المعضلة الأردنية ـ الإسرائيلية
لم تكن أي مفاجأة. بخلاف ما زعم في عدة وسائل إعلام في البلاد وفي العالم، ففي إسرائيل لم يتفاجأوا من بيان الأردن بعدم تمديد مفعول ملحقي اتفاق السلام اللذين أتاحا استئجار أراض للفلاحة الزراعية في تسوفر وللسياحة في نهرايم. المشكلة هي أنه رغم المعلومات والتلميحات عن نية الملك عبد الله الثاني التي تدفقت لإسرائيل من غير قليل من المصادر، فإنه لم يتم عمل أي شيء تقريبًا لمعالجة الأمر، لا على المستوى الأمني الاستخباري ولا على المستوى السياسي بالأساس.
في الأشهر الأخيرة، نقل مسؤولون أردنيون عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية رسالة تفيد بأن الملك يعيش في أزمة متفاقمة في كل ما يتعلق بعلاقاته مع إسرائيل. فالضغوط تأتي من البرلمان، ومن الاتحادات المهنية، ومن منظمات الأطباء والمحامين الذين يعارضون كل تطبيع مع إسرائيل، ولكن شيئًا لم يتم عمله لمنع الانجراف. إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو لم تبادر إلى أي خطوة كان يمكن لها ربما أن ترضي الملك وتمنحه الأدوات التي يمكنه أن يعرضها كإنجاز للمملكة أو للقضية الفلسطينية.
في السنة الأخيرة طرأ تدهور ما في العلاقات بين إسرائيل والأردن، على خلفية مسائل الحرم والقرار الأمريكي نقل السفارة إلى القدس. كما أن العلاقات المتعسرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية تلقي بظلالها على علاقات إسرائيل مع المملكة. تبرز محطتان أضرتا بالعلاقات في تموز 2017. واحدة كانت الحادثة في السفارة الإسرائيلية في عمان، حين قتل حارس من المخابرات الإسرائيلية وأمن وزارة الخارجية أردنيين لشكه في أنهما اعتزما طعنه. وفي الشهر نفسه نشبت أزمة أخرى في أعقاب قرار إسرائيل نصب بوابات إلكترونية وكاميرات على مدخل الحرم. بموجب اتفاق السلام، للأردن مكانة خاصة في الحرم، ولكن رغم ذلك لم تتشاور إسرائيل معه قبل اتخاذ قراراتها. في نهاية المطاف وبعد تبادل للاتهامات بين الشرطة والمخابرات الإسرائيلية، تراجعت حكومة نتنياهو، وأزالت البوابات الإلكترونية ولم تنصب الكاميرات.
صحيح أن رئيس الوزراء حاول تنسيق البث حين التقى عبد الله علنًا في لقاء أول في الأردن في حزيران/يونيو الماضي (كان لهما غير قليل من اللقاءات لم تنشر)، ولكن قرار الملك هذا الأسبوع يدل على أن الرواسب بقيت على حالها. في اتفاق السلام الموقع في 1994، حين كان اسحق رابين رئيسًا للوزراء والملك حسين، وافقت إسرائيل على أن تعيد للأردن بضع مئات من الكيلومترات المربعة (أكثر من مساحة قطاع غزة الذي هو 365 كيلو مترًا مربعًا) كانت سيطرت عليها جنوب شرق البحر الميت وفي العربا الشمالية. وكانت السيطرة على هذه الأراضي بدأت بعد حرب الأيام الستة كرد على تسلل المخربين الفلسطينيين إلى الأردن وإطلاق الصواريخ.
وجاء في الملحقين لاتفاق السلام أن يؤجر الأردن إسرائيل لمدة 25 سنة نحو 4.500 دونم في جيب تسوفر، ومساحة أصغر في جيب نهرايم في غور الأردن. في تشرين الأول/أكتوبر 2019 تنتهي مدة الإيجار. نحو ربع المساحة في تسوفر يفلحها مزارعو القرية الزراعية بالفلفل للتصدير، وهو بالنسبة لهم مصدر دخل هام. لا شك في أنهم سيتضررون بعد سنة حين تضطر إسرائيل إلى إعادة الأرض إلى الأردن.
