أبو فراس الحَمْداني
يا حسرة ما أكاد أحملها
هذه قصيدة لابي فراس الحمداني في العتاب و اللوعة و الحسرة و اللوم ، و تعد من ضمن " رومياته " ، و من أعذب اشعاره الشهيرة بنبرتها البطولية المفعمة باحاسيس الشجن والحزن ، و الاغتراب والحنين للديار و للاهل ، و قد نظمها عقب رجوع ام الشاعر من زيارة لسيف الدولة امير حلب الشهباء في شأن مفاداة ابنها الشاعر ، بعد وقوعه في يد الروم اثناء اوبته الى "منبج" من رحلة صيد ، و حمله اسيرا الى القسطنطينية مثخنا بجراحه ، ليسجن هناك مدة اربع سنوات ، فردها على اعقابها خائبة صفر اليدين ، لأنه بحسب بعض المؤرخين كان يود افتداء كافة الاسرى المسلمين الواقعين في قبضة الروم وليس أبي فراس الحمداني وحده ، برغم ما بينهما من وشائج قرابة و دم و مصاهرة ، و هو ما قد يثير الكثير من ردود الفعل و الحساسيات العروبية .
و القصيدة من اعذب اشعار ابي فراس ، الى جانب قصيدتيه الشهيرتين: أقول وقد ناحت بقربي حمامة، واراك عصي الدمع
ولعلها كما يجمع النقاد تظهر اصالة و قوة شاعرية ابي فراس ، و تتميز بسلاسة البيان ، و جمالية اللغة ، و انسياب النظم ، بل اكثر دقة في نقل رقة مشاعره النفسية والوجدانية ، و تظهر عظمة اسلوب الشاعر و عبقريته و تمسكه بعروبيته و كبريائه و انفته .
أبو فراس الحَمْداني
يَا حَسْرَة ً مَا أكَادُ أحْمِلُهَا
يا حَسرَةً ما أَكادُ أَحمِلُها = آخِرُها مُزعِجٌ وَأَوَّلُها
عَليلَةٌ بِالشَآمِ مُفرَدَةٌ = باتَ بِأَيدي العِدى مُعَلِّلُها
تُمسِكُ أَحشاءَها عَلى حُرَقٍ = تُطفِئُها وَالهُمومُ تُشعِلُها
إِذا اِطمَأَنَّت وَأَينَ أَو هَدَأَت = عَنَّت لَها ذُكرَةٌ تُقَلقِلُها
تَسأَلُ عَنّا الرُكبانَ جاهِدَةً = بِأَدمُعٍ ماتَكادُ تُمهِلُها
يامَن رَأى لي بِحِصنِ خِرشَنَةٍ = أُسدَ شَرىً في القُيودِ أَرجُلُها
يامَن رَأى لي الدُروبَ شامِخَةً = دونَ لِقاءِ الحَبيبِ أَطوَلُها
يامَن رَأى لي القُيودَ موثَقَةٌ = عَلى حَبيبِ الفُؤادِ أَثقَلُها
يا أَيُّها الراكِبانِ هَل لَكُما = في حَملِ نَجوى يَخِفُّ مَحمَلُها
قولا لَها إِن وَعَت مَقالَكُما = وَإِنَّ ذِكري لَها لَيُذهِلُها
يا أُمَّتا هَذِهِ مَنازِلُنا = نَترِكُها تارَةً وَنَنزِلُها
يا أُمَّتا هَذِهِ مَوارِدُنا = نَعُلُّها تارَةً وَنُنهَلُها
أَسلَمَنا قَومُنا إِلى نُوَبٍ = أَيسَرُها في القُلوبِ أَقتَلُها
وَاِستَبدَلوا بَعدَنا رِجالَ وَغىً = يَوَدُّ أَدنى عُلايَ أَمثَلُها
