المسكوت عنه في قضية القدس وفلسطين.
عندما لا تعترف إسرائيل وامريكا بالقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية ابتداء من قرار التقسيم (181) والقرار (194) والمتعلق بحق اللاجئين في العودة إلى وطنهم الذي طُرِدوا منه بقوة السلاح، والقرارات (242) و (338)، وقرار مجلس الأمن 2334 الصادر يوم 23/12/2016، والرافض للاستيطان واعتباره غير شرعي سواء في الضفة الفلسطينية أو القدس الشرقية، وغيرها من القرارات التي تؤكد كلها على ان الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية أراضي فلسطينية خاضعة للاحتلال الإسرائيلي، وأن كل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي فيها باطلة بما في ذلك الاستيطان والتهجير ومصادرة الأرض والاستيلاء على المقدسات وعلى رأسها القدس الشريف والاقصى المبارك.. الخ، وأنها الأراضي المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وعندما يتحدى ترامب العالم كله بإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وإيعازه بالبدء باتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ قرار نقل السفارة الامريكية اليها، بشكل يخالف القانون الدولي..
وعندما تصوت أمريكا بالفيتو ضد مشروع قرار مجلس الامن الاثنين 18.12.2017 الذي يرفض إعلانه بشأن القدس، ليقف بذلك وحيدا في مواجهة 14 دولة ممثلة في مجلس الأمن..
وعندما يرضى ترامب ان يقف وحيدا ومعه إسرائيل في مواجهة المجتمع الدولي كله، في تَحَدٍّ سافرٍ ووقحٍ ضاربا بعرض الحائط كل قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومعلنا ان العالم يدخل منذ اليوم مرحلة جديدة من البلطجية السياسية التي لا تعترف بقانون دولي ولا بشرعية اممية، وألا مكان للمواثيق والأعراف والاتفاقات العالمية في قاموسها..
عندما يحدث كل ذلك، ماذا تتوقع أمريكا وإسرائيل من الشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي والمجتمع الدولي، أن يفعل، وكيف تتوقع له ان يتصرف؟!
(2)
صحيح ان النظام العربي والإسلامي اليوم يعيش حالة انحطاط غير مسبوقة في تاريخ الامة، الا ان هذا التاريخ يثبت بما لا يدع مجالا للشك ان الامة نجحت وبشكل دائم في تخطي هذا الوضع والتمرد على أسبابه والقيام من تحت الرماد اقوى مما كانت عليه وأكثر تماسكا وأشد شكيمة..
حالة الضعف والانكسار في حياة الامة طارئ وعابر لها أسبابها الموضوعية التي تكررت في اكثر من مناسبة (الحملات الصليبية والمغولية والاستعمار الغربي المعاصر)، غاب فيها مفهوم الامة الواحدة ذات الرسالة الخالدة الأمر الذي أدى إلى نشوء الكيانات القطرية الهزيلة، وظهور النعرات الجاهلية من إقليمية وطائفية وقبلية وعشائرية، وطغيان للغرائز وتردٍّ في الاخلاق وانحطاط في السلوك، واستبدال الذي هو ادنى من أفكار وايديولوجيات معلبة استوردها العرب من وراء البحار وقدموها لامتنا كدين جديد، بالذي هو خير من الدين الإسلامي الذي نقل الامة العربية من الحضيض ووضعها على قمة هرم السيادة والقيادة والريادية العلمية والعالمية، وانتشلها من عالم النسيان والغياب ليضعها تحت الضوء مباشرة حتى باتت ملئ سمع وبصر العالم على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان. هذا إضافة إلى بروز الحركات الباطنية والمنظمات السرية التي عاثت في الأرض العربية فسادا وإفسادا، فقتلت ودمرت وكانت عونا لأنظمة البطش والاستبداد في حربها ضد الشعوب التواقة الى الحرية والحياة الكريمة، والطامعة في استعادة امجاد الامة واستئناف دورها الذي ما خلقها الله الا له، وما ابتعثها الا من اجله.
(3)
كان الاستعمار القديم (الصليبي والمغولي) والاستعمار الجديد (الاستعمار الاوروبي) والذي بدا مباشرا منذ قرنين من الزمن وما زال مستمرا بشكل غير مباشر حتى اليوم، كان هذا الاستعمار غبيا الى ابعد حد، لأنه ببساطة استغل حالة الضعف الطارئة فوثبت على الامة بطشا واستغلالا واحتلالا، ونسي ان الشعوب الإسلامية والعربية ستنطلق يوما لِتُحَوِّلَ الضعف الى قوة، والفرقة الى وحدة، والذلة الى عزة، والهزيمة الى انتصار، والتخلف الى تقدم وتطور ونهضة.. استمر الاستعمار الصليبي القديم نحو مئة عام ثم انتهى الى هزيمة منكرة على يد النظام الإسلامي الجديد (الدولة الأيوبية - صلاح الدين الايوبي) والذي أسس له زعماءٌ عظام كعماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود، فزال هذا الاستعمار وزالت معه كل آثار عدوانه الوحشية والبشعة. أما الاستعمار المغولي فلم يصمد اكثر من بضع سنين انتهى بعدها والى الابد بفعل النظام الإسلامي الجديد (الدولة المملوكية - قطز وبيبرس)، فزال وزالت معه كل آثار العدوان التي زرعت الأرض الإسلامية دماء وأشلاء وخرابا ودمارا.
