تعرّف على الأصل الإسلامي لنظرية التطور –
ترجمة: سيف علي داوود
البيروني وإبن سينا وجدل عمر الأرض
كان يحظى أرسطو بكِلا المُؤيدين والمعارضين بين العلماء المسلمين، في حين أن كلاهما كانا متأثرين جداً بأفكاره، ومن تلك الأفكار سرمدية قِدم الأرض، حيث أن من الواضح جداً أنَّ هذه الفكرة لا تتفق مع مع الإعتقاد بالخلق في جميع الأديان الإبراهيمية كما يتضح، فلو لم تكن الأرض قديمة، فكم عُمرها؟ يعتبر سفر التكوين (أول أسفار التوراة) أن الخَلق حدث ضمن قيمةً رمزية لأرضٍ حديثة النشوء، بعمرٍ تقديريّ ٦٠٠٠ عام، أما من ناحية العلم فقد تصارع الجيولوجيون لإثبات عمر الأرض ففي البدء قالوا بأن عمر الأرض يبلغ ملايين السنين ثم اليوم يقولون بأن عمرها يبلغ بلايين السنين، ولقرونٍ رفض الفقهاء اليهود والمسيحيون هذا التحديد الدقيق لعمر الأرض، أما يوسف ابن ميمون الذي عاش في القرن الثاني عشر للميلاد فقد وجدَ حلاً وسطاً لهذا البون بين رأي الدين ورأي أرسطو حيث اقترح أن الأيام التي يشير إليها سِفر التكوين أطول من الأيام الاعتيادية لكن هذا الرأي لا يُعتد به كحُجة علمية حيث أن ابن ميمون لم يُثبّت دليلاً يشهد على كلامه. لم تكن أبداً حُجة ” حداثة الأرض” ضمن التعاليم الإسلامية مطلقاً حتى وإن حاول البائس عدنان اوكتار (هارون يحيى) نشر هذه الفكرة في العالم الإسلامي، وبالتالي نحتاج لدراسة هذه النقطة بتمعن على أية حال وبالإضافة لذلك فإن هذه التفصيلة ستعطيني فرصة لإبراز أهم الإنجازات العلمية في هذا المجال لأعظم عالمين من العصر الذهبي الإسلامي وهُما البيروني وابن سينا، الذين أثبتا قِدم الأرض وفقاً لحُججٍ جيولوجّية.
ابن سينا والأحافير والطبقات الأرضّية
كان معروفاً في أوربا في أواخر القرون الوسطى لدرجة أن ذكره تشاوستر وهو شاعر إنجليزي ينتمي لتلك الحقبة، إن الموضوع الذي نناقشه الآن كان قد ترجمه إلى اللاتينية آلفريد سارشيل بحوالي القرن ١٢ م، ناسباً إياه إلى أرسطوطاليس مباشرةً وكان آلفريد مخطئاً بذلك في حين أن ابن سينا كان فيلسوفاً آرسطيّاً بالفعل وذو أفكارٍ إسلامية تقليدية، لذلك فلا غرابة حين نجد أن الشيخ الرئيس يتقبل فكرة “تحجر الموائع” أي تحول المادة من حالة إلى أخرى فنراه يتكلم بفكرة تحجر السوائل كما تكلم أرسطو عن “تحجر الأبخرة” وهذا يعني تحويل المواد وتغييرها، وبالتحديد تحول الماء إلى حجر، وعلى الرغم أن هذه الفكرة تبدو مُضحكة في ذلك الزمن، ولكن نظراً لما يُمكن ملاحظته في كهوف الحجر الجيري بصواعدها stalagmites، وهوابطها stalactites والتي نتجت من تأثير تحجر الينابيع المعدنية و استشراب البقايا البركانية في تلك الكهوف، ولذلك يجب أن يوضع بعين الإعتبار أن أكبر مساهمات ابن سينا فيما يخص موضوعنا هذا هو نقاشه في علم الأرض وقد ذكر ذلك في كتابه “الشفاء” وفيما يخص الأحجار بصورة عامة، والأحافير بصورة خاصة نقتبس:
