متطلبات العقيدة العسكرية العمانية في ضوء تحولات القوة والصراع في النظام العالمي القادم
الاستاذ . محمد بن سعيد الفطيسي
من هم اعداءنا . من هم حلفاؤنا اليوم وفي الغد القريب والبعيد . كيف نعرفهم ؟ وكيف يمكن التأثير عليهم لصالحنا ؟ كيف ومتى يمكن ان نقرر الانضمام والاصطفاف مع الاخرين لمواجهة تحديات ومشاكل النظام العالمي ؟ وهل نحن مضطرون الى ذلك ؟ هل يجب ان ننطلق من الارضية الصلبة لمصالحنا الوطنية بشكل مادي . ام يمكن ان نأخذ في الحسبان مصالح مجتمع دولي موهوم وواهن كما وصفته مستشارة الامن القومي السابق كوندوليزا رايس ؟ هل نحن مستعدون بالفعل للولوج الى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بما يحمله معه من سيناريوهات كارثية تعج بالفوضى والصراعات العابرة للحدود الوطنية , وارتفاع مصادر التهديد وعدم الاستقرار السياسي والامني والعسكري في البيئة الدولية ؟( )
وقد تطرقت في دراسات سابقة للعديد من تلك التحولات السياسية والعسكرية والامنية الراهنة والمحتمل وقوعها في المستقبل , والتي اثرت بدورها في جوانب اكثر دقة وعمق كالمتغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الدولية. ما انعكس بدوره على الواقع الاقليمي وكذلك الوطني للعديد من الدول حول العالم . مؤكدا . ان النظام العالمي القائم على التشكل اليوم سيحمل في شكله النهائي ” النظام العالمي القادم” مظاهر استثنائية للهيمنة والسلطة وتوازن القوى الدولية من جهة . ولأشكال القوة والتسلح واستراتيجيات الصراع والنزاع من جهة اخرى . خصوصا في ما يتعلق منها بقضايا التحالفات الدولية وديمومة الصداقات والعداوات .
كل تلك المظاهر حملت في طياتها خليط من المخاوف وضرورات التغيير والتحول , خصوصا في ما يتعلق بمفاهيم سياسية وقانونية وعسكرية وامنية بات اكثرها معرض للتفكك والتحلل والتراجع في مواجهة اخرى يحتمل كثيرا ان تحل مكانها بالتدرج مع الوقت كمفهوم الدولة الافتراضية والمواطن العالمي مقابل مفهوم سيادة الدولة . ومفهوم التسلح الكمي سيستبدل بالتسلح النوعي . والامن التقليدي في مقابل الامن السبراني او الاستراتيجي في العصر الرقمي على سبيل المثال لا الحصر. ما يرفع من سقف مخاوف العديد من انظمة العالم السياسية وحكوماتها بمختلف احجامها واشكالها وتوجهاتها. خصوصا في جانب الامن والاستقرار ومقدرة تلك الحكومات على تحقيق تلك المتطلبات الاصيلة للدولة والمواطن فيها.
على ضوء ذلك ستجد اغلب الدول نفسها خلال السنوات القادمة ومن ضمنها سلطنة عمان بكل تأكيد في مواجهة العديد من المتغيرات السياسية والتحولات الجيوسياسية في البيئة الدولية , والتي ستنعكس سلبا بدورها على البيئة الامنية الداخلية والخارجية , لتصنع نوعا متطورا ومتقدما من التهديدات والمخاطر الامنية والعسكرية التي لم تعهدها الكثير من الدول , خصوصا ان تلك التهديدات ستنطلق من ( بيئة امنية استراتيجية اشد خطورة واكثر غموضا وتعقيدا واثارة للهواجس الامنية من البيئة التي واجهها اسلافهم في القرن العشرين )( ) .
