئا من الوصول إلى قمة السلطة، مضحيا برفاق دربه وأصدقائه، وراح يبني جهاز
حكم مطلق ومستبد، حتى تمكن من الإمساك بكل خيوط السلطة ومفاصلها، وحوّل الدولة إلى مجرد
جهاز يخدم سلطته العنيفة والمتماسكة.
نظام حافظ الأسد
تعود بدايات صعود حافظ الأسد إلى فترة الوحدة السورية المصرية، التي بدأت في 1958، ثمّ
انفرطت في 1961، حيث اجتمع خمسة ضباط سوريين، وقرروا تشكيل لجنة عسكرية سريّة في عام
1960غايتها الاستيلاء على السلطة في سوريا.
كان أحد هؤلاء الضباط حافظ الأسد. وبينما كنا نعيش عودة صعبة إلى النظام البرلماني الديمقراطي،
قام ضباط اللجنة العسكرية بالإطاحة به، عبر انقلاب عسكري دموي، أتى بحزب البعث إلى السلطة
في الثامن من مارس/آذار عام 1963، فجثم على صدورنا حتى قيام الثورة.
"تعود بدايات صعود حافظ الأسد إلى فترة الوحدة السورية المصرية، حيث اجتمع خمسة ضباط
سوريين وقرروا تشكيل لجنة عسكرية سريّة في عام 1960غايتها الاستيلاء على السلطة في سوريا"
كان البلاغ الثاني الذي أصدره الانقلابيون البعثيون هو إعلان حالة الطوارئ، التي استمرت طيلة
حكم حافظ الأسد، ومن بعده بشار الأسد، إلى أن اضطر الأخير إلى إلغائها في الثاني من مايو/أيار
2011، تحت ضغط الثورة السورية.
وتطبيق حالة الطوارئ يعني إيقاف الحياة السياسية لجميع الأحزاب والمنظمات التي تعارض النظام
الأسدي، وزاد من سطوته تطبيق الأحكام العرفية خارج المحاكم المدنية والقانون.
واستمرت الصراعات على السلطة إلى حين قيام حافظ الأسد بانقلابه، الذي سماه "حركة تصحيحية"
عام 1970، وأطاح بجميع رفاقه في اللجنة العسكرية، وأدخلهم في سجن طويل إلى أن ماتوا فيه، أو
صفاهم خارجه، وراح يؤسس نظاما ظاهره قومي عربي، وباطنه نظام ديكتاتوري، طائفي، يميز بين
السوريين، بناء على اعتبارات الطائفة والحزب والولاء للسلطة.
ويعرف السوريون جيدا هيكل السلطة الذي صنعه الأسد الأب، وما زال مستمرا حتى الآن، وهو
مؤلف من الرئيس الذي كان حافظ الأسد، ثم وريثه بشار الأسد، وعائلة الأسد والأقرباء، وقسم من
الطائفة العلوية يسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية، ثم أخيرا الأجهزة الأمنية، التي يبلغ تعدادها
نحو 15 جهازا، وتسيطر على كل مناحي الإدارة، بما فيها الحزب، والحكومة، والقضاء، ومجلس
الشعب، وجميع النقابات والجمعيات، وكل وسائل الإعلام، والاقتصاد، وغيرها.
ويعي السوريون أن كل جهاز من أجهزة السلطة، سواء كانت مدنية، أم عسكرية، أم أمنية، مكون من
إدارة أو هيئة أو مجلس، يرأسه الأسد بشكل مباشر أو غير مباشر، وبحسب ما ينص عليه الدستور
الذي وضع بإشرافه، حيث يعرف القاصي والداني أن جميع خيوط الأجهزة ومواقع السلطة يتحكم بها
الرئيس وحده، ويمكنه أن يحركها وفق ما يريد، وإن أراد أن يصدمها ببعضها البعض يمكنه ذلك، أو
يتركها تتنافس في ما بينها، وقد حدثت العديد من الصدامات بين الأجهزة الأمنية، لكن بحدود معينة
ومدروسة.