انتهى الصراع بموجه جديدة من الاستعمار الغربي الصليبي الحديث الذي بدأ عاصفا نهاية القرن الثامن عشر واستمر هو أيضا نحو قرن من الزمان كسالفه مرورا بالحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، انتهى فعليا بعدها بفعل ثورات الشعوب العربية والإسلامية والتي كانت إسلامية الروح والجسد والقيادة، فزال هذا الاستعمار الحديث وبقيت آثاره المدمرة خصوصا في نوعية أنظمة الحكم التي كان له دور في إنشائها تنفيذا لمؤامرة سايكس بيكو والتي ما زالت الى اليوم سبب انحطاط الامة رغم تحررها واستقلالها الشكلي، وهو العامل الجديد الذي نجح الاستعمار الحديث في فرضه بشكل خبيث لم يكن له مثيل في تاريخ الامة، حقق الاستعمار الغربي الأورو-امريكي (مع تفاوت معين) من خلاله مصالحَه ولكن بأيدي عربية وإسلامية تسمى (أنظمة حاكمة)، ودولا هي أشبه بملوك الطوائف التي كانت هي أيضا سببا في ذهاب الدولة الإسلامية في الاندلس..
(4)
نعود مرة أخرى الى ما بدأنا به الحديث، فأمريكا وطفلتها المدللة إسرائيل لا تبتعدان كثيرا في جوهر فلسفتهما الاستعمارية عن تلك القديمة، فهما من نوع ذلك الاستعمار القديم والحديث الذي لا يريد ان يستوعب أنه مهما تفنن في إهانة الامة العربية والإسلامية، ومهما استخف بها واحتقر حضورها، وبالغ في سحق الشرعية الدولية ذات الصلة بأم قضاياها (القضية الفلسطينية وفي قلبها القدس والاقصى المبارك)، ومهما فرض من وقائع على الأرض متوهما قدرته على شرعنتها في ظل ضعف العرب والمسلمين، فلا شك عندي في ان أمريكا وإسرائيل سينتهيان إلى ما انتهى اليه الاستعمار القديم والحديث من فشل مشروعه وزوال آثار عدوانه بفعل نظام عربي واسلامي جديد سيولد من رَحِمِ المعاناة والقهر.
أمريكا وإسرائيل تتوهمان انهما تستطيعان تحدي العالم وتنفيذ ما تريدان من سياسات مهما تصادمت مع مفردات الشرعية الدولية وخصوصا فيما له علاقة بالقضية الفلسطينية والقدس والاقصى المبارك، وذلك بسبب عجز النظام العربي - الإسلامي الرسمي (الا النادر) في ردع الدولتين المارقتين، مستندا إلى الحق التاريخي والقانوني الدولي المتصل بالحقوق العربية والفلسطينية. إلا ان الذي تتعمد أمريكا وإسرائيل تجاهله أمران لا بد من التذكير بهما لأهميتهما. الأول، ان النظام العربي – الإسلامي المتهالك قد يستفيق في لحظة ما ويحث الخطى في استنقاذ كرامته التي تهينها أمريكا وإسرائيل بشكل منهجي، وإنقاذا لما تبقى من سمعته في عيون شعوبه. الثاني، في حال لم يتحرك النظام العرب – الإسلامي الرسمي للدفاع عن كرامته وكرامة الامة، فلا استبعد ان تنتفض الشعوب مرة واحدة فتلقي بهذا النظام بعيدا وتستبدله بنظام جديد يكون ملتزما بالدفاع عن ثوابت الامة ومصالحها العليا، فيعود بها الى ما كانت عليه في عصور عزتها ونهضتها.
(5)
بناء على الاحتمالين الممكنين السابقين، لا استبعد ما يلي:
اولا - إذا أصرت إسرائيل ومن ورائها أمريكا على تجاهل حق الفلسطينيين في إقامة الدولة المستقلة في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية كما تنص القرارات الدولية، فلماذا تستبعدان ان يعود الفلسطينيون ومعهم الامة العربية والاسلامية إلى المربع الأول فيطالبون بكل فلسطين وبزوال إسرائيل.
ثانيا – إذا أصرت إسرائيل وامريكا على الاستيطان واغتيال القدس وتهويدها ومصادرة الأراضي الفلسطينية واعلانها الدائم رفضها للتنازل عن القدس المحتلة ومنطقة غور الأردن واستمرار الاستيطان وتوسيعه، ورفض عودة اللاجئين، والحديث الصريح عن انه لن تكون دولة فلسطينية بين البحر المتوسط ونهر الأردن، فلماذا تستبعدان شطب "مبادرة السلام العربية" والعودة إلى لاءات مؤتمر القمة العربية في الخرطوم بعد حرب العام 1967.
