مقدمة:
كان هيرودوتس وغيره من كتاب اليونانية واللاتينية ، هم الذين أطلقوا اسم فلسطين على أراضي الساحل الفلسطيني ، وفي بعض الاحيان كانوا يشملون بالاسم أيضا تلك الاراضي الواقعة بين الساحل ووادي الاردن.وفي مستهل عهد الامبراطورية الرومانية، اطلق اسم فلسطين على المنطقة الواقعة حول القدس، كما استخدم الاسم نفسه ايضا زمن البيزنطيين للتدليل على الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن، والممتد بين جبل الكرمل في الشامل وغزة في الجنوب.
روما وبيزنطة
في سنة 70 للميلاد قمع الامبراطور الروماني تيتوس ثورة يهودية في فلسطين ، وسوّى القدس بالأرض، ودمر معبدها. وفي اعقاب ثورة يهودية اخرى (132-135 ميلادية) شيّد الامبراطور هادريان مدينة وثنية جديدة على أنقاض القدس، أطلق عليها اسم "كولونيا إيليا كابيتولينا" ، وحرم على اليهود دخولها. وبعد انتهاء عهد هادريان ، زاد باطراد عدد المسيحيين المقيمين في القدس.ومع اعتناق الامبراطور قسطنطين الأول للمسيحية (توفي سنة 337م) وزيارة أمه الملكة هيلانة للقدس سنة 320م، بدأ طابع القدس وفلسطين المسيحي يغلب على طابعها الوثني. وشيّد قسطنطين نفسه كنيسة القيامة، ودأب خلفاؤه ـ ولاسيما جستينيان (توفي سنة 565م) على الإكثار من بناء الكنائس والنصب المسيحية في فلسطين . سمح البيزنطيون لليهود بدخول القدس يوما واحدا في السنة فقط، للبكاء قرب حجر كان لا يزال باقيا في موقع المعبد. لكن البيزنطيين أبقوا على الموضع أجرد موحشا ، إكراما لما كان قد تكهن به المسيح عليه السلام (إنجيل متى 2:24).
الإسلام والأمويون
قبل وقت طويل من ظهور الإسلام في القرن السابع ، كان قد حدث تمازج متصل بين المسيحيين في فلسطين والسكان العرب (وكان العديد منهم من المسيحيين أيضا) الى الجنوب والشرق. وكان النبي محمد ، صل الله عليه وسلم ، وأتباعه يتجهون أول الأمر عند اقامة الصلوات ناحية القدس لا مكة. وقد أُسريَ بالنبي من مكة الى القدس، ومنها عرج الى السماء. وحتى يومنا هذا يحتفل العالم الإسلامي بأسره سنويا بهذه الرحلة الاعجازية لنبي الله ، وذلك في ليلة السابع والعشرين من رجب. وبعد قرون طويلة من هذا الحدث الفريد اصبح موضوع الاسراء مصدر إلهام للشاعر الايطالي دانتي (Dante)، الذي استند اليه عند كتابه "الملهاة الالهية".
وقد استولى العرب على القدس من البيزنطيين سنة 637م. وأعرب عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن احترامه للمدينة بأن تقبل بنفسه استسلامها ، وعامل أهلها برأفة واعتدال متميزين، وكتب لهم وثيقة أمان عرفت فيما بعد بالعهدة العمرية، أعطاهم فيها "امانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم… فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله… ومن أقام آمن.." وشهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان. وفي هذا يقول السير وليم فيتز جيرالد ( Fitzgerald sir William) : "لم يحدث قط في التاريخ المؤسف للفتوحات حتى تاريخ فتح القدس ، ونادرا منذ ذاك ، ان أظهر فاتح تلك المشاعر النبيلة السخية التي أظهرها عمر للقدس." (2) وقد اهتم عمر ، بنفسه ، بتحديد الأماكن التي ارتبطت بإسراء النبي ومعراجه ، وتم بصعوبة تحديد موقع الصخرة التي عرج منها نظرا الى أنها كانت مدفونة تحت أكوام من المخلفات، وأخذ يزيل هذه المخلفات بيديه ولما تم تنظيفها وتطهيرها أمّ المصلين بالقرب منها في جمع غفير من الصحابة والأنصار. ودعا بلال، مؤذن الرسول ، الى الصلاة. وكانت تلك أول مرة يؤذن فيها للصلاة بعد وفاة النبي ، صل الله عليه وسلم. وأمر عمر بتعيين عبادة بن الصامت ، وكان من الصحابة الذين حضروا ذلك الاحتفال ، أول قاض للقدس. وقد توفي عبادة في المدينة في أثناء شغله هذا المنصب. وكان الاسم العربي الذي أطلق على القدس هو بيت المُقدَّس، كمقابل للبيت الحرام، وأصبحت ولاية فلسطين البيزنطية ولاية إدارية وعسكرية عربية أطلق عليها اسم "جند فلسطين " منذ ذاك.
