تظاهرات لبنان ومؤتمر «سيدر»
«لا أحد يقف وراء التظاهرات الشعبية، لا أحزاب ولا سفارات ولا جهات أجنبية، وإنما هي نتيجة الوضع الداخلي».. هذا ما قاله حسن نصر في احتفال اربعينية الحسين؛ تصريح غاية في الاهمية؛ فعلى خلاف ما ذهبت اليه اغلب القوى السياسية المحلية والقوى الاقليمية والشبكات الاعلامية المتنافسة التي استثمرت في الازمة والتظاهرات التي فجرتها ضريبة «واتس أب» فإن حزب الله تبنى رواية وموقفا مختلفا، ملقيا اللوم على الازمة الاقتصادية والاوضاع المتردية التي اثارت الاحتجاجات وفي ذات الوقت لم يسع الى تبني موقف مناهض او داعم لهذه التظاهرات او ركوب الموجة.
الموقف المعلن للامين العام لحزب الله متميز؛ اذ القى رئيس الوزراء سعد الحريري اللوم على القوى السياسية التي عطلت الاصلاحات الاقتصادية والادارية التي اشترطتها الدول المانحة في مؤتمر «سيدر1» و»2» المنعقد في فرنسا ابريل نيسان من العام الماضي 2018؛ وهدد بالاستقالة خلال 72 ساعة الامر الذي حذر منه نصر الله لأن ذلك سيعني ترك البلاد بدون حكومة يتم التوافق عليها لعامين قادمين على الارجح دون فائدة ترتجى فلا يوجد بدائل متفق عليها بين القوى السياسية والدولية فماكرون (باريس) لديه وجهة نظر مختلفة عن الرياض.
موقف زعيم تيار المستقبل لن يساعده على الخروج من الازمة، كما ان خطاب صهر الرئيس عون ووزير خارجيته جبران باسيل لم يساعد من وقف التظاهرات؛ ولم يمنع خصومه في القوات اللبنانية وعلى رأسهم سمير جعجع من مهاجمة الرئيس اللبناني ميشيل عون، ومهاجمة سائر الخصوم السياسيين والتهديد بالاحتشاد للتظاهر؛ اذ تناقلت وسائل اعلام وعلى رأسها العربية (الحدث) ان القوات اللبنانية تدعو انصارها الى المشاركة في التظاهرات دون رفع الاعلام الى جانب الحزب الاشتراكي التقدمي بزعامة وليد جنبلاط الذي اعلن دعمه للرئيس الحريري، واعلن انه لن يتخلى عنه ولن يتركه لوحده.
في المقابل وجدت اطراف اقليمية في الاحتجاجات ضالتها لتصفية الحسابات مع خصومها في الساحة اللبنانية، واستكمال مشاريعها التي تعثرت في محاولة اعادة هندسة المشهد السياسي والحكومي في لبنان؛ الولايات المتحدة والدول الاوروبية ليست بعيدة او بمعزل عن الازمة فمؤتمر سيدر تحول الى حصان طروادة بالنسبة لها خصوصا بعد ان اوقفت المملكة العربية السعودية دعمها الاقتصادي للبنان مفاقمة بذلك الازمة الاقتصادية.
الازمة الاقتصادية والاصلاحات الادارية المطالبة بها حكومة الحريري تتداخل مع الحسابات الاقليمية والسياسة للدول المؤثرة في المشهد اللبناني؛ وباتت مهاجمة بري وزوجته وعون وصهره وسيلة مناسبة لتصفية الحسابات.
في لبنان اختلط الحابل بالنابل والمشهد المحلي بالاقليمي والدولي؛ وبالامكان القول ان ازمة لبنان الاقتصادية لن يعالجها اسقاط الحكومة التي لن تشكل بسهولة في ظل التصارع الاقليمي والدولي وليس فقط المحلي اللبناني الا بعد مرور وقت طويل؛ فعلاج الازمة الاقتصادية سيتحقق اذا عاد الدعم السعودي والخليجي وخفضت الدول الاوروبية والمانحة من شروطها المعقدة في مؤتمر سيدر وسارعت المؤسسات المالية ومؤسسات التصنيف المالي الائتماني إلى رفع التصنيف الائتماني للبنان الذي انحدر الى مستوى دون الـ B+ نحو الـ C والـ D وهي حقائق من الممكن ان تحول التظاهرات نحو وجهة مختلفة لدى الشق الصامت في لبنان الذي لم يستعرض قوته بعد في الشارع، فهو يرى ان الازمة الاقتصادية حقيقية ولكن لديه اسباب اخرى لتفسيرها.
