روايتنا الشفوية على وشك النفاد…
سهيل كيوان
بعد سبعة عقود من النكبة، يوشك أواخر أولئك الذين كانوا مراهقين وقادرين على التذكر في عام النكبة الفلسطينية أن ينتهوا. أقصد أولئك الذين يبلغون اليوم أكثر من ثمانين عاما وما زالت ذاكرتهم تسعفهم في تذكر أحداث النكبة، وبرحيل كل واحد منهم ترحل معه أسرار وقصص.
البعض ما زال حيا ولكن تشوّشت ذاكرته، ويخلط بين الأحداث والتواريخ والمناطق.
نحن نتصرف مع النكبة كأمر مفهوم ضمنا، وبأن كارثة بهذا الحجم الذي وقع في فلسطين، لا تحتاج إلى جهد كبير لإثبات وقوعها وتداعياتها وأحداثها، وهذا خطأ وقع فيه أهلنا وما زال ساري المفعول حتى يومنا هذا.
هنالك من يعتقدون بأنه لا يوجد ما يضاف إلى كل ما روي، وأن ما عرفناه يكفي، وأن هذا الماضي لن يضيف شيئا سوى المزيد من الآلام، وهذا مع صحته من ناحية الألم، إلا أن هناك واجباً على كل واحد قادر ويعرف شخصاً امرأة أو رجلا عاش النكبة، وما زال قادراً على التذكر، أن يذهب إليه وأن يحثّه على البوح، وأن يسجّل ويوثّق، لأن كل واحد يرحل من هذا الجيل لا يوجد من يأتي في مكانه أو يحكي قصته مثله هو.
الحقيقة المؤلمة أن ما توثق من أحداث النكبة بسيط جدا، ولا أبالغ إذا قلت إن كل ما نعرفه عن النكبة لا يتعدى واحدا إلى خمسة في المئة مما حدث في الواقع، فلكل واحد وواحدة ممن عاصروا تلك الحقبة روايته ونكبته.
في كل يوم نفقد شاهدا آخر على ما حدث، وخلال سنوات قليلة سيرحل آخرهم.
وبما أننا شعب يعتمد أكثر على الارتجال ولا نسجّل وليس لدينا عادة تسجيل يوميات، فإن الأكثرية الساحقة ممن عاصروا النكبة لم توثق ما حدث.
كذلك فإن معظمهم يظنّ بأن لا فائدة ترجى من هذا، فكثيرا ما حاولتُ استدراج بعضهم بالحديث عن ما جرى معه أو مع أسرته وكان يمتنع، أو أنه يتحدث برؤوس أقلام وعموميات. البعض يخجل من الحديث بوضوح وصراحة عن ضعفه، أو عن ما تعرض له، وكيف بقي في وطنه! والبعض ما زال يخاف من عاقبة حديثه حتى يومنا هذا، فقد جربوا هذا على جلودهم في زمن ما، وهناك من لا يزال يتوقع أن يعاقب إذا ما باح، خصوصا في ما يتعلق بأحداث تتعلق بالجيش وتصرفاته أثناء الاحتلال، أو بعميل ما خدم الاحتلال وممكن أن يسبب له الضرر، وذلك لحساسية الموضوع في مجتمعنا الذي يعرف بعضه بعضاً، وهذا يسبب مشاكل في بعض الأحيان إذا ما ذكر اسم أحدهم كعميل مثلا، فقد كتبت مرة عن عميل أسهم في طرد جدي لوالدتي من بيته عند محاولته العودة إليه، وعن عميل آخر سرق عن رأس والدتي مرآة أخذتها معها من بيتها عندما طردت منه مع أسرتها، ويبدو أن هناك من أوصل لأبنائه ما كتبت، فتوجهوا لأحد أعمامي لائمين ومعاتبين، وطالبين بأن أعتذر، وطبعا لم أفعل.
البعض يرفض الحديث لأن تجربته علّمته أن الحديث في نهاية المطاف لا يفيد شيئا، هكذا فإنك إذا طلبت من معظم المسنين الحديث قالوا: «شو بدو ينفع يعني؟ واللي صار صار، ولا يوجد رادع أمام إسرائيل». ومنهم من كان يعيش على أمل في العودة إلى دياره، ورفض كل صفقات المبادلة بالأرض، أو صفقات البيع، وما زال ينتظر. زرت واحدا من هؤلاء قبل أسابيع قليلة، وهو من قرية إقرث في الجليل الأعلى، فقال إنه بعدما كشف الغطاء عن العفن الذي يعيش فيه العالم العربي يئس وفقد الأمل.
هناك حقائق تجري على الأرض، فالأجيال الصاعدة من اليهود لا تعرف شيئا عن نكبة الشعب الفلسطيني، ولا تعرف مصطلحا مثل «المناطق المحتلة» التي يقصد بها المناطق المحتلة عام 1967، لأنهم يتعلمون في المدارس عكس ما نعرف، ونادرا ما تجد شابا يهوديا يعرف بأنه حتى عام 1967 كان أحد جوانب البحيرة تحت السيطرة السورية.
في الأسابيع الأخيرة أثيرت قضية مسجد البحر في طبريا، إذ تسعى بلديتها لتحويله إلى متحف. كانت الردود عبارة عن دهشة واستغراب، فمعظم أبناء الأجيال الصاعدة لا يعرفون بأن مدينة مثل طبريا كان يسكنها العرب إلى جانب اليهود، وهؤلاء لا يعرفون بأن الجولان أرض محتلة في تعريف القانون الدولي.
الأجيال الصاعدة من اليهود تفهم عكس ما نفهمه تماما، خصوصا في المدن الكبيرة مثل تل أبيب، وعندما تطلق عبارة «الأرض المحتلة» يظنون بأنك تمزح، فهم يلقّنون منذ الطفولة المبكرة عكس ما نعرفه ونتحدث به، فهم مثلا يعتقدون أننا نحن غزاة لأرض إسرائيل، وما تقوم به إسرائيل وحكوماتها في النقب من طرد سكاني واستيلاء على الأرض هو عملية استرداد لأرض سلبها العرب الفوضويون الذين لا يحترمون القوانين، وهم يظنون بأن العرب هم الذين هاجموا إسرائيل عام 1948 وحاولوا الاستيلاء على أرضها.
معظم الشباب اليهود يظنون بأن العرب محتلون، وأن الحروب ضدهم مشروعة، وهي حروب استعادة وتحرير أرض إسرائيل.