الامر الذي يدفع بدوره الى اهمية بناء استراتيجيات امنية وعسكرية متقدمة ومتطورة قادرة على احتواء تلك التحولات في النظام العالمي القادم بما يحقق للدول القدرة على مواجهة ما يمكن ان يعترض سبيل امنها وسيادتها واستقرار اراضيها ومواطنيها من مخاطر وتهديدات مختلفة ومتنوعة . وكذلك يحقق لها القدرة على التطور في منظومتها العسكرية الاستراتيجية للاحتواء والردع او الدفاع والهجوم . خصوصا ان النظام العالمي القادم وكما سبق واشرنا , سيدفع ان لم يفعل بالفعل ذلك اكثر دول العالم وحكوماته , حتى تلك التي نجحت الى حد ما في الابتعاد والناي بالنفس عن الصراعات والنزاعات الدولية كما هو حال سلطنة عمان . الى الدخول في دائرة الصراع والنزاع العابر للحدود الوطنية . سواء كان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر انطلاقا من نظرية التأثير المتبادل للأحداث العابرة للحدود الوطنية .
فلا شك ان هناك ( تبادل في التأثير وردود الأفعال والمواقف السياسية والعسكرية والامنية الرسمية في ما بين أعضاء المنظومة الدولية ” العلاقات الدولية والسياسات الدولية ” داخل إطار علاقة تغذية راجعة وتبادلية بخصوص تلك الاساليب والاستراتيجيات وجملة المتغيرات والتوجهات المتعلقة بإدارة تلك الصراعات والنزاعات والتوازنات من جهة اخرى)( ). ويعود ذلك لأسباب عديدة ومختلفة ( فقد نكون نحن انفسنا منخرطين في نزاع ما , وجميعنا في الواقع مشاركون في نزاع عالمي ونرغب بالفوز بالمعنى الاصلي للكلمة . وقد نرغب في فهم كيف يتصرف المشاركون فعليا في حالات النزاع , حيث يمكن ان يصبح فهم اسلوب اللعب ” الصحيح ” مقياسا لدراسة السلوك الفعلي , واما السبب الثالث , فهو اننا في السيطرة والتأثير في سلوك الاخرين في نزاع ما . ونود لهذا ان نعرف كيف يمكن للمتغيرات التي نملك السيطرة عليها ان تؤثر في سلوكياتهم )( )
من جانب اخر . فان الالمام المسبق بتلك التغيرات والتحولات القائمة على التشكل والمحتل حدوثها في النظام العالمي القادم خصوصا في ما يتعلق منها بتأثير النظرية الواقعية في العلاقات الدولية وانعكاسها على جانب الشؤون الامنية والعسكرية للدول سيرسم لكل من المنظر والمقرر الوطني خارطة طريق مستقبلية , بل وسيحقق لهما التمكين في الرؤية الاستشرافية وبالتالي القدرة والامكانية على بناء عقيدة عسكرية وامنية واقعية قادرة على تحقيق اكبر قدر ممكن من الامن والاستقرار الوطني .
وهذا الامر لم يكن بخاف على القيادة السياسية العمانية منذ عقود طويلة , فقد تنبه له حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم “حفظه الله” منذ بواكير النهضة المباركة , وعمل بكل واقعية وجدية على بناء منظومة استراتيجية امنية وعسكرية وطنية قادرة على مواكبة جملة المتغيرات السياسية والتحولات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الدولية والاقليمية القائمة حينها والمحتمل وقوعها منذ ذلك الوقت. بما يكفل لسلطنة عمان اقصى قدر ممكن من الامن والاستقرار في البيئة الدولية والاقليمية .
