مصطلحات الفشل
د.نسيم الخوري
إنّ الهدف من هذه الدراسة، هو تسليط الضوء على مفهوم الدولة الفاشلة لكثرة تداوله في الوقت الحاضر من قبل سياسيين وإعلاميين ومحللين ومفكّرين وغيرهم، ولمعرفة الغاية الحقيقية من وراء تصنيف الدول الضعيفة والمغلوبة على أمرها بالفاشلة، إذ يُعتمد في التصنيف على مؤشّرات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعية وعسكرية. من هنا، تكمن أهمية هذه الدراسة في إبراز إشكالية مفهوم الدولة الفاشلة ومعالجتها عبر استهداف الرأي العام العربي للتأثير فيه، وفي حاجة مختلف المؤسّسات الرسمية في الدولة اللبنانية، العسكرية والأمنية منها وغيرها، إلى معرفة خلفيّات استخدام مصطلح الدولة الفاشلة ومجالات تأثيره، وذلك لمواجهة العمليات النفسية وحروب المعلومات التي تقوم بها جهات مختلفة، وعلى وجه الخصوص العدو الإسرائيلي، ومن يقف خلفه ويدعمه من خلال تقارير مراكز الدراسات ووسائل الإعلام العالمية.
لذلك، تعالج هذه الدراسة مفهوم الدولة الفاشلة ومسبّباته التاريخية، وتباين هذا المفهوم مع المعيار المتّبع في تصنيف الدول وفي تسويقه لغايات وأهداف سياسيّة وعسكرية، بغرض زعزعة استقرار الدول المسمّاة فاشلة وتفتيتها أو تجزئتها، بحيث تمّ تناول الموضوع في مقدّمة وقسمين متوازنين ومتكاملين بالإضافة إلى خاتمة، وفق ما يأتي:
يستخدم مصطلح الدولة الفاشلة من قبل مختلف وسائل الإعلام في العالم، بوتيرة أسرع من السابق، إذ استحضر بقوّة خلال فترة ما سمّي بالربيع العربي ولا يزال، وتمّ إطلاق هذه التسمية من قبل دول وهيئات ومؤسّسات حكومية وغير حكومية، على دول عربية وغير عربية، بهدف التأثير في أوضاع هذه الدول من دون استعمال القوّة العسكرية، وذلك في إطار ما سمّي بالجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة.
يكتنف تعبير "الدولة الفاشلة" الغموض، إذ يؤخذ على هذا المفهوم بأنّه غير دقيق ويحتمل عددًا كبيرًا من التأويلات والتساؤلات، كما أعطي مجالًا أوسع ليشمل دولًا كثيرة، الضعيفة منها وغير الضعيفة، وذلك لأسباب عديدة، يرتبط بعضها بالوضع الداخلي للدولة الموصومة بالفشل على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية، وبعضها الآخر بمصالح الدول الفاعلة ومخطّطاتها الآيلة إلى إعادة ترسيم مناطق النفوذ وإخضاع دول لغايات سياسية. بالإضافة إلى ذلك، دفع التطور الحاصل في وسائل الاتصال والتكنولوجيا، إلى استخدام تعبير الدولة الفاشلة للتأثير سلبًا في الرأي العام الدولي والإقليمي والمحلي، لناحية نظرة هذا الرأي الدونيّة إلى الدولة المسمّاة فاشلة، واعتبارها غير مؤهلة لتكون جزءًا من المنظومة الدولية، وبالتالي زعزعة ثقة الدول والمؤسّسات والأشخاص بالتعامل معها في مجالات شتّى.
