سبعون عاماً على نشوء الكيان: عن الغرب المتأسرل «خطايا الأسلاف» و«القاضية» التي تعاديها البطريركيّة
ندى حطيط
Apr 20, 2018
تكتسب احتفاليّة دولة الكيان الإسرائيلي مع انتصاف مايو / آيّار هذا العام رمزيّة استثنائيّة بوصولها إلى السبعينيّة. وهذه بالطبع مناسبة تستحق الوقوف عندها من كل الأطراف: الإسرائيليّون أنفسهم، الفلسطينيون والعرب وحتى الإنسانيّة جمعاء. فهذه التجربة الاستيطانيّة التي تدخل عقدها الثامن تبقى في تاريخ العالم التباساً ثقافيّاً نادراً، وعقدة جغرافيّةً مستحيلةً، ومخاطرةً مجهولة العواقب قادرة على أن تتسبب في كل آن بالحرج الأخلاقي لأصدقائها قبل أعدائها، والتي لم تكن لتبقى لولا مناخات أفرز تقاطعها هذا الورم، وأمدّته بالبقاء الخبيث: مناخ تآمري غربي لا مثيل في انحيازه الأعمى، ومشروع دولة تجذّرت فيها العنصريّة البغيضة على مواطنيها قبل ضحاياها، وبنية مجتمع فلسطيني بقيّت، رغم كل التضحيات والتجارب، كما كانت لحظة وطأ أول المستعمرين الصهاينة أرض فلسطين في 1880.
غرب متأسرل
الصحافية الإسرائيليّة المعروفة أميرة هاس كُلّفت الشهر الماضي بإلقاء محاضرة إدوارد سعيد التذكاريّة السنويّة في لندن. وهاس لمن لا يعرفها واحدة من الأصوات الشجاعة القليلة التي لا تجبن عن نقد السلوكيّات العنصريّة للمجتمع الإسرائيلي شعباً وقيادة، وتعد مرجعيّة عالميّة في تفكيك سياسات الاحتلال وكشف ممارساته اللاإنسانيّة ضد الفلسطينيين. هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» استغلّت في ما يبدو مناسبة تواجدها ودعتها لإجراء مقابلة مباشرة وهكذا كان. لم تثر المقابلة كبير اهتمام في حينها، ومرّت على الجميع مرور الكرام، لكن هاس سجلّت تجربتها تلك مع مؤسسة الإعلام الأولى في أوروبا من خلال مقالة نشرتها جريدة «هآرتس» عبّرت فيها عن صدمتها التّامة من مقدار الانحياز التام والسافر والأعمى الذي تبديه المؤسسة الإعلاميّة الغربيّة لمصلحة دولة إسرائيل، إلى درجة وصفتها هاس بأّنها «كما انتصار تام للسلطات الإسرائيليّة» وأسرلة تفوق فيها الإعلاميّون البريطانيّون على الإعلاميين الإسرائيليين أنفسهم.
تقول هاس إن مذيع «بي بي سي» أضاع جزءاً كبيراً من الوقت يسألها – وهي الخبيرة الدّوليّة في شؤون تعسف الاحتلال والكاتبة التي عاشت سنين طويلة بين غزة ورام الله – عن رأيها في الاتهامات الموجهة لحزب العمال البريطاني المعارض بوصفه يضم في صفوفه معادين للساميّة، فتستغرب: «وهل أنا خبيرة بالشؤون البريطانيّة مثلاً؟».
وتضيف «لم يخطر له أن يسألني كيف قتل الجنود الإسرائيليّون بدم بارد أكثر من ثلاثين متظاهراً فلسطينياً أعزل على حدود غزّة قبل أيّام؟».
ومن موضوع حزب العمال انتقل المذيع ليسألها عن تجربتها الشخصيّة في العيش في غزة قبل سنوات كثيرة، لكنّه – تقول هاس – لم يتطرّق إلى تجارب مليوني بشري يرزحون تحت الحصار منذ سنوات في أجواء خانقة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً وإنسانياً، أو حتّى عن تجارب القهر اليومي في معازل الفلسطينيين، التي أفرزتها إتفاقيّة أوسلو سيئة السمعة.
ولمّا علّقت هاس على سؤال حول عمليّة السلام بـ»أن الجانب الإسرائيلي فعل كل ما بوسعه دوماً لإفشال أي جهود تستهدف الوصول إلى حل (عادل) للمسألة الفلسطينيّة» سارع المذيع إلى مهاجمتها بقوله: «أليس هذا بتبسيط مخل عندما تلقين باللائمة على إسرائيل لفشل جهود السلام؟».
وأكثر ما روّعها إصرار مذيع «بي بي سي» على وصف الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في الضفّة الغربيّة بكونها «أراضى متنازع عليها» فحسب، رغم أن الأمم المتحدّة بل وبريطانيا نفسها صاحبة اليّد الطولى في التمكين لقيام إسرائيل ما زالت تعتبر مجمل المناطق التي سيطرت عليها الدولة العبرية عام 1967 بوصفها أراضٍ تحت الاحتلال.