ويتأكد لنا ذلك من جملة الحقائق والممارسات ذات الطابع الاستراتيجي سواء ما تعلق منها بالشؤون العسكرية او الامنية .وسواء كان ذلك في الجانب النظري او العملي . كتطوير المؤسسات ذات الاختصاص ورفدها بالأسلحة النوعية والسعي لمواكبة التطورات التكنولوجية والتقنية ذات العلاقة . يضاف الى ذلك رفع المستوى التعليمي والتدريبي لأفرد تلك المؤسسات المعنية . ما انعكس ايجابا على تطور كل من العقيدة الامنية والعسكرية للدولة العمانية ” تطوير النظرية ” وعلى البيئة الوطنية العمانية نفسها ” الواقع العملي الميداني ” وتحديدا في جانب السياسات الامنية الداخلية والسياسية الخارجية العمانية وعلاقة سلطنة عمان مع مختلف دول العالم . مع مراعاة مواكبة التغيير المرحلي سواء كان ذلك من ناحية التوجهات او الاستراتيجيات العسكرية والامنية , او تطوير القرارات والقوانين ذات الصلة بالمحافظة على البيئة الامنية الاستراتيجية في ما يطلق عليه ” بتطوير الوعي الاستراتيجي “.
من ابرز ما يمكن الاشارة اليه على سبيل المثال لا الحصر على صعيد المعرفة والوعي الاستراتيجي العماني بمتغيرات واحتمالات التغيير في النظام العالمي وما يمكن ان يحمله ذلك من تحولات على صعيد تجاذبات القوى الدولية والتغيير في مفاهيم التحالفات وموازين الصراع والسلطة والنفوذ والهيمنة على رقعة الشطرنج العالمية استنادا الى الرؤية السلطانية منذ العام 1970م . وانعكاس كل ذلك على البيئة الوطنية العمانية , ووجهة النظر العمانية الى تلك المتغيرات سواء كان ذلك على الصعيد الاقليمي او الدولي . والذي بدوره ساهم بشكل كبير على تطوير منظومة الامن العسكري الاستراتيجي للسلطنة . الجوانب التالية :
اولا : على صعيد بناء العقيدة العسكرية العمانية وطنيا ” الهياكل البنائية العامة ” : من ابرز ما يمكن الاشارة اليه على سبيل المثال لا الحصر في جانب المرئيات والتوجهات الوطنية التي تم بناء عليها بناء العقيدة العسكرية العمانية من الناحية الفكرية والاستراتيجية . او ما يطلق عليه ” هياكل بناء العقيدة العسكرية “
1- بناء الجيش السلطاني العماني بطريقة عصرية ومتطورة سواء كان ذلك من حيث التسلح المادي او المعنوي , وقد ربط جلالته امن البلد واستقرارها بقوة جيشها فقال ( ان امن البلاد واستقرارها مرتبط بتطور الجيش العماني وتامين ما يحتاجه من معدات واجهزة )( ). فكان اهتمام جلالته برفد هذا القطاع بمختلف اسلحته بأفضل المعدات والتقنيات الحديثة والمتطورة , والتي يمكن ان تساهم في تحقيق الرؤية السلطانية لتطلعات الامن والاستقرار على الصعيد الوطني والاقليمي في ظل تلك المتغيرات المتسارعة والخطيرة في النظام العالمي وتجاذبات القوى ومساعي الهيمنة والقوة والنفوذ .وتوازنات القوى الدولية .
