أوروبا قد تفوّت فرصة إعادة تنظيم نفسها سياسياً
جان بيساني فيري*
لفترة طويلة، كانت السياسة الأوروبية مبنية على أساس الانقسام بين اليسار واليمين. ومنذ أول انتخابات شعبية للبرلمان الأوروبي في العام 1979، إلى آخرها في العام 2014، حصل حزب الاشتراكيين الأوروبيين وحزب الشعب الأوروبي مجتمعين على نحو نصف الأصوات إلى ثلثي الأصوات (وكانت بقية الأصوات تذهب إلى الوسطيين، والخُضر، واليسار الراديكالي، وعلى نحو متزايد، سلالة جديدة من الأحزاب المتشككة في أوروبا). وعلى مدار أربعين عاماً، حكم اللاعبان المهيمنان أوروبا من خلال تحالف كبير على شاكلتهما.
* * *
باريس- "في هذه اللحظة، تتألف أوروبا من جانبين. أحدهما يقوده ماكرون، الذي يدعم الهجرة. والآخر تدعمه بلدان راغبة في حماية حدودها". هكذا وَصَف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان المشهد السياسي الأوروبي خلال اجتماعه في آب (أغسطس) مع زعيم حزب الرابطة، ماتيو سالفيني، الرجل القوي في الحكومة الإيطالية. وعلى الفور رد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالقول: "إذا كانوا يريدون اعتباري خصمهم الرئيسي، فإنهم محقون".
يبدو أن كلاً من أوربان وماكرون يعتقدان أن انتخابات البرلمان الأوروبي في العام 2019 سوف تجلب إمكانية إعادة تنظيم الصفوف السياسية. ولكن هل يحدث هذا حقاً؟ هل يُعرَض على الناخبين في القارة الاختيار بين مجتمع مغلق وآخر مفتوح؟ الواقع أن الإجابة على هذا السؤال -الذي يشكل أهمية مركزية لمستقبل أوروبا وثقة مواطنيها في الديمقراطية- ليست مؤكدة على الإطلاق.
يعرض المشهد السياسي في أوروبا مزيجاً غريباً من الخصوصية والعمومية. فهو من ناحية يوضح المبدأ القائل بأن "كل السياسة محلية": فالأحزاب تمتد جذورها عميقاً في التقاليد الوطنية، ولا تشكل تجمعات عموم أوروبا سوى اتحادات فضفاضة وغير مؤثرة. ومن ناحية أخرى، تتسم التداعيات السياسية بالقوة، وتعبر موجات التغيير الحدود بانتظام، فتصل إلى القارة بأكملها.
لفترة طويلة، كانت السياسة الأوروبية مبنية على أساس الانقسام بين اليسار واليمين. ومنذ أول انتخابات شعبية للبرلمان الأوروبي في العام 1979، إلى آخرها في العام 2014، حصل حزب الاشتراكيين الأوروبيين وحزب الشعب الأوروبي مجتمعين على نحو نصف الأصوات إلى ثلثي الأصوات (وكانت بقية الأصوات تذهب إلى الوسطيين، والخُضر، واليسار الراديكالي، وعلى نحو متزايد، سلالة جديدة من الأحزاب المتشككة في أوروبا). وعلى مدار أربعين عاماً، حكم اللاعبان المهيمنان أوروبا من خلال تحالف كبير على شاكلتهما.
ولكن في عدد من البلدان، لم يعد هذا الانقسام يميز المشهد السياسي. ففي بولندا والمجر وأغلب بلدان أوروبا الوسطى، تدور المواجهة الرئيسية بين القوميين غير الليبراليين والليبراليين المؤيدين لأوروبا. وفي فرنسا، لم يكن الاختيار في العام 2017 بين اليسار واليمين، بل بين ماكرون نصير الانفتاح (الذي كنت مستشاراً لحملته الانتخابية)، ومارين لوبان، نقيضه التام. وفي إيطاليا، جرى تهميش قوى يمين الوسط ويسار الوسط من قِبَل حزبين جديدين مناهضين للنظام تمتد جذورهما إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار.
الواقع أن القضايا الأكثر إثارة للانقسامات اليوم -الانفتاح الاقتصادي، وأوروبا، والهجرة- لا تؤلب يسار الوسط ويمين الوسط ضد بعضهما بعضا. فكل من المعسكرين اعتنق العولمة، على الرغم من اختلاف وجهات النظر بينهما في ما يتصل بكيفية إدارة العواقب. كما كان كل من المعسكرين مشاركا نشطا، وإن كان على مضض، في التكامل الأوروبي. وعلى الرغم من اختلاف مواقفهما إزاء الهجرة، فقد تقبلها المعسكران في أوروبا الغربية كحقيقة واقعة. والاختيار بين اليسار واليمين لا يمكن المواطنين من التمسك بالاقتصاد المفتوح والمجتمع المفتوح أو رفضهما. فكل من المجموعتين تبدو في حقيقة الأمر حائرة تماما عندما يتعلق الأمر بتمكين مواطني الطبقة العاملة المحرومين، في حين يعرض أنصار سياسات الهوية ما يشبه الاستجابة على الأقل.
