ترامـب.. وتطويـر الترسانـة النوويـة
فاي فلام*واشنطن بوست من بين كل حالات خروج دونالد ترامب عن السياق التقليدي، ما من واحدة من تلك الحالات تنطوي على العواقب والتداعيات المهمة بمثل قراره بإعادة تطوير الترسانة النووية للولايات المتحدة. وبعد عقود من الاتجاه نحو نزع الأسلحة النووية، قال إن رصد مبلغ يقدّر بنحو 1.2 تريليون دولار لتطوير تلك الأسلحة لن يؤدي إلى جعل القنابل النووية أكثر قدرة على القتل فحسب، بل إن هذه الخطة سوف تترافق مع إضافة جيل جديد من الصواريخ بعيدة المدى إلى الترسانة الأمريكية
وعندما أعلن عن خطته لعصرنة الأسلحة النووية، خلال إلقاء خطابه حول «حالة الاتحاد»، كان يتحدث وكأنه على ثقة تامة من أنه سيتمكن من تنفيذها. وربما يكون على صواب طالما أن أي إنسان يمكنه أن يستنتج بأن الطرف الذي يمتلك القنابل الذرية الأضخم والأكثر فتكاً سوف يكون المنتصر، ولكن، وبما أن هذا القول كان متطابقاً مع الحقيقة المتعلقة بخوض الحروب في الماضي، فإن معظم المحللين والسياسيين الذين ينظرون إلى الأمر وفق رؤية فكرية معمقة، بمن فيهم علماء الفيزياء وخبراء مراقبة انتشار الأسلحة النووية والمخططون العسكريون، يعرفون أن العصر النووي الراهن أصبح مختلفاً تماماً.
لقد تغيرت قواعد لعبة الحرب على نحو مفاجئ منذ أواسط القرن الماضي، أي عندما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق يحتاجان لقدرة على التدمير الفوري تكفي لتدمير العالم كله. وعندما وصلت الأمور إلى هذه النقطة، أصبح العيش والأمن أقل ارتباطاً بما يمكن أن تفعله التكنولوجيا وأكثر ارتباطاً بالنواحي النفسية. وكان السبب الظاهري لسعي الولايات المتحدة لمواصلة احتفاظها بالأسلحة النووية هو منع الدول النووية الأخرى من التفكير باستخدام مخزونها منها في الحروب.
وتضمنت خطط إدارة ترامب شروحاً مفصلة وردت في نص تقرير نُشر في شهر يناير الماضي، وعُرف باسم (استعراض الوضع النووي)، والذي كان يتم نشره كل أربع سنوات منذ نهاية الحرب الباردة. وجاء في التقرير أن خبراء وزارة الدفاع «البنتاجون» يرون أن الولايات المتحدة تحتاج لبناء أسلحة جديدة حتى تتساوى في هذا التوجّه مع الجهود التي تبذلها روسيا والصين في هذا المجال. ويُذكر أيضاً أن أوباما سبق له أن وافق على برنامج عصرنة الأسلحة، إلا أن هذه الموافقة جاءت في إطار تنازله لـ«الجمهوريين» في الكونجرس مقابل موافقتهم على إقرار معاهدة مراقبة الأسلحة مع الروس.
فما التغير الذي سببه التطور الذي حققته روسيا بعد أن كانت الولايات المتحدة قادرة على إفناء الجنس البشري بطريقة كارثية لا يمكن تصوّرها؟ وكان الجواب هو أن الحاجة للمزيد من الأسلحة النووية في أمريكا تبدو شبيهة بالفكرة التي يطرحها «المحافظون» في الولايات المتحدة، وتقضي بأن أفضل طريقة لمكافحة العنف الناتج عن حمل الأسلحة الفردية تكمن بزيادة إنتاج البنادق وبيعها للناس.