أمّا النظام الدولي الجديد، ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين، فسيكون أخطر بكثير من النظام الدولي الذي سبقه في القرن العشرين، وإذا كان هذا الأخير قد نجح في تجزئة القوميات في العالم، وتكوين الدول والكيانات السياسية في آسيا وإفريقيا وشرق أوروبا وأميركا الجنوبية على أساس وطني أو إقليمي، فإنّ النظام الدولي الحالي سيعمل على اختراق تلك القوميات، وسيقوم بتفتيت بعض الدول والكيانات، بحيث لن تقارن النتائج التي أسفر عنها مؤتمر الصلح في باريس في العام 1919، بما سيحدثه هذا النظام من عمليات اختراق وافتعال أزمات وولادة دويلات في ظل سيادة تحالفات وتحكّم قوى جديدة.
القسم الأوّل، وعنوانه "مفهوم الدولة الفاشلة".
القسم الثاني، وعنوانه "معيار استخدام مصطلح الدولة الفاشلة وتداعياته".
القسم الأوّل: مفهوم الدولة الفاشلة
أوّلًا: نشأة الدولة
شكّلت ظاهرة الدولة محور نظريات عديدة، سعت إلى تفسيرها وإدراك جوهرها والتكهّن بمستقبلها. وقد كان للتجارب البشرية عبر العصور، الدور الأساس في نشأة الدولة الحديثة التي ظهرت في أوروبا مع مطلع عصر النهضة، بعد أن أخذ المجتمع السياسي في الغرب خصائص التجارب السابقة التي ميّزته بوضوح عن سائر أشكال المجتمعات.
المفكّر الفرنسي جان بودان، لم يضع نظرية واضحة حول الغاية من الدولة، إلّا أنّه أرجع نشأتها إلى العائلة التي اعتبرها الخليّة السياسية الأولى، وهذا يظهر في تعريفه للدولة بما يلي: "إنّ الجمهورية هي الحكم المستقيم لعدّة أسر ولما هو مشترك لديها، شرط أن تتوافر لها قوّة سيّدة، والجمهورية هنا لا يعني بها شكل نظام الحكم المقابل للنظام الملكي، وإنّما الجماعة السياسية أي الدولة. وعرّف بودان السيادة بأنّها السلطة العليا التي يخضع لها المواطنون والرعايا، ولا يحدّ منها القانون، وأنّ السلطة ذات السيادة هي التي تميّز الدولة عن سائر التجمّعات الأخرى فيها"[1].
ويرى المفكّر الألماني ألتوسيوس، "أنّ الدولة لا تنشأ عن عقد مبرم مباشرة بين عدد غفير من الأفراد، وإنّما عن عقدٍ أطرافه المقاطعات أو المجتمعات المحلّية، وأنّ الدولة كتتويج للهرم، تبدو وكأنّها اتحاد بين الأقاليم والمدن المستقلّة. ولكن ألتوسيوس يلحّ على وحدتها القومية، ويصف الدولة بأنّها ليست درجة تضاف إلى الدرجات السابقة، بل إنّها المجموعة التكافلية الكاملة المستغنية أي المستكفية بذاتها"[2]. ويركّز ألتوسيوس على أهمية هذه الخصوصية لكي يصل منها إلى السيادة التي تكمن بالضرورة في الشعب باعتباره هيئة جماعية، ويرفض أن تكمن في رئيس الدولة. فكانت نظريته في السيادة أوضح بيان ظهر حتى ذلك الحين لسيادة الشعب، وأشد وضوحًا من نظرية بودان التي لم تفرّق بين السيادة والحاكم ذي السيادة أو الملك.
أمّا المفكّر الهولندي غروسيوس، فقد اعتبر أنّ الدولة هي بمنزلة اتحاد كامل بين رجال أحرار بغية التمتّع بحماية القانون، والعمل على نشر الرخاء العام[3]، ويرى أنّ الدولة في نشأتها الأولى تستند إلى أنّ الإنسان حيوان اجتماعي بطبيعته، وهذه الغريزة تدفعه بهدف المصلحة المشتركة إلى التآلف مع الآخرين. وبعد تعريفه للسيادة بأنّها سلطة لا تخضع إلى الرقابة القانونية من جانب شخص آخر، فرّق بين مالك عام للسلطة هو الدولة، ومالك خاص قد يكون شخصًا أو عدة أشخاص حسب دستور كلّ دولة. فالسيادة قد تكون للجسم أو الكيان السياسي، أي إلى الدولة كما عند ألتوسيوس.