2- رفض دخول السلطنة في أي نوع من التجاذبات والصراعات المتعلقة بتوازنات القوى الدولية عبر تحالفات وتكتلات عسكرية او امنية خصوصا تلك القائمة على التوجهات ذات الطابع العسكري والامني الموجه ضد الدول . على ان ذلك لا يمنع من الانضمام الى التحالفات القائمة على مبادئ الامن الوقائي او الدفاعي . والذي تقوم فيه الدول على ( مساعدة بعضها البعض بالتعاون والتكاتف لدرء العدوان والوقوف مع بعضها في قضاياها العادلة والمصيرية وتحقيق استقلالها وحريتها, ولكنه يرفض كل اشكال التحالفات والتكتلات مهما كان شكلها ما دام الهدف من ورائها الاعتداء على سيادة الدول واستقلالها, أو السعي لاستعمارها واحتلالها أو قلب أنظمتها السياسية أو غير ذلك من التوجهات السياسية أو العسكرية العدوانية, وهو ما تؤكده الواقعية العمانية وواقع تطبيق الفكر السياسي لصاحب الجلالة على سلوكيات وتصرفات وسياسات الدولة العمانية في سياساتها وعلاقاتها مع دول العالم منذ العام 1970 وحتى يومنا هذا )( )
والدليل على ذلك كمثال لا على سبيل الحصر سعيها لإقامة تكتل اقليمي لمجابهة المخاطر التي يمكن ان تعطل الملاحة بمضيق هرمز( ) والتي ( تراها مسؤولية جماعية لا فردية , وهو كذلك تدبير لإجهاض اية خطوة لتمركز قوة اجنبية به بتعلة حمايته ويقيد اي مبرر لتدخل الدول الاخرى ولا سيما القوى العظمى فيه وفي المنطقة عموما ) ومن هذا الاساس والنظرة تقدمت عمان عام 1979م بمشروع عرف لاحقا بالمشروع التقني العماني( )ويبين المشروع ان المخاطر على المضيق تأتي اما بزراعة الالغام او باحتلال الممر قوة بحرية معادية ( ). وكذلك مشاركة السلطنة في تحالف الدول الاسلامية ضد الارهاب في 2016م .
ثانيا : على مستوى العقيدة العسكرية العمانية “اقليميا” : فقد قامت على مجموعة من الاسس الاستراتيجية : ( اما الاول : فيتحقق عن طريق بناء القوة واقامة التعاون والتنسيق بين دول الخليج متسلحة بالإرادة السياسية التي تدفعها نحو هذا التوجه من دون ان تكون الاستراتيجية قائمة على تشكيل الاحلاف – انطلاقا من مبادئ العدوان او المبادرة بالعدوان – . ثانيا : فمؤداه ايجاد مساحات من التفاهم والتعاون بين دول الخليج العربية , وكذلك بين هذه الدول والدول الاخرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة التي يهمها اصلا امن الخليج واستقراره – لذا – حصرت سلطنة عمان مطالبها بالمساندة الخارجية في الجانب السياسي وما يتعلق بالمعدات والخبرات , وهذا يشير الى انها ترى ان امن الخليج يمكن ان يتحقق من خلال تنمية قدرات دوله الدفاعية واقامة مستوى من الاعتماد المتبادل بينها وبين القوى الدولية الاخرى . استنادا الى المنفعة المتبادلة )( ) .
يضاف الى ذلك ان سياسات وادوار السلطنة في ما يخص التحولات والنزاعات الاقليمية قامت على رفض كل اشكال العنف والصراعات التي بلا شك ستهدد امن المنطقة برمتها. الامر الذي دفعها الى ان يكون لها من الادوار الحاسمة في تهدئة الكثير من صراعات المنطقة العربية منذ عقد الثمانينيات من القرن 20 وحتى يومنا هذا . وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر قال جلالته “حفظه الله ” : ( ان سياستنا كانت ولا زالت تعبر عن اهتمامها الدائم بتهدئة الاوضاع في المنطقة وتعزيز فرص الحوار بين الاطراف المتنازعة لحل خلافاتها بروح الوفاق والتفاهم . واذ نشعر بالأسف لاستمرار الحرب العراقية – الايرانية لما تعكسه من سلبيات ومضاعفات تنطوي على احتمالات خطيرة تهدد السلام العالمي فضلا عن تهديدها لأمن المنطقة)( )
ثالثا : على مستوى منظور العقيدة العسكرية العمانية للشؤون الدولية : لا شك ان هناك الكثير من الجوانب والامثلة التاريخية التي يمكن الارتكاز والاستناد عليها للتعرف على كيفية بناء اسس وقواعد الرؤية السلطانية لمستقبل العقيدة العسكرية العمانية في جانبها الدولي منذ العام 1970م . سواء كان ذلك في جانب المرئيات السياسية او العسكرية لمستقبل الصراع بين القوى الدولية في منطقة الشرق الاوسط , او في جانب الاستراتيجيات المطلوبة لمواجهة ذلك من الناحية التنظيرية او الواقعية التطبيقية في البيئة العمانية .