ببساطة انها لبنان بتعقيداتها وجمالها وشعبها الذي نتمنى له الخير.
بيروت الواجهة البحريةمؤتمر "سيدر"... لبنان ما له وما عليه من التزامات وحقوق
شكل "مؤتمر سيدر" الدولي الذي انعقد في 6 نيسان/ أبريل العام الماضي في العاصمة الفرنسية باريس، محاولة استنهاض جديدة للبنان بعد مؤتمرات دولية متعددة أبرزها مؤتمري باريس 1 و 2 و3 التي لم تكن على مستوى التوقعات خصوصا مع الأزمة السياسية اللبنانية وتأثرها بالحرب السورية ونزوح السوريين وغيرها من العوامل التي ساهمت بفشلها.
وزير الاقتصاد: لبنان سيقوم بإصلاحات بنيوية للبدء بمشاريع "سيدر"
شارك في مؤتمر "سيدر" الأخير في باريس أكثر من 50 دولة ومنظمة دولية كانت أبرزها فرنسا المستضيفة بالإضافة إلى دول أوروبية وعربية أبرزها السعودية وقطر والإمارات والكويت. بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والصين واليابان.
كما كان للبنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار وإعادة الإعمار مشاركة بارزة في المؤتمر، وقدمت الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري برنامج الاستثمار والإصلاح في لبنان والذي على أساسه قررت الدول المانحة دعم البرنامج اللبناني على مراحل متعددة وفق شروط وأليات محددة.
وبلغت القروض المالية الإجمالية من الدول المانحة خلال مؤتمر "سيدر" للبنان نحو 12 مليار دولار أمريكي على أن تكون النسبة الأكثر منها حوالي 9 مليار دولار أمريكي قروض ميسرة على مراحل، بالإضافة هبات مالية تصل قيمتها إلى نحو 860 مليون دولار أمريكي.
مؤتمر "سيدر" في باريس بالأرقام…الأموال التي قدمتها الدول والمنظمات الدولية للبنان
بحسب صحيفة " النهار" اللبنانية قدم البنك الدولي للبنان قرض بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي سيتم تقديمه على مدى 5 سنوات وذلك لتمويل مشاريع استثمارية في لبنان. كما قدم بنك الاستثمار الأوروبي قرضا بقيمة 800 مليون يورو، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية قدم قرضا بقيمة 1.1 مليار يورو لمدى 6 سنوات.
كما كان للبنك الإسلامي للتنمية حصة من خلال 750 مليون دولار سيتم تقديمها على مدى 5 سنوات. بالإضافة الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية منح لبنان قرضا بقيمة 500 مليون دولار.
أما حصة الدول الغربية فكانت كالتالي: فرنسا 500 مليون يورو بينها هبات عينية، بريطانيا 130 مليون يورو، الاتحاد الأوروبي 1.5 مليار يورو، إيطاليا 120 مليون يورو، تركيا 200 مليون دولار، بالإضافة إلى هولندا التي قدمت 300 مليون يورو وألمانيا 120 مليون يورو.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت حصتها من القروض حوالي 115 مليون دولار أمريكي.
أما عربيا فقد منحت المملكة العربية السعودية قرض بقيمة مليار دولار أمريكي، الكويت منحت قرضا بقيمة 680 مليون دولار أمريكي على مدى 5 سنوات، قطر قدمت للبنان 500 مليون دولار أمريكي.
الالتزامات المتوجبة على لبنان من مؤتمر سيدر
في المقابل قدم لبنان برنامجا اصلاحيا كشرط أساسي للحصول على القروض المانحة من الدول والمنظمات المختلفة ومن أبرز بنوده إصلاح المالية العامة لخفض العجز من 10 % من الناتج المحلي إلى 5 % خلال خمس سنوات والتعهد بإصلاح القطاع العام ومكافحة الفساد وتطوير استراتيجية لتنويع القطاعات الاقتصادية والخدماتية.
أما بخصوص الإستثمار فقد تعهد لبنان عبر خطة استثمارية بقيمة 17.2 مليار دولار في البنى التحتية سيستمر لعام 2025. بالإضافة إلى زيادة الإستثمار العام والخاص.
