تقرأ فيما كتبه الزوار والحجاج إلى الأراضي المقدسة ملاحظات وإشارات ذكية، تعين الباحث على تفسير المأثورات الشعبية من خلال اندهاش أصحاب تلك الكتابات إزاء بعض التقاليد والطقوس الغريبة التي تبدو واضحة تماماً في مظاهر حياته في الحياة الشعبية.
ومن المظاهر الشعبية التي يبدي فيها التباين واضحاً بين العقليتان الشرقية والغربية؛ تقاليد الزواج. وفي حين لا يحبذ الغربيون الزواج من داخل العائلة؛ نجد هذا النوع من الزواج قانوناً اجتماعياً كان من الصعوبة بمكان أن يخرج الناس عنه، وأن تفسير هذه الظاهرة يلقي الضوء على البنيتين الاقتصادية والاجتماعية للحياة الشعبية في بلادنا. لقد كان الزواج من ابنة العم مسألة مسلم بها، ويندر أن يخرج عليها أحد، لدرجة أن الناس في الوسط الشعبي يخلطون بين "بنت عم" بمعنى (ابنة العم)، و"بنت عم" بمعنى (زوجه).
ونجد في المأثورات الشعبية مصطلح "بنت عم" بمعنى زوجة:
واللي عنده بنت عمه خليلته
يدني لها عوج الرقاب تشيل
ترى بنات العم صبارة ع الجفا
أما الغريبة بدها تدليل
إن الإشارة في البيت الثاني إلى الرجل الذي لديه بنت عم غريبة؛ تدل بوضوح على أن معنى بنت عم هنا: زوجة، وليس ابنة عم بالمعنى الحرفي. ترى ما هي الأسباب التي جعلت من الإصرار على زواج ابنة العم أمراً يجعله أشبه بالقانون الثابت الذي لا محيد عنه؟
ونجد في مقدمة هذه الأسباب:
الأرض:
يدفع الفلاح مهراً كبيراً لعروسة ابنه، ولم يكن مثل هذا المبلغ متوفراً في الوسط الشعبي في عهد خضع فيه الفلاحون الفلسطينيون في القرن التاسع عشر لابتزاز ضريبي من جانب السلطة العثمانية، وابتزاز إضافي من جانب الإقطاعيين والأشياخ و ملتزمي الضرائب؛ لذلك كان المهر في كثير من الحالات عبارة عن أرض يقدمها والد العريس لوالد العروس، وهو إما أن يقدم الأرض مباشرة؛ أو يبيعها ليحصل على المال، وفي كلا الحالين يخسر الأرض. وكان انتقال الأرض داخل العائلة مسألة مقبولة؛ أما انتقالها خارج العائلة فهو كارثة كبرى؛ لأن ذلك يعني التخلي عن ثروة العائلة لعائلة أخرى غالباً ما تكون بينهما عداوة. ويمكننا أن نتفهم الأمر بوضوح إذا ما عرفنا أن الحياة الشعبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت مجرد امتداد للحياة القبلية التي كانت سائدة في العصر الجاهلي؛ فالحياة الصعبة التي كانت تعيشها القبيلة العربية، فرضت عليها ضرورة التماسك لمواجهة قسوة الحياة ومتطلباتها، وكانت خسارة الأرض بالنسبة للقبيلة بداية الضعف أمام القبائل الأخرى؛ ومن أجل ذلك وجدنا أن العقلية الشعبية قد تفتقت عن طريقة معينة في الزواج تحمل اسم "زواج البدل"، إذ يتزوج شاب من نفس العائلة أخت شاب آخر من العائلة نفسها، ويزوجه مقابل ذلك أخته، بثروتها كاملة، وتمر زوبعة الزواج دون خسارة حقيقية مع الحفاظ على تماسك العائلة.
ولابد من النظر هنا إلى مسألة تماسك العائلة أو القبيلة في ضوء الوضع الاقتصادي العام للقرية الفلسطينية في القرن التاسع عشر، عندما كانت القرية تضم عشيرة أو أكثر وتعتمد كل عشيرة في بقائها أمام العشائر الأخرى على قدرتها الذاتية، وليس على حماية القانون والسلطة التي لم يكن يهمها سوى فرض هيبة الباب العالي. ومن أجل تحصيل الضرائب، وإكراه الناس على إرسال أبنائهم إلى الخدمة العسكرية؛ وكان الحفاظ على الأرض من أهم العناصر التي تعزز القدرة الذاتية للعشيرة؛ وبالتالي تعزز فرص بقائها قوية عزيزة.
وقد قادت رغبة الحفاظ على العشيرة قوية متماسكة إلى أن يستحيل الزواج إلى مجرد صفقة تتم في سياق خدمة الصالح العام في العشيرة وعلى مستوى البيت الواحد، وقد تمثل ذلك فيما يلي:
1- لم يكن يتم النظر على الإطلاق إلى رغبة أحد العروسين بالزواج من الآخر، أو موافقته على الزواج، وكان الشخص الذي يختار العروس هو الأب أو الأم أو العم، ويتم ذلك ضمن اعتبارات الصالح العام للعشيرة، ومن أجل ذلك؛ لاحظنا اندهاش الدارسين الغربيين أمام فشل المحبين في الجاهلية وما بعدها في الوصول إلى بعضهم البعض، ذلك لأن الحب لم يكن مسألة لها دخل في تقرير مسألة الزواج.
