أن تكون وحيدا وأنت بين الناس
تعرض أوليفيا لاينغ في كتاب المدينة الوحيدة قصة صادمة؛ حارس المستشفى هنري دارجر الذي كان يعيش وحيدا في مأوى في شيكاغو، في انعدام شبه كامل لأي رفقة أو جمهور، وعندما تخلى عن غرفته دون رغبة منه في سن الثمانينيات ليموت، اكتشفت مئات اللوحات الفنية المخبأة في غرفته والتي لم يسبق له أن عرضها على أي إنسان من قبل. كما وجدت لديه مخطوطة لرواية هائلة وجميلة، وقد نشرت الرواية بعد وفاته وحولت إلى فيلم، كما نقلت لوحاته إلى المعارض الفنية، لكن الصدمة أن أحدا لم يكن يعرف عن دارجر اهتماما فضلا عن الانشغال بالفن والثقافة، لم يكن لكل من يعرفه سوى عامل نظافة في مستشفى، ظل في عمله هذا أكثر من ستين سنة، وقد خمن بعض المحللين الذين درسوا لوحاته وروايته أنه قد يكون مهووسا ومستعدا للقتل أو الاغتصاب، لكن يرجح أن دارجر لم يرتكب شيئا من ذلك.
كيف يمكنك ان تصف الشعور بالوحدة؟ إنه شعور مخجل ومخيف، أشبه بكونك جائعا بينما كل من حولك يستعدون لتناول وليمة، ومع الوقت يبدأ هذا الشعور بالإشعاع ليجعل صاحبه أكثر عزلة وأكثر غربة، إنه شعور مؤلم، بالطريقة التي تؤلمنا بها المشاعر، وله أيضا عواقب جسدية لا يمكننا رؤيتها، داخل الجسد المغلق، ويتطور هذا الشعور ليصبح باردا كالثلج وصافيا كالزجاج ليتضمنك ويجتاحك. لكن وأيضا فإن الوحدة ليست تجربة عديمة الفائدة، إنها تمثل اللب داخل ما نقدره وما نحتاجه كبشر.
القاموس ذلك القاضي البارد، يعرف كلمة وحيد على أنه الشعور السلبي الذي يتزايد بسبب العزلة، المحتوى العاطفي هو ما يميز هذه الكلمة من كلمات أخرى، مثل بمفرده، وحده، أو منفرد، مكتئب بسبب رغبة أو رفقة أو مجتمع، حزين بسبب أنه وحيد، لكن الوحدة لا تقتضي دائما انعدام الرفقة، وهذا ما يسميه علماء النفس بالعزلة الاجتماعية أو الحرمان الاجتماعي، ليس جميع الأشخاص الذين يعيشون حياتهم دون رفقة وحيدين، وفي الوقت نفسه يمكن أن تشعر بالوحدة وانت في علاقة أو بين أصدقائك. وكما كتب أبكتيتوس قبل ألفي سنة " كون المرء وحده لا يجعله وحيدا، كما أن وجوده بين الجموع لا ينفي عنه بالضرورة صفة الوحدة".
عرف المحلل النفسي هاري ستاك سوليفان الوحدة بأنها "التجربة البغيضة والمتزايدة والمرتبطة بالحاجة غير المشبعة للألفة الإنسانية". وقد يعمل الزواج أو الدخل المرتفع على الحد من الشعور بالوحدة، لكن الحقيقة أن القليل جدا منا لديهم مناعة كاملة من الشعور بشوق أكبر لاتصال إنساني لا نتمكن من إشباعه أبدا، الوحيدون في العالم مئات الملايين، لا غرابة أبدا في أن لوحات ادوارد هوبر عن الوحدة مشهورة، ومؤثرة ومواسية لنا، ويتم إعادة إنتاجها حتى اليوم.
بإمكانك أن تكون وحيدا في أي مكان، ولكن هناك نكهة خاصة للوحدة التي تعيشها في مدينة، وأنت محاط بالملايين من البشر، قد يعتقد البعض أن هذه الحالة مناقضة لأسلوب الحياة في المدينة للحضور البشري الهائل من حولك، لكن القرب المادي وحده لا يكفي لتبديد الشعور الداخلي بالعزلة. إذ يمكن أن تشعر أنك بائس ومهجور وأنت محاط بالآخرين، بإمكان المدن أن تتحول إلى أماكن وحيدة، وبذلك فإن الشعور بالوحدة لا يقتضي الانعزال الجسدي، بل يقتضي غياب أو ندرة العلاقة، القرب، العطف، إن الشعور بالوحدة يأتي من عدم القدرة على العثور على الألفة، ومن الطبيعي أن تصل هذه التعاسة إلى أقصاها حين تكون محاطا بالجموع دون أن يرافقك أحد. من الصعب الاعتراف بالشعور بالوحدة، ومن الصعب تصنيفه أيضا، كالاكتئاب مثلا، لأنه صفة بإمكانها أن تكون غائرة في طبيعة إنسان ما.