ولقيت فلسطين التشريف والتكريم من الأمويين (661-750م) الذين كانت دمشق عاصمتهم. وكان معاوية (661-680م) ، مؤسس هذه السلالة، قد نصب نفسه خليفة في القدس. كما ان الخليفة الأموي الخامس ـ وهو عبد الملك (685-705م) ، شيّد المسجد العظيم الذي عرف باسم مسجد الصخرة ، فوق الصخرة نفسها التي عرج منها النبي عليه الصلاة والسلام. كما شيّد الوليد بن عبد الملك (705-715م) المسجد الأقصى المجاور. ويعتبر مسجد قبة الصخرة مزيجا مدهشا من العمارة البيزنطية والفارسية والعربية ، وهو اقدم صرح اسلامي لا يزال قائما، وعرفت المنطقة المحيطة بالمسجدين باسم الحرم الشريف. وكان تفضيل الأمويين لفلسطين والقدس مدفوعا بدافع سياسي الى حد ما ، لأن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا في العقود الأولى في أيد خصوم بني أمية. لكن موقف الأمويين كان له أصل أيضا فيما ورد من الحديث الشريف في ذكر ثواب الصلاة في بيت المقدس وفضل الرحال اليها. وعلى هذا ، فحتى عندما دانت مكة المكرمة والمدينة المنورة بالولاء للأمويين سنة 692م ،نصب الخليفة السابع سليمان (715-717م) نفسه على كرسي الخلافة في القدس.
كما بنى مدينة الرملة في فلسطين ، واتخذها مقرا له ، وزانها بمسجد وقصر في غاية الفخامة. وبعد وقت طويل من انتهاء عهد الامويين ، ظلت للقدس جاذبيتها، وهو ما لاحظه وسجله الرحالة الفارسي ناصري خسرو، الذي كتب يقول بعد زيارته للمدينة سنة 1047م: "إنْ عجز أهل تلك البلاد عن التوجه الى مكة المكرمة لأداء ، فريضة الحج، فهم يذهبون الى القدس في موسم الفريضة".
العباسيون
جاء العباسيون (750 ـ 1225م) في أعقاب الأمويين، واتخذوا من بغداد مقرا لخلافتهم. وبلغت الخلافة العباسية أوج سلطانها ونفوذها في غضون قرن من إنشائها. أما بعد ذلك ، فقد وقع الكثير من أراضي الامبراطورية تحت سلطان حكامها المسلمين، الذين كان ولاؤهم للخلافة العباسية اسميا. وظلت فلسطين ، طوال الشطر الأكبر من الفترة الواقعة بين انتهاء القرن التاسع والحملات الصليبية ، تحكم من قبل حكام مسلمين اتخذوا من القاهرة مقرا لهم.
وزار اثنان من الخلفاء العباسيين مدينة القدس ، وكانا وقتها في أوج سلطانهما . فقد قام المنصور ، ثاني الخلفاء العباسيين (754-775م)، بزيارة القدس مرتين، وأمر بإصلاح التلف الذي حاق بالمدينة بسبب زلزال كان قد أصابها. أما المهدي ، ثالث الخلفاء العباسيين (775-785م) ، فقد زار القدس خصيصا لأداء شعائر الصلاة في المسجد الأقصى، وقد امر المأمون ، سابع الخلفاء العباسيين (813-833م) ، بإجراء ترميمات كبرى في مسجد قبة الصخرة، تحت اشراف المعتصم (833-842م) شقيقه وخلفه، الذي كان آنذاك مندوب الخليفة في سوريا. ولقد بلغ تهافت العباسيين على الاقتران بالقدس درجة دفعتهم الى سلوك سخيف تمثل في إحلال اسم المأمون مع اسم الخليفة الأموي عبد الملك في النقوش المبينة لمشيّد المسجد.