2- وكان يتم النظر إلى زواج البنت من رجل غريب على أنه أمر يجلب المتاعب للعائلة، فزواجها من الغريب أشبه باستقدام عدو، وفي مثل تلك الحالات كانوا يقولون "البنات بجيبن العدو عالمصطبة"، أي أن البنت التي تتزوج من شخص غريب عن العشيرة كانت تضطر أهلها لاستقبال ذلك الغريب في الوضع الاجتماعي الضيق الذي كان يعتبر كل من كان خارج حدود العشيرة غريباً وعدواً.
3- لقد كانت المرأة بصورة عامة جزءاً من ممتلكات العشيرة، وعلى الأصح جزءاً من ممتلكات الرجال، ونحن نستدل على ذلك بملاحظة أن أي شخص في العائلة كان يحق له أن يؤدب البنت أو المرأة إذا خرجت عن الخط العام للسلوك الاجتماعي الذي أراده الرجال، وهناك الكثير من الشواهد على ذلك؛ فالمرأة التي ترتكب خطأ؛ يقولون فيها: يلعن اللي قانيها، اللي ظابّها في داره، اللي حاويها … الخ وهكذا، فإن خطأها هو خطأ صاحبها – مالكها.
وانطلاقاً من فكرة التمسك هذه كان تزويج البنت خارج العشيرة نوعاً من التنازل عن الممتلكات، وأحق الناس بالحفاظ على ممتلكات العائلة هو ابن العم.
4- وانطلاقاً من الرغبة في المحافظة على تميز العائلات الإقطاعية وهيبتها والادعاء بشرف نسبها، ضمن الرغبة في الحفاظ على تميزها الاقتصادي، كانت العائلات الإقطاعية تحصر الزواج داخل حدود العائلة، محافظة على النسب الإقطاعي الذي هو في حقيقته محافظة على ثروة العائلة.
5- وقد جرت الاعتبارات الاقتصادية إلى تزويج الصغار من بعضهم البعض؛ فكان الناس يزوجون الأبناء والبنات حتى قبل سن البلوغ، وهناك حالات تزوجت البنات ومن في الثامنة من عمرهن؛ لإنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء الذين سيعملون في أرض الحمولة. صحيح إن اعتبارات الشرف والحفاظ على العرض واردة في هذه المسألة، لكن الاعتبارات الاقتصادية هي الاعتبارات الطاغية؛ فالعشيرة كانت تعتمد كثيراً على جهد الأيدي العاملة، ومن أولى بالعمل داخل الأسرة غير أبناء العمومة؟
6- وهكذا كانت العشيرة تحبذ زواج ابن العم من ابنة عمه لينضم الاثنان إلى عائلة الأب، التي كانت تضم في كثير من الحالات عدة أسر، الأب وزوجته وأبناؤه وزوجاتهم، ويتحول هؤلاء الأبناء وزوجاتهم إلى أيد عاملة نشيطة، فالولد يعمل في حراثة الأرض، وتعمل الزوجة في إعداد الطعام، وجمع الوقود، والقيام بخدمة الحيوانات التي تعمل في الزراعة والمشاركة في خدمة العائلة وجني المحصول بكل الصور.
7- وكان الناس يكرهون أن تتزوج بناتهم خارج العائلة لاعتبارات أخرى ذات صلة بوضع القبيلة أو العشيرة، فالبنت التي تتزوج خارج العائلة بحاجة إلى أن يقوم أهلها بزيارتها في كل مناسبة، وحمايتها من كل ضيم قد يقع عليها، إن التركيبة القبلية المغلقة كانت تعتبر مثل تلك المرأة غريبة.
وهذه المرأة الغريبة يعود أمر تأديبها على أهلها، وليس على زوجها أو أهل زوجها، وكان الناس يخشون أن يصيب ابنتهم مكروه أثناء الغربة، كأن يعتدي عليها أحد، أو تقصر هي في الحفاظ على شرفها وسمعة أهلها، وفي هذه الحالة تعود السمعة السيئة على مجموع القبيلة وليس فقط على والد البنت أو أخيها، وفي كلا الحالتين نفهم الأمر بأنه شيء ضد تماسك العشيرة وهيبتها؛ ففي الحالة الأولى؛ تخسر العشيرة مالاً وهي تقوم بزيارة الغريبة أثناء السفر ومن أجل الهدايا ونحو ذلك، وفي الحالة الثانية؛ تمس السمعة السيئة مجموع العشيرة وينال ذلك من مكانتها وهيبتها.
وكان لابد أن يفرز الوجدان الشعبي عدداً من الأقوال والأغاني التي تؤيد الخط العام للفكر الشعبي المتعلق بالتأكيد على ضرورة الزواج داخل العائلة والتنديد بزواج الغريبة. ويقال في هذا المجال "غريبة ما غربها إلا الدراهم". والمعروف أن العريس الذي يتزوج فتاة من خارج عائلته يضطر إلى دفع مبلغ كبير أو أرض كبيرة مهراً لها، وبذلك تكون الأسباب الاقتصادية هي الدافع الرئيسي لأن يتم تزويج بنت خارج عائلتها.
