(( دلالات عظمة الله ورحمته في سورة التغابن ))
عبدالرازق السرحان
سورة التغابن هي سورة مدنيَّة، ومع ذلك كان الموضوعُ الأساس فيها هو: الحديث عن عظمة الله وقدرته وحكمته، صحيح أن هذه المواضيع هي غالبًا في السور المكيَّة، إلا أن تعظيم الله في القلوب مَطلبٌ في كل الأزمان والأوقات؛ لذلك جاء الحديث عن عظمة الله في السور المكيَّة والمدنيَّة؛ لما في ذلك مِن أثر في تثبيت المؤمن على إيمانه، ورَدْع العاصي عن عصيانه، وخاصة نحن في زمَن الملهيات، فكان لا بد من التأمُّل في آيات سورة التغابن التي تملأ القلب إعظامًا لله، ومحبةً له.
نُلاحظ أن سورة التغابن ركَّزتْ في آياتها على جانبينِ:
الأول: دلالات عظمته سبحانه ومظاهرها، واستخدام الألفاظ التي تدلُّ على هذه العظَمة.
الثاني: دلالات رحمته سبحانه بالمؤمنين ومظاهرها.
أولًا: دلالات عظمة الله وقدرته وحكمته:
قال الأصبهاني رحمه الله: "ومن أسمائه تعالى: العظيم؛ العظمة صفة من صفات الله، لا يقوم لها خلق، والله تعالى خَلَق بين الخلق عظمة يُعظِّم بها بعضُهم بعضًا، فمِن الناس من يُعظَّم لمال، ومنهم من يُعظَّم لفضل، ومنهم من يُعظَّم لعلم، ومنهم من يُعظَّم لسلطان، ومنهم من يُعظَّم لجاه، وكل واحد من الخلق إنما يُعظَّم لمعنى دون معنى، والله عز وجل يُعظَّم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرَف حق عظمة الله ألَّا يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله؛ إذ هو القائم على كل نفس بما كسبتْ"[1].
وإذا تأمَّلنا آيات سورة التغابن نُلاحظ أنها تحدثتْ عن عظمة الباري سبحانه، وعن مظاهر قدرته في الكون وفي خلق الإنسان، وحكمته في تقدير الأمور، وقدرته على بَعْث الناس وإحيائهم، وتجلى ذلك فيما يلي:
1- افتتاح السورة بتسبيح وتمجيد كل ما في السماوات والأرض له؛ إذ الكون كله خاضع مُتَّجه إليه سبحانه، فهو مالك الملك ذو الجلال والإكرام، لا ندَّ له في مُلْكه، ولم يكن له كفوًا أحد؛ ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التغابن: 1].
2- ومن عظيم قدرته خلق السماوات والأرض بالحكمة البالغة والإتقان المشاهَد، وخلْق البشر في أحسن تقويم وأجمل صورة، فهو تعالى لم يخلقْ شيئًا عبثًا، ولم يترك أحدًا سُدًى، الكون كله بسماواته وأرضه وخلقه خُلقوا بحكمة بالغة؛ ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [التغابن: 3].
3- وبيَّن سبحانه بأنه لا يُعجزه شيء، وكل شيء عنده يسير، ومِن ذلك إحياء الموتى، وبعثهم يوم القيامة، فلاحظنا في الآيات أن الله أمر رسوله صل الله عليه وسلم أن يقول لمنكري البعث: ﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7].
4- استغناؤه سبحانه عن الجميع، فلا تنفعه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصية العاصين، ولن يؤثِّر في مُلْكه كفرُ الكافرين؛ ﴿ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [التغابن: 6].
5- كل ما يجري في هذا الكون هو من تقديره وبعلمه عز وجل، فهو الذي قدَّر الأمور، وعلم هواجس الصدور، ما مِن صغيرة ولا كبيرة ولا خير ولا شرٍّ إلا في كتاب مبين، وبتقدير العزيز العليم؛ ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [التغابن: 11]، ثم يمتحن الإنسان ليرى صبره عند المصائب، وشكره عند النِّعَم، فهو الذي يرزق المال والولد، ثم يُحذِّر أن يكونوا فتنةً بمنع الإنسان عن طاعة الله والإنفاق في سبيله؛ ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15].
6- ثم يختم السورة كما بدأها سبحانه ببيان عظمته وسَعة علمه وعزَّته وحكمته، "ويختم هذه الجولة بعد هذا الإيقاع العجيب بصفة الله التي بها الاطلاع والرقابة على القلوب؛ ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [التغابن: 18]، فكل شيء مَكشوف لعلمه، خاضعٌ لسلطانه، مُدبَّرٌ بحكمته؛ كي يعيش الناس وهم يشعرون أن عين الله ترعاهم، وسلطانه عليهم، وحكمته تُدبِّر الأمر كله، حاضره وغائبه، ويكفي أن يستقرَّ هذا التصوُّر في القلوب؛ لتتقي الله وتُخلِص له وتستجيب" [2].