ومن ابرز تلك الامثلة على ذلك . الصراع على مصادر الثروات في المنطقة والتي يقع على راسها النفط . حيث وفي هذا السياق قال جلالة السلطان قابوس “حفظه الله ” ( لا شك انه لم يعد يخفى على احد ان الجزيرة العربية بما فيها الخليج , في كل بقعة منها اكثر من ثروة , ولعل في مقدمتها البترول … لا جدال اذا ان هذه الارض المليئة بالخير تصبح مطمعا . ان هذه الثروات تفتح شهية الاخرين اينما كانوا شرقا او غربا )( )
جانب اخر . وهو الدور العماني في صناعة الاستقرار والامن وتوازن القوى الدولية في الشرق الاوسط منذ ثمانينيات القرن الماضي. فقد قال جلالته ( قد نادينا في الماضي الى اتباع سياسة التعقل ودعونا قادة المنطقة الى فهم حقيقة التوازنات بين القوى السياسية والاقتصادية الدولية ومن ثم التعامل معها بحكمة واتزان بما يحقق المصالح الحيوية لشعوب امتنا العربية )( )وفي سؤال وجه لجلالة السلطان قابوس بن سعيد “حفظه الله ورعاه في العام 1982م . المحرر : يقال ان التسهيلات المعطاه لأمريكا دعمت موقف الروس بطريقة غير مباشرة في عدن . وان المحصلة النهائية زج المنطقة في خضم الصراع بين اميريكا وروسيا ؟
فأجاب جلالته ( لابد ان ارفض هذا الكلام لان الوجود الاميركي او الاصح الغربي في المحيط الهندي والمنطقة المحيطة بنا هو لإيجاد نوع من التوازن مع الوجود السوفياتي . ولابد من القول ان الوجود في المحيط الهندي ليس اميريكا فقط بل غربي بشكل عام , وحتى استراليا لها وجود , السؤال هو :لماذا؟ الواقع ان ذلك كله نشا نتيجة الوجود الروسي في المنطقة .مما حتم الوجود الغربي لإيجاد نوع من التوازن , ونحن نؤمن بالتوازن لان التوازن يزيل الخطر , وعدم وجود التوازن يزيد الخطر .فاذا رجحت كفة جهة على اخرى فان ذلك سيشجع الاولى على اتخاذ خطوات قد تكون مضرة . وانا ارفض القول ان هذا يجعل المنطقة اكثر اشتعالا . بل اعتقد انه يحقق نوعا من التوازن )( )
ما يؤكد بدوره على ان ( حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم – حفظه الله – يعد من الأشخاص القلائل الذين تنبهوا إلى اهمية البعد الجيوسياسي واثره على السياسات الدولية في الشرق الاوسط من جهة , وإلى اهمية المنطقة العربية التي تشكل قلب كل الاقتصاد العالمي في جملة تلك التوجهات والطموحات والسياسات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الدولية من جهة اخرى. وكان لتلك المعرفة الاستراتيجية المبكرة دور فعال ومهم في تشكيل – العقيدة العسكرية والامنية العمانية وكذلك – السياسة الخارجية . ما جعل من هذه الأخيرة تسير على نهج سياسة النأي بالنفس بعيدا عن دائرة الصراعات الدولية ومركز التوترات السياسية وتنافس الدول الكبرى أو طموحات بعض الدول الإقليمية في هذا الجزء شديد المخاطر الجيوسياسية من العالم. فكانت تلك الوسيلة الناجعة لعبور ذلك الامتداد مرتفع المخاطر الجيوسياسية والذي نشاهد اثاره وانعكاساته اليوم على الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط بوجه عام والجغرافيا السياسية للمنطقة العربية على وجه الخصوص.)( )
