إذا وقعت الواقعة
عبد الحليم قنديل
قال مذيع أمريكي ما لم يجرؤ مسؤول عربي واحد على التفوه به، وطلب من نتنياهو أن يجيب بنعم أو لا على سؤاله، كان الحوار على شاشة «سي. إن. إن» الأمريكية، وكان السؤال عما يعرفه العالم كله من امتلاك إسرائيل لترسانة أسلحة وقنابل ذرية.
راوغ نتنياهو في الجواب، لكن المذيع عاد فحاصره، وقالها له ببساطة، إذا كنتم تملكون أسلحة ذرية لا تنكرونها، فلماذا تتحاملون إذن على إيران؟
بالطبع، لم يهتم أحد بمراوغات رئيس وزراء كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ولا بأقواله المثيرة للسخرية، من نوع أن إسرائيل ـ بزعمه ـ لا تشكل تهديدا لأحد، بينما إسرائيل هي الممثل الشخصي للشيطان، ووجودها في ذاته أفظع تهديد وجريمة متصلة ضد الإنسانية، وهي كيان استعماري استيطاني إحلالي، قامت بالغصب والقتل والقهر، وطردت قرابة المليون فلسطيني من أرضهم التاريخية، وشنت وتشن حروبا عدوانية ضد الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية، دمرت فيها مقدرات وأوطانا، وقتلت مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب، بينهم مئة ألف شهيد وجريح ومعاق من مصر وحدها.
ولا قيمة اليوم لأي كلام عن اتفاقات سلام مع إسرائيل، ولا عن ثقافة سلام، ولا عن مفاوضات وصفقات، فلا صوت أعلى في المنطقة الآن من صوت الحرب الجديدة، التي تعد لها إسرائيل الآن بالاتفاق مع واشنطن وتوابعها في لندن وباريس، وتواصل عملياتها التمهيدية على مسرح الدمار السوري، وبدعوى مواجهة الخطر الإيراني، ومنذ سبتمبر 2017، شنت إسرائيل خمس غارات جوية وصاروخية كبرى على منشآت عسكرية في سوريا، بلغت ذروتها بالهجوم قبل أسابيع على مطار «التيفور» قرب تدمر، ثم عاودت الهجوم بصواريخ أكثر تطورا على «اللواء 47» في حماة ومطار «النيرب» في حلب، وادعت دوائر إسرائيلية أنها دمرت منشآت وقواعد إيرانية في سوريا، وكان الرد الإيراني ـ السوري محدودا إلى الآن، سقطت فيه «طائرة إف ـ 16» إسرائيلية في قلب الأرض المحتلة، وبدون أن تكمل إيران بقية الرد الذي هددت به، ربما في انتظار جلاء موقف واشنطن النهائي من الاتفاق النووي الإيراني، الذي يرجح أن ينسحب منه ترامب عمليا، ولو على طريقة إعادة فرض العقوبات كاملة على إيران، وهو ما يعني أن المنطقة ذاهبة إلى حرب وشيكة، تريد إسرائيل لأمريكا أن تشاركها فيها على نحو معلن، وهو ما قد يتردد فيه ترامب المذعور، الخائف على كرسيه المهتز في البيت الأبيض، مع توجس واشنطن من حدود رد الفعل الروسي المتحكم على الأرض السورية، الذي جعل العدوان الصاروخي الثلاثي (الأمريكي البريطاني الفرنسي) عملا عبثيا، وكلها ظروف قد لا تبعد شبح الحرب، وإن كانت تغير من طبيعتها وأطرافها، فقد ركب نتنياهو رأسه، وأعلن استعداده للدخول في حرب مباشرة مع طهران، وطلب تفويضه ـ مع وزير دفاعه ـ في قرار شن الحرب، وواصل استفزازاته لإيران، وحتى لروسيا الحريصة على همزة وصل مع تل أبيب، ولا تريد انفجار الأوضاع على نحو غير قابل للتحكم به في المشرق العربي.