صحيح أن الانقسام بين اليسار واليمين يظل بارزاً في العديد من البلدان. وهو أيضاً يدير النقاش حول قضايا محلية مثل توزيع الدخل والدور الذي تلعبه الدولة، فضلاً عن بعض تحديات المستقبل الكبرى، مثل الضرائب العالمية أو مستقبل العمل. ولكن، كما تثبت السياسة البريطانية بوضوح، فإن هذا لا ينطبق على القضايا المهيمنة حالياً: فالمحافظون والعمال هما الحزبان الوحيدان المشاركان، ومع ذلك يعاني كل منهما عندما يتعلق الأمر بالاختيار المهم حقاً -كيف يُدار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لكي تجلب انتخابات البرلمان الأوروبي في العام المقبل قدراً أعظم من الوضوح بشأن قضايا تهم أوروبا، لابد من تشكيل معسكرات جديدة. وعلى الرغم من الشقوق على كلا الجانبين، فإن هذا من غير المرجح أن يحدث.
فقد انقسم اليسار إلى حد كبير بين جناح معتدل (أصبح ضعيفاً إلى حد كبير) وجناح راديكالي مناهض لأوروبا جزئياً. والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت الحواجز التي تفصل الأخير عن اليمين القومي قد تُختَرَق. ويُلمِح الائتلاف الحاكم في إيطاليا إلى مثل هذا السيناريو، في حين يشير الموقف المناهض للهجرة على نحو متزايد من جانب سارا فاكنكنيخت من اليسار، والخطب اللاذعة المناهضة لأوروبا من قِبَل جان لوك ميلينشون من "فرنسا غير الخاضعة"، إلى أن بعض اليساريين الراديكاليين يفضلون أن يخسروا أرواحهم على أن يخسروا الطبقة العاملة. ولكن حتى لو جرى إضعاف الحواجز فإنها لم تخترق بعد.
على اليمين، رفض حزب الشعب الأوروبي، وهو حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، رسم خط أحمر وإبلاغ أوربان، القومي غير الليبرالي المعادي للإسلام بل وحتى السامية على نحو متزايد، بأنه عبر ذلك الخط. والآن يزعم أوربان، بلا اعتذار أو شعور بالذنب، أنه الوريث الحقيقي للمستشار هلموت كول، وأنه يمثل قلب حزب الشعب الأوروبي. في خطاب ألقاه في حزيران (يونيو)، أخذ على عاتقه مهمة إعادة الحزب إلى جذوره المسيحية. ونتيجة لهذا، سوف يخوض حزب الشعب الأوروبي الانتخابات في هيئة ائتلاف غريب يشمل مدافعين عن أوروبا، وقوميين، وليبراليين، وغير ليبراليين، فضلا عن أنصار التنوع ودعاة العودة إلى الهوية المسيحية.
لتفكيك الهياكل القديمة، لابد أن يظهر صوت قوي يناصر أوروبا والانفتاح. وقد شهدنا قدراً كبيراً من التكهنات بأن ماكرون قد يلعب هذا الدور. لكن العقبات بدأت تظهر. ومن الواضح أن الإصلاحات المحلية وتعزيز قوة القاعدة السياسية في الداخل تُعَد شواغل أكثر من كافية لاستهلاك كل وقت الرجل الذي فاز بالسلطة دون دعم من حزب سياسي. كما أُحبِطَت جهوده الرامية إلى إصلاح منطقة اليورو بسبب التأخر في تشكيل الائتلاف الألماني وخسارة إيطاليا كشريك. وعلاوة على ذلك، بات من الواضح الآن أن معركة اللجوء التي خاضتها ميركل بشجاعة كانت خاسرة: فبعد مرور عامين من الادعاء بأن ألمانيا قوية بالقدر الكافي لفتح حدودها، عانت ميركل من انتكاسة انتخابية حادة، تبعتها توترات داخل ائتلافها وتراجع على الجبهة الأوروبية. وهذا من شأنه أن يمنع الأنصار المحتملين للانفتاح من التحدث بوضوح وصراحة حول قضية فاصلة. والسؤال الرئيسي الآن هو ما إذا كان ماكرون ماا يزال يأمل في تعطيل السياسة الأوروبية، أو ما إذا كان من الواجب عليه أن يعترف بهيمنة القوى القائمة وأن يرضى بتشكيل تحالف.
في ظل الظروف القائمة، يبدو من المحتمل إلى حد كبير أن تنتهي انتخابات أيار (مايو) 2019 إلى سلسلة من المعارك التكتيكية المبهمة. وهو أمر بالغ السوء للديمقراطية لأن المواطنين يستحقون أن تُعرَض عليهم خيارات واضحة بشأن قضايا مركزية؛ ولأن هذا كفيل بتقويض شرعية الاتحاد الأوروبي في حين يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تعريف نفسه. وسوف تقرر الأشهر التسعة المقبلة ما إذا كان منع هذا السيناريو الكئيب ما يزال في حكم الممكن.
*أستاد في كلية هيرتي للحكم (برلين) وعلوم بو (باريس)،
يشغل منصب أستاذ كرسي توماسو بادوا-شيوبا في المعهد الجامعي الأوروبي،
وهو زميل "ميركاتور" الرفيع في "برويغيل"، وهو مركز أبحاث مقره بروكسل.