وتغني النساء عند الزواج الغريبة:
" الغريب يا خدرج
يا ريته في الكفن يدرج "
لكنهن يقلن في حالة الزواج من ابن العم كلاماً يؤيد الخط العام للوجدان الشعبي:
يا ابن العم يا شعري على ظهري
إن أجاك الموت لأرده على عمري
يا ابن العم يا ثوبي علي
إن أجاك الموت لأرده بيدي
يا ابن العم يا ثوب الحرير
لحطك بين جناحي وأطير
وأهدي بك على برج الخليل
فابن العم، كما يقول الوجدان الشعبي، هو جزء من ابنة العم مثلما يكون شعرها جزءاً من ستار ظهرها ومثلما يسترها ثوبها، ذلك لأن الزوجين – داخل العائلة – يقومان بالتضامن في المحافظة على ثروة العائلة، أي قوتها المعنوية، ولا يمكن أن يتهيأ مثل هذا الأمر عند الزواج خارج نطاق القبيلة التي تعتبر الفتاة مجرد جسم غريب في جسم القبيلة لا يؤمن له، وفي نفس الوقت لا يهتم الناس كثيراً في حالة وقوع الخطأ في سلوك تلك الغريبة، فهي ليست بالضرورة جزءاً من الكيان العشائري الذي يهمهم ثباته أو استمراره وتماسكه.
و أما الحالات الأخرى التي تتحدث عنها الحكايات الشعبية ويظهر فيها البطل وقد تزوج من ابنة السلطان، أو أحضر معه فتاة أنقذها من براثن الغول، فهي حالات يمكن تفسيرها على أنها نوع من الحلم يمارسه وجدان الناس، أو هي المكافأة التي يحصل عليها الفارس المغوار، الذي يجوب الآفاق، ويخترق المصاعب، فيحقق حلمه بالحصول على فتاة رائعة، وتظل المسألة هنا محصورة ضمن النطاق الخرافي، أما على صعيد الواقع؛ فإننا لا نستطيع تفسير الإصرار الشامل على الزواج من داخل العائلة إلا من الزاوية التي تفهم بها التركيبة الاجتماعية للقبيلة العربية في الصحراء العربية، إن هذه القبيلة تعتمد على مراع ترعى بها مواشي القبيلة، وعلى الغزو. وفي الحالتين كلتيهما، فإن القبيلة بحاجة لمجموعة كبيرة من الفرسان، تطيع شيخ القبيلة وتحقق النصر والغنيمة في الفوز وما عدا ذلك فهو مجرد ممتلكات لتلك النخبة التي تحكم القبيلة، ويصبح الزواج في ظل هذه التركيبة مجرد أداة لخدمة الأهداف العامة للقبيلة و العشيرة.
الزواج المبكر:
في الفترة بين عام 1925 و 1931 تزوجت جميع الفتيات في قرية أرطاس (بقضاء بيت لحم) وهن دون سن النضج، باستثناء ثلاثة منهن: فاطمة التي تزوجت بعد سن النضج مباشرة، فضية التي كانت مريضة مرضاً مزمناً يمنعها من الزواج، وزريفة التي كانت تنتظر ابن عمها.
وهناك حالات كثيرة تقرر فيها مصير البنت في الزواج يوم ولادتها، وهذا ما يسمى في الوسط الشعبي (عطية الجورة) أي خطبة البنت فور ولادتها. وتعدّ هذه الخطبة مسألة نافذة المفعول، ويحترمها الناس احتراماً دقيقاً، وقد رأينا حالة من هذا القبيل، فبعد أن كبرت البنت التي تمت خطبتها فور ولادتها؛ رفض شيخ القرية إجراء عقد الزواج.
ترى ما الذي جعل الناس يفكرون في مسألة خطبة البنت وهي في اللحظات الأولى من عمرها، (تستلقي في السلة)، أو تتمدد على (صينية القش)؟ وما الذي يدفع رجلاً لأن يقول لابنه خذ (منديلاً) و(ربع مجيدي) وبارك لوالد البنت المولودة على التو، وقدم المنديل والمال من أجل أن يلعن الأب بأنه أعطى البنت إليك، ثم هل من العبث أن توحي التعابير اللغوية في تقديم التبريكات بأن الأمر هو أشبه بعقد إيجاب وقبول؟ يقول الصبي لوالد البنت "مباركة العروس" ويجيب الأب "أجتك على حبل إيدك"
إن اعتبار البنات في الوسط الشعبي وكأنهن جزء من ممتلكات العشيرة؛ يجعلهن موضع تنافس شديد على الفور بهن. ومن حيث المبدأ؛ فإنهن من حق أقرب الأقربين إليهن. وتزداد حالة التنافس هذه فيما إذا كان الخاطب من خارج القرية؛ فقد أعطت القوانين الاجتماعية غير المكتوبة الحق لابن العم أو (القريب) أن يعترض على زواج قريبته من رجل غريب.
وتبيح هذه القوانين الاجتماعية المتعارف عليها لشباب القرية عموماً أن يعترضوا على زواج صبية من القرية لرجل غريب، ولا يجوز رد طلبهم إلا بعد إرضائهم بم يسمى شاه الشباب، وهي شاه تقدم هدية لهم من أجل استرضائهم.
