كتاب مرايا.. عندما يجتمع تاريخ العالم بين طيات كتاب!
منذ أيام قليلة ماضية توفى الأديب والمُفكر والصحفي والكاتب السياسي الأوروجوياني البارز «إدواردو جاليانو – Eduardo Galeano» عن عمر يناهز 74 عاماً، (سبتمبر 1940م – إبريل 2015م)، وذلك بعد صراع مع مرض سرطان الرئة. وهو يُعدّ من أبرز المجيدين لفن القصة القصيرة، كما أنه من أبرز كتّاب أمريكا اللاتينية، وهو مؤلّف أعمال رائعة، وترجمت أعماله إلى 28 لغة، نذكر منها: (ذاكرة النار، ثلاثة اجزاء، عروق أمريكا اللاتينية النازفة للدماء، كرة القدم في الشمس وفي الظل، أيام وليالٍ من الحب والحرب، كتاب العناقات، الكلمات التي تمشي، عاليها سافلها، أصوات الزمن)، وقد حاز على العديد من الجوائز الأدبية، منها جائزة الكتاب الأميركي، عام 1986م.
وقد كان معروفًا بتدوين الظلم الكبير الذي كان سائداً في أمريكا اللاتينية، وأيضاً بحبه لحضارات المنطقة وتنوعها بما في ذلك شغفه الكبير بكرة القدم، كما برع في شتى مجالات الأدب من الصحافة إلى كتابة القصة إلى كتابة المقالات، كما برع في الرسم، حيث كان يزين بعض كتبه برسومه، كما في كتاب (كتاب العناق)، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات والأبيات الشعرية التي تدور حول السياسة.
- اقتباس :
أبتاه ارسم لي العالم على جسدي.. إن العالم ليس كبيرًا للدرجة، مادام يمكن حصره فى خمسة أحرف». بتلك الترنيمة التى يتغنى بها غناء سكّان داكوتا الجنوبيّة الأصليّين يستهلّ «إدواردو جاليانو» كتابه «مرايا: ما يشبه تاريخاً للعالم .. Mirrors: stories of almost everyone».
سارداً قصصاً وحكايات، تُعد من الحقائق التاريخية المنسية، من خلال رحلة عبر ماضي البشرية شبه المنسي، من سفر التكوين حتى الثورة التكنولوجية، ليحتفى بكل ما هو هامشي ومنبوذ ومنسي، فيحدثنا عن مآثر نساء، وزنوج، ومنسيين آخرين، وعن جميع من تعرضوا للإساءة والإهانة والإبادة على امتداد العصور، ويتوقف بنا في محطات يغفلها التاريخ العالمي الرسمي.
#يمكن النظر إلى هذا الكتاب على أنّه فسيفساء، تسرد لنا على امتداد 5000 سنة تاريخ البشرية، فتبرز مختلف الشخصيات من فنانين ومبدعين وكتاب، بل قبائل وشعوب العالم بأكملها، حيث طاف بنا «جاليانو» في كتابه القيم «مرايا» حول أربع جهات من العالم، موقعاً على التاريخ القديم للشرق، من مصر والعراق وسوريا، ومن اليونان إلى الصين، ومن أفريقيا إلى الأميركيتين، اللاتينية والشمالية، لتحظى أميركا الجنوبية بنصيب وافر من السياسة والتاريخ القديم.
غلاف كتاب مرايا لـ إدواردو جاليانو
#يحدثنا «جاليانو» عن مفهوم المرايا في كتابه، قائلاً: «المرايا ممتلئة بالناس، اللامرئيون يروننا، المنسيون يتذكروننا، عندما نرى أنفسنا نراهم، وعندما نغادر هل يغادرون، هذا الكتاب كتب لمن يغادرون، هذه الصفحات توحد الماضي بالحاضر، وفيها ينبعث الموتى ويصير للمجهولين أسماء، الرجال الذين شيدوا قصوراً ومعابد لسادتهم، والنساء اللاتي يجهلن ما يخافونه، وجنوب العالم وشرقه الذين يزدريهما من يزدرون ما يجهلونه».
#العوالم الكثيرة التي يتضمنها العالم ويخفيها، والمفكرون والحساسون، والفضوليون المدانون لأنه يتساءلون، والمتمردون والخاسرون، والمجانين الرائعون الذين كانوا ومازالوا ملح هذه الأرض.
ولا تستطيع أن تتهم من قرأ الكتاب بالجهل أبدًا، فقارؤه قد عرف شيئًا عن كل شيء:
- أحداث تاريخية: الحربين العالميتين، اكتشاف النار، الشيوعية، الرأسمالية، الفراعنة، إيزيس وأوزوريس، تشين الإمبراطور الأول للصين، الأندلس، حضارة الإنكا، الهنود الحمر، هوميروس، الثورة الفرنسية، ثورة العبيد، الحرب الأهلية الأمريكية، مطاردة الساحرات في العصور الوسطى، حرب الأفيون، مسيرة الملح.