وها هي سلطنة عمان تلج عتبة العام 2018م وهي و” لله الحمد ” تؤكد نجاح رؤية قيادتها الرشيدة في ما يخص جانب بناء استراتيجيتها المتعلقة بالشؤون الامنية والعسكرية منذ العام 1970م ” العقيدة العسكرية ” بالتوازن والتوازي مع مختلف ملفات التغير في الانظمة الدولية التي عايشتها سواء ما كان منها “ثنائي القطب بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي ” او ” احادي القطب – المركزية الاميركية ” , او ما تعلق منها بمختلف قضايا الصراعات وطموحات الهيمنة والنفوذ ومساعي القوى الدولية والاقليمية لتغيير خارطة الشرق الاوسط , وغيرها من الملفات والقضايا ذات الصلة بالتغيير في استراتيجيات الصراع والنزاع العابرة للحدود الوطنية . خصوصا تلك لامست بشكل مباشر البيئة الوطنية العمانية .
على ان ذلك النجاح يجب ان يتم المحافظة عليه نظريا وواقعيا .عبر تطوير وتحديث النظريات العسكرية والسياسية والامنية. خصوصا ما يتعلق منها بمفهوم الصراعات والتوازنات والعلاقات الدولية في القرن 21 من جهة . اما من جهة اخرى فيجب ان يتم رصد مختلف التطورات في استراتيجيات الصراع والنزاع بهدف تطوير الاستراتيجية الوطنية لاحتواء النزاعات التي يمكن ان تكون السلطنة طرفا فيها في لحظة زمنية معينة في العقود القادمة , وبالتالي تطوير وتحديث المنظومة العسكرية بناء على ذلك سواء ما يتعلق منها بالأسلحة المتطورة او في ما يتعلق باستراتيجيات الردع والاحتواء او الهجوم والدفاع . في بيئة اقليمية ودولية شديدة الخطورة والتعقيد وكثافة التحديات الامنية .
خصوصا ان النظام الدولي القائم على التشكل اليوم ” نظام التعددية القطبية الفضفاضة ” هو نظام لم تعهده مختلف دول العالم . لا من حيث اعداد القوى الدولية التي تحركه . ولا من حيث بعض المفاهيم العسكرية والامنية الاستراتيجية التي يقوم عليها . وبمعنى آخر ان ( عالم اليوم بعيدا كل البعد عن ان يكون أحاديا قطبيا مطردا , على الرغم من وضوح كون الولايات المتحدة الأميركية هي القوة المسيطرة في النظام , كما ان هناك سلسلة طويلة من سمات وملامح حكم الكثرة المتحدية لها : ثمة أنماط مختلفة من السلطة , وتشكيلة واسعة من الجهات الرسمية وغير الرسمية المتمتعة بهذه السلطة , والصداقات والعداوات المتعددة والمتداخلة حيث يمكن للأصدقاء والأعداء ان يختلفوا تبعا للقضية المطروحة ) ( ) .