إن دراسة أسباب الزواج المبكر ومسألة التنافس على الفوز بعروس، في حين يكون العريس مجرد شاب صغير السن لم يصل سن النضج، لهي أمور تساعد على فهم طبيعة الحياة الشعبية التي كانت سائدة في الثلاثينات من هذا القرن، وربما ما زالت بقاياها ماثلة في الحياة في الأوساط الشعبية إلى اليوم، كانت حياة الشباب والفتيات في الجيل الماضي خالية من المشاغل المرتبطة بعامل الزمن، بمعنى أنه لم تكن هناك مراحل دراسية تعتبر جزءاً من تربية الأجيال لا يمكن تجاهلها، بل كان الابن يندمج في الحياة العملية التي يحياها والده وهو في حدود السنة العاشرة من عمره؛ فيصبح ابن الراعي راعياً لصغار الخراف والماعز، ويصبح ابن الفلاح مساعداً لأبيه الحراث في حدود ذلك السن، ولم تكن وسائل الإنتاج بحاجة للتعليم والتدريب الذي يمارسه أبناء الجيل الحاضر، حتى أبناء الحرفيين من نجارين، وحدادين وبنائين، وحذائين ومزينين، كانوا يندمجون في حرف الآباء بمجرد أن تكتمل لديهم القدرة على الإمساك بالأدوات؛ وأما البنت فكانت تدخل الحياة العملية في سن أبكر، فتتعلم جمع الوقود وجلب الماء، والاندماج في إدارة شؤون البيت، ويتوفر لديها وقت طويل يسمح لها بالبدء في تطريز ثوب العرس والذي يستغرق منها عدة سنوات، وكذلك تجهيز قطع مطرزة تصلح للحياة الزوجية مثل أغطية الفراش، والأواني، وقطع الملابس الصغيرة المصنوعة بطريقة فنية، وتطريز الملابس الداخلية، وصناعة البسط الزاهية والألوان، وزركشة غطاء الفراش، وأواني الطعام، والإضاءة ونحو ذلك.
وليس من الصعب في هذا الوضع أن نستبين وضع ذلك المجتمع (الأبوي)، والذي تبرز فيه السيطرة الساحقة للأب، فالأب هو المستقبل الاقتصادي لابنه وبدون رضى الأب وموافقته لا يستطيع الابن أن يشق حياته، ذلك لأن الأب كان يسيطر سيطرة شاملة على وسائل الإنتاج، فهو الذي يملك الأرض والماشية ودكان النجار …. الخ، وفوق ذلك فهو الذي يمسك بالطريق المؤدي إلى الخبرة الفنية، فهو الذي يعلم ابنه الفلاحة أو الحدادة أو سواهما، وفي وقت كانت فيه المهن أشبه بالأسرار، كان يصعب على الصبي الصغير أن يصبح ذا خبرة فنية بدون وسيلة التعليم التقليدية يقدمها الأب لابنه مختاراً راغباً، والويل كل الويل للولد الذي يخرج عن رغبات الأب، فقد خرج من الحياة العملية إلى حياة التشرد.
وفي هذا المجتمع الأبوي كان الأب يوجه ظروف الزواج وشروطه وفقاً لأغراضه هو بصفته الوصي الكامل على الابن والمصدر الذي يمول عملية الزواج برمتها من مسكن وملبس ومهر ونفقات احتفال شعبي وجماهيري، وتدور هذه الظروف التي تحكم فيها الأب في فلك المصالح الاقتصادية، حتى في الحالات التي تقدم فيها تبريرات من مثل مسائل العرض والشرف، فإننا نلمح وراءها الطابع الاقتصادي؛ فالحفاظ على الشرف لا يمكن فصله عن الرغبة في الحفاظ على هيبة العائلة وتماسكها وقدرتها، وهي أمور تصب كلها في مصالحها الاقتصادية، ذلك إن إضافة زوجة – طفلة – لبيت العائلة هو أمر غير مكلف، على العكس تبدو مثل تلك الزائرة الدائمة الجديدة وكأنها خادمة أو يد عاملة مكتسبة تساعد الأم في عمل البيت وتعمل في الزراعة، وذلك الشيء يعزز وسائل الإنتاج السائدة، والتي هي في طبيعتها تعتمد على العمل اليدوي.
ومن ناحية أخرى، فإن زوجة الابن تعوض الخسارة في اليد العاملة التي حصلت لنفس البيت عن طريق تزويج بنت خرجت لبيت آخر، فالأم التي فقدت ابنتها بالزواج تستعيض عنها بإحضار زوجة شابة لابنها "كنة" وهكذا يظل التوازن قائماً، فالأم تزوج بناتها وتستعيض عنهن "بكناين" (زوجات الأبناء) يساعدن في العمل البيتي والمنزلي. وفي ظل هذه الموازين الاقتصادية يصبح من الضرورة بمكان أن يتم استقدام "الزوجات العاملات" وفي وقت مبكر لأهداف شتى؛ فالمرأة الشابة الصغيرة تخدم البيت والمزرعة مدة أطول، حتى في الفترة التي تكون فيها دون القدرة عل إنجاب الأطفال، كما أن تزويج الأبناء وهم في سن مبكرة يحميهم من الانحراف والتطلع للحياة خارج بيت "الوالد" ويضطر الشاب اليافع، بعد الزواج والبدء في إنجاب الأولاد إلى الارتباط بقوة ببيت أبيه ومزرعته من أجل أن يؤمن المعاش لتلك الزوجة، وسيل الأبناء الذي يأخذ بالتدفق في مجتمع لم يكن يفكر على الإطلاق في أمور مساعدة لوسائل الإنتاج القائمة، وكذلك فإن تزويج البنات في ذلك السن المبكر يحمي الوالدين من مغبة القلق على شرف البنات، ويتم استبدالهن بزوجات عاملات للأبناء، وفي هذا المجال يقولون "يا ميخذ الزغار يا غالب التجار"
وتحقق الأمهات من خلال تزويج أبنائهن في سن مبكرة، هدفاً نفسياً كبيراً، فهي تفرح بزواج ابنها، وتلجم الرغبة الجامحة لزوجها في أن يتزوج امرأة أخرى، لقد كان المألوف أن يتزوج الرجل امرأة ثانية وثالثة لتساعد النساء في خدمة الضيوف، والعمل المنزلي، وخدمة المزرعة.