- شخصيات تاريخية: جيفارا، هتلر، تشرشل، ستالين، ماو.
- نشأة جمهوريات: أمريكا الجنوبية، المكسيك، أورجواي، البرازيل، الأرجنتين، ونشأة الجمهوريات الإفريقية، غانا، الكونغو.
- سيدات رائدات: ماري كوري العالمة الفائزة بجائزة نوبل مرتين، جان دارك، إيميلي برونتيمؤلفة مرتفعات ويذرنج.
وغير ذلك من أحداث الكثير والكثير.
#يجعل الكاتب من نصوصه «مرايا» تعكس شكل العالم في أزمنة مختلفة، فيضع أمام أعيننا صورة الإنسان راكضاً هنا وهناك صانعاً للمرة الأولى أشياء جديدة لم تر من قبل، أشياء من تلك التي يطلق عليها الإنسان اسم تاريخ، فيأتي بالحدث ثم يمارس عليه كافة وسائل المعالجة من أجل تحويله إلى قصة مسلية ممتعة.
يحرض الكتاب الإنسان على دعم قيم الحرية والعدل والمساواة، بإيراد أمثلة ناضلت وبذلت حياتها دفاعاً عن الحرية وحقوق الإنسان، كالفتاة التي أحست بذكاء يسكن رأسها، فألفت رواية ووقعتها باسم رجل خوفاً من الرأي العام، وإذ بالرواية تنل شهرة واسعة، والهنود الحمر الذي رفضوا الخضوع للإمبراطوريات الغازية، وفضلوا الاستمرار ملوكاً أحراراً على أرض أجدادهم، وروزا باركس راكبة الباص الأمريكية السوداء، التي رفضت أن تتخلى عن مقعدها لرجل أبيض.
حيث استطاع «جاليانو» حصر العالم فى 600 قصة قصيرة ذات مغذى قوى وواضح، كانوا فى الأصل 900 قصة، لكنه استبعد منهم القصص الأقل تناغماً مع مضمون الكتاب فى مجمله، وذلك بأسلوب يجمع بين الاختزال الصحفي، واللمسة الوجدانية، التي تقترب من البلاغة الشعرية.
بعض المقتطفات من بين صفحات الكتاب
مخلوق من الدموع
قبل مصر كانت مصر، أوجدتْ الشمس السماء، والطيور الهائمة تحتها والنيل والأسماك السابحة في غمرات مائه. ولوّن ضفتيه السوداون لتصبح خضراء تعجّ بحياة النباتات والحيوانات. ومن ثم الشمس، واهبة الحياة، جلست لتتأمل صنيعها. شعرت الشمس بنفس الوجود الوليد العميق بينما تفتّح أمام عينيها وسمعت الأصوات الأولى. جمالٌ رهيب كهذا يؤلم. تساقطت دموع الشمس على الأرض وصنعت طينًا. ومن ذلك الطين جاء البشر.
أصل الجمال
إنهم هناك، مرسومون على جدران الكهوف وسقوفها. جواميس، أيول، دببة، خيول، نسور، نساء، رجال، هذه الرسوم ضاربة في القدم لدرجة أنّ لا عمر لها. لقد نشأت منذ آلاف السنين على آلاف السنين، لكنها تولد من جديد في كلّ مرة ينظر إليها شخص.
كيف أمكن لأجدادنا في تلك الأزمنة الغابرة أن يرسموا بتلك الرقة؟ كيف تمكّن أجلاف كانوا يصارعون الوحوش الكاسرة بأيديهم دون سلاح أن يبتكروا تلك الصور المليئة بالحسن؟ كيف فعلوا لرسم تلك الخطوط الهوائية التي تتحرّر من الصخور وتنبثق نحو الفضاء الرحب؟ كيف أمكن له ذلك؟ أم يجدر أن نسأل: كيف أمكن لها ذلك؟
مولودة من الرغبة
كانت الحياة وحيدة، دون اسم ولا ذاكرة. كانت لها أيادٍ، لكن لا أحد لتلمسه. وكان لها لسان، لكن لا أحد لتتحدث معه. كانت الحياة واحد.وكان الواحد لا أحد.ثم ظهرت الرغبة وسَرَت في ظهر الحياة. قَسَم سَهْم الرغبة الحياة في وسطها، فانشطرت إلى نصفين. لمّا أبصر كل نصف النصف الآخر، ضحكا معًا. ولمّا تلامسا ضحكا معًا مجدّدًا.