كما تعهدت الحكومة اللبنانية بإصلاحات داخلية ومشاريع اقتصادية اجتماعية وأهمها مكافحة الفساد الإداري والمالي، تعزيز الحوكمة والمساءلة لا سيما في إدارة المالية العامة، تحديث قواعد استدراج العروض، إصلاح الجمارك، تحسين إدارة الاستثمار العام، دعم جهود مكافحة تبييض الأموال واتخاذ التدابير الرامية إلى مكافحة تمويل الارهاب وفقا للمعايير الدولية.
كما أقرت الحكومة اللبنانية اجراء إصلاحات قطاعات لبنانية أبرزها في الكهرباء والمياه وبدء اعتماد اللامركزية الإدارية بخصوص النفايات المنزلية والصلبة.
معايير النجاح والإخفاق
بعد المؤتمر فتح نقاش طويل حول أهمية مؤتمر "سيدر" ونسبة نجاحه وفشله حيث أشار الخبير الاقتصادي غازي وزني للنهار أن القلق حاليا يتمثل في كيفية استعمال هذه القروض وفي أي قطاعات ستستخدم، خصوصا أن المشاريع كبيرة و90 في المئة منها قروض و10 في المئة فقط هبات.
بدوره، أكد الخبير الاقتصادي حسن مقلّد أن القروض بفوائد ميسرة كما يقال، ايجابية إن وضعت في مكانها الصحيح. وما نفتقده اليوم هو خطة اقتصادية متكاملة. وأشار إلى أنّ الدول في حالات مماثلة، تقدم خطة متكاملة وبرنامجا وأثرا ماليا وجدوى لتحديد المبالغ التي تحتاج إليها، ولبنان يفتقد إلى هذه الاستراتيجية في مؤتمر سيدر".
ما هي شروط "سيدر" على لبنان ومن تخدم؟
سطع هذه الأيام كلمة "سيدر" بوصفها المنقذ من الضلال في كل جملة من عبارات النقاش السياسي المفتوح في البلاد، بشأن وجهة الاقتصاد والحكم خلال المرحلة المقبلة. وبشأن الخطوات المتوجب اتباعها للخروج من المأزق الكبير الذي وقعت به بعد تجاوز الدين العام 84 مليار دولار، وتخطي العجز إلى الناتج الإجمالي عتبة 11 مليار ليرة أي ما يقارب 7 مليار دولار سنوياً.
الحكومة اللبنانية الحالية تراهن على نتائج مؤتمر "سيدر" الذي عقد في باريس العام الماضي، ويتمحور النقاش السياسي حول الشروط التي تفرضها دول "سيدر" مقابل القروض والديون تحت مسمى "الدول المانحة" في المؤتمر على لبنان. بينما يقول معارضوها إنها لا تعدو عن كونها آلية قديمة ــ جديدة تمتطي الأزمة لتبيع مقدّرات الدولة إلى القطاع الخاص من جهة، وإغراق الدولة في المزيد من الديون من جهة ثانية، ما يزيد من أعباء الدين العام ويمكّن "الجهات المانحة" بمزيد من التحكم أكثر في القرار السياسي اللبناني مستقبلاً، فضلاً عن الحياة الاقتصادية في البلاد.
وفي جولةٍ سريعة على قروض الدول التي أعرب عنها مؤتمر "سيدر"، يمكن رصد تركيز هذه الدول على ناحيتين أساسيتين هي: إجراء إصلاحات عاجلة في المالية العامة للدولة، وضمان صرف الأموال وفق الشروط التي وضعتها كل دولة من الدول الدائنة، وهي كالتالي:
رصدت فرنسا في المؤتمر قروضاً للبنان بقيمة 492 مليون دولار، وهي إذ تتظاهر بالرغبة بالحفاظ على دور الدولة في تقديم الخدمات العامة، تضع من جهة ثانية شروطاً تأخذ البلاد باتجاه الخوصصة، ولا سيما خوصصة القطاع العام كقطاع الاتصالات الذي يسمى "نفط لبنان" نظراً لكبر حجم العائدات المتأتية منه للدولة، والذي عين رئيس الحكومة سعد الحريري الوزير محمد شقير على رأس هذا القطاع، وهو من أشد الدعاة إلى خوصصة قطاعات الدولة. وفي هذا الشأن قال وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لو دريان عقب المؤتمر إن الشروط المفروضة تنسجم "مع التشخيص الذي وضعه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي"، فيما تحدث وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير عن "أولوية إشراك القطاع الخاص في قطاعات "الكهرباء والنقل والمياه ومعالجة النفايات".