إن إعداد الطعام للمضافة والضيوف كان جزءاً أساسياً من الواجبات الاجتماعية والي تصب في النهاية في خدمة الرجل، وكذلك عمل البيت، وعلى الأخص جلب الماء من العين وجمع الوقود، وخدمة دواجن البيت كل ذلك يحتاج إلى مجهود كبير وأيد عاملة كثيرة، ولا تستطيع زوجة واحدة أن تقوم به، ولذلك، فإن المرأة عندما كانت تستقبل زوجات جديدات؛ فإنها تسحب البساط من تحت رجلي زوجها وتفقده المبرر المادي للزواج الثاني.
وبنفس الطريقة التي يتم فيها قمع الرغبات الجامحة لدى الابن بالخروج من البيت والتخلي عن مسقط رأسه؛ يتم كذلك تطويع زوجة الأب لخدمة البيت والمزرعة، وزوجة الأب الصغيرة السن يمكن تلقينها أفكار الكبار ونظرتهم للحياة وتعويدها على التفاني في خدمة بيت العائلة، ولو كانت مثل تلك الزوجة كبيرة وناضجة لكان من الصعب إخضاعها لتحقيق أهداف العائلة الكبيرة.
ويتم الزواج المبكر ضمن صفقة تجريها العائلة في ما يسمى بزواج البدل، وزواج البدل هو أن يزوج الأب ابنته لشخص ما مقابل أن يحصل على زوجة لابنه أو لنفسه، وكثيراً ما كانت تحمل مثل تلك الصفقات في طياتها زواجاً من فتيات صغيرات، أو تزويجاً لشباب دون سن النضج، ذلك لأن صفقة الزواج التي تحمل بصمات وأهداف العائلة، هي صفقة اقتصادية بكل ما في هذا التعبير من معنى.
ونحن نستدل على طغيان الدوافع الاقتصادية التي تختفي وراء عملية الزواج من خلال استقراء فرحة العرس، وتلك المراسيم التي لا حصر لها والتي تسبق عملية الزواج، وربط ذلك بحقيقة أن الفرحة تكاد تكون معدومة لدى المتزوجين من الصغار، إن الفتيات اللواتي كن يتزوجن في العاشرة من العمر لم يكنّ ليفهمن أي معنى للفرحة، وكان الشاب لا يرى زوجته إلا ليلة "الدخول" ومع ذلك فما هو سر تلك "الأفراح الشعبية الحاشدة"؟.
إن تلك المراسيم ما هي إلا لاستعراض إمكانات الجاه والثراء والتأكيد على هيبة العائلة وقدرتها؛ فالعائلة هي التي تبرم صفقة الزواج وهي تحقق من ورائها مكاسب مادية، بالإبقاء على الأرض والثروة، وتسخر الأجيال الجديدة من أجل خدمة النظم الاقتصادية لدى العشيرة.
إن المسألة برمتها هي صفقة اقتصادية مشهورة تبدأ منذ اللحظات الأولى لولادة البنت، وتتجذر وتتعمق مع الزمن من خلال خدمة المصالح الاجتماعية والاقتصادية للعائلة.
وما دور الزوجين الصغيرين إلا دور تلك الأدوات المسخرة لخدمة الأهداف العامة للعائلة وعليهما أن يقوما بدورهما بصمت وتفان وطاعة عمياء لما يريده الأب والكبار في العائلة، حتى الفرحة التي يتغنى الناس بها فلا شأن لهما فيها، فالبنت تبكي في ليلة الحنا لأنها تغادر بيت أهلها وحماتها، والشاب الصغير أيضاً عليه أن يقتصد في إظهار مشاعر السرور، وإلا اعتبره الناس جاهلاً لم يبلغ مبلغ الرجال من الحزم والجدية.
يقول والد العروس مخاطباً ابنته عند خروجها:
"احنا ما أعطيناك لناس حيا الله … احنا أعطيناك لناس نركن عليهم"
ثم يخاطب والد العريس
- أنا أعطيتك بنتي يا أبو فلان … ما أعطيتها لابنك …
في هذا التعبير المجازي يظهر بوضوح أن (صفة الزواج) تتم بين الكبار، وما الصغار إلا مجرد إدارة لتلك الصفقة. وأثناء إتمام إجراءات تلك الصفقة؛ تتضح أكثر فأكثر حقيقة أن الزواج هو مسألة إدخال عضو جديد للعشيرة، ولذلك فإن الأمر يتعلق بقرار شيخ العشيرة، وفي وقت لم يكن الحب معترفاً به، ولم يكن ليرى الزوج زوجته إلا بعد الدخلة. وكانت المسألة تنحصر في كونها مسألة تخص الكبار.