ثالثا – إذا أصرت إسرائيل وأمريكا على الحرب ك"خيار استراتيجي" متجاهلة كل الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وضاربة بعرض الحائط كل القرارات الدولية التي تعترف بحقوق الفلسطينيين الوطنية، فلماذا تستبعدان والوضع على هذا النحو ان يعود العرب عن "السلام كخيار استراتيجي" على الخيار الاخر وهو "الحرب كخيار استراتيجي" كما هو الحال عند إسرائيل؟!
رابعا – إذا أصرت إسرائيل وامريكا على ان (القدس الموحدة شرقيةً وغربيةً!!) بما في ذلك الأقصى المبارك والبلدة القديمة، هي العاصمة الأبدية لإسرائيل، وليست خاضعة للتفاوض، فلماذا تستبعدان ان يطالب الفلسطينيون والعرب والمسلمون من الان فصاعدا بالقدس الغربية والشرقية كلها عاصمة لفلسطين من البحر الى النهر؟
خامسا – إذا أصر المجتمع الدولي على ان يظل مكتوف الايدي حيال الانتهاكات الخطيرة التي ترتكبها إسرائيل وامريكا للقانون الدولي بشكل يهدد الامن والاستقرار الدوليين، ولا يتجاوز بسلوكه حيال ذلك حالة الاستنكار والشجب والتعبير عن القلق، إلى حالة من الضغط الحقيقي صعودا إلى استعمال القوة في سبيل إجبار إسرائيل على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بفلسطين، فلماذا يستغرب المجتمع الدولي إن دفع ذلك الفلسطينيين والعرب والمسلمين الى أحضان حلول أخرى لاسترداد الحق المغتصب بعدما فشلت المفاوضات السلمية في الوصول الى حل للصراع.
سادسا – إذا أصرت إسرائيل وامريكا على تحويل المفاوضات السلمية المتوقفة حاليا الى غطاء فقط لتمرير خططها في إحكام القبضة على فلسطين من بحرها على نحرها، فلماذا يستغرب العالم إن نَحَّى الفلسطينيون والعرب أسلوب المفاوضات لمصلحة ذات الأسلوب الذي تستعمله إسرائيل: فرض الامر الواقع بقوة السلاح، وبذلك يتم التعامل بالمثل كأسلوب مناسب للتعامل مع الحالة الأمريكية – الإسرائيلية.
سابعا – تَنَكُّرُ أمريكا وإسرائيل للشرعية الدولية واستعداد الأولى الوقوف وحيدة في وجه المجتمع الدولي من خلال رفضها (الفيتو) لمشروع قرار في مجلس الامن بخصوص اعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، يعني اننا في عصر البلطجية السياسية التي لا وجود للقانون والشرعية الدوليين في قاموسها. فلماذا تستغرب أمريكا إذا ما تمرد العالم العربي والإسلامي على هذه الشرعية، متوجها نحو الفوضى كما تريدها الولايات المتحدة الامريكية.
(6)
من يتحمل المسؤولية عن دفع منطقة الشرق الأوسط وربما العالم كله إلى حافة الهاوية التي نرصدها ويرصدها معنا العالم في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البشرية؟! كل المنصفين في العالم يردون على السؤال بجواب واحد: أمريكا وإسرائيل يتحملان وحدهما المسؤولية الكاملة عن هذا الخطر الماحق الذي يهدد العالم، وذلك من خلال رفضهما المنهجي للقرارات الدولية، وتحديهما للإرادة الأممية في كل ما يتعلق بفلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني. المجتمع الدولي يتحمل هو أيضا المسؤولية إذا لم يتحرك فعليا لوقف هذا التدهور وحمل أمريكا وإسرائيل على تغيير سياساتهما.
إذا لم يحصل شيء من ذلك، فلا أشك في ان العدالة ستتحقق يوما، فهذا هو منطق التاريخ الذي يعرفه الجميع عموما وتعرفه إسرائيل وامريكا خصوصا، وهو ان القوي لا يمكن ان يظل قويا على الابد، وأن الضعيف لن يظل ضعيفا إلى الابد، وأن الحق يَعلو ولا يُعْلى عليه، وأن دولة الظلم ساعة ودولة العدل الى قيام الساعة.
أمريكا وإسرائيل يجب ان يُصغيا إلى همس التاريخ الذي يقدم نصائحه لكل من أراد بناء مستقبله، اما الذي يصمون آذانهم عن سماع صوت التاريخ فلا شك انهم سيصبحون جزءا من ضحاياه، لا فرق في ذلك بين عرق وعرق وامة وأمة وقوم وقوم ..
هذا هو المسكوت عنه في قضية القدس وفلسطين، والذي على العالم ان يصرخ به بأعلى صوته قبل فوات الأوان.
*** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني