في ذكرى النكبة.. تدمير مجتمع فلسطيني موحَّد
ران غرينستاين* - (ديلي مافيريك) 7/3/2018
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
قبل سبعين عاماً، كان والداي يستعدان للحرب. ليس مع بعضهما بعضا (لم يكونا قد التقيا بعد)، وإنما مع العدو على البوابات. كان قد تم تجنيدهما في القوات العسكرية لما سيصبح بعد وقت قصير دولة إسرائيل.
من دون أن يعرفا ذلك، شارك والداي في تنفيذ برنامج سري بعنوان "الخطة د" (الخطة "دالت" باللغة العبرية). وكان الهدف من تلك الخطة هو توسيع حدود الدولة خارج المناطق التي خصصتها لها الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، وتوطيد السطرة داخلياً من خلال القضاء على المقاومة، وإزالة المجتمعات الفلسطينية التي تقف في طريق القوات الإسرائيلية.
فيما بعد، أصبحت نتيجة هذه العملية، التي بدأت في آذار (مارس) 1948، تعرف باسم النكبة (مرادف معنى "الكارثة" باللغة العربية)، والتي أسفرت عن تدمير مجتمع فلسطيني موحد، والتطهير العرقي لنحو 80 % من أفراد ذلك المجتمع الذين كانوا يقطنون في مناطق أصبحت جزءاً من إسرائيل، وتحول أكثر من 50 % من إجمالي السكان الفلسطينيين -نحو 720.00 في المجموع- إلى لاجئين.
وهكذا أصبحت إسرائيل دولة ذات أغلبية يهودية، مع اختزال عدد الفلسطينيين إلى 15-20% فقط من سكانها. أما الباقون، فأصبحوا تحت السيطرة الأردنية والمصرية (المناطق التي أصبحت تعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة)، أو اضطروا إلى قطع حدود فلسطين التاريخية إلى البلدان المجاورة، وخاصة لبنان وسورية والأردن.
في الخمسينيات والستينيات، أصبحت إسرائيل وجهة لموجة ضخمة من الهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأولئك الذين يتذكرون فلسطين قبل العام 1948، حيث عاش اليهود والعرب جنباً إلى جنب (وإن لم يكن دائماً بسلام) سرعان ما أصبحوا مجرد شريحة صغيرة من المجتمع.
لكن محو الذاكرة ظل دائماً عملاً غير مكتمل. ففي أماكن مثل مدينتي، حيفا، ظلت العديد من المباني -بل وحتى أحياء بأكملها- بمثابة شهادة على الماضي القريب. كان يقطنها في معظمها المهاجرون اليهود الجدد، تتخللهم بقايا من السكان الفلسطينيين الأقدم. كما أن قصص أولئك، مثل قصّة أبي وأمي، الذين شهدوا النكبة في الطنطورة وحيفا (على الرغم من أنه لم يعد يشار إليهما مطلقاً بهذا الأسماء)، ضمنت أن لا تختفي المعرفة بما كان موجوداً هناك في السابق تماماً.
أولاً وقبل كل شيء، واصل المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، الذين ظلوا في بيوتهم ومجتمعاتهم المحلية، حمل ذكرى العملية التي حولتهم إلى أقلية مهمشة في وطنهم. وعملت حقيقة أن العديد منهم لاجئون داخليون (يُعرفون باسم "الحاضرون الغائبون"؛ حيثُ يُسمح لهم بالعيش في إسرائيل، وإنما ليس في مجتمعاتهم الأصلية)، على جعل خبرة النكبة عنصراً دائم الحضور من وعيهم.
