سورة الحج.. بين دعوة الأنبياء وتحقيق الإيمان
د. محمد المجالي
نعيش أشهر الحج المعلومات؛ إذ يتهيأ حجاج بيت الله الحرام للمغادرة، وأداء أحد أركان الإسلام العظيم، حيث الرحلة إلى الله، واستشعار الفراق، بل استشعار الحياة الآخرة، وحيث المؤتمر العالمي الذي يجمع الأعراق والألسنة والألوان والبيئات، يصهرهم في لباس واحد، وواجبات مشتركة، ولسان واحد، وغاية واحدة، رضا الله والفوز بالمغفرة المؤهِّلة لرضوان الله تعالى وجناته.
لم تسمَّ سورة باسم ركن من أركان الإسلام إلا سورة الحج، فلا توجد سورة الصلاة ولا الزكاة ولا الصيام، بل الحج، بالرغم من أنه مطلوب مرة في العمر، إلا أنه الركن الذي قد يصيغ حياة الإنسان ويغير من منهجه كليا، لما في هذا الركن من حركة ورحلة وغربة ومشقة واختبار حقيقي للنفس، وما تتعرض له من أنواع الابتلاء.
جاءت سورة الحج بين سورتي الأنبياء و(المؤمنون)، وفي الأنبياء دعوة، وفي (المؤمنون) ثمرة الدعوة، حيث الإيمان، حتى الآية المشتركة في وصف الأمة الواحدة، فقد قال الله تعالى في سورة الأنبياء: "إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون"، حيث الدعوة إلى العبادة، وفي سورة المؤمنون يقول: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون"؛ حيث أوصلتهم دعوة العبادة إلى درجة التقوى التي هي أخص صفات المؤمنين.
اشتملت هذه السورة العظيمة على مواضيع مختلفة إضافة إلى الحديث عن البيت الحرام وكيف جعله الله تعالى للناس كافة رمزا للتوحيد، وكيف بوّأ لإبراهيم مكان البيت فلا يشرك فيه أبدا، وضرورة تطهيره للطائفين والعاكفين والركّع السجود، فهو رمز الصفاء والتوحيد فلا ينبغي تلويثه ولا تلويث محيطه بما يُغضب الله تعالى وينقص من شأنه، وأيضا فقد أمر الله إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، ليلبوا النداء على كل أحوالهم، ويأتوا من كل بقاع الأرض، ليشهدوا منافعهم ويذكروا اسم الله ويشكروه ويطّوفوا بالبيت العتيق، فهي شعائر ينبغي أن تُعَظّم، وهو التوحيد الذي هو أصل هذا الدين وغايته الرئيسة، حيث الله الخالق الذي يستحق وحده العبادة والقصد في شأننا كله.
بدأت السورة بالأمر بالتقوى، والتذكير بالآخرة التي لا بد آتية، لنحسب لها الحساب، وشعيرة الحج مشعرة باليوم الآخر، لباسا واجتماعا في صعيد واحد، وفقرا إلى الله ورجاء عفوه ومغفرته. وبعدها تذكير بأصله الترابي، فلا يتكبر عن عبادة الله، فها هو يشهد كيف تغيره الأيام، من مراحل خلقه إلى الطفولة فالشباب فالأفول مرة أخرى، ثم الموت، ثم البعث، فلا يكون مجادلا ولا مترددا حسب مصالحه، بل الاستقامة والسير على منهج الله بثقة لأنه سيوصله إلى بر الأمان.
وبعد آيات الحج يأتي فصل جديد عن دفاع الله عن المؤمنين الذين تسهم العبادات (ومنها الحج) في رفعة شأنهم، فهم مؤهَّلون لرعاية الله واستحقاق الدفاع عنهم، كيف لا وهم الذين عبدوه ولجؤوا إليه واستنصروه ووالوه وركنوا إليه، فلا بد ناصرهم ومدافع عنهم: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور"، وهنا يعطينا القرآن درسا أنه لا بد مع هذه الرعاية من أخذ بالأسباب، فالله وعد بالدفاع عن عباده المؤمنين، ولكن لا بد من البذل والتضحية والهمة في البحث عن وسائل عزة هذا الدين والمؤمنين، وحينها سيجد هؤلاء أن الله معهم ويتولاهم، فلا يقف المؤمن عند ظاهر الآيات أن الله يؤيد المؤمنين ويجلس، أو يركن إلى المعنى من دون أن يسعى لفعل شيء، فهذا الدين لا ينتصر بمجرد الأماني، بل لا بد من العمل وترجمة المعاني، فهي سنة المدافعة بين الحق والباطل، ولا بد أن يكون أهل الحق على وعي، وعلى حالة من المسؤولية التي يراقبون فيها حالتي الحق والباطل، وذرورة دفع الباطل حتى لا ينهدم بنيان الدين.
وعد الله أيضا في هذا السياق لينصرن من ينصره، ونصرة الله تكون بعبادته وتبني منهجه، عبادة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وتحملا للأذى الذي هو سنة باقية، فطريق الدعوة مليء بالأشواك والصعوبات، والأنبياء أنفسهم تعرضوا للأذى والتكذيب، فلا بد من معرفة حقيقية ويقين أكيد بالله تعالى، وحسن توكل عليه، فما قَدَرَ الناسُ اللهَ حق قدره، وما عظّموه حق تعظيمه، ولا عبدوه حق عبادته.
وفي ختام السورة حديث مرة أخرى عن العبادة، وهذا الاسم (المسلمون) الذي سمانا به إبراهيم عليه السلام، والمحصّلة أن نبي هذا الدين الخاتم هو شاهد علينا، ونحن شهداء على الناس: "وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله، هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير"، فهو جهاد بمعناه الشامل، وهي الشهادة على الأمم، ميزة لم تبلغها أي أمة أخرى، أكدها الله في موضوع آخر في سورة البقرة: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، وزاد ذلك الذي تستحقون به فضيلتكم على الأمم إنما هو عبادته، فذكر الصلاة والزكاة، وذكر الاعتصام بالله، فهو مولانا، نعم المولى ونعم النصير.
إن قام المسلمون بواجبهم فقد استكملوا الإيمان، فجاءت سورة (المؤمنون) بعد هذه السورة، بل افتتحت بالبشارة بالفلاح: "قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون..."، وهكذا تتسلسل سور القرآن وتتوالى، لترتقي بالإنسان وتسمو به، ليعبد الله، ومن عبد الله وعرفه حق المعرفة فهو لا شك مستقيم منضبط بأخلاق الإسلام العظيم، فليس الأمر عبادة فقط من دون السلوك الصحيح، بل منهج متكامل ينضبط فيه باطن الإنسان وظاهره، حين تشرق روحه، وتسمو مبادئه، ويحلّق بعيدا في رضا الرحمن، لينال محبته وتأييده، ومن ثم جنته التي وعدها الله عباده المؤمنين.