كان الخوف يسكننا في سوريا عند الاحتكاك بأي جهاز من أجهزة الدولة، المسيرة والممسوكة من
قبل السلطة، حيث إن كلا من الحزب والنقابات والاقتصاد تسير من قبل الدولة، مشكلة سلطة ناعمة،
في حين أن الأجهزة الأمنية العديدة وقوات النخبة -خاصة الحرس الجمهوري- والفرقة الرابعة،
تعتبر الأذرع العنيفة، مشكلة سلطة عنيفة.
والويل كل الويل لمن يقع بين يدي أي منها، لأن عقابا شديدا ينتظره، ويتدرج من إهانته وإذلاله،
وقطع رزقه، عبر سلبه أو تجريده من عمله، مرورا بالاعتقال والسجن لسنوات طويلة، وصولا إلى
التعذيب والموت.
في المقابل، كان يتقاضى الخانعون والموالون مكافآت بطرق مختلفة، كلا حسب موقعه، وتتركز
حول استفادتهم من الفساد، الذي جرى تعميمه ونشره في جميع مفاصل الدولة.
كان السوريون يراقبون بصمت الكيفية التي كان يشكل بها نظام الأسد الأب جمهورية الخوف
والرعب، ويعلمون أن العنف كان مستترا في السجون وأقبية المخابرات، لكن إشاعته كانت تتم
بترتيب من الأجهزة الأمنية، إضافة إلى ما يتردد من أخبار عنه على ألسنة الناس، الأمر الذي يزيد
الخوف، وينشر ثقافته بين أفراد المجتمع. وأحيانا كان العنف المستتر يظهر بشكل واسع حين تريد
السلطة تعميمه ونشره.
ولعل أول حالة جرى فيها تعميم العنف كانت في سنوات المواجهة ما بين مجموعة منشقة عن جماعة
الإخوان المسلمين، تسمى "الطليعة المقاتلة"، وبين أجهزة النظام الأمنية في سنوات 1980-
1982، التي انتهت بتصفية وقتل أفراد الطليعة المقاتلة، ومعهم كل أعضاء الإخوان المسلمين ومن
يناصرهم.
وأحس الأسد أنه انتصر، فقام بتضييق الخناق على المجتمع، وإطلاق العنان للأجهزة الأمنية، تعتقل
وتقتل من تشاء، دون أية محاسبة أو محاكمة في دولة يسودها الخوف والرعب.
حكم بشار الأسد
كان حافظ الأسد يفكر مبكرا -نتيجة أمراضه ووساوسه- بتحضير وتهيئة أحد أبنائه من أجل أن يورثه
سلطة الحكم، وراهن على ابنه الأكبر باسل لخلافته، فراح يلمع صورته، محاولا جعله مثالا
ومشهورا، لكنه قتل في حادث سير عام 1994، حسب الرواية الرسمية، فلم يجد الأسد الأب مناصا
من استدعاء ابنه الثاني بشار الذي كان يدرس الطب في بريطانيا.
"كانت أول حالة جرى فيها تعميم العنف في سنوات المواجهة بين مجموعة منشقة من جماعة
الإخوان المسلمين، تسمى "الطليعة المقاتلة"، وبين أجهزة النظام الأمنية في سنوات 1980-1982،
وقد انتهت بتصفية وقتل أفراد الطليعة وأعضاء الإخوان المسلمين "
والسوريون الذي يعرفون بشار يتحدثون عن أنه شخصية غامضة، منزوية، تكره الثقافة والمثقفين،
ويتحدث زملاؤه في الدراسة عن محاولاته إظهار التهذيب والدماثة أمام الآخرين.
وكانت شخصية باسل تطغى على شخصيته، لذلك كان بعيدا عن الأضواء قبل وفاة أخيه، لكن بعدها
بدأت عمليات تلميعه وإعداده لوراثة السلطة، الأمر الذي حدث بالفعل حين مات حافظ الأسد، حيث
جرت عملية توريثه بتغيير الدستور السوري في خمس دقائق، كي ينطبق على مقاس عمره في ذلك
الوقت، وهو 34 سنة.