وتكثر أوصاف فلسطين في القرون التي سبقت الحملات الصليبية ، في كتابات الجغرافيين العرب والمسلمين. فقد لاحظ اليعقوبي ، و هو من خراسان ، في 891-892م ، ان "بالقدس عددا كبيرا من العرب… ونسبة معينة من غير المسلمين، المسيحيين ،اليهود والسامريين." أما ابن الفقيه الهمذاني ، فقد حكى سنة 903م بعض الروايات عن القدس ، ووصف بالتفصيل مساجدها . كذلك قدم ابن عبد ربه (توفي سنة 940م)،وهو من قرطبة ، وصفا لمسجد قبة الصخرة ، علاوة عن النصب الإسلامي الأخرى في القدس ، على نحو ما فعل الاصطخري (ازدهر عمله سنة 950م)، وفي اثره ابن حوقل (توفي سنة 977م) ،وهو من أهالي القدس؛ فقد عدّد المنتوجات الرئيسية في فلسطين ، "التي كانت الحاصلات الزراعية منها وفيرة وممتازة، وهي تشمل الفواكه بأنوعها (ومن ذلك الزيتون والتين والعنب والسفرجل والبرقوق والتفاح والبلح والجوز واللوز والعنّاب والموز)، وكان بعضها للتصدير. كذلك هناك الحاصلات التحضيرية (ومنها قصب السكر ، والنيلة ، والسماق). ولكن الموارد المعدنية مهمة ايضا: فهناك الصلصال الطباشيري … والرخام من بيت جبرين ، والكبريت الذي يعدّن من الغور [وادي الأردن]، ناهيك بالملح والقار من البحر الميت. أما الأحجار التي تكثر في البلاد فهي أكثر مواد البناء استعمالا في المدن المهمة".
واقتفاء لأثر الخلفاء ، من عمر ومن تلوه ، حج الى القدس آلاف الاتقياء والصالحين. وكان للقدس أثرها في اجتذاب أتباع الحركة الصوفية منذ بدايتها في القرن الثامن. فنجد ،مثلا ، ان رابعة العدوية (نحو 717-801) التي خصص لها المقام الأول في قائمة الأولياء المسلمين الصالحين ، والتي دعت الى "التوبة والصبر والعرفان بالجميل وخشية الخالق واختيار حياة الفقر والتوكل التام على الله سبحانه وتعالى"، قد ارتأت ترك مدينتها البصرة في العراق ، كي تحيا وتتعبد وتموت في القدس. كما اجتذبت القدس، الى جانب الحجاج والمتصوفة ، سيلا متدفقا من العلماء والباحثين. وكان من هؤلاء كبار العارفين بالتفسير والحديث ، وسائر العلوم العقلية والنقلية ، الذين توافدوا على المدينة ليكتبوا ويحاضروا في مساجدها وعشرات المعاهد العلمية الملحقة بها.
وكان ابو حامد الغزالي حجة الإسلام (1058-1111م) أعظم أولئك الأئمة. فهو الذي يحتل مركز الصدارة في قائمة علماء الفقه والكلام المسلمين، ومن أكثر مفكري الإسلام أصالة. فقد فضل الغزالي ان يترك عمله كمحاضر في المدرسة النظامية في بغداد سنة 1095م، ليتخذ القدس مقرا له ، حيث بدأ العمل في تحفته العظيمة "احياء علوم الدين" ، وهو كتاب جليل يسعى فيه للتوفيق بين العقلانية والصوفية والاستمساك بالشريعة. ولم يقتصر هذا الكتاب على إحياء الفقه الإسلامي ، وانما ترك أثره أيضا في الفكر اليهودي والمسيحي ، بعد ان تُرجم بعض اجزائه الى اللاتينية. كذلك اتم الغزالي وهو في القدس ـ وبطلب من تلاميذه ومريديه ـ الرسالة القدسية ، وهي موجز لأسس العقيدة الإسلامية اصبح فيما بعد جزءا من كتاب الإحياء.
وكان عمر رضي الله عنه قد سمح للمسيحيين، كما أسلفنا ، بالتعبد في كنائسهم بالقدس من دون ازعاج. والتزم من جاؤوا بعده هذه السياسة التزاما شديدا ، باستثناء ما حدث في عدد من وقائع التعصب ضد المسيحيين في القدس سنة 966م (والتي اشترك فيها اليهود مع المسلمين)، وأيضا في سنة 1009م . غير ان قيام المسيحيين بالحج الى الأماكن المقدسة استمر بلا انقطاع. ووافق الخليفة العباسي ، هارون الرشيد ، (786-809م) على طلب شارلمان إقامة نزل للحجاج المسيحيين في فلسطين ، كما سمح للراهبات بالخدمة الدينية في القدس.