ومحصلة ما يجري كله، أننا قد نكون بصدد نوع من السجال الحربي المتزايد المفتوح، تتصاعد أماراته وعلاماته في صيف العام الجاري 2018، فقد تكون إيران تأخرت في الرد على العدوان الإسرائيلي المتكرر، لكنها لن تبتلع الإهانة بالتأكيد، وإن كانت تتمهل في حياكة الرد على طريقة الصبر المشهور في حياكة السجاد الإيراني، وهي تواصل عمليات نقل أسلحة وخبراء وقواعد صواريخ إلى سوريا، وعندها «يدها الباترة» ممثلة في حزب الله اللبناني، الذي سيفرغ سريعا من قصة الانتخابات اللبنانية النيابية، ويعزز تحالفاته وثقله الشعبي في الداخل اللبناني، وقد تفتقر إيران لذراع طيران حربي طويلة، لكنها تملك ما هو أهم في السجال الحربي مع إسرائيل، فعندها خرائط حلفاء ممتدة من بغداد إلى غزة، وترسانات هائلة من صواريخ الردع، يملك حزب الله وحده منها ما يفوق المئة ألف صاروخ، وهو ما يعني امتداد الحرب على مدى زمني طويل، وهذا أكثر ما يفزع إسرائيل، التي لا تحقق انتصارا عسكريا سوى في حروب وهجمات خاطفة، بينما تعجز عن النصر كليا، إذا امتد زمن الحرب، وهو ما ظهر جليا في حرب 2006 في لبنان، وفي حروب 2009 و2012 و2014 على غزة، فقد تملك إسرائيل قوة تدمير هائلة، لكنها تعجز مع إطالة أمد الحرب، في تحقيق أي نصر يكافئ طاقة التدمير.
والمعنى ببساطة، أنه لا قيمة لمسرحيات نتنياهو و»تهويشاته»، اللهم إلا في استدراج إسرائيل لمستنقع حربي بلا نهاية منظورة، فنتنياهو يريد جذب واشنطن للحرب معه علنا، يريد من واشنطن أن تضرب له إيران، وقدم عرضا مسرحيا في مقر قيادة الجيش الإسرائيلي، ادعى فيه أنه حقق اختراقا استخباراتيا جبارا، حصل فيه «الموساد» على كامل الأرشيف النووي الإيراني السري، وقدم مئة ألف وثيقة أصلية كهدية إلى واشنطن، وعلى أمل دفعها بالإغراء إلى عمل عسكري مشترك ضد طهران، وهو ما لا يملك ترامب ـ رجل نتنياهو ـ أن يقرر فيه، فما من جديد يذكر في وثائق نتنياهو عن إيران، والوكالة الدولية للطاقة الذرية فضحته على الهواء، وقالت إن الوثائق لديها منذ عام 2015، أي قبل عقد الاتفاق النووي مع إيران، الذي تتمسك به روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، ويريد ترامب وحده الخروج عليه، وبدون أفق للتحرك، سوى إعادة فرض كامل عقوبات واشنطن على طهران، والعقوبات سلاح محدود التأثير على إيران، ويفضي إلى معادلة صفرية، قد تجد فيها طهران فرصتها لاستئناف تخصيب اليورانيوم بمعدلات أعلى، وإشهار قفاز التحدي في وجه واشنطن، التي لن تنفعها حروب القصف من السماء ومن البحر على إيران، فالنظام الإيراني لن يسقط بقصف جوي وصاروخي، وضرب منشآت إيران لن يوقف برنامجها النووي، فقد تخطت إيران عتبة المعرفة النووية وتطبيقاتها من سنوات طويلة، وثروتها العلمية الهائلة غير قابلة للاستنزاف بغير غزو بري يسقط النظام، وهو ما لا تملك واشنطن أن تخاطر به، فقد كان غزو العراق آخر عمل بري في تاريخ الامبراطورية الأمريكية، وكانت نتائجه فادحة على واشنطن، التي دفعت دم الآلاف من جنودها، وخسرت سبعة تريليونات دولار، كما يقدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يريد من دول الخليج الغنية تغطية الخسائر، ويطالبها بالدفع مقابل الحماية من إيران، ويقول إنها ستسقط في ظرف أسبوع لو رفع يده عنها، وهو ما أصاب ملوك وأمراء ومشايخ الخليج بالذعر بعد الخرس، فقد دفعوا معا لترامب قرابة التريليون دولار في سنة، وهو لا يكتفي ولا يشبع، وكأنه يعاقبهم على سابق تورطهم وخدمتهم لأمريكا في عملية غزو العراق، بينما يعجز اليوم عن اتخاذ قرار مماثل بغزو إيران.