واعتبر المفكّر الإصلاحي الإنكليزي جيرمي بنتام، أنّ ما يميّز الدولة عن سائر النظم الموجودة في المجتمع كنظام الأسرة مثلًا، هو أنّها مصدر القانون، وأساس وجودها عنده هو أنّها تضع القوانين بقصد الوصول بالمجتمع الى السعادة[4]. كما أعطى بنتام للدولة اختصاصات كبيرة، فهي ذات سلطان واسع كونها مصدر الحقوق، إذ إنّ الفرد لا يستطيع أن يحتجّ أمامها بالقانون الطبيعي ولا بالحقوق الطبيعية، فالدولة هي المتصرّفة.
ويقول الفيلسوف الألماني جون فريدريك هيغل، إنّ الجمهورية ليست أنظمة كاملة للحكم، سواء كانت شعبية أو أرستقراطية، وإنّ شخصية الدول لا تكون فعلية إلّا من حيث كونها شخص[5]. وهذا لا يعني أنّ الملك يستطيع أن يتصرف على هواه، بل إنّه بالعكس، مقيّد بمضمون المداولات التي يجريها مع من نصّ الدستور. وتتركّز الدولة في سلطة الملك أو الحاكم الذي له وضع مستقل عن مصالح الأفراد، وتتمثّل في ذاته وفي شخصه إرادة الدولة، فإنّه يحمل رسالة العالم التاريخية ويعبّر عن إرادة الروح. أمّا بالنسبة إلى السيادة، فيعتبرها كامنة في الدولة على أساس أنّها شخص قانوني، وعلى أنّ السيادة يجب أن تمارس عن طريق شخص حقيقي، وبما أنّ الدولة شخص معنوي، فإنّ الملك هو الذي تتمثّل فيه شخصية الدولة، والسيادة تعود إليه.
ثانيًا: مقوّمات الدولة
تعتبر كلمة دولة حديثة الاستعمال نسبيًا، إذ لم تعرف في أوروبا إلّا مع عصر النهضة، بحيث استخدمت منذ القرن السابع عشر للدلالة على الكيان الذي يشكل إطارًا وركيزةً للسلطة السياسية في آنٍ معًا، وقديمًا عبّر الإغريق عن المدينة الدولة بكلمة Polis، كما عبّر الرومان عن الجمهورية بكلمة Civitas أو Respublica. وقد ظهر المفهوم الحديث للدولة نتيجة تطوّر مفهوم السلطة، وتحوّلها من سلطة مغفّلة إلى سلطة مجسّدة فسلطة مؤسّسة، بحيث نشأت الأخيرة في سياق تطور تاريخي وحضاري للمجتمعات البشريّة، والتركيز على الوجه التاريخي للدولة هو أساسي، لأنّه سبقت نشوءها أنواع أخرى من التنظيمات السياسية والقبلية، والحواضر، والإمبراطوريات القديمة والأنظمة الإقطاعية.