عدم تمديد الملاحق المتعلقة بالأراضي المؤجرة محطة أخرى في تدهور العلاقات بين البلدين
في معبر الحدود في جيب نهرايم، في المنطقة الفاصلة بين الدولتين، أقيمت حديقة «جزيرة السلام» التي يؤمها الكثير من السياح. بعد اتفاق السلام كان للدولتين خطة أخرى لتطوير المكان، ولكنها توقفت في 1997. في تلك السنة أطلق جندي أردني النار نحو تلميذات في الصفين السابع والثامن كن يتنزهن في المكان، فقتل سبعًا منهن. الملك حسين في بادرة طيبة استثنائية، قطع زيارته إلى فرنسا، وطار إلى إسرائيل، وزار عائلات المغدورات، وركع أمامها واعتذر أمام الكاميرات. ودفعت حكومته التعويضات للعائلات. حكم على القاتل بالمؤبد في محكمة عسكرية أردنية وأفرج مؤخرًا عنه من السجن. وفي الطرف الإسرائيلي من الحدود، أقيم نصب لذكرى الفتيات في شكل سبع جدائل من التراب محوطة بالعشب الأخضر.
طلبت إسرائيل في حينه أن تدفع لقاء الاستئجار، ولكن الحسين رفض. قال لافرايم هليفي، الذي كان مسؤولاكبيرًا في الموساد في حينه وكان رجل الاتصال المركزي بالحسين وحكومته، وشريكًا في مفاوضات السلام، قال إن «هذه أرض مقدسة» وعليه فإنه لن يطلب مقابلها تعويضًا ماليًا.
تعويض للأردن
ومع ذلك، فإن الأردن بالتأكيد يعوض بأشكال أخرى. بداية كانت سنوات زودت فيها إسرائيل بالكهرباء مناطق قرب تسوفر ونهرايم. ومنذ اتفاق السلام تنقل إسرائيل إلى الأردن كل سنة نحو 50 مليون متر مكعب من المياه. وفي مواسم الجفاف كانت تزوده بكميات أكبر. تحصل إسرائيل على دفعات من الأردن وإن كان سعر المياه مدعومًا. كما أن إسرائيل تبيع الغاز للأردن ومن المتوقع أن تزيد مبيعاتها. تعويض آخر، حسب مصادر مختلفة، يجد تعبيره في أن إسرائيل تزود الأردن ـ بقدر ما هو معروف بلا مقابل أو بثمن متدن جدًا ـ بمروحيات وطائرات مسيرة، وتشحن بالوقود في الجو طائرات قتالية أردنية، كانت في رحلات طويلة المدى لمناورات مشتركة مع الولايات المتحدة.
ولكن العلاقات لا يمكنها أن تقاس بالمعايير المالية. فالحديث يدور عن حلف استراتيجي مستمر منذ نحو 50 سنة، وتحديدًا منذ 1970، حين هرعت إسرائيل لنجدة الملك حسين الذي كان نظامه عرضة للخطر بسبب الحرب مع الفلسطينيين واجتياح الجيش السوري شمالا. فبتنسيق مع إدارة ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر، حشدت إسرائيل القوات في مثلث الحدود الأردن ـ إسرائيل ـ سوريا، وهددت باستخدامها ضد الاجتياح السوري.
كما أن إسرائيل هي الموصية بالأردن في الولايات المتحدة. لا مرة ولا مرتين عمل زعماء الدولة ودبلوماسيون منها من أجل المملكة أو استخدموا من أجلها يهودًا ذوي نفوذ ولوبي ايباك في الكونغرس، لاتخاذ قرارات لزايادة المساعدات الاقتصادية، أو في صالح أهداف أخرى. هذا حلف يفيد الطرفان منه. في نظر الأسرة المالكة الهاشمية، فإن إسرائيل هي الضمانة الأفضل لبقاء النظام. وفي نظر إسرائيل، فالأردن هو دولة فاصل حيوي تمنع اقتراب جيوش معادية وقومية، مثل جيش العراق في عهد صدام حسين.
ويجد هذا الحلف تعابير كثيرة هامة على نحو خاص في المجال العسكري ـ الأمني ـ الاستخباري. رؤساء الموساد على أجيالهم يلتقون بلملك وكبار رجالات الاستخبارات لديه. وكذا أيضًا قادة في الجيش الإسرائيلي ورؤساء الأركان، بمن فيهم الفريق جادي آيزنكوت، ممن يلتقون نظراءهم في الجيش الأردني. تتعاون الدولتان وتتبادلان المعلومات ضد أعداء مشتركين، ولا سيما منظمات الإرهاب التي تهددهما.