“فَتَكونُ الأحجارُ إذن إما لتفجيرِ الطينِ اللَزجِ فـي الشمـس، وإمّا لإنعقادِ المائيّة من طَبيعةٍ مُيبّسـة أرضِيّة أو بسبب مُجففٍ حـارٍ، وإن كانَ ما يُحكـى عـن تحَجّر الحيوانات والنباتات ِ صحيحاً، فَالسَببُ فـيهِ شِدّة قُوةٍ مَعدنيٍة تَحدُثُ في بعضِ الحَجَرية، أو تَنعَزل دُفعةً مِنَ الأرضِ في الزَلازل والخَسوف فـتُحجّر ما تلقاهُ، فإنه لَيس إستحالةَ الأجسامُ الحيوانية والنباتية إلى حَجرية أبعد من استحالة المياه”. (الشفاء)
لذلك فالأحافير هي عِبارة عن بقايا لأحياءٍ تحجرت بواسطة تأثيرات تَعدينية، حيث أن تكوّن الأحفورة من بقايا معدنية، يشبه ظاهرة تَكون الأحجار من المياه، والتي اعتبرها ابن سينا عمليّة تكوينية. كان ابن سينا يسير على خُطى أرسطو والمفكرين الذين سبقوه، مُخمنّاً بأن البِقاع المأهولة بالبشر اليوم كانت قد تكونت تحت قاع البحار فيما سَبق، وهذا يُفسر سبب العثور على أجزاء من حيوانات البحرية داخل بعض الأحجار البرية. وكان قد توصل ليوناردو دافينشي العالم والمبدع الأشهر في أوروبا عصر النهضة إلى نفس استنتاج ابن سينا بعد قرونٍ عدة والفرق أن ابن سينا كان قد نشر أفكاره بحريةٍ تامة لكن ليوناردو رأى أنه من الحكمة أن يُبقي تلك الأفكار لنفسه حينها ولم ترى أفكاره – أي دافنشي- النور حتى أتى القرن التاسع عشر.
وفي نفس المُصنف نرى ابن سينا يتحدث عن طبقات الأرض حيث يقول :
” ويجوزُ أن ينكشف البَرّ وكلٌ بعد طبقة، وقَدّ يُرى بعضَ الجِبال كأنَّهُ مَنضُودٌ سافاً بعدَ سافاً، فَيَشبهُ أنّ يَكوُن ذلِكَ قَد كانَ طِينَتَها سافاً فَسافاً، بأن كان سافً إرتكمَ أولاً، ثُمّ حَدَثَ بعدهُ بمُدّة أُخرى سافٌ آخر فإرتكم، وكانَ قَد سالَ عَلى كُلِ ساف جسمٌ مِن خِلافَ جَوهَرهُ، فَصار حائلاً بَينهُ وبَينَ الساف الآخر، فَلَمّا تَحجّرَت المادّة عَرضَ للحائِل أن إنشَق وإنتثَر بَين السافين”. (الشفاء)
يُفهم مما سبق أن ابن سينا يشرح ويستعرض كيفية نشأة طبقات الأرض المنفصلة من الصخور الرسوبية، ويُفسر ذلك بأنه ناتج عن تأثير التَقلُبات البحرية المتعددة حيث أن كل تقلّب سيترك طبقة مختلفة وراءه. وإنني أرى أن آلية ابن سينا التي وضحها هي ذات تعقيد بلا داع، ولكن إبن سينا فهم جوهر المبدأ الأساسي لتكوين الطبقات والتي تكون بالتعاقب “سافاً بعد سافاً” كما وصفها، وهذا التعاقُب يتطلب وقتاً طويلاً جداً للتكامل. كما أسلفت آنفاً بأن فكرة أن الأراضي المأهولة في الوقت الحالي كانت قيعاناً للبحار كان قد قدمها أرسطو، حيث يعزي أرسطو ذلك إلى إنه نتيجة لِقدم الأرض، بينما يستخدم إبن سينا اسلوباً أكثر تقدماً في البرهنة على ذلك بطريقة عكس الجدل، فيقول إن الدليل على أن الأرض قديمة، هو أن اليابسة كانت سابقاً قاعاً بحرياً. وفي جزء آخر من نفس الفصل ينسب تكوّن الوديان إلى التَعرية، وإن سبب إرتفاع الجبال يعود إلى الزلازل، بعد كل هذه النتائج والإنجازات التي قام بها إبن سينا، فما علينا إلا أن نتخيل أنه كان يتنبأ بوجود المفهوم الحديث للصفائح التكتونية”. ولكن هذا ليس المقصود من استعراضنا لهذه الفكرة، وإنما نريد أن نقول أن ابن سينا كان يستعين بكل المُسببات التاريخية والطبيعية لإثبات موضوع ما، لكن في هذا الموضوع حصراً ما أتت المسببات التي ساقها ابن سينا متوافقة مع النظريات العلمية الحديثة إلا مجرد إضافة عَرضية.