البنك الدولي قدّم من جهته وعوداً بقيمة 4 مليارات دولار وفق أهداف مختلفة، بينها مليار كانت مرصودة مسبقاً ضمن برنامج دعم اللاجئين السوريين. ومثل البنك الدولي جاءت شروط الاتحاد الأوروبي على لبنان لإقراضه 12 مليون دولار كقروض ميسرة على ثلاث سنوات لتسهيل الاستثمار في دول الجوار.
وفي عنوان مرتبط، تعهد الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بـ500 مليون دولار على خمس سنوات، بشرط إقرار مجلس النواب اللبناني قرضين آخرين بقيمة 180 مليون دولار لتنفيذ مشروعات تنموية في مناطق تواجد اللاجئين السوريين، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص.
وكمحفزٍ آخر على الخوصصة، تحدث مسؤولو البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير عن نيتهم إقراض لبنان 1.2 مليار دولار خلال 5 سنوات، بشرط تطبيق برنامج الشراكة مع القطاع الخاص.
أما القروض التي تعهد بها البنك الإسلامي للتنمية وهي بقيمة 750 مليون دولار على مدى ست سنوات، فشروطها مرتبطة بتسريع إقرار قوانين قروض سابقة مع البنك عالقة في مجلس النواب اللبناني. وعلى غراره اشترط بنك الاستثمار الأوروبي الذي تعهد بـ985 مليون دولار كقرض لمدة سنتين، موافقة البرلمان اللبناني على قوانين القروض مطروحة أمامه، وهو ما يمكن اعتباره استثماراً لتسهيل موافقة لبنان على قروضٍ أخرى.
الولايات المتحدة بدورها اشترطت تعزيز سياسة النأي بالنفس ومساعدة اللاجئين السوريين لإقراض لبنان حوالى 115 مليون دولار، فيما اشترطت إيطاليا إشراك القطاع الخاص لإقراضه نحو 147 مليوناً، في حين ذهبت تركيا إلى ربط مسألة إقراضها لبنان 200 مليون دولار لمشروعات الكهرباء والنقل بأن تنفذ الأعمال شركات تركية تحظى بالديون التركية على لبنان.
ومثل الآخرين، تعهدت السويد بتقديم قروض بقيمة 200 مليون دولار، مشترطةً تنفيذ مشروعاتٍ في مناطق تواجد اللاجئين السوريين، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وإعادة فتح السفارة السويدية لدى لبنان. ومثلها فعلت بريطانيا التي حددت مبلغ 225 مليون دولار، وقسمتها إلى 169 مليوناً كقروض ميسرة، و56 مليوناً لبرنامج الإسكان والبنية التحتية التي توفر فرص عملٍ للاجئين السوريين وللمواطنين اللبنانيين.
أما الشروط الألمانية فكانت أقل ضغطاً وأكثر إنسانية بالنسبة للبنان، حيث اشترطت ألمانيا تنفيذ مشروعات مياه وتكريرها وإعادة تدويرها لإقراض لبنان حوالى 60 مليون دولار. في حين اشترطت هولندا لإقراض لبنان 245 مليوناً خلال أربع سنوات، تخصيص جزء من هذه الأموال لمساعدة تصدير المنتجات الزراعية اللبنانية، على ما يبدو دعماً لقطاعات الإنتاج اللبنانية.
المملكة العربية السعودية وقطر لم تصرحا علناً عن شروطهما، فتعهدت الأولى بقروض بقيمة 1 مليار دولار، بينما تعهدت الثانية ب500 مليون دولار بعد انتهاء المؤتمر، وهي التي امتنعت عن تقديم أي رقم خلال المؤتمر.
في المحصلة، تركز الشروط بمعظمها على الخوصصة وعلى شروط استمرار بقاء النازحين السوريين، وتتضمن اهتماماً بخوصصة قطاعات الخدمات في الكهرباء والمياه والنقل، ورفع أسعار هذه الخدمات على المواطنين بدعوى خفض الدين العام الذي تتكلفه الدولة مقابل الخدمات وهو في قسم كبير منه نتيجة الهدر والفساد في قطاع الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر. وفي هذا السبيل تتجه شروط القروض إلى تشجيع مشاريع توليد الطاقة بالشراكة مع القطاع الخاص وإقرار قانون المياه الذي يفتح القطاع أمام الاستثمار الخاص، وخفض الإنفاق بنسبة 5% ووقف التوظيف العام وإعادة النظر بنظام التقاعد لموظفي القطاع العام. وزيادة الإيرادات بالنسبة نفسها لخفض الإنفاق عبر تحسين التحصيل الضريبي وفرض إجراءات ضريبية جديدة، وتعديل النظام الجمركي بما يؤمن سهولة أكبر لدخول وخروج السلع من لبنان، فضلاً عن الاعتماد على التحكيم الدولي، وتوقيع مراسيم الخوصصة والشراكات مع القطاع الخاص، وتحديث قانون المشتريات العامّة.
