أزمة النمو الاقتصادي التي أصبحت وباء سياسي وأخلاقي
لو كانت الديمقراطية الليبرالية ضرورة كافية, لتحقيق معدلات النمو المرغوبة فى الاقتصاد, لما تعثرت معدلات النمو فى أوروبا الغربية وأميركا. وما استطاعت الصين تحقيق معدلات نمو كبيرة ومتسارعة, التى من المتوقع لها أن تستقر حول معدل 5-6% حتى عام 2024, مما سيجعل من معدل دخل الفرد فى الصين مساوٍ له فى أميركا. يتوهم الكثير أن النمو الاقتصادى فى الدول الرأسمالية, حتمية و مسلمة تاريخية, فالواقع ينفى هذه البدعة الضالة.
ففى عام 2006, طلب البنك الدولى من الاقتصادى مايكل سبينس (المصدر: مجلة فورين أفيرز عدد فبراير 2020. مقالة: Abhijit V. Banerjee and Esther Duflo من معهد MIT (, لقيادة مجموعة من الاقتصاديين المتخصصين فى النمو الاقتصادى. بعد عامين من الأبحاث, ومشاركة 21 باحث من قيادات العالم الاقتصادى والخبراء, و11 مجموعة خبراء, و300 اكاديمى خبير, و12 ورشة عمل, و13 استشارات, وميزانية وصلت الى 4 ملايين دولار أمريكى, جاء جواب الخبراء عن سؤال: وصفة تحقيق معدلات نمو عالية, الجواب الواضح, لا نعرف. تم تقديم توصيات.
محاولات استدامة النمو مستمرة منذ القرن الثامن عشر, الا أنها لم تستقر, بل آلت الى مزيد من التعقيد فى فى المساواة ومعدل الأجور. والسؤال الذى يفرض نفسه: هل ستحتاج أميركا والدول الرأسمالية قرنًا آخر لكى تحاول معالجة الخلل البنيوى المتأصل؟ فاذا كان هناك قناعة راسخة لدى علماء الاقتصاد الامريكان والعالم, بأنه لا يوجد وصفة لاستدامة النمو الاقتصادى, لماذا تعيد الدول الرأسمالية الكَرّة, من جديد؟ أليست مفارقة أخلاقية وتاريخية؟!
القاسم المشترك بين فترات النمو والإزدهار وفترات الانتكاس هو التوزيع غير العادل للثروة واتساع ثروة الأغنياء, فعلى سبيل المثال, يقول الكاتب Branko Milanovic, فى ذات العدد فبراير 2020, من المجلة, بأنه فى أميركا “خلال الأربعين عاما الماضية شهدت نمواً فى طبقة عليا شبه دائمة, والتى يتزايد انعزالها عن المجتمع, ….وأصبح 10% من مالكى الثروات يملكون 90% من الأصول المالية” للامة الأمريكية, وأن مؤشر جينى الذى يقيس مستويات الفقر ارتفع فى أميركا من .35 عام 1979 الى .45 اليوم فى 2019 (كلما اقترب معدل جينى من رقم 1 يكون معدل المساواة أسوأ). لذلك تشير الأرقام الى أن المعدل الاجمالى للمساواة فى أميركا يزداد سوءاً.
يؤكد على ذلك جوزيف ستيغلز الحائز على جائز’ نوبل فى الاقتصاد, ” منذ 1980, ما خسره 90% من شريحة البالغين الاقل ثراءاً, استحوذت عليه شريحة ال 1% الأعلى ثراءاً”. والأهم فى ما قاله, أن الضرائب التى تسددها شركات التكنولوجيا والتى يملكها أغنى أغنياء العالم تكاد لا تذكر, وقيمة ما يتم تحويله من أرباح الشركات العملاقة الى الملاذات الآمنة من الضرائب (ضرائب صفر) يبلغ 650 مليار دولار سنويا, التى تتسبب فى خسارة خزينة الدولة والمجتمع. ويطالب ستغلز ومجموعة باحثين باحياء دور قوى للدولة, للحفاظ على ثروة الأمة الأمريكية.