إنَّ تعريف الدولة بأنّها التجسيد القانوني لأمة ذات سيادة، يُبرز فكرة الشخصية المعنويّة أو القانونية التي تتمتّع بها، وللدولة خصوصية تمتاز بها عن سائر الوحدات السياسية (القبيلة، الحاضرة...إلخ)، فهي كيان سياسيّ وحقوقيّ، مادتها الحقيقية الشعب وخاصيتها الأساسية السيادة. وتنشأ الدولة على المستوى الحقوقي، عندما تجتمع ثلاثة عناصر هي الإقليم والشعب والسلطة السياسية ذات السيادة، إذ إنّ وجود هذه العناصر مجتمعة ضروري وكافٍ لوجود الدولة[6]. فالشعور بالانتماء إلى وطنٍ ما، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأرض، حيث لا يمكن تصوّر وطن أو دولة من دون أرض أو إقليم يقومان عليهما، بحيث يشكّل الإقليم الإطار الجغرافي لممارسة الدولة سلطتها السياسية والحكام وظائفهم، وهو العنصر الأكثر ثباتًا، إذ إنّ كلّ شيء قابل للتغيير، باستثناء الأرض التي هي الرمز والحامي لفكرة الوطن. كما أنّ وجود جماعة بشريّة في بقعة جغرافية واحدة، يؤدي عمومًا إلى تقوية الروابط في ما بينها، بسبب تداخل المصالح الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعية. وبالتالي، تفترض الدولة وجود شعب على هذا الإقليم، فأرض لا يعيش عليها شعب لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تكون دولة مهما اتسعت مساحتها.
السلطة ذات السيادة، هي العنصر الثالث المكوّن للدولة، والتي تكفل للسلطة السياسية ممارسة دورها ضمن حدود الإقليم لتحافظ على النظام العام، بعيدًا من التدخلات الخارجية، إذ لا يمكن لأيِّ دولة أو منظمة دولية أن تفرض إرادتها على سلطة دولة ذات سيادة[7]. وسنرى في سياق هذه الدراسة كيف أنّ الإقليم والسيادة يمثّلان العاملين المركزيين في تحديد الدولة الفاشلة من عدمها.
فالسيادة استخدمت تقليديًا للإشارة إلى مجموعة الوظائف التي تمارسها الدولة في بداية الأمر، وكانت العبارة تؤشّر إلى سيادة الأمير على رعاياه، وهي عبارة لها علاقات بالسلطات في داخل الدولة الواحدة، ولاحقًا أصبحت مستعملة لوصف كل من السلطات الداخلية وبعض العلاقات الخارجية، غير أنّ المظاهر الخارجية لم تصبح مهمّة إلّا بعد بروز الدول الأمم في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وبعد تلك الحقبة أصبح هناك عدة دول في أوروبا، وبات من الضروري دراسة العلاقة بين الدول والملوك[8]. ثمّ تبلور العديد من الأحداث تدريجيًّا بسبب نشوء الكثير من الدول الجديدة، فاستخدم هذا المفهوم لتغطية ثلاثة حقوق مهمّة للدولة في ظلِّ القانون الدولي: حق المساواة وحق الاستقلال وحق تقرير المصير. أولى هذه المسائل له علاقة بالعلاقات الخارجية للدولة، في حين أنّ حق الاستقلال له علاقة بالمظاهر الخارجية وبسلطة الدولة على أراضيها. وبعبارة أخرى، "إنّ السيادة في العلاقات بين الدول تعني الاستقلال في ما يتعلّق بجزء من الكرة الأرضية، والذي هو الحق في ممارسة وظائف الدولة باستثناء بعض الدول ذات الطبيعة المختلفة[9]. ويبدو أنّه ثمة علاقة سببية بين مفهوم المساواة وحق الاستقلال، كون جميع الدول متساوية في ظل القانون الدولي وتتمتع بحقوق الاستقلال.