وبقدرة قادر بات بشار الأسد ليس فقط رئيسا للجمهورية العربية السورية، بل أصبح القائد العام
للجيش والقوات المسلحة السورية، ورئيسا لجميع الأجهزة الأمنية، ورئيسا لحزب البعث الحاكم،
والمنظر الوحيد له، ورئيسا للجبهة الوطنية التقدمية، المؤلفة من أحزاب بدون قيمة أو فاعلية، لكنها
اسميا تشارك في السلطة.
وأصبح أيضا رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، وله الحق في أن يحل مجلس الشعب، وتعيين رئيس
مجلس الوزراء والوزراء، وأن يقيلهم متى شاء. لقد أصبح القائد المتحكم بالبلاد والعباد.
وفي مراسم توريثه، تحدث بشار الأسد في خطاب القسم بتاريخ 17/7/2000، عن الرأي والرأي
الآخر، وعن التحديث والتطوير، وحاول أن يظهر بمظهر الشاب المتواضع، الذي يرتدي "البنطال
الجينز وبيجاما رياضية"، ويذهب مع ضيوفه إلى المطاعم دون تكلف، لكن حين انتشرت منتديات
حوارية سياسية وثقافية عام 2001 و2002، في فترة عرفت باسم "ربيع دمشق"، بناء على ما أوحى
به في خطابه، لم يتحمل الحاكم الجديد انتشار الظاهرة، فأطلق العنان للأجهزة الأمنية كي تغلق
المنتديات وتعتقل الناشطين، وترميهم في السجن.
غير أن حراك الناشطين السياسيين استمر بصمت -في غالب الأحيان- إلى لحظة قيام الثورة التونسية
في 17 ديسمبر/كانون أول 2010، ثم الثورة المصرية في 25 يناير/كانون الثاني 2011، حيث لم
يتأخر السوريون في بدء ثورتهم. وكان السؤال هو: متى يأتي الوقت الذي تندلع فيه الثورة السورية؟
ولم ننتظر طويلا، حيث انطلقت أول مظاهرة عفوية بتاريخ 17 فبراير/شباط 2011، في سوق
الحريقة -القلب التجاري للعاصمة دمشق- للمرة الأولى منذ أربعة عقود، وصل فيها عدد المتظاهرين
إلى ما يقارب ألفي شخص، احتجاجا على إهانة أحد رجال الأمن لابن أحد التجار، ردد خلالها
المتظاهرون شعار "الشعب السوري ما بينذل" لأول مرة. وخوفا من امتداد المظاهرة حضر وزير
الداخلية لامتصاص غضب المتظاهرين.
ثم انطلقت يوم الثلاثاء 15 مارس/آذار 2011 مظاهرة احتجاجية في سوق الحميدية والجامع الأموي،
طالبت بالحرية، وشارك فيها العشرات، واعتقلت قوات الأمن ستة من المحتجين.
وفي مدينة درعا، قام بعض الصبية بكتابة شعارات الثورة المصرية على جدران مدرستهم، فقامت
الأجهزة الأمنية باعتقال 15 صبيا منهم، وعذبتهم بقسوة شديدة، وعندما علم أهل المدينة بما جرى،
ذهبوا إلى العميد عاطف نجيب (ابن خالة الرئيس، رئيس فرع المخابرات العسكرية) الذي اعتقل
الصبية، وطالبوه بإطلاق سراح أبنائهم، لكنه أهانهم وطالبهم بأن ينسوا أولادهم، وأن ينجبوا غيرهم،
فانتفضوا غضبا، وخرجوا إلى الشوارع احتجاجا، لكن قوى الأمن أطلقت النار عليهم، وقتلت أربعة
مدنيين.
رد فعل النظام
ظهر أول رد رسمي للنظام الأسدي بعد مجزرة درعا على لسان بثينة شعبان، التي عقدت مؤتمرا
صحفيا تحدثت فيه عن مؤامرة تتعرض لها سوريا، وأن الدولة ستقوم بزيادة الرواتب، فرد
المتظاهرون عليها في اليوم التالي هاتفين: "يا بثينة ويا شعبان.. الشعب السوري مو جوعان".