في ذلك المجتمع الأبوي؛ كان الأب يعطي البنت التي يخطبها لابنه أو لعبده أو لنفسه فتلك البنت هي ملكه؛ حصل عليها بصفته التمثيلية كممثل للعشيرة، ولذلك فمن حقه أن يقسم البنات على الأولاد داخل العائلة.
ولا يستطيع أي من الأولاد أو البنات رفض قرار شيخ العشيرة، فالبنت لا ترفض الزواج من الشخص الذي يختاره لها وليُّها بسبب حاجتها المادية للأهل، حتى إذا ما تخلى الزوج في المستقبل عنها عادت لأهلها، فلكل زوجة حام (ثان) هو الأب أو الأخ، ومع الزمن صارت المسألة تقليدية لا يمكن الخروج عليها، فالبنت التي ترفض الزوج الذي تختاره الأسرة تستحق الموت.
ومن ناحية أخرى لا يستطيع الشاب رفض (البنت) التي اختارتها العشيرة، فإذا رفض الابن حلف أبوه بأن زواجه لن يتحقق ما دام هو حياً. والولد بحد ذاته لا يستطيع أن يتزوج بدون موافقة أبيه، فالمسألة هي مسألة النظام الاقتصادي الذي يضع الأرض والمال تحت تصرف الأب. ومن الناحية الاجتماعية؛ لا يقوم أحد بتزويج شاب ابنته دون موافقة والده للسبب الاقتصادي نفسه ولاعتبارات اجتماعية أيضاً.
وهنا سادت الفكرة القائلة بأن الزواج، في الوسط الشعبي كان يعتمد على أمور خاصة وموضوعية ومادية أكبر من الحب …. وعليه انتقت المشاعر الخاصة لتحل محلها الاعتبارات المادية و(الجنسية)، وهكذا إذا استعرضنا إجراءات الزواج وظاهرة الفرح الشعبي الحاشدة نجد أن ذلك يؤيد القول بأن الزواج هو نشاط عشائري لا فرحة زوجين شابين، فمن خلال إجراءات الزواج والفرح العام تحقق العشيرة أهدافها الاجتماعية بإعلان عن كرمها وقدرتها وهيبتها، ففي ذروة الاحتفال بالزواج تقدم وجبة احتفالية يحضرها عموم أهل القرية.
ومع تقديم المناسف؛ تصيح إحدى النسوة بأغنية تعكس الرغبة في الإعلان عن كرم العشيرة
" هي
يا عيشنا كافي
يا بيتنا دافي
يا سقيفنا وافي
اتغدوا يا أجاويد الله
يا ريتو صحة وعوافي.
ففي هذه العبارات الصريحة الواضحة تتفاخر المرأة بأنه، وبمناسبة الزواج، تقيم العشيرة احتفالاً كبيراً فيه الطعام وافر، والبيت كامل، والسيف صلب، ليتغدى كرام الناس، ولا شك أن كل هذه الأمور تصب في صالح إعلاء شأن العشيرة و إبراز هيبتها، ولذلك كانت مناسبة الزواج مناسبة لإبراز كرم العائلة والتدليل عليه من خلال الوجبة الاحتفالية الكبيرة التي تقدم لكل الناس في القرية بلا استثناء، كما يدم (عشا) الخيل والضيوف.
وفي المناسبة نفسها يتجلى الكرم بأبهى مظاهره، فتوزع ثياب جديدة على قريبات العريس، ويأتي ضيوف جدد في يوم الاحتفال، فيرحب بهم شيخ العشيرة ويصيح برجاله (اذبحوا يا أولاد) وتبدأ المناسف تخرج إلى الساحة ترافقها أغاني النساء.
طالع منسف البهلول مخطر عودة
من كفك يا علي ولا تعدموه
بستاهل الباطية الحمرا الخليلية
هذا لعلي عمنه مصدر المية
هذا لعلي عمنه من عوايدها.
يتحدث هذا الغناء بصورة مباشرة عن كرم العشيرة وقدرتها، فعلى الذي تتحدث عنه الأغنية هو (مصدر المية) أي الذي يقدم الطعام لمئة ضيف ويدعهم (يصدرون) عنه شبعين.
و إذا ما تابعنا ملاحظة إجراءات الزواج الأخرى؛ وجدنا أن تلك الإجراءات لا تحمل من الأهداف سوى التأكيد على قدرة العشيرة ووجودها قوية، وهكذا عندما كانت الطبيعة الاجتماعية للحياة تحتم التماسك العام من أجل البقاء؛ كانت الأمور الذاتية المحضة مسألة لا يجوز البوح بها.
وكان الزواج في الجيل الماضي مجرد أداة اجتماعية لإنجاب الأبناء، وهو حتى في مظاهره الاحتفالية أيضاً أداة في خدمة العشيرة والتأكيد على قوتها وهيبتها.
