الأنظمة والشعوب ومصادرة إرادة التغيير
عبد اللطيف مجدوب
المشهد العام
شهدت بداية الألفية الثالثة ؛ وفي ركاب احتدام الأطماع السياسية والاقتصادية ؛ تغييرا جوهريا في منظومة القيم التي كانت تحكم العلاقات الدولية ، وترخي بظلالها على السياسات الإقليمية والمحلية فحولتها إلى حفنة من المصالح المالية والاقتصادية ، حتى إن القطب الاقتصادي داخل أية منظومة أصبح بمثابة المعيار الرئيس المتحكم في إقرار سياسة ما ... ولم تعد لهذه الأخيرة ثمة وجود دون أن تكون مقترنة أو بالأحرى مشروطة بعوامل اقتصادية ومالية فاعلة بحتة .
ولعل لنا في الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة ترامب لأبرز نموذج لهيمنة استراتيجية المال والمصالح التجارية والعسكرية على القرارات الحاسمة ؛ في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ؛ سواء مع شركائها أو حلفائها أو مع جيرانها . والسؤال المطروح ؛ ما مدى حضور طموحات الشعوب في هذه السياسات الجديدة ... وهل ما زالت للشعوب القوى الكافية لحسم مسارات التغيير ؟ أوليس مستبعدا اختراق هذه القوى ومصادرتها ؟
ديمقراطية مزيفة
ألِفت العديد من الأنظمة السياسية في العالم أبجديات صندوق الاقتراع كأداة ((ديمقراطية)) لتجديد نخبها وتلقيح مؤسساتها الدستورية بدماء جديدة في ممارسة تدبير شؤونها الوطنية والجهوية ، إلا أن هذه الانتخابات ؛ لا يخلو الأمر إما أن تمر في ظروف "شفافة ونزيهة" وبالتالي ترجمة إرادة الشعب في صعود نخبة ممثلة فعليا لشرائح الشعب ... وإما أن تمر تحت أعين السلطة وبمقاساتها لتسفر ؛ في نهاية المطاف ؛ عن نخب موالية للسلطة الحاكمة وخاضعة لإملاءاتها . لكن وفي جميع الحالات ؛ حتى ولو احتكمنا إلى النموذج الاقتراعي الأول ؛ فستبقى الديمقراطية مزورة طالما كانت محاصرة من طرف الأنظمة الحاكمة ، أو بالأحرى حينما تجد نفسها ملجمة ومرتبطة بحبل واحد متحكم في قواعد اللعبة ، آنئذ سترغمها على التناغم والانسجام مع توجهات هذا النظام أو ذاك . وفي هذا السياق يمكن طرح تساؤلات غير منتهية ، كتبرير انتهاك لإرادة الشعوب : ما هي المكاسب التي تحققت في عهد هذه الحكومة أو تلك ، من خلال برامج الوعود اللامتناهية ..؟ لا شيء إطلاقا .. وقد تكون هناك طوارئ ـ وما أكثرها في ظل سياسة كسيحة ومرتجلة وترقيعية ـ عصفت بكل آمال وانتظارات الشعب .
مصادرة إرادة الشعب في التغيير
إذا قاربنا هذه الإشكالية في ضوء واقعنا السياسي والاقتصادي سنكون مضطرين إلى التوقف عند محطات وثيمات مركزية لا غنى لنا عنها في استقراء هذا الواقع المتأزم : الأمية ؛ متوسط الدخل الفردي ؛ أرقام البطالة ؛ هوة الفوارق الاجتماعية ؛ أشكال احتجاجات الشعب .... فارتفاع نسب الأمية وتفشي أرقام البطالة في صفوف الفئات الشعبية العريضة .. لا تسمح ؛ حتى الآن بتنامي وعي جماعي قادر على قيادة التظاهرات الشعبية ، وكل أشكال الاحتجاجات السلمية الأخرى . فمعظمها ؛ وكما تشهد عليه الوقائع اليومية ؛ تنزلق إلى ركوب العنف وحقن الشوارع وتعطيل الحركة .. مما يفتح الأبواب مشرعة في وجه السلطات للتدخل السريع وربما بدرجة أعنف .. لتعطيل مسار الاحتجاج وإفراغه من أهدافه المشروعة ، وبالتالي خنق الإرادة الشعبية .
ولا يجب مطلقا أن يعزب عن أذهاننا أن للدولة بلطجية بأشكال مختلفة ؛ ككتائب المشاة ، وشبكات التواصل الاجتماعي ، والمواقع الالكترونية ... يمكنها بين عشية وضحاها أن تتنكر "لميثاق التعاون" الذي يربطها بالسلطة إما بإيعاز من أطراف خارجية أو بإغراءات مصلحية من هنا وهناك .
وهكذا يمكن أن نخلص إلى أن إرادة التغيير لدى الشعب لم تعد مأمونة من خطر الاختراق والمصادرة والاغتصاب طالما أن هناك أدوات ناجعة بيد السلطة ؛ تسخرها كل حين في تكسير "شوكة هذه الإرادة" أو تحويلها إلى أجندتها ، بيد أنه من العسير تكسيرها أو احتواؤها إذا كانت صادرة عن قوى شعبية تتمتع بحد أدنى من النضج السياسي ولها علاقة حميمية مع القراءة والكتابة ، وتختفي لديها بالكاد الفوارق الاجتماعية التي تضرب بعمق في كل مناحي حياتها .