وكان اليهود قد منعوا من العيش في القدس ، بقرار من الرومان في عهد هادريان ، ثم بأمر من البيزنطيين المسيحيين . وأغلب الظن ان يكون الأهالي المسيحيون قد طلبوا من عمر ، خلال تفاوضهم في امر تسليم المدينة له ، إدراج فقرة في عهدته تنص على منع اليهود من الاقامة في القدس. غير ان خلفاء عمر خرجوا عن شروط المعاهدة، فيما يختص باليهود، وبدأوا ـ بالتدريج ـ يسمحون لهم بالاقامة في المدينة. والظاهر ان أول ذكر لوجود معبد يهودي في القدس هو ما ورد في كتاب ناصري خسرو سنة 1047م .
الحروب الصليبية والحملات المضادة لها
انقطع تسلسل الحكم العربي والإسلامي لفلسطين بتأثير الغزو الصليبي ، وإقامة مملكة القدس اللاتينية (1099-1187م) . لكن الحملات المضادة للصليبيين ، بقيادة السلطان صلاح الدين الأيوبي (توفي سنة 1193م) وخلفائه ، استمرت حتى سنة 1291م، حين استرد المسلمون آخر المعاقل الصليبية في قيصرية وعكا . وقد قام الصليبيون ، بعد دخولهم القدس ، بتعذيب واحراق وذبح الآلاف من المسلمين العزّل (من الرجال والنساء والاطفال)، فضلا عن العدد القليل من الأهالي اليهود الذي التجأوا الى معبدهم. وبالمقارنة بذلك ، نجد ان دخول صلاح الدين الى القدس (1187م) ، وهو في اوج قوته العسكرية ، قد اتسم بالتوقير والإجلال للمدينة، وبالعطف والرأفة على سكانها المسيحيين ، على نحو ما اظهره عمر قبل خمسمئة سنة. وكما قال ستانلي لين ـ بول (Stanley Lane Poole): "لئن كان استرداد القدس هو الشيء الوحيد الذي يعرف به صلاح الدين ، فهو امر كاف للتدليل على انه كان أكثر فاتحي عصره ، وربما العصور كافة ، فروسية ورحابة صدر" .
وكانت أولى المهمات التي قام بها صلاح الدين ، بعد دخوله القدس ، تطهير قبة الصخرة والمسجد الأقصى مما علق بهما من دنس. وعلى مدى اسبوع كامل ، ظل وجهاء القوم وعامتهم يعملون ،جنبا الى جنب ، لغسل الجدران والأرضيات ورشها بماء الورد. وأعيدت الى اقارب وأسلاف الأهالي المسلمين في القدس (الذين أصبحوا لاجئين بسبب الفتح الصليبي للمدينة) ممتلكاتهم. وفي الحالات التي لم تعرف فيها هوية المالكين، سلمت المباني الى العشائر العربية المعروفة. وأدخل صلاح الدين نظام "المدرسة" في القدس ، وأوقف مالا على مدرسة من هذه المدارس عرفت باسمه ،وهي الصلاحية. كذلك اوقف مالا على مستشفى ورباطين للعلماء والمتصوفة. أما الجنود الذين استشهدوا في حملته ، فقد دفنوا بأمره خارج بوابة الرحمة عند الجانب الشرقي للحرم الشريف. وفي سنة 1193م، شيّد الأفضل بن صلاح الدين مسجد المغاربة بالقرب من بوابة المغاربة، عند الجانب الغربي من الحرم. وكانت تلك هي البقعة التي قيّد فيها النبي محمد ، عليه الصلاة والسلام ، مطّيته "البراق" بعد إسرائه. وأوقف الأفضل الأرض الواقع الواقعة خارج البوابة على المسجد ، لخدمة الحجيج والعلماء والمجاورين من بلاد الغرب.
وسمح صلاح الدين وخلفاؤه الأيوبيون للمسيحيين بالاقامة في القدس ، وممارسة شعائرهم الدينية فيها. وفتحت أبواب المدينة أمام الحجج المسيحيين من أوروبا ، وإنْ ظل الخوف يعتمل في النفوس قرونا طويلة، من احتمال ان يفكر الافرنجة في احتلال المدينة ثانية. وكان عدد اليهود المقيمين في القدس ، في عهد الصليبيين ، قد تضاءل الى شخص واحد ، وهو صبّاغ ، كتب عنه الحاخام بتاحيا الريجنزبيرغي (Pethahiag of Regensburg) (نحو 1177م). أما صلاح الدين وخلفاؤه ، فقد أحيوا الوجود اليهودي في القدس. والواقع ان الديار الإسلامية جميعا قد اصبحت ـ بعد انهيار الفتح الصليبي ـ موئلا لليهود من أوروبا . وكان ذلك على عكس مسلك الصليبيين الذين كانوا مناهضين للسامية والاسلام.
وأثارت الحرب الصليبية والحملات المضادة لها اهتماما كبيرا بفلسطين ، من جانب المسلمين والعرب ؛ وهو اهتمام اتخذ ثلاثة أشكال : الأول ظهور عدد كبير من الكتاب والشعراء الذين تغنّوا بالمغزى الديني للقدس وقيمتها، في نطاق نوع جديد من الانتاج الأدبي ـ الديني عرف باسم كتب الفضائل. وكان مضمون هذه الأعمال الاشادة بفضل الصلوات التي تؤدي في القدس ، وبمزايا الحج اليها او الاقامة او الوفاة فيها. ولم تكن القدس المدينة الفلسطينية الوحيدة التي اختيرت لتوقيرها. فقد ابرز الكتاب والشعراء والمتصوفة الأضرحة والمقامات والمزارات الإسلامية في أنحاء اخرى من فلسطين (ومن ذلك قبر هاشم ، جد الرسول عليه الصلاة والسلام، في غزة) ، فضلا عن المواقع المرتبطة بالأنبياء والأولياء والصالحين ، مثل القبور او المواضع التي كان يضن ان الأنبياء قد ولدوا فيها ، او زاروها ، أو سكنوها ، او دفنوا فيها ، او ظهروا للبعض فيها بالمنام. أما الشكل الثاني لاهتمام العرب والمسلمين بفلسطين ، فقد تمثل في تضاعف عدد رحلات الحج والزيارات لها ، بحيث اصبحت تلك ظاهرة منتظمة واسعة الانتشار في المنطقة . كذلك اشتدت المنافسة، بين السلاطين والحكام والأمراء المسلمين وكبار القوم الأثرياء ، في بناء المؤسسات العامة، كالمدارس والرُبُط والزوايا والأنزال والسبل والمستشفيات والحمامات ، وأوقفوها جميعا ، وخصصوا للانفاق عليها من عوائد المزارع والمتاجر الأموال الوفيرة.
ولم يكن اهتمام المسلمين والعرب بفلسطين نزوة عابرة كردة فعل للتهديد الصليبي. ففي أثناء القرنين السابع عشر ميلادي والثامن عشر ميلادي مثلا ، أي بعد دحر الصليبيين بمئات السنين، اتخذ هذا الاهتمام شكلا جديداً. فقد اصبح الحج الى القدس من المبادئ الأساسية لكثير من طرائق الصوفية. وبات مسجد قبة الصخرة في القدس ملتقى لشيوخها وأتباعهم ، يأتونه من دمشق والقاهرة وغيرهما من المدن ، ليختلوا في جواره ويلتقوا مريديهم عنده. وكانت تقام هناك حلقات الذكر وتلاوة الأوراد ، تردد خلالها صفات الله ومدائح نبيّه بتنويعات تبتعث حالة من الوجد عند موقع الإسراء والمعراج ذاته تصور المتصوفون أنها تحاكي حالة النبي عندما عرج الى السماء ، ذلك بأن اهل الطرائق نظروا الى المعراج على انه رمز لانطلاق الروح من إسارها الجسدي.
فلسطين في عهد المماليك
انتقل النفوذ والسلطان ، سنة 1260م، من ايدي الأيوبيين خلفاء صلاح الدين ، الى ايدي المماليك سلاطين مصر ، ومنذ ذاك الحين حتى الفتح العثماني لمصر سنة 1517م، ظلت فلسطين جزءا من دولة المماليك . وكان المماليك هم الذين طردوا آخر الصليبيين من فلسطين ، وهم الذين هزموا جحافل المغول بقيادة هولاكو ، حفيد جنكيز خان ، سنة 1260م ، في موقعة عين جالوت قرب الناصرة فأنقذوا البلاد من دمار محقق. وقد ظل "جند فلسطين " ـ وهو الوحدة الادارية التي كان الخليفة عمر رضي الله عنه قد أنشأها ـ على ما هو عليه ، باستثناء فترة احتلال الصليبيين لأراضي فلسطين . وقد نظم المماليك إدارة البلاد ، بتقسيمها الى ستة اقضية هي : غزة ، واللد ، وقاقون ، والقدس ، والخليل ونابلس . وظلت هذه الأراضي، الواقعة غربي نهر الأردن ، بمثابة مفترق طرق رئيسي يربط القاهرة بدمشق وحلب ، لا يعبره التجار فحسب ، وانما يمر به الاداريون والحجيج والرسل والجند والعلماء.