لَيسَت تَنالُ القُيودُ مِن قَدَمي = وَفي اِتِّباعي رِضاكَ أَحمِلُها
ياسَيِّداً ماتُعَدُّ مَكرُمَةٌ = إِلّا وَفي راحَتَيهِ أَكمَلُها
لاتَتَيَمَّم وَالماءُ تُدرِكُهُ = غَيرُكَ يَرضى الصُغرى وَيَقبَلُها
إِنَّ بَني العَمِّ لَستَ تَخلُفُهُم = إِن عادَتِ الأُسدُ عادَ أَشبُلُها
أَنتَ سَماءٌ وَنَحنُ أَنجُمُها = أَنتَ بِلادٌ وَنَحنُ أَجبُلُها
أَنتَ سَحابٌ وَنَحنُ وابِلُهُ = أَنتَ يَمينٌ وَنَحنُ أَنمُلُها
بِأَيِّ عُذرٍ رَدَدتَ والِهَةً = عَلَيكَ دونَ الوَرى مُعَوَّلُها
جاءَتكَ تَمتاحُ رَدَّ واحِدِها = يَنتَظِرُ الناسُ كَيفَ تُقفِلُها
سَمَحتَ مِنّي بِمُهجَةٍ كَرُمَت = أَنتَ عَلى يَأسِها مُؤَمَّلُها
إِن كُنتَ لَم تَبذِلِ الفِداءَ لَها = فَلَم أَزَل في رِضاكَ أَبذِلُها
تِلكَ المَوَدّاتُ كَيفَ تُهمِلُها = تِلكَ المَواعيدُ كَيفَ تُغفِلُها
تِلكَ العُقودُ الَّتي عَقَدتَ لَنا = كَيفَ وَقَد أُحكِمَت تُحَلِّلُها
أَرحامُنا مِنكَ لِم تُقَطِّعُها = وَلَم تَزَل دائِباً تُوَصِّلُها
أَينَ المَعالي الَّتي عُرِفتَ بِها = تَقولُها دائِماً وَتَفعَلُها
ياواسِعَ الدارِ كَيفَ توسِعُها = وَنَحنُ في صَخرَةٍ نُزَلزِلُها
ياناعِمَ الثَوبِ كَيفَ تُبدِلُهُ = ثِيابُنا الصوفُ مانُبَدِّلُها
ياراكِبَ الخَيلِ لَو بَصُرتَ بِنا = نَحمِلُ أَقيادُنا وَنَنقُلُها
رَأَيتَ في الضُرِّ أَوجُهاً كَرُمَت = فارَقَ فيكَ الجَمالَ أَجمَلُها
قَد أَثَّرَ الدَهرُ في مَحاسِنِها = تَعرِفُها تارَةً وَتَجهَلُها
فَلا تَكِلنا فيها إِلى أَحَدٍ = مُعِلُّها مُحسِناً يُعَلِّلُها
لايَفتَحُ الناسُ بابَ مَكرُمَةٍ = صاحِبُها المُستَغاثُ يُقفِلُها
أَيَنبَري دونَكَ الكِرامُ لَها = وَأَنتَ قَمقامُها وَأَحمَلُها
وَأَنتَ إِن عَنَّ حادِثٌ جَلَلٌ = قُلَّبُها المُرتَجى وَحُوَّلُها
مِنكَ تَرَدّى بِالفَضلِ أَفضَلُها = مِنكَ أَفادَ النَوالَ أَنوَلُها
فَإِن سَأَلنا سِواكَ عارِفَةً = فَبَعدَ قَطعِ الرَجاءِ نَسأَلُها
إِذا رَأَينا أولى الكِرامِ بِها = يُضيعُها جاهِداً وَيُهمِلُها
لَم يَبقَ في الناسِ أُمَّةٌ عُرِفَت = إِلّا وَفَضلُ الأَميرِ يَشمَلُها
نَحنُ أَحَقُّ الوَرى بِرَأفَتِهِ = فَأَينَ عَنّا وَأَينَ مَعدِلُها
يامُنفِقَ المالِ لايُريدُ بِهِ = إِلّا المَعالي الَّتي يُؤَثِّلُها
أَصبَحتَ تَشري مَكارِماً فُضُلاً = فِداؤُنا قَد عَلِمَت أَفضَلُها
لايَقبَلُ اللَهُ قَبلَ فَرضِكَ ذا = نافِلَةً عِندَهُ تُنَفِّلُها