الناس ضد الديمقراطية؟
جان-فيرنر مويلر*
برينستون - يبدو أن نتائج الانتخابات في إيطاليا، حيث تصدر الشعبويون والأحزاب اليمينية المتطرفة صناديق الاقتراع، في أعقاب كارثة الاستفتاء لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ثم فاجعة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، سوف تُفضي بكل تأكيد إلى ترسيخ اعتقاد ليبرالي شائع مفاده أن الناس هم الذين جلبوا هذه المصائب على أنفسهم. ووفقاً لهذا الرأي، فإن "المواطنين العاديين" غير عاقلين ومضللين إلى الحد الذي يجعلهم يتخذون اختيارات مروعة. بل يذهب بعض المعلقين إلى ما هو أبعد من ذلك، فيعزون إلى المواطنين العاديين تفضيلهم الثابت لقادة معادين للديمقراطية. ويؤكد كتاب جديد أن المشكلة تكمن في وقوف الشعب ضد الديمقراطية.
لكن مثل هذه التشخيصات تبقى بعيدة كل البعد عن الصواب. فمن خلال التركيز على معتقدات المواطنين الأفراد، تغفل هذه التشخيصات الأسباب البنيوية وراء المخاطر التي تهدد الديمقراطية اليوم. ويغلب أن يؤدي ذلك إلى استنتاج الدروس العملية غير الصحيحة. فإذا كان المرء يعتقد حقاً أن الناخبين غير أكفياء أو متعصبين، فإن الخطوة الواضحة التالية هي انتزاع قسم أكبر من سلطة اتخاذ القرار من بين أيديهم. ولكن علينا، بدلاً من التقهقر إلى التكنوقراطية، أن نعكف على التصدي لمشاكل بنيوية بعينها، والتي ساعدت في تمكين الساسة الشعبويين من الانتصار.
هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن المواطنين ليسوا مطلعين بالقدر الذي تود لهم النظرية الديمقراطية أن يكونوا عليه. وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، أظهر علماء السياسة مراراً وتكراراً أن النظرة الواقعية لعامة الناس تبتعد بشدة عن صورتهم في الكتب الأكاديمية المدنية. لكن الانتخابات ليست اختباراً للمواطنة أو امتحاناً في برنامج لنيل درجة الماجستير في الإدارة العامة. فالناخبون لا يحتاجون إلى المعرفة التفصيلية والتفضيلات في ما يتصل بكل مسائل السياسة العامة؛ فالتوجهات العريضة والقدرة على استخلاص الإشارات من السلطات الموثوقة -من الساسة أو الصحفيين أو لا قدر الله، الخبراء- قد تكون كافية.
تبدأ المشكلة عندما ينظر المواطنون إلى كل قضية على أنها مسألة هوية حزبية بحتة؛ حيث تعتمد مصداقية علوم المناخ، على سبيل المثال، على ما إذا كان المرء جمهورياً أو ديمقراطياً. وتزداد الأمور سوءاً على سوء عندما تصبح الهوية الحزبية قوية إلى الحد الذي يجعل مرور أي حجة يسوقها الجانب الآخر أو تدور حول شرعيته في حكم المستحيل.
لم يُنتَخَب ترامب باعتباره مرشحا لحركة شعبية تتألف من الخاسرين الغاضبين من ذوي البشرة البيضاء نتيجة للعولمة، بل بوصفه زعيما لحزب ينتمي للمؤسسة. وقبل ترامب بزمن بعيد، بدأ هذا الحزب -ومشجعوه في وسائل الإعلام اليمينية- يشوه ويشيطن معارضيه ويقول لأتباعه فعليا إنهم لا يمكنهم أبدا اختيار "الاشتراكية على الطريقة الأوروبية" وغير ذلك من الموبقات غير الأميركية تحت أي ظرف من الظروف. وبالتالي فإن الجمهوريين الذين اعترفوا بسهولة بأن ترامب لم يكن مؤهلا لمنصب الرئيس صوتوا لصالحه على أي حال.
في الولايات المتحدة، لا يُعَد الاستقطاب انعكاساً موضوعياً لاختلافات ثقافية بعينها؛ بل كان ولو جزئياً على الأقل مشروعاً نخبوياً واعياً لتقسيم البلاد من أجل مزايا سياسية، بل وفي بعض الأحيان لتحقيق ربح شخصي. والاستقطاب في نهاية المطاف تجارة ضخمة، كما تؤكد لنا بوضوح نظرة سريعة على أرباح شخصيات رئيسية في فوكس نيوز وبرامج المقابلات الإذاعية.