ثالثًا: ولادة مصطلح الدولة الفاشلة وأسبابه
بدأ الاهتمام بمفهوم الدولة الفاشلة من قبل أكاديميّي السياسة وصانعيها منذ بداية الثمانينيّات، إلّا أنّ الترويج السياسي له ظهر في أوائل التسعينيّات في خطاب مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة، في سياق حشد الجهود الدولية لمساعدة الصومال وإنقاذها. وتلى ذلك ترويج للمفهوم من خلال استخدام المصطلح على يد كلّ من جيرالد هيلز وستيفن راتنر[10]، من خلال دراسة نُشرت لهما في العام 1993 في مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy، الصادرة في الولايات المتحدة الأميركية، ثمّ الدراسة التي أعدّها ويليام زارتمان[11] عن الدولة المنهارة في العام 1995. ولكن لم تحظ مخاطر الدول الفاشلة على السلم والأمن الدوليين بالاهتمام الكافي من قبل دول العالم، إلّا في بداية القرن الحالي. وبهذا، كانت أميركا من أوائل الدول الغربية التي اهتمّت بهذا المصطلح أكاديميًا، ثم سياسيًا وأمنيًا وتنمويًا، ما كان له الأثر البالغ في بلورة المصطلح إلى الشكل الذي وصل إليه الآن. وكان هناك مسمّيات ومصطلحات مشابهة للدولة الفاشلة، وهي: شبيهة الدولة، الدولة المنهارة، الدولة الهشّة، الدولة الرخوة، الدولة المائلة إلى الفشل، الدولة المعرّضة للخطر، الدولة المأزومة والدولة الضعيفة، ما أدى الى التداخل بين هذه المفاهيم التي تصف الظاهرة نفسها[12].
وكان يُنظر إلى الدول الفاشلة خلال حقبة الحرب الباردة، على أنّها جزء من الصراع بين القوّتين العظميين آنذاك، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وفي تسعينيّات القرن الماضي، بدأت الدول المسمّاة فاشلة تحظى باهتمام أكبر من قبل الدول الكبرى، لأسباب إنسانية ناتجة من تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان. وكانت منظّمات حقوق الإنسان في الدول الكبرى هي المحرك الأساس في هذا الاتجاه، بحيث مارست هذه المنظّمات في حينه ضغوطًا شديدةً على حكوماتها، ما أدّى إلى تدخل الدول الكبرى عسكريًا في بعض الدول، كالصومال وهاييتي والبوسنة والهرسك. ولكن ثمة فارق كبير بين فشل الدولة وانهيارها الناتجين من اندلاع الصراعات الداخلية والإقليمية، وهو ما يمكن اعتباره الحالة الكلاسيكية للفشل، وبين الدول التي فشلت وظيفيًا نتيجة إخفاقات متتابعة في أداء مؤسّساتها وسياسة حكوماتها في ظل تنامي متطلّبات شعبها بما يفوق مواردها وقدراتها القائمة، الأمر الذي يحتّم في مرحلة معينة انهيار هذا النظام واستبداله بآخر أكثر فعالية ووظيفيّة.
أمّا الاهتمام العالمي بمخاطر الدول الفاشلة، فقد بدأ يزداد بعد أحداث 11 أيلول من العام 2001، حيث اعتبرت هذه الدول منطلقًا لتصدير المخاطر(الإرهاب الدولي، تجارة المخدرات، الأسلحة غير الشرعية، اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، ...إلخ) إلى دول العالم الأخرى، بما فيها الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، فأُعطي مفهوم الدولة الفاشلة مجالًا أوسع ليضمّ دولًا كالعراق، وذلك تحت شعار "الحرب على الإرهاب". ويتّضح من السياق الزمني لظهور المفهوم، ارتباطه بالتغيّر الحاصل في هيكليّة النظام الدولي، ما يثير في الذهن حملات تقسيم العالم لمصلحة القوى الكبرى إبّان الأحداث العالمية التي تعيد تشكيل موازين القوى، ما يستلزم التعامل مع المفهوم بحيطة وحذر، نظرًا للتسييس الشديد له من قبل جهات مختلفة.
رابعًا: ثغرات المفهوم وغموضه
قدَّم عدد من الباحثين العديد من التفسيرات لمصطلح "الدولة الفاشلة"، نتيجة صعوبة ضبط مفاهيمه، فيما تبنّى تقرير "مؤشّر الدول الفاشلة" الصادر عن مجلة "السياسة الخارجية" و"مؤسّسة صندوق السلام" تعريفًا هو الأكثر استخدامًا، إذ تضمّن سمات الدول الفاشلة ومؤشّراتها، وهو فقدان الحكومة المركزية سيطرتها على إقليم أو أقاليم من أراضيها، أو فقدان الدولة حقها السيادي في احتكار قوّتها بشكل شرعي، ما يعرّضها للاضطرابات وحركات العصيان المدني، فتصبح الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات المجتمعية.