الشروط القاسية قد تأخذ الاقتصاد اللبناني باتجاه أكثر عدائية لمحدودي الدخل من اللبنانيين، بينما تبذل الإدارة المالية للدولة جهوداً لإشراك القطاعات الأكثر ربحاً كالقطاع المصرفي في تحمل الأعباء الكبيرة التي تعاني منها البلاد، وبين هذه الجهود وتلك الشروط، معركة لا توازن فيها، الأمر الذي يهدد مصالح الطبقات الدنيا من اللبنانيين.
ما هي تعهدات لبنان مقابل قروض دول "سيدر"؟
شروط عديدة وضعتها الدول الدائنة والمانحة على لبنان من أجله إقراضه. أهمها الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإفساح المجال أمام الاستثمارات الخاصة، وعدم الاعتماد على الإدارة العامة في مؤشر على قلة الثقة بالدولة.
لبنان يتأرجح بين شروط الدول الدائنة في مؤتمر "سيدر" وتلكؤ القوى السياسية عن المضي بعملية إصلاح حقيقية تجنبه الوقوع في المحظور. الإصلاح ومكافحة الفساد على كل لسان، من دون انعكاسات حقيقية واضحة. الفرصة التي يصفها الكثيرون بالأخيرة لاستعادة التوازن والثقة المفقودين، تتعرض للخطر مع تأخر تنفيذ الإصلاحات.
خلال الأسبوع المنصرم، جال المبعوث الفرنسي بيار دوكين المُكلّف مُواكبة تنفيذ التعهّدات اللبنانيّة الرسميّة الخاصة بمؤتمر "سيدر"، على كبار المسؤولين اللبنانيين، مذكراً بضرورة الإسراع بإقرار المُوازنة العامة للعام 2019، وبالبدء بتنفيذ الإصلاحات الإداريّة والماليّة، التي رأى فيها وحدها "الإشارات الإيجابيّة" الكفيلة بتطبيق مقررات مؤتمر "سيدر" من جانب المُجتمع الدَولي. وبالتوازي مع كلامه، كانت وكالة "ستاندرد آند بورز" تبقي التصنيف الائتماني السيادي للبنان عند "باء سلبي"، مع تغيير النظرة المُستقبلية من "مستقرّة" إلى "سلبيّة"، ما يؤشر على خطورة اللحظة التي وصل إليها لبنان مرة جديدة. هذه الزيارة وهذا التصريح يعيدان إلينا مضامين مؤتمر "سيدر" وشروط الجهات الدولية التي قدمت قروضاً وهبات مشروطة بالإصلاح.
ويواجه لبنان منذ سنوات أوضاعاً مالية، اقتصادية واجتماعية صعبة، وصلت في الأشهر الأخيرة إلى شفير الانهيار المالي، الذي عبر عنه مسؤولوها همساً بتوقع عدم سداد الدولة لالتزاماتها المالية، قبل أن يعودوا ويستدركوا خطورة ما وصلت إليه الأمور بمجموعة من الإجراءات التي لاتزال متباطئة ولا تستجيب لحجم المخاطر الماثلة منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة في أيار 2018 وحتى اللحظة.
يومها، وفي ظل الخلافات العميقة بين الأطراف السياسية المختلفة، وعدم وجود ضابط خارجي موحد اعتادت الأحزاب اللبنانية وجوده لضبط التوازن السياسي والأمني، وعملية توزيع الأدوار في السلطة في مراحل سابقة. واستمرار المواجهة بين القوى الخارجية المؤثرة على الساحة اللبنانية. عقد في الأسبوع الأول من نيسان 2018، ما أطلق عليه مؤتمر "سيدر"، الاختصار اللغوي "لـلمؤتمر الدولي لدعم الإصلاحات والتنمية في لبنان"، والذي جمع وفداً كبيراً من الحكومة اللبنانية بالدول والجهات المانحة في باريس.
اعتبر المؤتمر بارقة أمل حيث أعلنت الجهات المشاركة نيتها دعم لبنان بنحو 11 مليار دولار على شكل قروض وهبات (معظمها قروض) ميسرة طويلة الأمد، تبين فيما بعد أن قيمتها تخطت العشرين مليار دولار، مقسمة على ثلاث مراحل. وتم اشتراط وجهة لها محددة بتنمية البنى التحتية والبيئة. أعطيت جميعها على أساس مشروعات مقدمة من الحكومة اللبنانية بلغ عددها 250 مشروعاً.