وقد منح المماليك القدس مزايا خاصة ؛ فقد خفف الكثير من السلاطين ضرائبها ، او قدموا المصاحف الرائعة لمساجدها ، في حين قام معظمهم ببناء المدارس والرُبط والزوايا والقناطر ، وبإصلاح وترميم الأورقة والمآذن. فقد بني السلطان بيبرس (1260-1277م) خانا او نزلا للتخفيف عن الفقراء، كما أعاد السلطان الأشرف قايتباي (1468-1495م) بناء مدرسة ما زالت تحمل اسمه ، وهي الأشرفية . وأشار الجغرافيون المسلمون ، مرات متكررة في كتاباتهم ، الى فلسطين والقدس خلال هذه الفترة ، وكان منهم ياقوت (1179-1229م) من منطقة الأناضول ، وأبو الفدا (1273-1332م) ، وهو من أسلاف شقيق صلاح الدين فضلا عن ابن بطوطة (1304-1977م) وكان من طنجة. وروى أولئك الكتّاب ما ورد من إشارات عن القدس في القرآن الكريم والحديث، ووصفوا مساجدها وأحرامها ومدارسها وأسواقها وأنزالها ومؤسساتها الدينية . ولعل من اهم الكتابات التي ظهرت عن القدس والخليل ، كتاب "الانس الجليل بتاريخ القدس والخليل " للقاضي مجير الدين ابي اليمين الحنبلي (1455 ـ 1520م) ، وهو كتاب جامع لتاريخ القدس ومؤسساتها وحكامها ، ولمن أمّها او دفن فيها من الصحابة والأنصار والأولياء وكبار العلماء والأمراء.
العثمانيون
أصبحت منطقة غرب آسيا بأكملها جزءا من الامبراطورية العثمانية ، منذ سنة 1516م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وتشهد المباني العظيمة للجدران المحيطة بالمدينة القديمة في القدس ، والتي أقامها السلطان العثماني سليمان القانوني (1520-1566م)، على مكانة القدس في نظر العثمانيين. ومن الدلائل المهمة ، أيضا الوقف الذي خصصته سنة 1552م خسكي سلطان، زوجة سليمان والمفضلة لديه. فقد شيّدت مجمعا في القدس ابتغاء "رضا الله سبحانه وتعالي ، من أجل الفقراء والمحتاجين ، والضعفاء والمحزونين" ، ضم تكّية "لها خمسة وخمسون بابا" ، ونزلا ومطبخا عاما ومخبزا واسطبلات ومخازن. ونصّت حجة الوقف على عدد الموظفين المطلوبين لإدارة هذا المجمع ، من خدم وكتبة وطهاة (ومتدربين ) ومفتشي أطعمة وغسالي صحون وطحّانين وعمال وجامعي قمامة. ووصفت حجة الوقف بالتفصيل نوع الوجبات التي تقدم ، والعناصر الغذائية المستخدمة ،والكميات التي يتعين طهيها. ورصد الوقف لصيانة المبنى عوائد تحصّل من ثلاث وعشرين قرية فلسطينية ، علاوة على عوائد تجلب من قرية في شمال لبنان، ومن متاجر ومصانع صابون في طرابلس. وقد ظل مطبخ خسكي سلطان ومخبزها يعملان طوال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.
وواصل العثمانيون، بحرص شديد، تطبيق الأساليب الإسلامية نفسها في التسامح والاعتدال تجاه المصالح الدينية المسيحية في فلسطين . وتم الاعتراف ببطريكية الروم الأورثوذكس في القدس ، في القرن السادس عشر ، باعتبارها القيّمة على الأماكن المقدس. وأصبحت فرنسا ، في الوقت نفسه تقريبا ، راعية الرهبان الكاثوليك. وفتحت الامبراطورية العثمانية أبوابها ـ شأنها في ذلك شأن سائر أنظمة الحكم الإسلامية السابقة عليها ـ أمام مئات الآلاف من اللاجئين اليهود ، الذين فروا من الاضطهاد الديني المسيحي في اسبانيا وغيرها من دول العالم المسيحي . لكن الأغلبية العظمى من هؤلاء اليهود سلكت مسلك أسلافها في القرون الماضية بعد الحروب الصليبية وفضلت الا تعيش في فلسطين ذاتها. ومن هنا هبط عدد اليهود ، في القدس مثلا في القرن الأول للحكم العثماني من 1330 شخصا سنة 1525م الى 980 شخصا سنة 1587، وانخفض عددهم في القرن التالي الى 150 شخصا سنة 1688م، واستمر في الانخفاض الى ان بلغ 115 شخصا في منتصف القرن الثامن عشر . وحتى بحلول القرن التاسع عشر ، لم يستفد إلا قلة من اليهود من فرصة الاستقرار في فلسطين . أما الذين اختاروا العيش فيها ، فقد اقتصرت اقامتهم على مدن اربع هي : القدس ، والخليل وصفد وطبرية. ووضع العثمانيون طائفة من الأحكام واللوائح ، تضمنت حقوق اليهود والمسيحيين وواجباتهم في ممارسة شعائرهم الدينية في مزاراتهم ، واستندت هذه الأحكام الى العرف والى الحقوق التي اقر بها الحكام المسلمون منذ العهدة العمرية .