تصبح الدولة فاشلة عندما تكون سيادتها مقيّدة بسبب تعرضها لعقوبات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، أو وجود قوات أجنبية على أراضيها. ويمكن التعرف إلى بعض خصائص هذا المفهوم، ومنها عدم قدرة الدولة أو رغبتها في حماية المواطنين واعتبار نفسها فوق القانون المحلي أو الدولي، فتمارس العنف وترتكب العدوان، أو تعاني عجزًا ديمقراطيًا يجرِّد مؤسّساتها الحكومية من جوهرها الحقيقي. ومن خلال هذه السمات والخصائص، يصبح من السهل جدًا اتهام الدول بالفشل من دون وجود وقائع أو حقائق تدلّ على الفشل، وهنا يكمن الالتباس والافتقار إلى الدقة في المفهوم.
لذلك، لم يكن مصطلح أو تعبير الدولة الفاشلة وليد المصادفة، إنما تمّت دراسته بعناية ودقة متناهيتين من قبل جهات سياسية دولية، رسمية وغير رسمية، بحيث أدّت الآلة الإعلامية الأخطبوطية في الغرب ولا تزال، الدور المحوري في تسويق هذا المصطلح الذي يرافق السلوك العام لهذه الجهات، والمتمثل بالجهود السياسية والديبلوماسية والإعلامية، وبالعمليات العسكرية والأمنية والثقافية والنفسية. بالإضافة إلى ذلك، ثمَّة مشكلات تكتنف تعبير الدولة الفاشلة إلى حدّ الإحباط، مثله مثل تعبيري "الدولة الإرهابية" و"الدولة المارقة"[13]. فالدولة الإرهابية، هي عندما ترعى الحكومات الإرهاب أو تقدّم الدعم له، ضد مواطنيها أو ضد مجموعات أو حكومات أجنبية. أمّا الدولة المارقة، فهو مصطلح سياسي يطبّق على دول لا تعدّ نفسها مقيّدة بالأعراف الدوليّة، أو أنّها تشكّل تهديدًا لجيرانها أو العالم، أو أنّها دولة خارجة على القانون[14].
وقد عالج بعض المفكّرين إشكاليات مصطلحي "الدول الفاشلة" و"الدول المارقة" وغيرها من المصطلحات، أمثال الفيلسوف والمؤرخ الأميركي نعوم تشومسكي، أستاذ الفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية، لناحية أنّ تعريفه غير متماسك، ويخدم سياسات دول تسعى إلى التدخل في شؤون دول أخرى. فالدول تفشل في معظم الأحيان من جرّاء أسباب خارجية وليست داخلية، وذلك عن طريق إذكاء الصراعات الإثنية أو الطائفية أو المذهبية أو غيرها، كما هو حاصل في الوقت الحاضر في منطقتنا العربية. وبهذا، يتمّ إضعاف أنظمة الحكم في هذه الدول لسلب إرادتها السيادية، ليسهل التدخل في شؤونها وفرض الشروط عبر الإكراه، وبالتالي إعلانها دولًا فاشلة، وهنا تكمن الاستنسابية الكبرى في تصنيف الدول الفاشلة، إذ تختلف في كل حالة نقطة خرق أو أكثر، يتم النفاذ منها لوصف الدولة بالفشل، وهنا أيضًا تبرز الأهداف غير البريئة وتتوضّح.