ووضع الدائنون في "سيدر" شروطاً على الحكومة اللبنانية المسارعة إلى تنفيذ الإصلاحات ووقف الهدر المالي وإطلاق عملية مكافحة الفساد. في سياق مضامين سياسية واقتصادية ومالية. في الجانب السياسي تمسكت الجهات المانحة والدائنون بوحدة لبنان واستقراره وأمنه، ودعم الجهود التي يبذلها لبنان لتحسين عمل المؤسسات والإعداد للانتخابات النيابية، وتأكيد استمرار دعم المجتمع الدولي للبنان في كل أزماته ومحنه، ودعوته إلى الاستمرار في سياسة النأي بالنفس حيال القضايا الإقليمية المشتعلة، إضافةً إلى التنويه بعودة مؤسسات الدولة إلى عملها الطبيعي من خلال انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
أما في الشقين المالي والاقتصادي، فقد أشاد المانحون-الدائنون بتعيين كبار لملء الشواغر الموظفين في الإدارة، وأكدوا ضرورة وضع برنامج لتحسين الإدارة المالية واستعادة انتظام الموازنة العامة، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في البنى التحتية وتمويل مشروعاتها، مشيدين بإقرار مجلس النواب لقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ورأوا أن الدين العام اللبناني وصل إلى مستويات قياسية، وأن التمويل بالقروض الميسرة والاستثمار الخاص يبقيان من أهم الخطوات المطلوبة للاستثمار في البنى التحتية وخلق وظائف جديدة، وضرورة الاستثمار والإنفاق في القطاعات الاجتماعية وتحديداً الصحة والتعليم، وقبل تنويههم بإقرار موازنة عام 2017 بعد 12 عاماً من غياب الموازنات في لبنان، طلبوا من لبنان ومن حكومته المقبلة بعد الانتخابات وضع جدول زمني محدد للالتزام بعملية الإصلاح، ويمكن اعتبار هذا الشرط الأخير لب المسألة بأثرها.
لكن بعد مرور حوالى السنة على هذا المؤتمر، لا تزال المالية العامة في لبنان تعاني من ارتفاع عجزها نسبة للناتج المحلي الإجمالي، مع ارتفاع ضغط كلفة خدمة الدين العام على الخزينة، واضطرار المصرف المركزي إلى ممارسة سياسة نقدية خانقة للنمو بهدف ضمان صمود قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار، في اقتصاد "مدولر" بنسبة عالية.
زيارة دوكان الأخيرة، والهمس المترافق معها عن نية الرئيس الفرنسي "سحب يده" من تعهدات "سيدر" يحدثان هذه الأيام الكثير من الضجيج في صالونات السياسة اللبنانية. وإن كان ذلك يدفع بالقوى المحلية إلى تنحية خلافاتها جانباً بعض الشي، فإن قدر ذلك لا يبدو كافياً حتى اللحظة. فالإصلاحات التي تعهد لبنان بتنفيذها لا تزال أمنيات في الهواء، في حين يتردد مسؤولو الحكومة بمناقشة موازنة عام 2019 قبل إرسالها إلى مجلس النواب للمصادقة عليها. بعض المحللون يقولون إن الحكومة لا تجرؤ على إظهار أرقام الموازنة، ذلك أنها عاجزة حتى اللحظة عن إجراء التخفيضات المطلوبة من الدائنين في "سيدر"، وتقليص العجز. فضلاً عن تعثر ملف مكافحة الفساد الذي لا يعدو كونه جعجعة من دون طحين حتى اللحظة.
والحقيقة أن الصورة الآن كالتالي: المانحون والدائنون ينتظرون رؤية الإصلاح وتقليص العجز في الموازنة ليقدموا الأموال التي وعدوا بها. الحكومة تنتظر هذه الأموال لتطلق عجلة المشروعات التي تعتقد انها ستقلص العجز وتمكنها من استعادة قدرتها على الإنفاق الاستثماري. والمالية العامة بين الاثنين، تعاني من شح في الموجودات، وعدم قدرة على الخفيض أكثر من ذلك. في ظل مخاوف تتعرض إليها العملة المحلية. وبين هذا وذاك ينتظر المواطن اللبناني معجزةً من غير الأنبياء.