نيويورك- في ظل عودة الأوضاع الاقتصادية إلى طبيعتها بشكل أو بآخر في جميع أنحاء العالم بعد عقد من الأزمات المالية، باتت النزعة الشعبوية القومية الآن تشكل أكبر تهديد للانتعاش العالمي. وكان هذا الشعور حاضراً بالنسبة لوزراء المالية الذين اجتمعوا في واشنطن العاصمة مؤخراً لحضور اجتماع الربيع السنوي لصندوق النقد الدولي. ولكن، هل من الممكن أن يكون هذا الإجماع قد برز في الوقت الذي تعالت فيه أصوات الشعبوية؟ بدلاً من السياسة الشعبوية التي تقوض الانتعاش الاقتصادي، هل يمكن أن يؤدي الانتعاش الاقتصادي إلى تقويض السياسات الشعبوية؟
في جميع أنحاء العالم، تبدو السياسة الاقتصادية الشعبوية في حالة تراجع، على الرغم من عدم وجود بديل واضح لهذه السياسة حتى الآن. وفي الولايات المتحدة، يبدو أن الرئيس دونالد ترامب قد وضع حداً لغرائزه الحمائية، كما بدأت العلاقات الاقتصادية مع الصين في الاستقرار. وفي أوروبا، على الرغم من تركيز وسائل الإعلام على نجاح السياسيين المتعايشين مع كراهية الأجانب في هنغاريا وبولندا، يتحول البندول عن القومية الاقتصادية في البلدان المهمة حقاً: فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، حيث يتنافس الآن الحزبان الشعبويان اللذان حققا مؤخراً إنجازات انتخابية لإظهار دعمهما لليورو.
وحتى في بريطانيا، حيث فازت القومية الاقتصادية بأكبر انتصار لها على العولمة والتعددية الثقافية في استفتاء بريكست للعام 2016، قد يتحول هذا التيار. وقد بدأت الحكومة البريطانية تدرك بشكل تدريجي أن الناخبين لا يريدون الانفصال بشكل كامل عن أوروبا، كما يطالب الأوروبيون المتشككون. ولم يصبح أي من البديلين لعضوية الاتحاد الأوروبي اللذين قدما في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي -وهو "ليتل انجلاند" الحمائي والتركيز على الداخل أو "الدول الناطقة باللغة الانجليزية" بعد الإمبريالية القائمة على "العلاقة الخاصة" مع أميركا والكومنولث- مجدياً اقتصادياً أو جذاباً سياسياً للناخبين. وفي حين أن 3-4 % فقط من الناخبين يعترفون بتغيير رأيهم بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن الغالبية العظمى تريد الاحتفاظ بمعظم فوائد التجارة الحرة، والسفر المريح، والعمالة المهاجرة، فضلاً عن القوانين البيئية، وصحة المستهلكين، والتنظيم الدقيق.
إن نفور الناخبين من العواقب الوخيمة لبريطانيا، على غرار الواقعية التي ظهرت تدريجياً في اليونان بعد رفض استفتاء العام 2015 لمساعدة الاتحاد الأوروبي، يساعد على تفسير التكتيكات المحيرة الأخرى لرئيسة الوزراء تيريزا ماي وحزبها المحافظ. فبعد البدء بإصدار تعليمات واضحة من الشعب "لاستعادة السيطرة" من الاتحاد الأوروبي، قامت ماي تدريجياً بمحو خطوطها الحمراء، وذلك عن طريق: إنهاء المساهمات في ميزانية الاتحاد الأوروبي، والحد من الهجرة الأوروبية، والإعفاء من القواعد الأوروبية والأحكام القضائية. وبدلاً من المطالبة الصارمة باستعادة السيادة الوطنية غير المحدودة في آذار (مارس) 2019، فإنها تطالب الآن بفترة انتقالية، حيث لن يتغير أي شيء ملحوظ بالنسبة للناخبين.
من المفاجئ أن الحل الوسط الذي قدمته ماي تم قبوله بالكامل من قبل المتشددين الوطنيين الذين كانوا يهددون قيادتها في السابق. وما يزال المتعصبون يأملون في حدوث انفصال كامل عن أوروبا في المستقبل، ولكن يبدو أنهم ليسوا قلقين بشأن تأجيل يوم الحسم حتى نهاية "الفترة الانتقالية مع الحفاظ على الوضع الراهن" لماي في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2020. ولكن، إذا كانت محاولة "الانفصال التام" عن أوروبا تشكل خطراً الآن، فلماذا ستصبح مقبولة بحلول العام 2020؟ لن يكون الأمر كذلك، ويفترض أن هذه الحقيقة سوف تملي تمديد فترة الانتقال إلى ما بعد الانتخابات العامة في 2022، وما بعدها.