أضافت حرب حزيران (يونيو) 1967 بُعدا آخر إلى التمزق الذي أصاب النسيج السياسي الفلسطيني، حيث وقع الملايين من الناس تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. وقد توجه معظم الاهتمام على الصعيد العالمي إلى هذا الجانب من الوضع: الاحتلال المستمر للضفة الغربية وغزة، ومصير سكانهما المحكوم عليهم بقدر العيش من دون وصول إلى الحقوق الإنسانية والمدنية والسياسية الأساسية على مدى عقود. لكن الجولات العديدة من المفاوضات منذ اتفاقات أوسلو في العام 1993 أدت إلى تعميق السيطرة الإسرائيلية وترسيخ الاحتلال فحسب. ومن دون أي أفق لتحقيق أيٍّ من الحرية أو الاستقلال السياسي أو الاندماج في إسرائيل كمواطنين يتمتعون بحقوق متساوية، يعيش سكان هذه المناطق في ليبمو، بلا نهاية تلوح في الأفق. ومثل إخوانهم اللاجئين في الشتات، يبدو أن فرصهم في نيل حقوقهم تتراجع مع مرور الوقت.
يُنظر إلى هذا الوضع بأبعاده المختلفة في أفضل الأحوال على أنه شكل من أشكال الأبارتيد. وهو ليس مطابقاً لسابقه في جنوب أفريقيا -فهو تمييز عنصري من نوع خاص- ولكنه يحتوي على كل العناصر المحددة للفصل العنصري في القانون الدولي: "نظام مؤسسي للقمع المنهجي، وهيمنة مجموعة عرقية واحدة على أي مجموعة عرقية أخرى". أما أن أساس هذا النظام هو الإثنية والدين، أكثر من "العرق" بمعناه الجنوب أفريقي الصارم، فإن ذلك لا يؤثر على واقع القمع المنهجي والمنظم.
كيف يمكن تحدي هذا النظام من الفصل العنصري؟ يقدم الصراع المناهض للفصل العنصري في جنوب أفريقيا بعض الدروس، لكن كل حالة تتطلب استراتيجية سياسية ينبغي أن تستند إلى سماتها المحددة:
لمواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تجزيء الفلسطينيين، يتطلب تحقيق الوحدة وضع النضال ضد الاحتلال فوق الخلافات الفصائلية بين فتح وحماس، وحشد القوى الشعبية حول برنامج مشترك للمقاومة، وتنسيق الجهود مع الفلسطينيين في الشتات وفي داخل إسرائيل: فهم يواجهون تحديات مشابهة، ولو أنهم يعملون في ظل ظروف مختلفة. كما أن عقد التحالفات مع القوى الإسرائيلية التقدمية يشكل عنصراً أساسياً في هذا النهج، على الرغم من صعوبة تحقيقه. ويظل "إعلان حيفا"، وهو وثيقة تاريخية صدرت منذ نحو عقد مضى، بمثابة دليل مفيد للعمل في هذا الصدد.
لتقويض نظام الاحتلال، يجب استهداف مناطقه الضعيفة. ويشكل التنسيق بين السلطة الفلسطينية وقوات الأمن الإسرائيلية أمراً حاسماً لبقاء نظام الفصل العنصري على قيد الحياة، ولذلك يجب أن يكون هذا التنسيق هدفاً رئيسياً لحملة ترفع شعار عدم التعاون. كما يجب أن يكون بيع المنتجات الإسرائيلية في سوق أسيرة، بحيث يتم جعل الاحتلال مربحاً، هدفاً لحملة مقاطعة. وسوف يؤدي تحديد المزيد من هذه الأهداف إلى تعزيز الحركة المناهضة للاحتلال من الداخل.
سوف يكون من شأن استخدام الدبلوماسية والتضامن في خدمة الحركة الداخلية، بما يتماشى مع أولوياتها وليس كأهداف مستقلة مدفوعة من الخارج، أن تفيد في تسهيل التنسيق الأفضل وتحسين آفاق النجاح. ولا شك أن الحملات العالمية، مثل حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، تبقى مفيدة، لكن النضال لا يمكن يكسب إلا من الداخل، وينبغي أن تؤسسه وتقوده القوى المحلية.
ومسؤوليتنا نحن، هي أن نقدم لها المساعدة من الخارج.
*أستاذ مساعد في كلية علم الاجتماع في جامعة ويتووترسراند.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
In memory of the Nakba – the destruction of a unified Palestinian society