"وعد ترامب" والمقدسيون والسلطة الفلسطينية
ناديا حرحش*
منذ إعلان ترامب القدس عاصمة الدولة اليهودية، والانظار ملتفتة نحو القدس بترقب كادت ان تحتبس فيه الانفاس. وحاول اهل السلطة احتواء الموضوع منذ اعلانه من اجل السيطرة على الوضع بحيث لا يجد اولو السلطة انفسهم خارج اي انجاز شعبي محتمل او متوقع كما حصل في موضوع البوابات الالكترونية على مداخل الاقصى التي اضطرت اسرائيل لخلعها اذعانا للمطلب الشعبي الفلسطيني.
منذ بدء الاحداث والتكهنات تأخذ اشكالا مختلفة، فهناك من توقع انتفاضة جديدة وهناك من تكهن ان هناك هبة ستؤرق مضاجع الاحتلال واتباعه.
ومع دخولنا الاسبوع الثالث، لم تأخذ الامور مجرى مشابها لما جرى في احداث الاقصى، بدا وكأن التساؤل عن سبب عزوف المقدسيين عن النزول الى الشوارع بنفس النهم الذي صاحبته الاحداث السابقة مشروعا.
اصابني قبل ايام شعور بالاحباط عندما وقفت لبعض الوقت مساء عند باب العامود، وكان مشهد مدمني المخدرات المتسللين الى الجالسين على الدرجات اقرب لما يمكن ان يكون مشهدا محتكما الى حبكة مدروسة. لبعض الوقت تملكني الغضب وقلت في نفسي: انتهى! ولكني تداركت هذا الشعور وعدت لأذكر نفسي ان اساليب الاحتلال لا تتغير، على الرغم من محاولاتهم غير المنقطعة على تطوير اساليب جديدة من اجل تطويعنا وترهيبنا. لا انكر انني لم اسأل نفسي كثيرا عن عزوف الناس عن التواجد المكثف في هذا المكان تحديدا، على الرغم من انني كنت وصلت الى فكرة عدم جدوى التواجد في مكان محدد. فمن الممكن ان نكثف تواجدنا في انحاء ابواب مختلفة من مداخل البلدة القديمة. حبذا لو تواجدنا عند باب الجديد او باب الخليل، فهناك تلتقي المدينة بشقها الغربي ويصبح تواجدنا مرئيا أكثر. ولكنني عندما رأيت تركيز الاحتلال على "قتل" باب العامود كنقطة تجمع، تيقنت مرة اخرى، بأن المقصود هو عدم ترك اي صورة فلسطينية الطابع في اي مكان. لأن باب العامود كغيره من الابواب كذلك يشكل نقطة عبور للجميع.
ليس الموضوع اين نكون، ولكن الموضوع الاهم هو ما الذي نجتمع من اجله. ما الذي نريد ان نحققه. اذا ما رجعنا وسألنا عن الانتهاكات الاسرائيلية التي فجرت الامور، استطيع الاشارة الى موقفين حديثين، موضوع البوابات عند مدخل الاقصى، وحرق محمد ابو خضير.
جرت احداث اخرى كثيرة، اخرها موضوع ترامب. هل نقول ان ما صدر عن ترامب اقل ضررا على المدينة؟ الجواب قطعا لا، ولكن ما يحرك الشارع هو المحور المهم هنا. لماذا انتفضت القدس عن بكرة ابيها عند حرق الفتى محمد ابو خضير؟ ولماذا تجمهر المقدسيون من كل الطبقات والانتماءات والديانات طيلة اسابيع من اجل خلع البوابات عن الاقصى؟ لمذا لا يكون الحراك نفسه الان؟
هل يعقل ان الناس تعبت؟ هل خافت؟ هل ملت؟ هل فقدت اكتراثها؟
لا اظن، ولا اوافق هكذا رأيا ان سمعته. ولكني اميل الى القول بأن ما اختلف هو احساس الناس بالموقف الحالي. لا تهون القدس على فلسطيني. والكل يعي مخاطر التهويد ويعيشها هنا. ولكن اعلان ترامب مسألة سياسية لن تغير على اهل المدينة شيئا. لقد تركت القدس بين فكي التهويد والاسرلة منذ اوسلو. فلا يكاد الفلسطيني في هذه المدينة يرفع رأسه؛ ضرائب تطاله من كل الجهات، هدم البيوت يطال الجميع، وما يترتب عليه من ويلات كابوس لا ينتهي، الاستيلاء على الاراضي والمصادرة، اسرلة المناهج التعليمية، انحدار المستوى المعيشي، وانخفاض الخدمات المقدمة لاهل المدينة، وغلاء معيشة يفوق في معظم الاحيان مقدرة العائلات على الحياة، خطر سحب الهويات الذي يخيم على كل من لا يثبت بالبرهان والدليل القاطع عيشه داخل المناطق التي تحددها اسرائيل كحدود للبلدية، غياب السلطة ورفع اليد عن القدس جعل المقدسيين امام امتحان حقيقي.
بعد احداث الاقصى الاخيرة، اثبت اهل هذه المدينة انهم هم اصحاب السيادة عليها. وان لا جنسية اسرائيلية ولا تصريحا ولا مصلحة اعز عند المقدسي من الاقصى. والغضب الذي اجتاح المدينة عند اختطاف محمد ابو خضير وحرقه، احدث صدعا اكد ان الاسرلة مشروع فاشل. فالفلسطيني صاحب هوية وطنية لا يمكن الاستهانة بها عند الامتحان الحقيقي.