كما ان الحلفاء والأصدقاء في هذا النوع من الأنظمة العالمية وفي وضع ومكان وزمان معين هم أعداء وخصوم في مكان وزمان ووضع آخر , حيث علاقات الخصومة المتشكلة ستغلب على علاقات التحالف في العديد من القضايا من جهة , وذلك بسبب العدد الكبير من اللاعبين ونوعياتهم التي تجعل من النظام العالمي نظام فوضوي ومتناقض التركيب , سريع التقلبات والصدقات والعداوات , في ظل غياب شركاء تحالف يعول عليهم , مما يجعل من تشكيل التحالفات وديمومتها أمر بالغ الصعوبة ز
على ضوء ذلك كان من الضروري والمهم التنبيه الى بعض الجوانب الرئيسية سواء كان ما تعلق منها بالجانب العسكري او الامني . او بتطوير بناء هياكل العقيدة العسكرية العمانية في القرن 21 .خصوصا خلال المرحلة 2020- 2030م , والتي يجب ان تنال مزيد من الاهتمام النوعي الاستراتيجي في ظل النظام العالمي سالف التسمية والتعريف . سواء ما يتعلق منها بالجانب التنظيري او الجانب العملي والميداني . ومن ابرز الجوانب والتوجهات الاستراتيجية التي يجب الحرص والاهتمام بها في تكوين وبناء متطلبات العقيدة العسكرية العمانية في القرن 21 هي الجوانب التالية وهي على سبيل المثال لا الحصر :-
اولا : لا توجد أي ضمانات على مستوى الصداقات والعداوات , حتى تلك التحالفات والتكتلات التي يمكن ان يطلق عليها بالشركات المحكمة والتي نشأت بين الدول القائمة اليوم خلال العقود الماضية ستنهار مع الوقت او ستضعف بالتدرج على حساب التصرفات الاحادية لبعض القوى الدولية والاقليمية , و( سيرتفع سقف التحركات احادية الجانب للعديد من الدول دون اعتبارات لحجمها في مواجهة من تعتبرهم خصومها . وكذلك دون مراعاة للقوانين الدولية او الاعتبارات الانسانية نظرا لوجود الامكانيات التكنولوجية المتقدمة لديها بسبب وجود المال والثروة )( )وكذلك النزعة التسلطية لزعاماتها .
مع استفحال الرغبة في امتلاك القوة والنفوذ والسلطة ( ففي عالم نظام – التعددية القطبية الفضفاضة وكذلك – نظام حكم الكثرة فثمة عددا اكبر بكثير من (الحبائل السائبة) المتروكة على الغارب ( حرفيا ومجازيا ) القادرة وحدها على احداث الفوضى في النظام . ناسفة باستقرار الحكومات جنبا الى جنب مع الترتيبات الخاصة بالسلام والامن الدوليين)( ). ما يجب مراعاته في طرح أي تطوير او تحديث في جانب العقيدة العسكرية العمانية المستقبلية
ثانيا : ان ادوات الصراع وساحات المعارك في هذا النظام المتشكل ” نظام التعددية القطبية ” .واساليبه السياسية والامنية والعسكرية ستختلف بشكل كبير وجذري. حيث سيغلب عليها الطابع التكنولوجي والفني خصوصا ذلك الذي يتعامل مع العالم الافتراضي. وكذلك استراتيجيات الردع والاحتواء المتقدم تحت شعارات وشماعات الامن القومي والتدخل الانساني قبل التفكير باي عملية هجومية مباشرة على الخصوم . مع التأكيد على ان تلك الادوات المتقدمة والحديثة في ( الساحة الافتراضية ) لن تتمكن من الغاء الدور البشري او الجانب الفيزيائي في عمليات الصراع او الحروب القادمة .
( فعندما يتصاعد نزاع ما ويتحول الى حرب مسلحة في المستقبل . سيجد المشاركون فيه ان ساحة المعركة قد باتت مختلفة تماما عما كانت عليه في الماضي. و- لكن – لن يغير فتح الجبهة الافتراضية للحرب حقيقة انه مهما تطورت الاسلحة والجنود , فسيكون عليها العمل في العالم الفيزيائي , ولن تستغني عن الدور الاساسي للتوجيه واتخاذ القرار البشريين. اما الجيوش التي لا تأخذ هذه الظاهرة مزدوجة العوالم ( ومسؤولياتها في كلا العالمين ) في الحسبان . فستجد ان التقانة الجديدة التي تجعلها ماكينات قتل اكثر فعالية. تجلب عليها الكراهية والتشهير ايضا , مما يجعل مشكلة كسب العقول والقلوب اصعب بكثير)( ) وبالتالي ينبغي ان يؤخذ في الحسبان مراعاة هذا التوجه في النظام العالمي القادم عند تطوير العقيدة العسكرية العمانية .