البيروني في وادي الهندوس
لم يكن البيروني يتبع المدرسة الآرسطية، لكن بالواقع كانت له مُراسلات مُطولة جداً مع ابن سينا يجادلهُ بإستمرار حول أن ما يعتبره الفلاسفة الآرسطيين دليلاً ماهو إلا مجرد تخمين. فما قام به البيروني هو الإبتعاد عن موائمة المشاهدات الحية التي اجراها مع النصوص الفقهية الموجودة مُسبقاً، فألف مُصنفه العظيم “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل او مرذولة” حيث إكتشف أن عُذوبة اللغة وبلاغتها تتوافق مع عذوبة التفكير وحصافته حيث يقول :
“وأرضُ الهِند مِن تِلك البَراري يُحِيطُ بِها مِن جَنوبِهم بَحرَهُم المَذكُور ومِن سائِرِ الجِهات تِلكَ الجِبالُ الشَوامِخ، وإِلَيها مَصابُّ مياهها، فَلو تَفكّرتَ عِندَ المُشاهدة فِيها وَفِي أَحجارِها المُدَملَكة المَوجُودة إِلى حَيث يَبلُغ الحَفرُ عَظيمةٌ بالقُرب مِنَ الجِبال وشِدّة جريان مِياهُ الأنهار، وأصغرُ عِندَ التَباعُد وفُتورِ الجَري ورِمالاً عِندَ الرُكود والإقتِراب مِنَ المَغايِض والبَحر، لم تكُن تَصَوّرُ أرضَهُم إلّا بَحراً فِي القَديم قد إنكبسَ بِحُمولاتِ السُيوُلْ”.
الفصل الثامن عشر ص 157 لاحِظ ثَراءَ المُلاحظة والاستدلال التي عبّر عنها البيروني أعلاه، حيث أن الأحجار” تدملكت” اي تدورت عن طريق إلتفاف وتقلّب مجاري المياه، فبالقرب من منابِعُ الأنهار تجري المياه بسرعة أكبر وبذلك يُمكنها حَمل أحجار أكبر، وعند المصب تتضائل سرعة تدفق الماء وبذلك تصغر حجم الحجارة وتكون حصاةً، وعند الإنتهاء يجري النهر على أرضية ذات طبيعة رملية، وتأخذ عملية الترسيب هذه وقتاً مُعيناً.
سلسلة الكينونةِ العُظمى
“لقد فُنيتُ جماداً فأصبحتُ نبتة، لقد فُنيت كنبتة فأصبحتُ حيواناً، لقد فُنيتُ حيواناً، فأصبحتُ إنساناً، فلماذا عليّ أن أخشى الموت؟ متى كُنتُ اقلَّ موتاً؟ فحينما تُفارقني الحياة كإنسان سأرتقي لأكونَ مَلاكاً مُباركاً” من المَثنوي لجلال الدين الرومي (١٢٠٧-١٢٧٣)
اعلاهُ من شعر مولانا الرومي لم يكن عِلماً بل نصوصاً شعرية تفيضُ ببصيرةٍ صوفية نحو وحدة الخليقة، حيث يصف فناء وجوده الذاتي ليكون ذاتاً خالدة لا تفنى. ومع ذلك من الممكن أن تُساعدنا أشعار الرومي هذه على تقبل فكرة (وحدة الأشياء) وأنها تخضع لنفس قوانين فكرة (تصيير الخلق في عقيدة المؤمن إلى إرادة خالقه). وبالمقارنة مع كلام ابن مسكويه (٩٣٢-١٠٣٠)م من مُصنفه “الفوز الأكبر” والذي شرحه وترجمه إلى الإنجليزية الأستاذ الدكتور محمد حمي دالله من الهند، والتي وُضعت كإقتباس في صفحة ابن مسكويه على ويكيبيديا الإنجليزية حيث يقول:
“[ وهذه الكُتب] نصت على أن الخالق قد خلق المادة أولاً ثم ملأها بالطاقة كي تتطور، وبذلك اتخذت المادة هيئةً بخاريّة والتي استحالت إلى الماء خلال الزمن، ثم المرحلة التالية من التطور هي الحياة المعدنية للمادة، حيث أن انواعاً مُختلفة من الصخور تطورت بفعل الزمن، وأرقى أنواع هذه الأحجار هو “المُرجان” وهو حجر يتخذ فروعاً تشبه فروع الأشجار، وبعد الحياة المعدنية، الحياة النباتية، حيث يُتَوّج التطور النباتي بأشجاراً تحمل صفاتاً حيوانية، مثل النخيل والذي له جنسين ذكراً وأنثى، وكذلك لا تذبل الشجرة لو قطعنا السعفات الفرعية، بل تموت النخلة لو بترنا رأسها، وتُعتبر النخلة ارقى صنف في النباتات، وكذلك أدنى صنف من الحيوان. ثم هناك تتوالد اوطأ أصناف الحيوانات وتترقى الى القرود”.
