نمو الاقتصادات الغربية والتوتر الجيوسياسي
حميدي العبدالله
كانت دائماً ثمة علاقة بين التوترات الجيوسياسية ونمو الاقتصادات الغربية. بداية كان الازدهار الاقتصادي في أكبر إمبراطوريتين عالميتين في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من نصيب بريطانيا وفرنسا، وكان هذا الازدهار بفضل الفتوحات الاستعمارية لهذين البلدين اللذين سيطرا على معظم القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا والأميركيتين، واستوليا على مواردها الأولية وثرواتها، وحولا دولها وشعوبها إلى أسواق لتصريف منتجات المصانع البريطانية والفرنسية. لكن نهوض مقاومة الشعوب في هذه البلدان على امتداد النصف الأول من القرن العشرين لعب دوراً حاسماً في تقهقر أداء الاقتصاد في هذين البلدين، حيث تقلص إجمالي ناتجهما القومي وتراجع كثيراً، وتحولتا من إمبراطوريات عظمى إلى دول عادية، وكان لنهوض مقاومة شعوب الدول التي استعمرها البريطانيون والفرنسيون ، وما نجم عنها من توتر جيوسياسي الأثر الأعظم في تراجع معدلات النمو الاقتصادي في هاتين الدولتين، وتراجع حصتهما من إجمالي الناتج العام الدولي.
الولايات المتحدة التي كانت بعيدة نسبياً عن مثل هذه التوترات الجيوسياسية في النصف الأول من القرن العشرين، استفادت من هذه التوترات وازدهر اقتصادها وحقق معدلات نمو كبيرة، وتربعت على العرش وباتت الدولة التي كان اقتصادها حتى عام 1960 يحوز على نسبة 60% من إجمالي الناتج العالمي، أي أن اقتصاد الولايات المتحدة وحدها كان يفوق كل اقتصادات العالم، بما في ذلك الدول الصناعية الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا وحتى ألمانيا واليابان .
لكن الولايات المتحدة، شأنها شأن الإمبراطورتين الفرنسية والبريطانية، تورطت في السياسات الاستعمارية ودخلت جولة أولى من التوتر الجيوالسياسي ابتداءً منذ مطلع عقد الستينات في جنوب شرق آسيا، وكان أكبر تورط في حروب قادت إلى توترات جيوسياسية شملت جنوب شرق آسيا بأكمله واستمرت الحرب حوالي عقد ونصف، وتسبب ذلك في إطلاق مسيرة التقهقر الاقتصادي الأميركي، حيث تراجعت حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي، وخسر الدولار حتى عام 1970 أكثر من 60% من قيمته، ويمكن الاستنتاج بكل وضوح أن التوتر الجيوسياسي الناجم عن نزعة الهيمنة الأميركية وخوض الحروب الاستعمارية، كان لـه الدور والأثر الكبير في تراجع معدلات النمو، وتقهقر الاقتصاد الأميركي وتقلص مساهمة الاقتصاد الأميركي من إجمالي الناتج الدولي بنسبة مئة بالمئة حتى ذلك الوقت.
عاد الاقتصاد الأميركي إلى النمو، ومعه الاقتصادات الغربية، وحتى معظم الاقتصادات العالمية في عقد التسعينات من القرن الماضي، وكان من بين أسباب معدلات النمو المرتفعة التراجع النسبي في التوتر الجيوسياسي الذي تشكل الولايات المتحدة الطرف الرئيسي فيه. لكن مع وصول المحافظين الجدد إلى الحكم ومحاولة إحياء السياسات الاستعمارية، وعودة التوتر الجيوسياسي إلى مناطق عديدة من العالمي بعد غزو أفغانستان والعراق، والحروب التي أشعلت فتيلها الولايات المتحدة بعد عام 2011 في مناطق عديدة في الشرق الأوسط، تراجعت معدلات النمو تحت تأثير هذه العوامل في جميع الاقتصادات الغربية، وبدأت الولايات المتحدة تسجل انحداراً في مكانة اقتصادها تشبه الانحدار الذي شهدته بريطانيا وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبات الاقتصاد الأميركي الآن لا يتجاوز (20) تريليون دولار وهو ما يوازي ثلث الاقتصاد العالمي فقط، بعد أن كان حجمه يوازي ثلثي الاقتصاد العالمي حتى عام 1960.
لا شك أن هناك علاقة واضحة بين ازدهار الاقتصاد وغياب التوتر الجيوسياسي، لكن لا يبدو أن الحكومات ذات العقلية الاستعمارية في الغرب قادرة على إدراك هذه الحقيقة التي باتت درساً من دروس التاريخ غير القابلة للدحض أو التشكيك.