«خطايا الأسلاف» ينكأ قروح العنصريّة
المخرج الإسرائيلي – من أصول مغربيّة – ديفيد ديري أراد المشاركة في احتفال الكيان بسبعينيته من خلال سلسلة تلفزيونيّة وثائقيّة تاريخيّة تستكشف من خلال أرشيفات مهملة أو مبعدة عن الفضاء العام أوضاع اليهود المهاجرين إلى فلسطين من الدّول العربيّة إبان إعلان قيام الدّولة عام 1948 – والذين يعرفون بالمزراحيين -. سلسلة (خطايا الأسلاف) عُرضت مؤخراً على قنوات إسرائيليّة فأصابت المجتمع الإسرائيلي بالصدمة من تعمّق التمييز العنصري ليس ضد الفلسطينيين أو العرب الإسرائيليين هذه المرّة بل ضد هؤلاء اليهود الشرقيين كجزء من توجه عام سائد بين النخبة الإسرائيليّة من ذوي الأصول الأوروبيّة – الإشكناز -.
وقد تسببت السلسة الوثائقية بإثارة نقاشات وجدالات عامة لا تنتهي، مما استدعى تنظيم عروض خاصّة لها حضرها كبار ضباط الجيش والمسؤولون في الحكومة الإسرائيليّة بل حتى رئيس الوزراء نفسه، الّذي تعهد تعليقاً على تلك (الخطايا) بفتح وثائق الحكومة لمزيد من التنقيب عن الحقائق.
ما خلُصَت (خطايا الأسلاف) إليه أن النخبة الإسرائيليّة التي تولت قيادة الدّولة العبرية باقتصادها وهيكليتها العسكريّة والأمنيّة غلبت عليها وبشكل ساحق فئة اليهود الإشكناز، وهم تعاملوا بفوقيّة وعنصريّة مخجلة مع اليهود الذين سيقوا بأوهام الصهيونيّة من أوطانهم في دول العالم العربي. فهؤلاء أُرسلوا إلى مواقع سكنيّة رديئة معزولة في مواقع حدوديّة، وعوقب المتمردون منهم اقتصاديّاً، بل وربما انتزع منهم أطفالهم لينتهوا في مؤسسات الرّعاية الاجتماعيّة، ومورست ضدّهم سياسات فصل عنصري ممنهجة تسببت على المدى الطويل في جعلهم الجزء الأكبر من المجرمين ساكني السجون الإسرائيليّة، والمجموعة الأقل دخلاً، والأقصر عمراً والأقل تعليماً بين اليهود، بينما مُنعوا بشكل عام من تولي المناصب الهامة في الدّولة ولم يصل أيّ منهم إلى منصب رئيس وزراء قطّ.
ويستعرض ديري في سلسلته نصوصاً وشهادات تدين عنصريّة الجيل الأوّل من القادة الإسرائيليين الذين ما زالوا يُعتبرون أبطالاً قوميين للدّولة، وبعضها يشير إلى نظرتهم المستعليّة تجاه المزراحيين بوصفهم بدائيين ويتمتعون «بغباء ملحوظ» وغيرها من النمطيّات المنحازة.
«القاضية» محاصرة في محيط البطريركيّة الفلسطينية
عُرض في الولايات المتحدة مؤخراً الوثائقي الأمريكي (القاضية)، الذي أخرجته إريكا كوهين وتنحت فيه خلال ساعة و16 دقيقة صورة لشخصيّة السيّدة خلود الفقيه، وهي أول فلسطينية، وربما أول عربيّة تتولى منصب قاضية شرعيّة – في الضفّة الغربيّة منذ 2009 -. بالطبّع فإن توّلي النساء موضوع القضاء في الأمور الشرعيّة تحديداً ربّما يكون محط جدل بين المدارس والمذاهب الدينية المختلفة، لكن مصاعب السيّدة الفقيه بتولّي المنصب ليست في ذلك – وفق الوثائقي دائماً – بقدر ما هي ترتبط بالعقليّة الذّكوريّة المحافظة التي بعد أكثر من قرن من نضال الفلسطينيات وتضحياتهن وحتى طوابير الشهيدات منهن ما تزال تمسك بخناق المجتمع الفلسطيني إلى اليوم وتتسبب بقهر المرأة الفلسطينيّة في بيتها قبل أن تعاني قهر الاحتلال.
الوثائقي يقدّم سيّدة قويّة واثقة من حضورها ولا تقبل الخضوع لهيمنة الرّجل، لكنّها في ممارسة عملها تجد عداءً وتحفظاً من قبل سكان محليين ومسؤولين فلسطينيين على حدّ سواء. تواصل (القاضية) رغم ذلك الصّمود، بل وتلقي دروساً على النساء الفلسطينيات في ما يتعلق بحقوقهن (الشرعيّة) في مواجهة شوفينية وذكوريّة المجتمع الفلسطيني.
القاضية – الإنسانة لا الوثائقي – شكل من أخطر أشكال المواجهة الفاعلة مع المشروع الصهيوني المحتفل بالذّكرى السّبعين لقيام كيانه العبري، تلك المواجهة التي لن تبدأ حقاً إلا لحظة يكسر الفلسطينيون كل التابوهات المتخلّفة التي تكبّلهم والتي تآمرت نخبتهم مع العدو لإدامتها عبر العقود، وأولها تلك المتعلقة بالمرأة الفلسطينية. إنه شعب أنجب دلال المغربي وليلى خالد وعهد التميمي. مثيلات هؤلاء مكانهن المستحق المقدّمة لا الإلغاء والتعطيل والتهميش.
إعلامية لبنانية تقيم في لندن