ولم يعرقل العثمانيون نشاط التجار الأوروبيين في مدن فلسطين الساحلية. وكانت الحاصلات الزراعية والمنتوجات الصناعية في المناطق الداخلية من البلاد ، تصدر الى أوروبا عبر موانئ غزة وعكا ويافا. كذلك استمرت طرق التجارة البرية مفتوحة بين سوريا ومصر عن طريق فلسطين ، في حين التقت طرق الحج الى مكة المكرمة (سواء من القاهرة او دمشق او غيرهما) في بلدة العقبة الفلسطينية . وبحلول منتصف القرن التاسع عشر ، كانت دول اوروبية كثيرة قد فتحت لنفسها قنصليات في فلسطين . وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، بدأت البعثات التبشيرية المسيحية ، من كاثوليكية وبروتستانتية ورومية أورثوذكسية ، تتغلغل بمدارسها ومستشفياتها ومطابعها وأنزالها. وفي سنة 1892 ، أكملت شركة فرنسية بناء خط حديدي يصل ما بين يافا والقدس . وكانت فلسطين ، قياسا بجميع الولايات العربية في الامبراطورية العثمانية ـ باستثناء القطاعات المارونية من جبل لبنان ـ أكثر المناطق انفتاحا على أوروبا المسيحية.
لكن هذا الانفتاح كانت له سيئاته أيضا ، ولا سيما مع الاضمحلال التدريجي لسلطة العثمانيين السياسية والعسكرية. فقد ادت الثورة الصناعية ، والتغلغل الاقتصادي الأوروبي الى توجيه لطمة كبرى للحرف والصنائع المحلية ، والى ممارسة ضغط سياسي متزايد على الآستانة. ومن مظاهر هذا الضغط اقامة نظام من الامتيازات الأجنبية (Capitulations) يعطي الأجانب ، الزائرين او المقيمين ، وحتى من اكتسب الجنسية الأجنبية من المواطنين ، أنواع الحصانة تجاه السلطات الادارية والقضائية العثمانية. ولقد استفاد أكثر من استفاد من هذه الامتيازات أوائل المهاجرين الصهاينة الى البلاد.
وفي عام 1887-1888 ، قسمت المنطقة التي عرفت فيما بعد بفلسطين تحت الانتداب ، الى ثلاث وحدات إدارية هي : سنجق القدس ، الذي كان يتألف من نصف أراضي البلاد في الجنوب ، وسنجقا نابلس وعكا في الشمال . قد ألحق السنجقان الشماليان بولاية بيروت . أما سنجق القدس ، فقد تم حكمه من الآستانة مباشرة ، نظرا الى اهميته للعثمانيين. أما شرق الأردن ، فكان منفصلا إداريا عن سناجق فلسطين ، وملحقا بولاية سوريا ، وعاصمتها دمشق.وفي ذلك الوقت كان تعداد سكان السناجق الفلسطينية الثلاثة 600000 نسمة تقريبا ، منهم نحو 10 % من المسيحيين والباقي من المسلمين السنة في معظمهم. وكان عدد اليهود نحو 25000 شخص نصفهم من المتدينين الذين كانوا يكرسون حياتهم للصلاة والتعبد ، ويتعمدون الابتعاد عن التوظف او التجارة او الزراعة. أما سائر اليهود فلم يكونوا من المواطنين العثمانيين، بل من حملة جنسيات اجنبية تتمتع بحماية نظام الامتيازات الذي ذكرنا. وحتى ظهور الصهيونية كانت العلاقات بين الفلسطينيين واليهود مستقرة ومسالمة ، يدعمها أكثر من ألف سنة من التعايش والعداء المشترك للغير.