واشنطن ـ إذن ـ لن تذهب إلى حرب مؤثرة بقواتها المباشرة تنهي وجود النظام الإيراني، ليس لأنها لا تريد، بل لأنها لا تقدر على التكاليف، ولا تضمن النتائج، وتفضل استعمال وسائل أخرى كالعقوبات وأخواتها، خصوصا مع الممانعات الروسية والصينية الضامنة لعدم الإجهاز على إيران، وهو ما يعني بوضوح، ترك ذيول واشنطن في المنطقة لمصائرهم، وبغير عزاء لتوابع أمريكا من عرب الخليج، سوى أن يدفعوا ويدفعوا لأبيهم وسيدهم الساكن في البيت الأبيض، وعلى أمل بقاء العائلات الحاكمة وراثيا، وليس هزيمة إيران كما يعلنون، وهو ما يعني أنه لا أمل عندهم سوى في نجدة تأتي من إسرائيل، وهم على استعداد للدفع لها كما يدفعون لترامب، وهو ما يفسر كلام نتنياهو الكثير عن دعم حلفائه العرب في الخليج، والأخيرون يبدون حماسا لا يخفى لضربات إسرائيل ضد إيران في سوريا، لكن إسرائيل نفسها لا تبدو واثقة من النتائج، وتبدو في مأزق سلاح غير مسبوق، فلا اختيار عندها سوى أن تبادر إلى حرب في سوريا، وبمخاوف ثقيلة من تطور وتركيز الوجود الإيراني في سوريا، ونشوء جبهة صراع متداخلة مع جبهة حزب الله في لبنان، وهذا هو التطور الأخطر على وجود كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وقد استنفدت إسرائيل مراحل «الحروب بالوكالة» ضد الخطر الجديد، وفشلت الجماعات الإرهابية الحليفة موضوعيا لإسرائيل، وعزز النظام السوري ـ بمعونة الروس والإيرانيين ـ وجوده في المناطق الأقرب لفلسطين المحتلة، ودفع خصومه إلى مناطق بعيدة في الشمال السوري، وصار الاتصال الجغرافي البري كاملا تقريبا من طهران إلى بيروت، وبقدر ما يعنيه ذلك من تضخم وتوحش النفوذ الإيراني، فإنه يثير مخاوف ـ ربما فزع ـ إسرائيل بالذات، ويدفعها إلى شن هجمات استباقية، توالت جولاتها في الفترة الأخيرة، وبدون تحقيق نتائج حاسمة، خصوصا مع حرص روسيا على موقف غائم في سوريا بين إسرائيل وإيران، لا يتحقق فيه ما أرادته تل أبيب من لجم روسيا للوجود الإيراني، وتلك كلها مقدمات لحرب شاملة، قد تبادر إليها إسرائيل على المسرح السوري، وقد تستطيع إسرائيل أن تبدأها، وبطاقة نيران جوية هائلة، لكنها ـ أي إسرائيل ـ لا تملك أن تنهيها كما تريد، فأصابع الكل على الزناد الآن في المشرق العربي، وإذا وقعت الواقعة، وليس لوقعتها كاذبة، فسوف تستمر الحرب شهورا طويلة، وربما سنوات، وكلما طالت الحرب، ضعف أمل إسرائيل في تحقيق نصر عسكري يعتد به، وهذا هو نفق الاستنزاف الذي ينتظر تل أبيب، والذي لن تفيدها معه حماسة حلفاء إسرائيل الخليجيين، فهؤلاء أول من يهزمون ويفرون.
كاتب مصري