سماء العقول وفضاء الأفكار
تعاني أمتنا العربية والإسلامية –إلى حد كبير- من ظاهرة جمود الأفكار، حيث تقوقعت في الماضي، وأبحرت في عالم الأشخاص، وغرقت في بحر الأشياء، مما أعاق انطلاقتها إلى فضاء الأفكار. وصارت عملية إيجاد الأفكار وابتكارها وتطويرها «المهمة المستحيلة»، فنحن نعيش زمنَ التقليد والاستهلاك المادي والفكري لما تنتجه عقول غيرنا، مع عدم التفكير في الدخول – معظم الأحيان- إلى سوق المنافسة، وكأننا حصلنا على البطاقة الحمراء التي تمنعنا من الدخول في سوق العقول والابتكار والإبداع، والأفكار، أو لعلنا حصلنا منه على تأشيرة (خروج بلا عودة).
جمود العقول والأفكار يعني جمود الحضارة بالضرورة، فلا إبداع ولا اختراع ولا اكتشاف، مما يجعل هذه الأمة جامدة، وعندها ستضعف مناعتها تجاه الحضارات والثقافات التي أنتجتها العقول والأفكار المتحركة والمبدعة والمنتجة، مما يجعل الأمة الجامدة معرضة لعدوى الثقافات والحضارات الأخرى، وقبول ما يردها منها، انبهارا أو ضعفا أو عجزا، دون تمييز بين غثٍّ وسمين. وهذا يفسر لنا ظاهرة الاستغراب في حياتنا، في كلامنا حيث سادت اللغة الإنجليزية كلغة تمثل رقيّ من يتكلم بها، وفي لباسنا، وتأثرنا بكل (الموضات) الوافدة من الغرب، بغض النظر عن ملاءمتها لديننا أو لثقافتنا أو لعاداتنا وتقاليدنا، إنه تعبير عن الانهزام النفسي الشنيع الذي تمرّ به الأمة الجامدة. وهنا لا أقول: إننا لا نريد أن نستفيد من الغرب، على العكس تماما، أريد أن نستفيد منهم كلّ مفيد: كالديمقراطية، والحرية، ومراعاة حقوق الإنسان، والنظام التعليمي الراقي، والتأمين الصحي، والشوارع النظيفة، والمواصلات المؤمَّنة بطول البلاد وعرضها، ورعاية الأطفال وكبار السن، وغيرها من الأمور المفيدة والمؤثرة، والتي لن نشكّ بفائدتها للمجتمع والدولة. أما أن نأخذ قشور حضارتهم ونحن نحسب أننا نعيش هذه الحضارة وذاك الرقي، فهذا وهمٌ يعيشه بعض الضعاف من المهزومين.
الشيء المؤكد أننا نملك عقولا كغيرنا من الأمم، ومن ثمَّ نستطيع توليد الأفكار الرائعة والآراء البناءة من خلالها، لكنْ لأننا نعيش في عالم الأشياء وحبها، صارت المصالح الشخصية والأنانية والأثرة بحرًا تغرق فيه الأفكار والآراء إلى قاع لا قرار له، ولا يمكن الوصول إليه؛ لأن المصالح الشخصية تبتلع المصالح العامة دون شفقة أو رحمة. وما أكثرَ الأفكار الرائعة التي تمّ إجهاضها؛ لأنها تهدد المصالح الشخصية لبعض الناس.
والشيء الأخطر أن يتبنى الإنسان أفكارا مسمومة وغير صالحة للتطبيق، ولهذا أثره على الفرد والمجتمع، فالأفكار كالطعام، منها النافع ومنها الضار، وكما يستطيع الشخص أن يدس السم في الطعام، فهو يتمكن من تسميم العقول والأفكار، ولذلك أمثلة كثيرة أكتفي باثنين منها: المثال الأول، ما يقوم به المتطرفون من محاولة زعزعة أمن البلاد والعباد من خلال نشر فكرهم المسموم المبني على التكفير والتفجير. والمثال الثاني، محاولة البعض أن يطعن في دين الناس ومعتقداتهم، متأثرا بالتجربة الغربية في ذلك، زاعما أن الإصلاح لا يكون إلا عبر هذا الطريق. إنها أفكار مسمومة ومغشوشة تضر العقول، ولا تولّد إلا أفكارا منتهية الصلاحية لا تصلح للاستهلاك البشري.
إذن، لا بد من إعادة استنهاض الهمم والعقول، وإنتاج الأفكار والإبداعات وتوليدها، وأن نصبغها بقيمنا وثقافتنا، وألا نكتفي باستنساخها واستيرادها من غيرنا، لتكون مسخا غريبا لا هوية لها. إنها طريقة سقراط في الفلسفة، طرح الأسئلة وتوليد الأفكار، فليست أمرا جديدا أو غريبا، لكنّ الغريب حقا ألا نستخدمها؛ لتظل عقولنا مرتاحة. وأخيرا في ظل وجود الجامعات، ومراكز البحث المتخصصة، وعدد لا يستهان به من حملة الشهادات العليا أسأل: أين الأفكار؟