لَم يكن النص أعلاه تصريحاً قاله داروين، بل إنه إبن مسكويه، وهو بالضبط ما نصت عليه “رسائل إخوان الصفا”، تلك المجموعة من المفكرين المُسلمين الذين أكدوا أن السِعدان ارتقى ليكون نوعاً أدنى من الإنسان المتوحش. ثم ارتقى ليكون الإنسان العاقل المُتفوّق والذي ربما يكون قِديسا، أو نبيّاً، ثم يترقّى إلى مرحلةً أرقى عُلوّاً ليكونَ ملاكاً، ثم لا يكُونَ أعلى رِفعةً إلا الله، فهو بادئُ كُل شئ. وإليه يرجع كل شئ.
ومن المُؤسف أن أذكر أنّ حميد الله أخطأ في ترجمة ابن مسكويه، كسابقيه مثل ابن الرومي ولاحقاً ابن خلدون في كتابه الأكثر شُهرةً “المُقدمة” حيث في نصٍ يشبه ما سبق، لم يكن ابن خلدون يصف التطوّر بل أنه أكثر قرباً من فرضية ارسطو التي تُسمّى “سلسلة الحياة العُظمى”. فالمراحل المُختلفة تُمثّل تعاقبيّة الخَلق، وبالضبط نحو القمة والتي تُمثل تتالي “الروح”، ولكنها لا تُمثل الاستمرارية التاريخية والنسب.
(مقدمة ابن خلدون في ثلاثة مجلدات من قبل الدكتور فرانز روزنتال، الاستاذ في جامعة ييل)
إن المُثُل الإسلامية في التعلُّم، والرأي بأن الكون مُهيمن عليه من قِبل الله الحاكم، ممكن أن تخدم كحافز قوي للعِلم بشكلٍ عام، بالإضافة الى ذلك فهناك الكثير من الأفكار الإسلامية التقليدية التي تعكس الفكرة التي تقول أن هُناك أشكالاً مُحددة من الحياة كانت قد تكيفت في بيئتها بصورة مُذهلة، وعلى الطريقة التي خلقها الله بها، وفي هذا السياق فإن العلماء المُسلمين استوعبوا وصقلوا المفهوم الآرسطي القائل بالسلسلة العظمى للأحياء ورأوا بأن تراتبية هذه السلسلة تمتد من إصل غير حي (جماد) ثم من النباتات إلى النخيل بإعتبارها ارقى انواع النباتات تطوراً، ثم الى الحيوانات ثم علواً إلى الإنسان ثم الملائكة التي إعتبروها في قمة الرُقي والسُمو، وبذلك فإن هذه الفكرة تتضمن مفهوم الإرتقاء فحسب، وليس مفهوم التطور المركزي الذي ينص على التغيير بمرور الزمن، واخوان الصفا استخدموا نفس اللغة في وصف وحدة النظام الحي والذي اعتبروه كدليل على وجود الإله. لكنهم أيضاً قالوا:
” إن الأنواع والأجناس محددة وثابتة في جوهرها، ألا أن الأفراد في تنوعٍ دائم فهي غير ثابتة ولا محددة، وأن سبب حِفظ الأشكال في الأنواع والأجناس بجوهرها هو ثبات دورها الإلهي، ولأن غايتها الفعلية هي الروح الكونية للعوالم بدلاً من التغيّر والتنوع المستمر للأفراد الذي يؤول إلى تنوعيتها”.