وبناءً على ذلك، الدولة التي لا تستطيع القيام بوظائفها الأساسية ولا تستطيع الوفاء باحتياجات أفراد شعبها الأساسية بشكل مستمر، ما يؤدي على المدى الطويل إلى حالة من عدم الاستقرار، لا يمكن الحكم على فشلها بمعزل عن محيطها الإقليمي ومستجدات النظام الدولي وقضاياه، بحيث تدلّ عليها مؤشّرات سياسية وأمنيّة واجتماعية واقتصادية وثقافية ومجتمعيّة...إلخ. وتتعاظم عوامل الفشل، إمّا بسبب انخراط الدولة في صراع لفترات طويلة، أو لقصور بنيوي في مؤسّساتها لظروف تاريخية وجغرافية وديموغرافية...إلخ، أو لمواجهة أزمة حادة ومفاجئة.
خامسًا: آلية تصنيف الدول الفاشلة والمعايير المعتمدة
أصدر صندوق السلام العالمي[15] في العام2005، بالتعاون مع مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy، أوّل مؤشّر سنوي حول الدول الفاشلة، ضمَّ 76 دولة بينها 13 دولة عربية. وفي العام 2006، صدر المؤشّر الثاني ليضمّ 146 دولة، بينها 16 دولة عربية، وفي العام 2007, صدر المؤشّر الثالث ليشمل 177 دولة، من بينها 20 بلدًا عربيًا. أمّا الهدف المعلن من إصدار المؤشّرات، فهو إثارة النقاش حول تطوير الأفكار المساعدة للاستراتيجيات الهادفة إلى تحقيق السلام الدولي[16].
1- رغم تعدّد التعاريف المستخدمة للدولة الفاشلة، هناك معايير معتمدة يجب توافرها لتصنيف الدول الفاشلة، ومنها ما يأتي:
- عدم قدرة الحكومة المركزية في الدولة على فرض سلطتها على ترابها الوطني.
- عدم قدرة الحكومة المركزية على تأمين حدودها من الاختراقات الخارجية سواء حدودها البرّية أم مياهها الإقليمية أم مجالها الجوّي.
- عدم تمتّع الدولة بالشرعية اللازمة للحكم وانعدام تداول السلطة فيها، وتفشّي الفساد الإداري في أجهزتها ومؤسّساتها، بالإضافة إلى غياب النظم القانونية أو ضعفها.
- الانقسام المجتمعي وحدَّة الصراعات الدينية والعرقية المهدّدة لوحدتها الوطنية.
2- أمّا المؤشّرات الموجودة في الدول الفاشلة، فهي عبارة عن مؤشّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعسكرية.
- المؤشّرات الاجتماعية، وتشمل: الضغوط الديموغرافية المتزايدة، هجرة السكان أو نزوحهم في الداخل من منطقة إلى أخرى أو الحركة الكبيرة للنازحين، تنامي عدد المجموعات التي تسعى إلى الانتقام من مجموعات أخرى، المشكلات الحزبية والعرقية، الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والسرقة، وتنامي الهجرة المزمنة والطوعية بما في ذلك هجرة الأدمغة.
- المؤشّرات الاقتصادية، وتشمل: التنمية الاقتصادية غير المتكافئة ما بين المجموعات التي تنتمي إلى البلد الواحد (الإنماء غير المتوازن)، والتدهور الاقتصادي الحاد (اختلالات بنيويّة، ركود في الدورة الاقتصادية، وانهيار قيمة النقد الوطني).
- المؤشّرات السياسية، وتشمل: تراجع مساحة الشرعية في النظام السياسي القائم، فقدان الثقة بالدولة ومؤسّساتها، تراجع وظيفة الدولة لجهة تقديم الخدمات العامة، إساءة استخدام السلطة وزيادة التدخل الخارجي في شؤون الدولة الداخلية، زيادة الشقاق الحزبي، والصراعات بين النخب الحاكمة.
- المؤشّرات العسكرية، وتشمل: انتهاكات حقوق الإنسان، ضعف السلطة الأمنية، وبروز قوى أمنية غير نظامية.