كما كتبتُ في العام الماضي، النتيجة هي أن علمية بريكسيت الصعبة والمنهكة ستتحول إلى "بريكست" المزيفة: وهي عضوية الاتحاد الأوروبي المشتركة بالأسلوب النرويجي. لن يكون كل من مؤيدي ومعارضي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي راضين عن تلك النتيجة، التي ستحول بريطانيا إلى ما يسميه مؤيدو بريكسيت "دولة تابعة": بلد يخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي، لكن ليس لديه الحق في التصويت أو القدرة على التأثير في هذه القوانين.
لماذا تقبل بريطانيا بأن تكون تابعة؟ هذا ما يجرنا إلى العلاقة بين الشعبوية القومية والاقتصاد. المبرر الوحيد المتبقي لهذا الشكل الأسوأ من الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، والذي تقدمه الآن ماي، هو الشعار الشعبوي "الشعب يتحدث".
حتى وقت قريب، سمح استخدام هذا الشعار لجميع خصوم السياسة الحكومية بوصفهم نخبة دولية، باعتبارهم "مواطنين لا ينتمون لأي بلاد" والذين يكرهون "الشعب الحقيقي". وبسبب نزع الشرعية عن المعارضة السياسية، بدا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتمياً، الأمر الذي منع الناخبين حتى من التفكير في القضايا التي قد تغير رأيهم.
لكن الوضع السياسي البريطاني يتغير. مع اقتراب موعد خروج بريطانيا في آذار (مارس) 2019، فإن "انتقال" ماي قد يمتد إلى المستقبل البعيد، وجميع الوعود الملموسة لبريكست ستتلاشى مثل سراب الصحراء، كما سيشهد كل من البرلمان والرأي العام تحولاً ملحوظاً. وقد توصل حزب العمال إلى استنتاج: على الرغم من تأييد العديد من ناخبي الطبقة العاملة قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن معارضته توفر الفرصة الوحيدة لإسقاط حكومة ماي. ونتيجة لذلك، تعرضت ماي للهزيمة مراراً في البرلمان وأجبرت على التنازل عن تصويت برلماني كامل على أي اتفاق تتفاوض عليه مع الاتحاد الأوروبي.
هذه الصراعات البرلمانية تدل على أن معارضة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم تعد سيئة باعتبارها مناهضة للديمقراطية ونخبوية. إن الرأي العام، مع دعم الأغلبية الواضحة "للتصويت الهادف" في البرلمان، على استعداد لاتخاذ قرار حول ما إذا كانت صفقة ماي النهائية مع أوروبا أفضل من الحفاظ على عضوية الاتحاد الأوروبي. وعندما يتم إجراء هذا الاقتراع -على الأرجح في تشرين الأول (أكتوبر)- فإن التحالف التكتيكي لجميع أحزاب المعارضة مع 12 حزب محافظ ومؤيد لأوروبا قد يؤدي إلى هزيمة الحكومة. وإذا كانت تبدو هذه الهزيمة وشيكة، فمن المحتمل أن تتحرك ماي لتفاديها من خلال اقتراح استفتاء لاتخاذ القرار النهائي بين قرارها بشأن بريكست والوضع الراهن للاتحاد الأوروبي.
ولكن، هل سيشكل هذا الاستفتاء، الذي تدعم فكرته حاليا حملة "تصويت الشعب"، خطوة أخرى نحو النزعة الشعبوية، بدلاً من استنتاج ديمقراطي حقيقي لنقاش خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ الإجابة هي لا. سوف يتم منح الناخبين فرصة الاختيار الصادق بين بديلين واضحين: قبول أي اتفاق تفاوض عليه الحكومة بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو البقاء في الاتحاد الأوروبي بعد سحب خطر بريكست قبل الموعد النهائي في 29 آذار (مارس).
على النقيض من ذلك، قدم الاستفتاء في العام 2016 للناخبين خياراً خادعاً بين الواقع والخيال: بريكست الخيالي، والذي يمكنهم من خلاله التعبير عن أي آمال أو تحيزات توصلوا إليها. عكس النزعة القومية الشعبوية، هذه ليست نخبوية عالمية. وإنما واقعية صادقة، والتي تقوم بريطانيا الآن باكتشافها.