وهنا لا أود الخوض في جدلٍ ارسطوي حول السببية، ولكن مقصدهم هنا هو ثبات الأنواع بكل وضوح، إلا أن هذا لم يمنع بعض المؤلفين من الادعاء بأن إخوان الصفا تنبأوا بالمفهوم الحديث للتطور، وهنا اقوى دافعَين لمثل هذا الإدعاء : الأول، هو الأمل بجبر الضرر الناجم من تلقي العديد من الباحثين المسلمين الزمالات الدراسية في الغرب وتأثرهم بالاعتبارات الغربية التقليدية في تاريخ العلم، مما ادى بهم إلى إضافة إنجاز حقيقي في غير محله. والحافز الثاني، هو جعل التطور سائغاً للمسلمين، وكذلك تحييد التأثير الضار للفقهاء المتشددين الذين يرددون دوماً أن التطور لا إسلامي، قد نتعاطف مع هذين الحافزين لكن ذلك لن يجعلنا نُحرّف قراءتنا الموضوعية في الحقائق التاريخية المُثبتة. إن بعض المتذاكين ذهبوا بعيداً بالادعاء بأن داروين كان قد درس العربية في كامبريدج، وأنه كان على إطلاع بالإرث الإسلامي فيما يخص التطور، وهذه مجرد أمنيات لا أساس لها، فداروين وضّح جميع تفاصيل حياته في سيرته الذاتية، وكذلك سطّر قائمة في كتابه العظيم “اصل الانواع” بجميع أسلافه من العلماء الذين ينسب لهم الفضل فيما توصل إليه، فضلاً عن ذلك كان الإنجليز في عصر داروين جاهلين بالمعرفة الإسلامية القديمة، ولم يكن داروين استثناءً.
هل كان الطُوسي داروينياً أَم آرسطيّاً؟
نصير الدين الطوسي (١٢٠١-١٢٧٦)م كان عالماً رياضياً وفلكيّاً عظيماً، وكذلك كان مُكافحاً، فقد نجا من الأسر لدى طائفة الحشاشين الشيعية، ثم نجا من أسرهِ اللاحق لدى المغول، فقد حث القائد المغولي هولاكو على بناء مرصد فلكي كبير، وكذلك يُعد الطوسي رائداً في علم المُثلثات والتي كانت في الواقع مفيدة جداً حساباته الفلكية، وقد زودت انجازاته في دمج الأشكال الهندسية كوبرنيكوس بالأدوات المعرفية الكافية في نظرياته الفلكية. هناك إدعاء مشهور أن الطوسي كان قد سبق داروين في افكاره فيما يخص التطور وقد كتبت دورية اذربيجان عام ٢٠٠١ مقالاً حول أسبقية الطوسي في نظرية التطور، وكذلك نجد اليوم نفس الكلام في الصفحة التعريفية للطوسي على موسوعة ويكيبيديا، حيث يتحدث المقال عن قول الطوسي في الذرات والتطور، وتفسر اشاراته تلك لصالح التطور، وتقتبس من بعض أقواله في المقام الأول: “نحنُ جميعاً متساوون ومُتشابهون، ولا أحد منا يَفضُلُ الآخر بشئ، لكوننا تكوّنا من دقائق تحتوي على نفس المادة الأولية”. ويقصد بتلك الدقائق ما نعرفه اليوم بـ الذرات والجزيئات. وأنا أقرأ هذه العبارة فإنني شعرت بأن هناك خطبٌ ما، فالـطوسي كان آرسطيّاً، والمفترض أنه كان يعتقد بالانقسام اللامتناهي للمادة، بدلاً من الإعتقاد بتخليق دقائق من الأساس، وقد بدأ الشك عندي يتفاقم عندما وصلت الى هذا الجزء من المقال :
“شرح الطوسي التباين الوراثي الذي يؤدي إلى التطور، وكذلك كتب الطوسي بأن جميع الكائنات الحية لها القدرة على التغيّر وأن هذه الأحياء قد تطورت بفضل تنوعها الوراثي حيث يقول الطوسي: إن الأحياء التي بإمكانها إكتساب الصفات الجديدة بسرعة هي الأكثر تغيُّراً وبالتالي فإنها تتفوق على بقية المخلوقات. يبدو هذا كنص مُبسط من كتابات دارون عن الطفرات”
