الدمار الشامل في ترك أسلحة الدمار الشامل..
هل يعي كيم هذه الحقيقة؟
سفيان بنحسن
يقول الراحل الكبير محمد حسنين هيكل “إن إختفاء العدو يُحدث خللا في التوازن أكثر مما يُحدثه إختفاء الحليف”، ويبدو أن الراحل كان يسعى في مقولته لوصف سياسة العم سام في كسر شوكة أعدائه تباعا، فيرمي بجزرة الصلح للعدو حتى يستكين الخصم ويضع قدما في رمال التنازلات المتحركة حتى ينتهي به المطاف فريسة بلا مخالب. يكفي أن تعتقد الدول المارقة وفق المنظور الأمريكي أنها قادرة على بدء صفحة جديدة مع عدو الأمس حتى تكون قد سلكت طريق الفناء والإضمحلال وكابوس الديستوبيا الذي لا ينتهي.
تتربع اليوم كوريا الشمالية على رأس الدول المارقة “وفق المفهوم الأمريكي” بعد سقوط جماهيرية العقيد الشهيد والعراق العظيم، ويبدو أن الزعيم كيم كان يقرأ الدروس المستخلصة من الحربين في بغداد وطرابلس من زاوية مغايرة للتي يقرأ منها زعماء الجنوب أو الوطن العربي على وجه أدق، فبينما يرى الحاكم العربي أن التخلي أن الأسلحة المحرمة تطفئ غضب العم سام يرى كيم أن الصواريخ العابرة هي من تضمن السلم والأمن وأنه فقط تحت ظلالها تعيش الأمم المستضعفة بكرامة وإباء. الموقف الكوري ليس وليد سياسة سلالة كيم وإنما إنعكاس لإيمان شعبي راسخ بأن الكروي نشأ وسط محيط عدائي متربص، ولهذا الإعتقاد ما يبرره تاريخيا، فقد كانت كوريا محل نزاع بين اليابان وروسيا القيصرية في بدايات القرن الماضي وقبل ذلك سيطرت الصين لقرون على هذا البلد، كما لم ينس الكوريون سنوات الإحتلال الياباني وما تلتها من عمليات إبادة وإسترقاق لا تزال تحتفظ بها ذاكرة الكوريين والعالم. فالدخول في عزلة ذاتية ومحاولة قطع التواصل الثقافي والإجتماعي مع العالم الخارجي هو نتيجة لتراكمات من التجارب المريرة التي عاشتها الأمة الكورية.
إختيار الإنعزال عن المحيط العدائي ليس إبتكارا كوريا فقد سبقتهم اليابان التي إختارت الإنغلاق التام حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر تاريخ إعتلاء الإمبراطور ميجي العرش، كانت اليابان قبل قدومه بلدا شديد الإنغلاق يحكم بالسجن أو بالإعدام على كل مواطن يطلع على ثقافات العالم الآخر بالسفر أو حتى بمطالعة الكتب أو الخرائط، ثم تغيرت هذه السياسة بتطبيق ما أصطلح على تسميته اليوم بإصلاحات ميجي لتنفتح اليابان على العالم بحذر إلى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية. الصين بدورها إختارت الإنعزال لقرون طويلة بعد أن كانت لها تجارب إستطلاعية في إفريقيا وآسيا قبل القرن الرابع عشر، ويبدو أن الكوريين قد تشربوا بالفكر الصيني الذي إستلهم أفكاره بدوره من المبادئ الكونفوشيوسية التي تنظم العلاقة العمودية بين الحاكم والرعية.
العزلة الكورية اليوم تعود في بعض أسبابها لتاريخ الصراعات في المنطقة وتعود أيضا لنتائج الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان وألمانيا على يد الحلفاء، فمع دخول الجيشين الأمريكي والأحمر لشبه الجزيرة الكورية ولتجنب الصدام بينهما تم تقسيم البلد حسب خط العرض 38 ليكون الجزء الجنوبي تابعا للأمريكان والشمالي تحت الحكم غير المباشر للروس، ومع إندلاع الحرب الكورية بين الأشقاء أمطر الأمريكان الجزء الشمالي بأطنان من الأسلحة لتجبره على العودة إلى خط العرض 38 ولتبقي على حالة الإنقسام بين شطري شبه الجزيرة. يمكن القول بإختصار أن السوفيات والصينيين من جهة والغرب بقيادة الأمريكان من جهة أخرى قد إقتتلوا في ما بينهم لكن بإستعمال الجندي الكوري فكانت نتيجة تلك الحرب بالوكالة مزيدا من التقوقع للجزء الشمالي الراغب في تحدي النفوذ الأمريكي مقابل خراب شبه كامل في الجزء الجنوبي إلى حدود سنة 61 تاريخ وصول الجنرال باك تشونغ هي إلى السلطة وإنتهاجه سياسة التصنيع للتصدير أي تحويل البلد إلى خلية نحل لا تكاد تنام تقوم بتصدير جل ما تنتجه من مواد وتكنولوجيا على أن لا تتعارض هذه الصناعات مع ما تريده أمريكا أي أن يبقي البلد في حالة تبعية عسكرية وأمنية للغرب.