ما يجري اليوم من امتحان، جعل المقدسي يسأل سواء بالعلن او بسره: هل نريد للسلطة فعلا ان تأخذ القدس؟ اكاد اجزم اليوم ان حصل استطلاع للرأي، سيقول معظم اهل المدينة انهم لا يريدون الخضوع للسلطة. ونفس اولئك سيعتبرون بلا تردد ان اسرائيل دولة احتلال. هذا لا يعني ان الفلسطيني في القدس يعيش حالة انفصام (بعد)، ولكنه شاهد على ما حصل للقدس من تهويد واسرلة وصهينة على مدار عقدين. فهل يزيد اعلان ترامب على يهودية المدينة شيئا؟ نفس الانسان هذا اثبت ان لا سيادة الا للفلسطيني عند الجد، وما جرى في الاقصى كان مثالا حيا.
وهنا يأتي السؤال الصعب: هل الدفاع كان عن الاقصى بسبب خصوصيته العقائدية؟ جوابي يأتي بالنفي والايجاب، وادخل هنا مرة اخرى موضوع محمد ابو خضير. عند حرق محمد ابو خضير، شعر كل مقدسي بأن محمد ابنه. ما حصل له كان يمكن ان يحصل لاي منا. في تلك اللحظة تحول محمد لمغزى "ان تكون او لا تكون". عند البوابات، كان هناك وعي كامل ان البوابات هي مرحلة اولى لفصل الاقصى والتحضير لتطبيق تجربة الحرم الابراهيمي. في تل اللحظة اصبح الاقصى هو رمز السيادة على ما هو وطن. ومرة اخرى كنا امام فكرة "ان نكون او لا نكون".
اعلان ترامب يترتب عليه حقائق سياسية سيخسر منها المفاوضون واصحاب السلطة. اذا انتهت القدس من لعبة المفاوضات انتهت اسباب وجود المفاوضات اصلا، فهكذا ينتهي ان يكون هناك سلطة مفاوضات. اي ان اعلان ترامب يرتبط بمصالح متعلقة بالسلطة اكثر منها تأثيرا مباشرا على المدينة وسكانها. يقف السكان امام نفس المنعطف. على سبيل المثال، تنتشر هذه الايام على لافتات الاحياء بالقدس باسم الطلاب والطالبات امتنانا وعرفانا للمعلمات والتوقيع "طالبات وطلاب مدارس اورشليم القدس". بينما ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعميم من قبل وزارة التربية والتعليم الفلسطينية للمديرات والمديرين عن تشكيل لجنة انضباطية لمتابعة النشر المشبوه والمثير للشك والجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، وسوف يتم رفع اي حالة الى وزارة التربية والتعليم لاتخاذ الاجراء القانوني.
لنتخيل ما هو موقف الطالب او المعلم او الاهل او اي مواطن عادي من الموقوفين. عندما يرى المواطن اللافتات تشغل الطالب بالتفكير بشكر المعلم وتقديره، مع يقيننا ان هذا "العدو" لا يقدم ما هو نافع سدى. ثم نرى كيف يتم تحويل مديري المدارس الى "مخابرات" على الطلاب والمدرسين. لو كنت طالبا، او معلما، او ذوي طالب، او مجرد مواطن، مع اي النظامين تريد ان تكون؟
منذ تحولت السلطة، او بالاحرى تجسد دور السلطة بالدور التنسيقي للاحتلال ومصالح بعض من الناس، فقدت مصداقيتها وصارت اكثر تهديدا من كونها مصدرا للامن الفلسطيني العام.
دعوة المؤسسات الحكومية للخروج بساعات غضب، والمطالبة بالاشتباك على الحواجز، ليست الا نداء فارغا،لا يراد منه الا "الطنة" الغوغائية التي ستودي بحياة المزيد. اذا ما كانت السلطة رافضة لقرار ترامب، وتريد اعلان الغضب، لم لا تنشر الاجهزة الامنية على مناطق التماس تلك. ان ميزانية السلطة تذهب في اعلى مخصصاتها الى الاجهزة الامنية، اليس هذا هو الوقت لان تخرج الاجهزة الامنية وتحمي الشعب وتعلن موقف السلطة؟
ماذا عن الحراك الدبلوماسي والانجازات العظيمة في المحافل الدولية؟ اين كل تلك القرارات والانضمامات للجان والمحافل الدولية المختلفة؟ اين المستشارون والخبراء؟ ما يجري يجب تحريكه على المستوى الدبلوماسي والسياسي. كل اولئك المنتفعون من وجود السلطة هم الذين عليهم الوقوف في وجه قرار ترامب واعلانه. سيقطع عنهم الاموال، وسيهدد وجودهم.
اما اهل المدينة، فوجودهم وصمودهم تحت الاحتلال ومجابهته ومواجهته اليومية من اجل الوجود امام عملية تهجير وتطهير عرقي وتجويع وتطويع لا تتوقف هو ما تحتاجه القدس منهم، وهذا ما يقدمونه.
عندما ينتفضون فإن إحساسهم بالخطر لا يمكن ضبطه او تكذيبه، ودفاعهم عن المدينة لا يصده ردع ولا توقفه أي قوة مهما كانت غاشمة.. أو خانعة.
* كاتبة فلسطينية مقيمة في القدس المحتلة