معلومات إسرائيلية أنقذت حياة الحسين
معلومات استخبارية من إسرائيل أنقذت حياة الملك حسين (وربما عبد الله أيضا) من مخططات الاغتيال. الحسين، من جهة أخرى، جاء خصيصا لزيارة سرية إلى إسرائيل في أيلول 1973 (اللقاء كان في مدرسة في الجليل، هي اليوم مقر الموساد) كي يحذر رئيسة الوزراء غولدا مائير وموشيه دايان من الهجوم الذي تخطط له مصر وسوريا ضد إسرائيل. الاثنان لم يستجيبا للتحذير. وبعد ثمن قصير فوجئت إسرائيل بحرب يوم الغفران.
وجد التعاون تعبيره أيضا في تبادل المعلومات وفي التنسيق بكل ما يتعلق بـ«م.ت.ف»، وبعد ذلك وجه ضد حماس التي كان لها تواجد في المملكة إلى أن طردت منها بضغط من إسرائيل، وضد محافل الجهاد العالمي أيضًا. حزب الله هو الآخر العدو الأكبر (إلى جانب إيران) لإسرائيل، يعدّ تهديدًا من ناحية الأردن، وكان ثانويًا. في بداية القرن الـ 21 بعث عمام مغنية بخلايا لتنفيذ عمليات في الأردن أيضًا، ولكنها منعت بفضل معلومات نقلت قبل ذلك إلى المخابرات الأردنية. قبل 11 سنة، وفقًا لمنشورات أجنبية، نجح الموساد والسي.اي.ايه في تصفية مغنية في عملية اغتيال في دمشق. وحسب تلك المنشورات، شاركت في العملية على هذا المستوى أو ذاك استخبارات أخرى أيضًا.
في السنوات الأخيرة، يوجه هذا التعاون الوثيق ضد داعش. وكما نشرت هنا الأسبوع الماضي، يشارك مندوبو الجيش الإسرائيلي في مجموعة 21 دولة تفعل غرفة طوارئ في الأردن لكفاح التحالف الدولي ضد داعش أو ما تبقى منه الآن.
لن يكون مبالغًا فيه القول إنه بعد الولايات المتحدة والعلاقة الوثيقة بينها وبين إسرائيل، فإن الأردن هو الشريك الثاني في أهميته لإسرائيل في المجال الاستخباري. وعليه، فواضح أن الدولتين لا يمكنهما أن تسمحا لنفسيهما بالقطيعة أو حتى التدهور الآخر في العلاقات بينهما. وخصوصًا الأردن، الأضعف بين الاثنتين، الذي يتدهور اقتصاده وتوزانه الديمغرافي الداخلي الهش، ويحتاج أكثر إلى إسرائيل.
علاقات مضطربة بين نتنياهو وعبدالله
يقدر مسؤولون كبار ضالعون في العلاقات الخاصة والحساسة بين الدولتين بأنه لم تصدر بعد الكلمة الأخيرة في القضية الحالية. فهناك غير قليل يبقى متعلقًا بالكيمياء والثقة بين الزعيمين.
فهاتان كانتا انسجاما بين رابين والحسين، ولكنهما اليوم غير موجودتين بين نتنياهو وعبد الله. ويعتقد هؤلاء المسؤولون بأن على رئيس الوزراء أن يبدي حساسية أكبر تجاه أزمات الملك. وبالتأكيد ألا يتصرف باعتداد للنفس مثلما تصرف على الأقل في المناسبتين، كانت الأولى عندما فرض مكالمة هاتفية على السفيرة عنات شلاين حين كانت في طريقها عائدة مع طاقمها إلى إسرائيل، وبعد ذلك حين استقبل في مكتبه الحارس وتعامل معه كبطل قومي. وحتى هذا الأسبوع لم يضبط نتنياهو نفسه، وفي خطابه في احتفال الذكرى لرابين قال إنه سيجري مفاوضات مع الأردن في موضوع الأراضي المستأجرة. وحتى لو كان هذا سيحصل، كان ينبغي على نتنياهو أن يعرف بأن أمورا كهذه لا يعلن عنها على الملأ.
وشدد هؤلاء المسؤولون على أن يقترحوا على رئيس الوزراء أن يتصرف بضبط للنفس ويدعو إلى خدمة العلم بعض المسؤولين السابقين ويبعث بهم إلى محادثات سرية تامة مع مندوبي المملكة الهاشمية.
ومن بين الأسماء التي ذكرت كمن يستطيعون القيام بهذه المهام: أفرايم هليفي، وقاضي العليا السابق الياكيم روبنشتاين، أو عاموس جلعاد رئيس القسم السياسي الأمني في وزارة الدفاع. ومع أنهم كلهم خرجوا من الخدمة العامة إلا أنهم معروفون ومقدرون في الأردن.
يوسي ملمان
معاريف 26/10/2018