إختار الجنوب الإنفتاح لينال حرية التصدير وإمكانية تحسين دخل الفرد مقابل البقاء داخل بيت الطاعة الأمريكي ضعيفا بحاجة دائمة إلى من يحميه وإختار الشمال السعي لنيل القوة العسكرية إيمانا منه بأنها طريق التحرر الوحيدة في وسط ينظر إلى الكوريين كفريسة يجب إلتهامها. هكذا كانت كوريا الشمالية إلى أن طفت على السطح تسريبات عن مفاوضات سرية بين كيم جونق أون وبين ترامب قد تفضي إلى لقاء قريب بينهما.
منذ أشهر قليلة كان كل من ترامب وكيم يهدد بالضغط على زر أسلحة الدمار الشامل ويتوعد الآخر بجحيم ليس له آخر حتى إعتقدنا جميعا أن الحرب بين القوتين واقع لا مناص منه، ومع تشديد العقوبات الجائرة على كوريا وإنخراط كل دول العالم تقريبا في فرض الحصار على هذا البلد زاد الإعتقاد بأن الحرب قد تكون بدأت بالفعل وإن كان أزيز الرصاص لم يدو بعد، وسارع الأردن ومصر وهما من حلفاء بيونغ يانغ بالأمس القريب إلى خفض العلاقات معها تملقا لسيد البيت الأبيض وإعتذارا لما بدر منهما من بوادر العصيان إبان إعلان نيته نقل سفارة بلاده في الأراضي المحتلة من سواحل يافا المغتصبة إلى القدس الشريف. وفي اللحظة التي إعتقد العالم أنه يقف على شفى حرب نووية تسارعت الأحداث التي توحي بأن طريقا طويلة من المفاوضات كانت تجري في الغرف المظلمة بين واشنطن وبيونغ يانغ وربما لعبت فيها الصين وروسيا دورا بارزا.
بداية خفض التوتر لاحت مع زيارة شقيقة الزعيم الكوري للجار الجنوبي إبان الألعاب الأولمبية الشتوية والحفاوة البالغة التي إستقبلها بها زعيم كوريا الجنوبية، ثم مع التصريحات المفاجئة لكيم جونق حول رغبته في خفض السلاح النووي في شبه الجزيرة ويبدو أن مشاركة بيونغ يانغ في ألعاب سيول كانت غطاء لمفاوضات سياسية تبدو ظاهريا بين أبناء الوطن الكوري الممزق لكنها في جوهرها بين ترامب ممثلا بنظام كوريا الجنوبية وبين غريمه كيم. ورغم ما قد يبدو من تغير في لهجة كيم إلا أننا نعتقد أنه ليس مستعدا لتكرار مأساة العراق وليبيا في بلاده وهو الذي سبق وأكد منذ سنوات قليلة أن حرب العراق وليبيا ما كانت لتحصل لولا تخلي البلدين عن برامجهما للتسلح النوعي.
ترامب يسعى من خلال سياسة الجزرة لنيل ما لم ينله أسلافه بإتباع سياسة العصى في التعامل مع سلالة كيم، وقبول الزعيم الكوري التفاوض وإمكانية اللقاء مع ترامب توحي بأن كوريا ربما تكون مستعدة لتغيير سياساتها بما يمكنها من تخفيف حدة الحصار الخانق، والورقة الكورية الوحيدة في هذه المفاوضات هي التوقف عن التجارب النووية مقابل كسر ربقة الحصار الذي إنخرطت في تطبيقه المجموعة الدولية رغم أن بعض هذه الأمم المنخرطة في سياسة العم سام لا ناقة لها ولا جمل في الحرب الكورية وبعضها الآخر أي نحن العرب كانت له كوريا الشمالية عونا في حروبه مع العدو الصهيوني أيام الكفاح المسلح.
ترامب يرى في توقف التجارب النووية في كوريا إنجازا لكنه لم يقدم لكيم ثمن هذه الخطوة ونعتقد أننا أمام إحتمالين إما مفاوضات على شاكلة الإتفاق النووي الإيراني تقنن دخول كوريا الشمالية النادي النووي وتخفض من حدة الحصار المفروض حولها مقابل تعهدها بفتح صندوقها الأسود أمام البعثات الأممية وإما عودة إلى الوراء وإعلان فشل هذه المفاوضات بسبب تمسك كوريا بخيار القوة والتسلح ونعتقد أن الإحتمال الثاني قد يكون الأقرب فالروس وهم اللاعب الأبرز في هذه المفاوضات لن يسمحوا لأمريكا بالتمدد أكثر في شبه الجزيرة الكورية وسيحرصون على بقاء كوريا خارج دائرة النفوذ الأمريكي لتكون ورقة ضغط على كل ساكن جديد للبيت الأبيض.
الخيار العربي أي التخلي عن الأسلحة لا نراه ممكنا في الحالة الكروية لأسباب عدة أولها أن العراق وهو صاحب التجربة العربية الأعظم قد أجبر على التخلي عن برامجه بسبب الحصار الخانق الذي فرضه العالم ومشاركة كل جيران العراق فيه وهو ما لا يحدث اليوم في كوريا التي تستمد من الصين وروسيا شريان حياتها وصمودها، فكوريا تبدو أوفر حظا من العراق الذي إبتلته الجغرافيا بجيرة سوء.
كوريا اليوم دولة صغيرة المساحة فرضت نفسها كواحد من أبرز اللاعبين في الساحة الدولية بسبب سياسات التحدي والصمود ولا عزاء لدول الصحراء والنفط والأربع مائة مليون ساكن وال14 مليون كلم مربع