المهر:
ليس من هدفنا تأكيد تلك المقولة التي نصادفها في دراسات الكتاب الغربيين الذين تناولوا تقاليد الزواج في الوسط الشعبي الفلسطيني، وراحوا يؤكدون أن دفع العريس مهراً مقابل زواجه يعني أن الزواج قد تم بأسلوب الشراء، وفي نفس الوقت فنحن لا نريد أن نحمل المأثورات الشعبية أكثر مما تحمل، ولا نتغاضى عن الحقائق في سبيل رفض مقولة أولئك الكتاب الغربيين حول الزواج بالشراء، وسنحاول أن نعرض الظواهر الشعبية في هذا المجال ونعطيها التفسير النابع من الفهم العام للظروف الموضوعية التي عاشها شعبنا.
ويجد القارئ الممحص لتقاليد الزواج في فلسطين أن مسألة المهر ليست بالبساطة التي يتصورها البعض – مبلغ من المال يدفعه والد العريس أو العريس لوالد العروس، ويتم الزواج؛ فالمال هو جزء من عملية استرضاء واسعة يسترضي بها العريس والدي العروس وأقاربها الأقربون ثم العشيرة وشباب القرية ليتسنى له الفوز بعروسه وأخذها إلى بيت الزوجية.
وفي كثير من الحالات كانت العروس تحصل على كامل مهرها – بل وما يزيد عنه – قبل خروجها من بيت والدها وذلك برضى أهلها، وربما أحياناً برفض النزول عن المكان الذي تصمد عليه. ولدينا مأثور شعبي عن امرأة من قضاء بيت لحم تزوجت ثم توفي زوجها، وهكذا عادت لبيت أبيها، وجاء شقيق زوجها المتوفى يخطبها من جديد، وذلك مقابل مهر هو عبارة عن قطعة أرض تم تسجيلها باسم والد العروس – الأرملة السابقة – وفي اليوم الذي جاء أهل العريس ليأخذوا عروستهم في موكب احتفالي مهيب رفضت العروس الذهاب والخروج من البيت؛ إلا بعد أن تم تسجيل قطعة الأرض باسمها بدلاً من اسم والدها وقالت:
"أبوي أكل مهري الأول والثاني إلي"
وفي ذلك ما يفسر إحساس المرأة بأنها تعتبر المهر حقاً ثابتاً لها، فهو بدل حريتها وخضوعها للرجل (آخذين بعين الاعتبار نوعية العلاقات الاجتماعية والتي كانت قائمة بين الرجل والمرأة في الجيل الماضي، ومن حيث أنها علاقة رجل متسلط بامرأة تعتبر – ولية – ومرهونة بسلطة ذلك الرجل).
لم تكن امرأة تحصل على مهرها أو جزء منه فحسب، بل كانت تحصل على مبلغ أو هدايا من أهلها لا علاقة لها بالمبالغ التي يدفعها العريس، فقد كانت تحصل على ما يسمى بـ (ثياب الخدمة)، وهي مكافأة لها على الخدمات التي قدمتها للبيت الذي نشأت فيه وعملت على إسعاد أهله، سواء كان ذلك من خلال الخدمة المنزلية اليومية، أو من خلال خدمة الأرض والعمل ضمن وسائل الإنتاج السائدة والمتوفرة بيد الأسرة.
ومن المفيد جداً أن ندرس مسألة المهر في ضوء الظروف الموضوعية التي كانت تعيشها القرية الفلسطينية في أوائل هذا القرن وأواخر القرن التاسع عشر؛ فالبنت تعتبر عضواً في الأسرة والعشيرة، وهذا العضو هو في الحقيقة جزء لا يتجزأ من وسائل الإنتاج، والتخلي عنه بالزواج هو تخل عن جزء من القوة الفاعلة من قوى وسائل الإنتاج في العائلة، ولذلك؛ كان لابد من دفع بدل هو المهر. إن البنت التي تتزوج لا تعود تعمل في أرض أهلها بل تصبح جزءاً من اليد العاملة في بيت زوجها؛ على اعتبار أن البنت كانت تغادر بيت أهلها أما الزوج فيظل حجر الزاوية في العمل المنتج لأسرته، ويظل يقيم في نفس بيت أسرته.
إن البنت تمثل بالنسبة للعشيرة جزءاً من ممتلكاتها العامة التي يجب أن تصان حفظاً لشرف العشيرة وهيبتها وسمعتها، ولذلك كان واجب تأديب البنت مسألة تقع على عاتق الرجال في العشيرة وبعد الزواج، فإن أي إساءة تلحق بسمعة البنت ترتد إلى أهلها وبصفة خاصة إلى أخواتها وأخوالها وأعمامها، ولما كان يتوجب على هؤلاء الرجال حماية تلك البنت والاستمرار بزيارتها وتحمل المسؤولية في حالة إساءة لحقت بها، فإن من حقهم حسب العرف الشعبي أن يتدخلوا في مسألة الزواج، أنهم يتدخلون عند إعطاء الموافقة النهائية على الزواج، مفضلين بقاء بنت العائلة داخل عائلتها، وذلك حفاظاً على ممتلكات العائلة وصوناً لها من التعرض للمخاطر في الغربة، وإذا ما اضطروا للموافقة على زواج ابنة العائلة في الغربة؛ كان من حقهم الحصول على "هدم" أو (مبلغ من المال)، وكان لابن العم حق في ذلك لأنه يتنازل عن حق مقرر له، وحتى شباب القرية كان لهم الحق في (رضاوة) لتنازلهم عن البنت التي ستتزوج خارج القرية.