ومما ساهم في مناخ التسامح والاعتدال ، ذلك التوقير الذي كان يشعر به المسلمون تجاه الأنبياء كافة ، وهو شعور تأصل في حالة فلسطين بسبب تقاليد الحج الى المقامات الدينية كما ذكرنا. وكان المسلمون الفلسطينيون أكثر من غيرهم شعورا بهذا الاحترام والتوقير، لأنهم كانوا يعيشون على مقربة من المواقع المقترنة بأولئك الأنبياء . وكانت المساجد والمزارات الإسلامية التي تكرم الأنبياء العبرانيين ، وتحمل أسماءهم باللغة العربية ، من السمات العادية في الحياة الفلسطينية العامة. ولعل من الأمور الفريدة وسط المسلمين ، مسلك الفلسطينيين في الاحتفال بالاعياد الدينية التي تكرم الأنبياء العبرانيين. ويتضح التسامح نفسه في مواقف المسلمين الفلسطينيين من رفاقهم المسيحيين، وهي علاقات خلت من التوتر بصورة ملفتة للنظر (على عكس الأوضاع التي سادت في دول عربية مجاورة). وليس مصادفة ان يعهد مختلف الطوائف الدينية المسيحية في القدس بمفاتيح كنسية القيامة الى اسرة فلسطينية مسلمة.
ومع ان الفلسطينيين كانوا يفاخرون بتراثهم العربي ، الا انهم كانوا يعتبرون انفسهم منحدرين لا من صلبة الفاتحين العرب في القرن السابع فحسب ، وانما أيضا من شعوب متوطنة عاشت في تلك البلاد منذ الأزل، ومنها العبرانيون القدامى والكنعانيون قبلهم. ورأى الفلسطينيون انفسهم ،وهم المدركون إدراكا واعيا لتفرد التاريخ الفلسطيني ، انهم ورثة كل هذه الروابط والعلاقات. وكان ولاؤهم السياسي للآستانة، لأن السلطان العثمانية كان الخليفة ورأس الأمة الاسلامية، ولأنهم شعروا بشعور المواطنين لا بشعور رعايا الدولة. وقد اشتقوا شعورهم بالمواطنة من حقيقة ان الاتراك العثمانيين لم يستعمروا قط الولايات العربية، بمعنى الاستيطان فيها على حساب أهل البلاد. ومن ثم اكتسبت صفة "العثمانية" بين العرب صفة المشاركة بينهم وبين الأتراك في نطاق دولة واحدة، لا صفة الهيمنة من قبل مجموعة عرقية على اخرى . ومع ذلك ، توترت العلاقات بين مختلف المجموعات العرقية داخل الامبراطورية ، خلاف الفترة الواقعة ما بين نهاية القرن والحرب العالمية الأولى، وذلك بتأثير الشعور القومي الأوروبي؛ فقد تأثر العرب والأتراك معا بهذا المناخ العام ، الذي عزز جاذبية الهوية الثقافية والسياسية المتميزة لهذا الجانب وذاك. ومن المؤثرات الأخرى القوية في الاتجاه نفسه ، نهضة العرب الفكري والأدبية ، التي تبلورت عند نهاية القرن التاسع عشر ، وشعّ أثرها من القاهرة ودمشق وبيروت.
وكان اعلان الدستور العثماني الجديد سنة 1876(على الرغم من قصر عمره ) مدعاة الى إجراء أول انتخابات لانشاء مجلس نيابي عثماني ، انضم اليه مندوبون من مختلف الولايات العربية ، ومنهم فلسطينيون من القدس . (ومما يلفت النظر ان يحتل فلسطينيون مقاعدهم في المجلس النيابي في الآستانة ، قبل عشرين عاما من عقد الصهاينة أول مؤتمر لهم في بال سنة 1897).
كذلك عُينّ العرب ، ومنهم الفلسطينيون ، في مناصب عليا ، لا في سلك الخدمة المدنية او السلك الدبلوماسي او الهيئة القضائية او الجيش فحسب ، وانما كوزراء في الحكومة العثمانية أيضا. وساعدت ثورة حزب الاتحاد والترقي العثماني سنة 1908، التي جاءت بالاصلاحيين الى الحكم، في إثارة آمال العرب والفلسطينيين ، وأنعشت الحوار السياسي والنشاط الفكري الذي تمثل، في فلسطين بظهور العديد من الصحف والمنشورات الجديدة. وانتخب مندوبون عن القدس ويافا ونابلس وعكا وغزة ، لحضور المجلس النيابي العثماني في سنتي 1908 و1912. لكن الاصلاحات العثمانية لم تتمكن من التغلب على تدهور العلاقات التركية ـ العربية ؛ فقد رغب كثيرون في الحصول على قدر أكبر من السلطة ، ودعا البعض الى تطبيق نظام اللامركزية ، في حين تحدث آخرون عن الوحدة العربية والثورة والاستقلال.