ثالثا : سيتم الاعتماد بشكل رئيسي على التكنولوجيا المتقدمة في صراعات ونزاعات المستقبل . خصوصا ( الادوات والتقنيات السبرانية) في العالم الافتراضي او حتى الفيزيائي . والتي ستهدف بشكل رئيسي على التعرف على ما يملكه الخصم عبر التجسس عليه دون مراعاة لأي نوع من الاعتبارات الاخلاقية والانسانية او الجوارية. بالتالي فان المعلومات الاستراتيجية والقدرات الاستخباراتية والاقمار الصناعية المتعلقة بالتجسس ستكون العامل الابرز في حروب المستقبل والعامل الاهم في حسمها .ومن ثم السعي الى شل حركة الخصم وقوته عبر نشر تلك الفيروسات الفتاكة في جسده الافتراضي , او عبر اطلاق شبكة متكاملة من ادوات الحرب النفسية ونشر القلاقل والثورات والانقلابات والمشاكل العابرة للحدود الوطنية وتأجيج الشعوب على حكوماتها عبر نشر معلومات مغلوطة او كشف حقائق خفية او فضح تلك الحكومات عبر نشر بعض السلوكيات والتصرفات والقرارات الفاسدة , ومن ابرز الامثلة على ذلك كانت وثائق ويكيليكس .( )
جانب اخر يجب الاشارة اليه في هذا السياق المتطور لأشكال الصراعات والحروب في العصر الرقمي الجديد والتي ستتأثر بشكل مباشر بسياقات التغيير الواضح في توازنات القوى الدولية . ومساعي بعض القوى الاقليمية للهيمنة والنفوذ والحصول على السلطة , سواء ما كان منها متعلق بمستقبل الدول والثورات او الاضطرابات واشكال التمرد المستقبلية على الدول . او الحرب على الارهاب او التسلح او حول مستقبل النزاعات والمعارك والتدخلات العابرة للحدود الوطنية . والتي بكل تأكيد لن يتم فيها مراعاة سيادة الدول او احترام خصوصياتها . كما ستشمل صراعات وحروب المستقبل دخول اطراف غير حكومية , سواء منظمات او افراد , وسيكون لهم من القوة والسلطة ما سيمكنهم من لي ذراع العديد من الانظمة السياسية التي ستفشل في تطوير منظومتها الامنية والعسكرية المستقبلية .
فعلى سبيل المثال و( بالرغم من التأكيد على ان لكل دولة قائمة قوانينها الخاصة ومعاييرها الثقافية والسلوكية التي تتقبلها- الا ان- دخول المليارات من البشر الى الانترنت خلال العقود القادمة سيعيد الكثيرون منهم اكتشاف الاستقلال – سواء في الافكار او الكلام والحديث – ما سيمثل امتحان لهذه الحدود الفاصلة , كما انه وفي العالم الافتراضي ستشكل الحساسيات الثقافية والعرقية المشتركة قوة تجاذب بين الدول . بما فيها دول ربما ما كانت لتتقارب لولا هذه الحساسيات , أي اننا سنكون امام اسطول من دول اصغر تستجمع مواردها معا – لتواجه الدول الاكبر حجما- كما سنشهد تصاعدا في التحالفات متعددة الاطراف في العالم الافتراضي , حيث ستتشكل بناء على التضامن الايديولوجي او السياسي , وستشارك فيها الدول والشركات على حد سواء لتعمل معا ضمن تحالفات رسمية . كما ستنمو القدرات التقنية للمتطرفين العنيفين مع تطويرهم استراتيجيات التجنيد والتدريب والتنفيذ في العالم الافتراضي )( )