وماذا لو انطلق «سباق جديد للتسلح النووي»؟، وهو السؤال الذي طرحته صحيفة «نيويورك تايمز» والذي يأتي متطابقاً مع موقف إدارة ترامب. ولقد وجهت هذا السؤال للجنرال «لي بوتلير» الذي كان يشغل في عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات منصب القائد العام للقيادة الجوية الاستراتيجية، وليتولى بعد ذلك منصب قائد القيادة الاستراتيجية للولايات المتحدة التي تتضمن أهم القوات المتخصصة بالردع النووي، حيث قال: «لقد بقيت الولايات المتحدة لعدة سنوات في طليعة الدول الساعية لمراقبة وتخفيض ترسانات الأسلحة النووية. وهي الآن بصدد التراجع عن لعب هذا الدور». وكان يشير بذلك إلى الخطة الجديدة التي أعلنها ترامب لعصرنة الترسانة النووية والتي ستشتمل على تشكيل قوى رادعة على الأرض وفي البحر والجو، وتضم أجيالاً جديدة تماماً من الأسلحة. وأضاف بوتلير: «ولا تتقاطع هذه الخطة مع توجهنا التقليدي نحو التخفيف من الأخطار النووية التي يمكن أن نتعرض لها فحسب، بل إنها ترسل رسالة واضحة تفيد بأن لهذه الأسلحة استخدامات تتجاوز مهمة الردع لتساهم في تعريضنا للتهديد. وهذه التصريحات العلنية المترافقة مع توقعات باستعراض مختلف أفرع القوى العسكرية في شوارع واشنطن تندرج ضمن الإطار المخالف للمعاني الأساسية لقيمنا الديمقراطية».
ويستعيد «بوتلير» ذكرياته العسكرية أيام الحرب الباردة من خلال مذكراته التي نشرها مؤخراً في جزأين، فيقول إن الولايات المتحدة، في إطار سعيها لاستثمار قوتها الرادعة، كان مخططوها العسكريون يركزون على ما تعتبره القيادة السوفييتية أثمن شيء يجب الحفاظ عليه وهو الإبقاء على حياة أفرادها. وكان هناك ما يبرر هذه الطريقة في التفكير لأن الولايات المتحدة كانت تخصص في ذلك الوقت 400 قنبلة ذرية لضرب موسكو وحدها، وكانت كل واحدة من تلك القنابل تفوق من حيث القوة الانفجارية تلك التي أُلقيت على مدينتي هيروشيما وناجازاكي بعدة مرات. وكان الهدف من وراء نشر هذه المعلومات هو التأكيد على أن الضربة الانتقامية الأمريكية سوف تضمن بنسبة 100% القضاء على الحكومة السوفييتية ذاتها.
ويفضل «بوتلير» التذكير بأن سياسة الردع التي انتهجتها الولايات المتحدة، كانت مجرّد تصوّر غير محسوب بدقة في صلب السياسة النووية والاستراتيجية. وقال في هذا الصدد: «تفترض فكرة الردع النووي بأنك تتمتع بفهم معمق لقدرات عدوّك، ويمكنك أن ترد الفعل تحت مختلف الظروف». ولقد فهمت من خلال استماعي لما يقوله إن الردع النووي ليس أكثر من شبكة دفاعية أمنية واهية تقوم على أسس من التخمينات والافتراضات. فإذا كان الردع بحد ذاته هو الهدف الذي ينشده ترامب من عصرنة القوات النووية الأمريكية، فسوف تتصاعد المخاوف من أن تكون سبباً في حدوث تطورات ونتائج عكسية أو تأجيج نيران الصراعات من خلال استخدام الأسلحة النووية في الحروب التقليدية. وفي مثل هذه الحالة سيعني ذلك أن إدارة ترامب تدعو إلى فكرة تبتعد عن الأسس المنطقية لدرجة تتطلب من الأمريكيين الحديث عنها والتداول بشأنها. وعلى أن الفوائد التي تنطوي عليها خطة إدارة ترامب لعصرنة الأسلحة النووية ليست واضحة المعالم. ولا يمكننا الافتراض بأي حال بأن إدارته تسلك أفضل سبيل ممكن لحمايتنا. ولهذا السبب، سنواصل طرح الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع.
*أستاذة زميلة في معهد «نايت والاش» للصحافة التابع لجامعة ميتشيجن