7- وإذا تأمَّلنا ختام كثير مِن آيات السورة نرى أنها خُتمتْ بما يدل على هذا المقصد؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التغابن: 1]، و﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [التغابن: 2]، و﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [التغابن: 3]، و﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [التغابن: 4]، و﴿ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [التغابن: 6]، و﴿ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، و﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]، و﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]، و﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [التغابن: 18].
ثانيًا: دلالات رحمته سبحانه بالمؤمنين:
بعد أن كان المقصدُ الأعظم مِن سورة التغابن هو بيان عظمة الله وقدرته، فقد تَخلَّل بعض الآيات في السورة إشارات منه سبحانه إلى رحمته بعباده المؤمنين الذين آمنوا به وبقضائه، وبرسوله صل الله عليه وسلم وعملوا الطاعات، فخفَّف عنهم، ووعدَهم بمضاعفة الأجر وتكفير السيئات، وقد تجلَّى هذا المقصد مِن خلال:
1- أنه لما كان لكل عبد ذنوب وتقصير، فقد وعد سبحانه كل مَن يؤمن به إيمانًا صادقًا، ويقرن هذا الإيمان بالعمل الصالح الخالص لوجه الله - أنه سيغفر له ذنوبه ويتجاوز عن سيئاته، فالحسنات يُذهبن السيئات، كما وعده بالفوز العظيم والسعادة الأبديَّة؛ فقال: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التغابن: 9]، وكل هذا تفضُّلًا وتكرُّمًا منه سبحانه ورحمةً بالمؤمنين من عباده.
2- وعد مَن آمن به وسلَّم بقضائه أن يهدي قلبَه للحق، وأن يُريح الله باله، ويُنزل الطُّمَأْنينة على نفسه، وهذا غاية المطلوب عند الإنسان في الدنيا؛ قال سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11].
3- أمر سبحانه المؤمنين بتقواه وطاعته، كلٌّ حسب استطاعته وقدْر جهده، فمِن رحمته بعباده أنه لم يكلفْ أحدًا فوق طاقته، ومِن رحمته جعل هذا الدين دين يُسرٍ لا دين عُسرٍ وتنفيرٍ؛ فقال: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، فما أرحمَه بعباده سبحانه!
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صل الله عليه وسلم، قال: ((دعُوني ما تركتُكُم، إنما هَلَكَ مَن كان قبلَكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبُوه، وإذا أمرْتُكم بأمرٍ فَأْتوا منه ما استطعْتُم))[3].
4- ومِن رحمته وكرمه أنه يُضاعف للمُنفقين الأجر والثواب أضعافًا كثيرة، يشكرهم فيُعطي الكثير على القليل، "ومن ذا الذي لا يربح هذه الفرصة التي يقرض فيها مولاه، وهو يأخذ القرض فيُضاعفه ويغفر به ويشكر المقرض، ويحلم عليه حين يُقصِّر في شكره وهو الله؛ ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17]، وتبارك الله ما أكرمَه! وما أعظمَه! وهو يُنشئ العبد، ثم يرزقه، ثم يسأله فضل ما أعطاه قرضًا يُضاعفه، ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه"[4]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الساعي على الأرْمَلة والمسكين كالمجاهدِ في سبيل الله أو القائمِ الليل الصائمِ النهار))[5]، وعن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطُومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((لكَ بها يومَ القيامة سبعمائة ناقة كلُّها مخطُومةٌ)) [6]، وهكذا تتجلَّى رحمة الله بعباده المؤمنين، التي ذُكر طرفٌ يسيرٌ منها في هذه السورة، فله الحمد والشكر والثناء الحسَن.
****************
المصادر:
1- الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة؛ لإسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي الطليحي التيمي الأصبهاني، أبو القاسم، الملقَّب بقوام السنة، المحقق: محمد بن ربيع بن هادي عمير المدخلي، الناشر: دار الراية - السعودية / الرياض، الطبعة: الثانية، 1419هـ - 1999م، عدد الأجزاء: 2.
2- في ظلال القرآن؛ لسيد قطب إبراهيم حسين الشاربي، الناشر: دار الشروق - بيروت- القاهرة، الطبعة: السابعة عشرة - 1412 هـ.
3- صحيح البخاري؛ لمحمد بن إسماعيل أبي عبدالله البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ.
4- صحيح مسلم؛ لمسلم بن الحجاج، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، عدد الأجزاء: 5.
[1] يُنظر: الحجة في بيان المحجة؛ للأصبهاني: 1/ 141 - 142.
[2] يُنظر: في ظلال القرآن: 6/ 3591.
[3] أخرجه البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بالنبي صل الله عليه وسلم، ح7288، 9/ 94.
[4] يُنظر: في ظلال القرآن: 6/ 3591.
[5] أخرجه البخاري، كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، ح 5353، 7/ 62.
[6] أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، ح 1892، 3/ 1505.