يرتكب المراقبون الذين يزعمون أن أوروبا باتت مقسمة الآن بين غرب ديمقراطي ليبرالي وشرق حيث دَفَع الناخبون غير الليبراليين بحكام شعبويين إلى السلطة نفس الخطأ المتمثل في تفسير كل النتائج السياسية من منظور ثقافي. فهم أيضاً يعزون النتائج الاستبدادية إلى "رغبة حقيقية" مزعومة من قِبَل الناخبين.
ولكن ما علينا إلا أن نتذكر هنا الانتخابات الحاسمة التي جرت في المجر في العام 2010 وفي بولندا في العام 2015: فكما أشارت زميلتي كيم لين شيبيله، فعل الناخبون آنذاك ما أنبأتهم النظرية الديمقراطية بأنه التصرف الواجب عليهم بالضبط في نظام ثنائي الحزبية. ففي المجر، أفضى السجل الاقتصادي الكئيب والفساد إلى إسقاط مصداقية الحزب اليساري الرئيسي، ولهذا كان ذلك أوان التصويت لصالح الجانب الآخر. وفي بولندا، كان السجل الاقتصادي لحزب القاعدة المدنية من يمين الوسط ممتازاً، ولكن كان من المتصور على نطاق واسع أنه أصبح مزهواً بنفسه وراضياً عن ذاته بعد سنوات طويلة في السلطة.
في العام 2010، لم يخض فيكتور أوربان الانتخابات على وعد بوضع دستور جديد، وإضعاف الضوابط والتوازنات، والحد بشكل جذري من التعددية الإعلامية، بل قدم نفسه بدلاً من ذلك بوصفه مرشحاً ديمقراطياً مسيحياً مقتدراً من التيار السائد. وفي بولندا، خرج حزب القانون والعدالة عن مساره للتأكيد على شخصيته كحزب محافظ معتدل ويريد ببساطة تقديم المزيد من الفوائد للأسر التي لديها أطفال.
يتذكر كثيرون الأداء الاستقطابي الكئيب لزعيم حزب القانون والعدالة ياروسواف كاتشنسكي كرئيس للوزراء في الفترة من 2006 إلى 2007. لكن كاتشنسكي ظل بعيداً عن الأضواء، وسمح لشخص آخر بقيادة الحكومة. وهو حتى يومنا هذا عضو بسيط في مجلس النواب اسمياً فقط، وإن كان يسيطر على الإدارة من وراء الكواليس.
بمجرد وصولهم إلى السلطة، ينهمك الشعبويون من أمثال أوربان في حروب ثقافية شاملة. وباسم "توحيد الأمة"، يقسمون مجتمعاتهم، ويراهنون على قدرتهم بعد وضع أغلب وسائل الإعلام تحت سيطرتهم على التلاعب بالرأي العام بغية البقاء في السلطة.
كما هو الحال في الولايات المتحدة، لا تتمثل الحتمية الآن في إبداء الأسى إزاء نزعات الناس السلطوية، بل في التصدي للمشاكل البنيوية التي مكنت الشعبويين من تحقيق نتائج طيبة. على سبيل المثال، ليس كل ما يقول الشعبويون حول هؤلاء الذين "تُرِكوا وراء الرَّكب" غير صحيح؛ وليس من الخطأ دوماً أن نشك في استيلاء أصحاب المصالح الخاصة على أجزاء من الدولة. لكن هذه المظالم على المستوى الأرضي تحتاج دوماً إلى من يعبر عنها ويقدمها بمساعدة وسائل الإعلام والأحزاب السياسية. فوسائل الإعلام والأنظمة الحزبية هي الفاشلة بوضوح في العديد من الدول وهي التي تحتاج إلى عملية إعادة بناء منهجية.
لا شك أن المزيد من التثقيف المدني الأفضل مفيد. وكان مثل هذا التثقيف في انحدار لعقود من الزمن، لأنه لا يتناسب بسهولة مع المناهج التي تعتمد بشكل كبير على الاختبارات الموحدة. وإذا أديرت عملية التثقيف على النحو اللائق، فإنها أيضاً مستهلكة للوقت بشدة، الأمر الذي يجعلها تنتقص من المواضيع التي تبدو أكثر نفعاً في الأمد القريب، بمعنى أنها من المفترض أن تساهم بشكل أكثر مباشرة في النجاح الاقتصادي. وقد يكون التثقيف المدني بالغ الأهمية في مساعدة الشباب على إدارة الخلافات والاعتراف بالمواطنين الآخرين بوصفهم معارضين شرعيين في الصراعات الديمقراطية. لن تختفي الاختلافات الثقافية، ولا ينبغي لها أن تختفي، ولكن إذا تعلم الناس أنفسهم كيف يتعايشون مع هذه الخلافات، فلن ينجح الشعبويون في استخدامهم كأسلحة سياسية.
*أستاذ العلوم السياسية بجامعة برينستون.
آخر مؤلفاته كتاب بعنوان "ما هي الشعبوية؟"