خطر في الطريق
في محيط إشبيلية، شتاء 1936م الانتخابات الإسبانية تقترب. سيد إقطاعي يجول على أراضيه، وفي الطريق يصادف رجلًا بأسمال. ودون أن يترجل عن حصانه، يناديه السيد ويضع في يده قطعة نقدية وقائمة انتخابية. يفلت الرجل الشيئين، قطعة النقد والقائمة، ويقول وهو يدير ظهره للسيد: في جوعي أنا الآمر.
محمد على كلاي
أسموه خائناً للوطن. وهددوه بالسجن، ومنعوه من مواصلة الملاكمة. انتزعوا منه لقب بطل العالم. وقد كان ذلك العقاب هو انتصاره. فبانتزاعهم التاج منه كرسوه ملكاً. بعد خمس سنوات من ذلك، طلب منه بعض الطلبة الجامعيين أن يلقي عليهم شيئاً، فاخترع لهم أقصر قصيدة في الأدب العالمي We, Me.
فيكتوريا
مدريد، شتاء 1936م. فيكتوريا كينت تُختار نائبة في البرلمان. شعبيتها أتت من إصلاح السجون. عندما بدأت بذلك الإصلاح، اتهمها أعداؤها، وهم كثر، بأنها تضع إسبانيا، البلد الأعزل، بين أيدي المجرمين. ولكن فيكتوريا التي عملت في السجون، ولم تكن تعرف الألم البشري من خلال السماع، واصلت قدماً ببرنامجها أغلقت السجون غير الصالحة للإقامة..
وكانت معظم السجون.دشنت أذون الخروج. أطلقت سراح جميع السجناء الذين تزيد أعمارهم عن السبعين عاماً. أنشأت ملاعب رياضة وورش عمل طوعي. ألغت زنازين العقاب الانفرادية.صهرت كل الشِّباك والسلاسل والقيود الحديدية، وحوّلت ذلك الحديد كله إلى تمثال ضخم لكونثيبثيون آرينال.
حرية عنيدة
حدث في منتصف القرن السادس عشر. العبيد الذين يُخفقون في محاولة الهرب الأولي يعاقبون بالبتر، قطع أذن، أو وتر، أو قدم، أو يد، ولم يكن يفيد في شيء إعلان ملك إسبانيا حظر بتر الأعضاء التي لا يمكن تسميتها. أما أصحاب السوابق، فيقطع ما تبقي لهم، وأخيراً ينتهي بهم الأمر إلى المشنقة، أو المحرقة، أو فأس الجلاد. وكانت رؤوسهم تُعرض، مغروسة علي أعمدة، في ساحات القرى.
ولكن معاقل الأحرار كانت تتكاثر في كافة أنحاء أميركا، يتوغلون في أعماق الأدغال أو في وعورة الجبال، تحيط بهم رمال متحركة تبدو كأنها أرض راسخة ودروب زائفة مزروعة بأوتاد حادة .إلى هناك كان يصل القادمون من أوطان أفريقية عديدة، وصاروا مواطنين مشاركين في وطن جديد لكثرة ما اشتركوا في تلقي المهانة.
مملكة الأحرار
يحدث كل شيء على امتداد القرن السابع عشر. مثل الفطر تنبثق مخابئ العبيد الهاربين. في البرازيل يسمونها كيلومبو. وهذه الكلمة الإفريقية تعني جماعة أو طائفة، على الرغم من أن العنصرية كانت تترجمها انحلالًا، أو موقع الشجار، أو بيت العاهرات.
في كيلومبو بالماريس، من كانوا عبيدًا عاشوا متحررين من أسيادهم ومتحررين كذلك من طغيان السكر الذي يحول دون نمو أي شيء آخر. فكانوا يزرعون كل شيء، ويأكلون من كل شيء. كانت مأكولات أسيادهم تأتي في السفن. أما مأكولاتهم هم فتأتي من الأرض. وكانت ورشهم المهيأة على الطراز الإفريقي، توفر لهم معازق ومعاول ورفوشًا للعمل في الأرض، وسكاكين، وفؤوسًا وحرابًا للدفاع عن أنفسهم.
الكتاب جيد، ومفيد في مجمله، حيث يقدم خدمة للقارئ في جمع أهم الأحداث، فيقدم عناوين يمكن أخذها، والبحث عنها فيما بعد للحصول على مزيد من المعلومات عنها، وهو من الكتب التي تحزن عند إنتهائك من قرائتها، وقد وصل البعض إلى درجة تصنيفه كمرجع تاريخي، وقراءة تدعونا إلى التأمل، وإلى التعرف إلى صورة جديدة للتاريخ المعروف، مع ما تتضمنه هذه الصورة من قسوة تراجيدية، فيها دعوة للقراءة وإعادة النظر؛ لاكتشاف التفاصيل الصغيرة من حولنا.