وقد وجدنا في تباين أرقام المهور التي كانت سائدة في العشرينات والثلاثينات ما يفسر دور المهر في ظروف الزواج، وقد أمكن التوصل إلى الاستنتاجات التالية:
1- أن مهر الثيّب هو نصف مهر العذراء البكر؛ نظراً لضياع البهجة في مثل ذلك الزواج.
2- إن المرأة التي تتزوج دون مهر أو بمهر قليل يكون احترامها قليلاً بمثابة "الجَلَب" (بيع الحيوانات)، وقد يقول لها زوجها: (حقك حق حمارة، إن مت ما فيش خسارة). ويقولون: "جيتي بلا سياق( بلا مهر)؛ رُوحي بلا طلاق".
3- إن أعلى مهر يدفع للبنت هو في حالة زواجها خارج قريتها (غريبة) ويعود ذلك إلى أن أهلها سيضطرون للسعي إليها للسؤال عنها وحمايتها في الغربة.
4- إن المهور في قرية ذات وضع اقتصادي حسن؛ هي أعلى منها في قرية فقيرة، وهذا يدل على أن المهر هو قيمة اقتصادية مرتبطة بوضع اقتصادي معين.
وإذا أراد الباحث أن يفسر هذه الاستنتاجات التي توصلنا إليها، فإنه لن يصعب عليه أن يسخرها جميعاً في صالح المقولة التي تقول بأن الزواج بعد دفع المهر هو نوع من الشراء، وأن الوسط الشعبي كان واعياً تماماً للقيمة الاقتصادية من خلال المهر، وإلا لماذا دفع نصف المهر المتعارف عليه للأرملة ؟ ولماذا وجدنا المهر يزداد عندما كانت الفتاة تتزوج في الغربة، ويقل عندما تتزوج في حمى العائلة؟ والدليل على أن الوسط الشعبي كان يعي أن في المسألة قيمة اقتصادية كامنة في (المرأة) الجاهزة للزواج؛ هو إنه كان يلجأ لزواج البدل، فيزوج الرجل الذي صاهره، إن في زواج البدل اعترافاً ضمنياً، بتلك القيمة الاقتصادية الكامنة، ونحن نحس بصدى هذه القيمة من خلال المأثورات الشعبية؛ إذ عندما يتزوج الرجل وينجب بنتاً للمرة الأولى يقول:
"الحمد لله ردينا رأس المال"
أي أنه يحمد الله لأنه رزق ببنت يستطيع أن يزوجها بمبلغ يوازي المبلغ الذي دفعه مقابل الزواج من الأم. ونجد مثل هذا الإحساس في ممارسة شعبية معروفة، وهي حالة دفع الدية لأن القتيل؛ إذ من الممكن أن تكون الدية على شكل امرأة يتزوجها أخو القتيل (تسمى عرة)، لتنجب حياة بدل (الحياة) التي قضى عليها القاتل الذي قد يكون شقيق تلك المرأة، ولا يتم دفع مهر في تلك الحالة، بل من الواضح أن المرأة التي قدمت ضمن الدية أو بدلاً منها؛ كانت تمثل في حقيقتها قيمة اقتصادية، ونستشف مسألة القيمة هذه من خلال تلك المساومة التي تجري بين أهل العريس من جهة وأهل العروس بالرغبة في الحصول على مهر أعلى إذا كانت ابنتهم أكثر جمالاً، وفي حالة شعورهم بأنها سترث مالاً أو أرضاً أو أنها تتمتع بسمعة طيبة من خلال أخلاقها الطيبة أو جاه أهلها.
لقد دلت الإحصائيات التي خلفتها لنا هيلما جرانكفيست، عن حالات الزواج في أرطاس تزوجن في لفتا، بينما لم تتزوج امرأة واحدة من القرية الأخيرة في أرطاس. ويعزى السبب في ذلك إلى أن أهل لفتا كانوا قادرين على دفع المهور في أرطاس، بينما لم يكن العكس ممكناً. وتدلنا الإحصائيات إياها على أن امرأة واحدة فقط من أرطاس قد تمت مبادلتها بامرأة من نساء عرب التعامرة، وتم ذلك في وسط احتجاج جماعي لأن ظروف الحياة عند بدو التعامرة هي أكثر صعوبة، ولا نستطيع أن نفسر الحالتين إلا من خلال فهمنا للقيمة الاقتصادية للمرأة.
إن المرأة نفسها تحس بتلك القيمة الاقتصادية من خلال إصرارها على الحصول على جزء من مهرها من عريسها على شكل (نقوط)، فهي تحصل على ( نقوط) عندما يقوم العريس برفع المنديل عن وجهها، وتستمر في الحصول على النقوط قبل أن تقوم بخلع أي قطعة من قطع ثيابها الأخرى: غطاء الرأس، الثوب … الخ، وقد جاء في المرويات الشعبية أن قيمة النقوط تزداد مع قطع الثياب الأخيرة، وكأن المرأة تحس هنا بأنها تهب نفسها لزوجها مقابل ثمن نقدي.
ونجد صدى تلك القيمة النقدية الاقتصادية في الحوار الذي جرى بين عريس وصهره حول رغبة الأول في الإسراع بالزواج وارتباط ذلك بحقيقة أن العريس كان قد دفع المهر مقدماً: قال العريس (يا صهري، إنني أريد أن اشتري). |