لم يَكُن داروين على علم بالطفرات، ولكن الخلل الأكبر في النص السابق أن الطوسي يتحدث بلسان القرن العشرين مُتحدثاً عن التنوع والطفرات؛ لذلك فقد رجعت إلى النص المقتبس أعلاه من كتاب الطوسي اخلاق ناصري الفصل الأول/القسم الرابع كما ترجمه G.M. Wickens مؤسس قسم الدراسات الشرق أوسطية في تورنتو حيث يقول الطوسي:
“إن الأجسام الطبيعية، ولكونها أجسام فإنها متساوية مع بعضها البعض ولا فضل ولا تشريف لها فوق غيرها، وليكن هذا تعريفاً واضحاً يشملهاً جميعاً على وجهٍ عام، وأن أول إختلافٍ يظهر بينها يجعلها تُصنف كعناصر وانواع، وأن هذا التشعب ليس مطلوباً ولا ضرورياً لإبراز أفضلية نوعاً على نوعٍ آخر، فجميعها تبقى خاضعة للمساواة في الرتبة والتكافؤ في الإمكانيات، ولكن عندما تصبح المخالطة والتعقيد واضحة بين هذه العناصر، وعندما نُقايس اقتراب المركب من التوازن وهو الوحدة المثالية لحالة المركبات ونرى تلقي العلامة عند حدٍ وصيغة مثالية، فهنا سنرى تدرجاً في التشعّب يظهر بين هذه الأجسام، وهكذا فإن المواد الصلبة هي مواد اكثر خضوعاً لإعادة التشكيل ومن نقطة شروع التوازن لدى لمزيج، يكون مثالياً أكثر من غيره، ولدى هذه المثالية عدة مراتب، وعددٍ لا يحصى من الدرجات وفي النهاية يصل إلى نقطة بحيث يمتلك هذا المركب المقدرة على أن يحوز “روحاً نباتية” والتي يسمو بها، حيث تظهر عدة صفات مهمة تميزه، كالمقدرة على إستحصال الغذاء، والنمو، والإجتذاب إلى المنفعة والإبتعاد عن المفسدة”.
لا يمت كلام الطوسي بأي صلة للتطور، ولا يذكر أي شئ عن الدقائق والجزيئات، وقد سبق وأن تعرفنا على فكرة تحوليّة المواد آنفاً في نظرية ابن سينا حول قدرة الماء على التحجّر وقد اشتق ابن سينا هذه النظرية من أرسطو وليس من المدرسة الذرية* وكذلك نفس الشيء في مفهوم “الروح النباتية” وان مفهوم “المثالية” يذكرني بمصطلح المعادن النبيلة والتي تميل إلى الشبه بالمعادن القاعدية. وكذلك بدلاً من وجود القدرة على إكتساب صفات جديدة لدينا هنا القدرة على التشكيل، إن هذا السمو الموصوف يظهر كأنه نوع من النشوء والإرتقاء مُقترح من قبل أرسطو ، تختص بالمعادن التي لها القابلية على إعادة التشُّكل بالطرق والسحب وليس النشوء والإرتقاء بالمفهوم الحديث للتطور البيولوجي.
وكنت قد كتبت رسالة إلى كاتب المقالة في دورية “أذربيجان اليوم” في صيف ٢٠١٦ ولكنني لم أتلق جواباً حتى الآن.
(تشريح لحصان يعود للقرن الخامس عشر)
البيروني والانتخاب الطبيعي
في مصنفه “تحقيق ما للهند من مقولة …” اقترب البيروني من تأليف فكرة شديدة القرب من الانتقاء الطبيعي، كنتيجة حتمية لتحديد الموارد فيقول:
“إن ّالعالم مَعمورٌ بالحرثَ والنَسلْ، وكِلاهُما مُتزايدانِ عَلى الأيّام والتَزايُد غيرُ مَحدود والعالمُ محدود، وَ مَهما تُرِكَ التَزايُد وتِيرَتَهُ في نوعٍ واحدٍ مِنَ النباتِ أوِ الحَيوان، وكُلُ واحدٍ مِنهُما لا يُكّون ولا يُفسَد مرّة، ولكن يُولَدُ مِثلهُ بل أمثالهُ مرات، إستولَت نوعُ شجَرة واحدةٍ أو نوعُ حَيوانٌ واحدْ على الأرض، ما وَجَد للإنتشارِ والنَشرِ موضعاً”. الباب ٤٧ صـ٣٣٦ـ
ومن هُنا نرى توقعاً للبيروني يشبه الحُجة التي قدمها توماس مالثوس، والتي ابهرت وألهمت كُلاً من ألفريد راسل والاس وتشارلز داروين، والتي تنص على أن عديد السُكان لأي نوع يستمر بالتزايد حتى يتقيد أو يتناقص بنقصان أو انعدام الموارد.