وتوالت المظاهرات الاحتجاجية السلمية، ولم يفعل بشار الأسد وأجهزته الإعلامية إلا نعت
المتظاهرين بالمندسين والمتآمرين والجراثيم، وأنهم مجرد أدوات ينفذون مؤامرة خارجية على حكمه
ودولته.
واستمر المتظاهرون في الأشهر الأولى للثورة السورية بشكل سلمي، وكانوا يتظاهرون احتجاجا
على العنف، الذي يمارس ضدهم، وضد قتل بعضهم، ليسقط من جديد قتلى آخرون، ليتواصل التظاهر
في اليوم التالي احتجاجا على قتلهم زملاءهم. وبدأت سلسلة لا متناهية من القتل ثم الاحتجاج، يتبعه
قتل فتتبعه احتجاجات، وهكذا.
وعندما توسعت المظاهرات، وأصبحت تطالب بإسقاط النظام، كان رد بشار الأسد هو إنزال الجيش
إلى الشوارع والساحات لمواجهة المتظاهرين، وإطلاق النار عليهم، فحدثت الانشقاقات بين صفوف
العسكريين في الجيش السوري شيئا فشيئا، وتحولت الثورة مع تعامل النظام الأسدي إلى أزمة وطنية
عامة، عالجها النظام بحرب شاملة ضد المحتجين الثائرين، وضد حاضنتهم الاجتماعية.
"لا فرق جوهريا بين تعامل الأسد الأب مع أزمة الثمانينيات، وتعامل الأسد الابن مع الثورة السورية،
حيث قام كل منهما بإعطاء الأوامر للجيش بحصار وتدمير بعض المدن والبلدات"
وفي أول خطاب ألقاه بشار الأسد أمام مجلس الشعب السوري بعد اندلاع الثورة لم يعترف بالثورة
الشعبية، بل ظهر وكأنه يعيش في كوكب آخر، فراح يتحدث عن "مؤامرة كبيرة"، وعد بإحباطها، ثم
تحدث عما أسماه "محاولة إثارة فتنة"، ليخلص إلى أن "مدبري المؤامرة خلطوا بين ثلاثة عناصر:
الفتنة، والإصلاح، والحاجات اليومية".
لقد بدا -بالفعل- منفصلا عن الواقع، ولم يجد سوى الاستناد إلى "نظرية المؤامرة"، وتبني نهج
الإنكار الذي اعتاد عليه النظام الأسدي عقودا عديدة.
وبعد مرور ثلاث سنوات، لم نلمس في سوريا فرقا جوهريا بين تعامل الأسد الأب مع أزمة
الثمانينيات من القرن المنصرم، وتعامل الأسد الابن مع الثورة السورية، حيث قام كل منهما بإعطاء
الأوامر للجيش بحصار بعض المدن والبلدات والقرى وتدميرها بالكامل، باستخدام مختلف أصناف
القصف المدفعي والطيران الحربي والصواريخ.
غير أن ما تميز به الأسد الابن هو ضرب غوطتي دمشق ومناطق أخرى بالأسلحة الكيميائية، أمام
مرأى العالم، الذي لم تفعل قواه العظمى شيئا سوى الدخول مع النظام المجرم في صفقة، يتم فيها
تسليم النظام لسلاحه الكيميائي، مقابل ترك النظام يواصل إجرامه ضد أغلبية السوريين.
كان السوريون ولأشهر عديدة يخرجون عراة الصدور إلى الساحات والشوارع، ولم يرفعوا في
مظاهراتهم أي شعارات إسلامية، ولم يظهر فيها أيضا سوى العلم السوري في زمن الاستقلال، وكان
بعض المتظاهرين يوزع التمر والماء على الجنود، بينما كان متظاهرون كثيرون يرفعون أيضا
الورود، وكانت الحناجر تردد كلمات الأغاني ضد الابن والأب.
وقد ركزت أجهزة أمن الأسد الابن على تصفية القادة والرواد الأوائل للثورة السورية، مثل غياث
مطر ويحيى الشربجي، واعتقالهم وتعذيبهم حتى الموت، أو تهجيرهم وملاحقتهم، لتتحول الثورة إلى
حركة عصيان مسلحة ذات طابع إسلامي