كيف ستعالج أميركا أزمة النمو الاقتصادى؟
أمام أميركا خيارين, الأول: أن تنتزع حصة أكبر من معدلات النمو العالمى, ناتج الدخول القومى الأمريكى يساوى 20.49 تريليون دولار, ما يعادل .623% من النمو العالمى (الصين .515%, ألمانيا 4.6%, اليابان 5.7%, بريطانيا 3.3%….)https://www.investopedia.com/insights/worlds-top-economies/, بمعنى أن تسعى أميركا لانتزاع حصة من الصين أو ألمانيا أو اليابان أو بريطانيا. الخيار الثانى: أن تُنْتِج أميركا رأسمال جديد, أى أن تقوم بتحويل أشياء جديدة الى رأسمال (اختراع أو ابتكار, وثم تحويلها الى رؤوس أموال أو علاقة رأسمالية جديدة), مما يتطلب اكتشاف علوم جديدة, أو اختراق فى مجال العلوم, أو مصادر الطاقة.
رأسمال من الخارج
تشكلت معادلات صلبة, فى الداخل الأمريكى, تغييرها من الناحية الجوهرية, يتطلب ثورة اجتماعية, لأن نظام الانتخابات وحرية التعبير والديمقراطية ودولة القانون وهيمنة ماكينة الأثرياء على السياسة, لم يحفظ نمو مستدام لتحقيق الحلم الأمريكى, انما تحقق الحلم الأمريكى للأثرياء, وفقد المجتمع ثروته الوطنية.
التغيير الذى تعمل عليه أميركا ينطلق من الخارج, وذلك للحفاظ على قواعد اللعبة الاجتماعية فى الداخل. تبحث أميركا عن مصادر رأسمال, تستحوذ عليها الدولة الأمريكية, على أن تعود مباشرة على خزينة الدولة (سندات الخزانة, تمويلات, استثمارات مباشرة, وشراء سلع رأسمالية كبيرة, وخدمات أمنية مدفوعة الثمن لدول ورؤساء دول), والتى تعتبر تعويضا عن ما فقدته خزينة الدولة من ايرادات آلت الى الأثرياء على حساب ثروة المجتمع الأمريكى.
تؤكد تصريحات ترامب المكررة “يجب أن تدفعوا-You have to pay” لدول الخليج وأوروبا, وغيرها, على تصميم أميركا للحصول على مصادر رأسمال من الخارج. حتى الحصار الذى تفرضه أميركا على دول عديدة, مثل ايران وفنزويلا وغيرها, هو عبارة عن سلعة رأسمالية كبيرة, تحقق لأميركا ترامب, تعويض مالى من دول خليجية, وصناديق صهيونية, فى الوقت الذى تحقق فيه أميركا غاية أخرى, وهى اضعاف عجلة نمو الدول التى على علاقة تبادل رأسمالى مع ايران مثل روسيا فرنسا و الصين وحتى ألمانيا, وبالتالى انتزاع حصة هذا النمو من حصص هذه الدول.
وباء النمو غير المستدام الذى يصاحبه تدهور فى مستويات المساواة بين الطبقات الاجتماعية, وتعظيم المنفعة للأغنياء, وعدم احترام حقوق شعوب العالم فى ثرواتها, من أجل أن تبقى أميركا من الداخل دولة قانون وانتخابات حرة. اذا استنفذت أميركا قدرتها على انتاج ميكانيزمات جديدة لانماء رأس المال, فان ذلك ينذر بعواقب كبرى. وحيث أنه لا اساس علمى لاستدامة النمو الاقتصادى, سيبقى النمو الاقتصادى مسألة عقائد ولا علاقة لها بالحرية المزعومة. وهذا ما يريده ترامب وجونسون فى بريطانيا, إنتاج عقائد أيديولوجية تخدم الرأسمالية الجديدة.