ويواصل البيروني بذكر نوعاً آخر من الإنتقاء :
“والزَرّاعُ يَنتقي زَرعَهُ فيترُكُ فيهِ ما يَحتاجَهُ إليه، ويَقلعُ ما عَداهْ، والناطُورُ يتركُ مِنَ الأغصانِ ما يَعرِفُ فِيهِ النَجابَة ويُقَلِّمُ ما سِواه، بلِ النَحلُ يَقتُلُ مِن جِنسَهُ مَن يأكُلُ ولا يَعمَلْ في كُوارَتهُ”.
وهكذا فالبشر كما النحل يمارسون انتقاءً صناعياً ولكن في المقطع التالي (كما قرأته أنا) نرى أن البيروني يرفض الانتقاء الطبيعي كما نفهمه اليوم، لأنه يرى أن الانتقاء الطبيعي يخرق انتظام قانون الطبيعة، بدلاً من إزالة الطفرات عشوائياً.
” فالطَبيعَة تَفعَلُ كذلِك ولكّنَها لا تُميّز، لأنَ فِعلَها واحد، فَتُفسِدُ مِن الشَجَر ورقها وثَمرها وتَمنَعها من الفِعل المُعَدّ لها، فَتُزيحُها”.
وليس هذا فحسب بل إنه يُضيف أن اسباباً خارقة للطبيعة وقُبولاً إلهياً لـ الكوارث الطبيعية لتفادي كارثة زيادة السكان.
” كذلك الدُنيا إذا فَسَدت بِكُثرة أو كادَت ولَها مُدبّر و عِنايتَهُ بالكُلّية فِي كُلِ جُزءٍ منها مَوجُودة فإنهُ يُقللُ الكُثرة ويَحسِمُ موادَ الشَرة”. (المصدر السابق)
ثم يلجأ البيروني بعد ذلك إلى ربط فكرة الصراع من أجل البقاء مع معتقدات تقليدية هندية تصف الخراب الكُلي، وعلى أي حال فإن الطبيعة نفسها ليست أداةً في الإنتقاء، وأنه لا يوجد أي اقتراح على تغيّر الأنواع بمرور الزمن، بينما لدينا هنا فكرة التنافس على مساحة للعيش، وعلى ما يبدو ان تكون المنافسة بين الأنواع لا بين الأفراد المُغايرة ضمن الأنواع .
إن الشئ الوحيد الذي نستطيع استدراكه من هذه الأفكار للبيروني وربطها بنظرية التطور البيولوجي الحديثة في كتابهالآثار الباقية والتي يمكن اعتبارها كمرجع لمفهوم الانتخاب الطبيعي حيث يقول:
“إن الطبيعة تُحافظ على الأجناس والأنواع على أساس قانون هندسي”.
ولكن إن كان هذا انتقاءاً طبيعياً فإنه إنتقاء على أساس قوة مُحافظة تمنع التغيير، (وفي هذا الفصل اتبعت شروح جان ز. ويلزينسكي Jan Z. Wilczynski في دورية ايزيس Isis، مع إسهام طفيف من قِبلي)
الجاحِظ و تحوليّة الأنواع
ربما يكون الجاحظ (٧٧٦-٨٦٩م)هو المثال الوحيد الذي تمكنت من إيجاده لمفكر مسلم توقّع بمفهوم السلف المشترك لما نُطلق عليه اليوم (انواع مميزة) ويُعد أقدم من جميع من ناقشنا أفكارهم فيما سبق، كما وجدت أنه الأكثر حذقاً وانتباهاً للحقائق ومبتعداً كل البعد عن التشدد الديني، وأنه يمتاز بفصاحته اللغوية وحدة ذكاءه، حيث حافظت نصوصه على ذلك على الرغم من ترجمتها على مرحلتين من العربية القديمة إلى الفرنسية، ثم من الفرنسية إلى الانجليزية، وهذا من المصدر الرئيسي الذي استخدمته
Charles Pellat tr. D.M. Hawke, University of California Press, 1969, The Life and Works of Jahiz