هذه هي الآية 11 من سورة البقرة، وروى الإمام الطبري في تفسيره عدة روايات عمّن يكون هؤلاء، وتنوعت بين كون هذا هو سلوك المنافقين في عهد النبي صل الله عليه وسلم، أو أنهم قوم لم يأتوا بعد، كما رُوي عن سلمان، رضي الله عنه، وجمع الطبري بين القولين بقوله: "وأولى التأويلين بالآية تأويل مَن قال: "إن قولَ الله تبارك اسمه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)، نـزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صل الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية: "ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ". أ.هـ
وكم اختصرت هذه الآية القليلةِ الكلمات الكثيرَ من المعاني والشرح لِما نراه في عالمنا اليوم من مظاهر وأحوال من الفساد والظلم والطغيان والكفر والفسق والعصيان، وكل ذلك يجري باسم شعارات براقة كالإصلاح والتنوير وحقوق الإنسان والحرية ومحاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية والتقدم والتطوير وتجديد الخطاب الديني والإعلامي، وغيرها من الديباجات المزوقة والأسماء والصفات المرغوبة والمطلوبة.
فهل كان احتلال بلاد العالم من القوى الظالمة إلا تحت شعار إعمار هذه البلاد! وبعد أن تم سلب خيراتها ونهب ثرواتها واستعباد أهلها وقتل الكثير منهم ممن رفضوا الظلم والاحتلال خرجوا بشعار جديد براق، وهو شعار الانتداب لرعاية مسيرة هذه الشعوب نحو الحرية والتحرر من الاحتلال، فماذا كانت النتيجة؟ أليست تسليم الحكم لمن سيحافظ على مصالح الاحتلال بعد رحيله! وتركوا بنية قانونية وسياسية وحدودا فاصلة مليئة بالألغام التي تنفجر في وجه كل من يحاول تخطي مفاسد الاحتلال!
وهل كان تسهيل قيام دولة اليهود في فلسطين إلا بحجة تعويض اليهود عن مجازر النازية! فجريمة أوروبية علمانية يسدد ثمنها الفلسطينيون والعرب والمسلمون!
وهل كل جرائم الاحتلال اليهودي في فلسطين بقتل الأطفال وقصف المساجد والمدارس وتشريد وحصار الملايين تبرر وتمرر في مجلس الأمن والأمم المتحدة إلا باسم الحفاظ على الشعب اليهودي من الفناء! وكأننا نحن المسلمين –عموماً- وأهل فلسطين –خصوصاً- من أفنى اليهود وشرّدهم عبر التاريخ وليس الفرس والرومان والأوربيون والكاثوليك المتعصبون والنازية المتوحشة! بينما التاريخ يؤكد أن بلاد المسلمين كانت الملجأ الذي حمى اليهود من الإبادة والفناء!
وفي سورية اليوم هل قتل الروس والإيرانيون والنظام السوري مئات الآلاف من المواطنين والأطفال والعزل بكل الأسلحة المحرمة كالكيماوي والبراميل المتفجرة والنابالم والفسفور إلإ بحجة محاربة الإرهاب، بينما قوى الإرهاب الحقيقية كداعش كانت يُنقل أفرادها بالباصات الخضراء معززين مكرمين بإشراف هذه القوى لتحارب بقية الثوار في المناطق المستعصية عليها!
وبمزاعم محاربة التطرف والإرهاب بسبب الجرائم التي يرتكبها المتطرفون والإرهابيون والذين يحظون بالرعاية والدعم المباشر وغير المباشر من قوى دولية متعددة، يتم إدانة الإسلام بالجملة حيث يحاصر العمل الدعوي والخيري الإسلامي ويطالب بتبديل المناهج التعليمية وحذف كل ما له علاقة بالإسلام، فضلا عن محاولات تحريف الإسلام وتبديله بإسلام (دايت) على قياس المبادئ العلمانية والإلحادية، بينما الجرائم الإرهابية التي تقع من جهات يمينية متطرفة في أوروبا وأميركا لا تصم المناهج التعليمية العلمانية بالتطرف والإدانة، ولا توصم البوذية بالإرهاب رغم كل المجازر البشعة للعزل المدنيين من أهل بورما!
وإذا جئنا للواقع في بلاد الإسلام نجد التقارير الرسمية تكشف كل مدة مظاهر عديدة من الفساد والاختلاس وتضييع الأمانة من قبل شخصيات وصلت إلى مناصبها وهي ترفع يافطات الإصلاح والازدهار والتنمية في حملاتها الانتخابية!
وسنجد حكومات تَعد المواطنين بمحاسبة الفساد وإيقافه، ولكن ما يلمسه الناس هو استمرار مسيرة الفساد والرشوة وزيادة الضرائب ووضع غير الأكفياء في المناصب، وكل ذلك باسم إعادة الهيكلة وتخفيف العجز!
وعلى صعيد المعارضة ستجد معارضة تملأ الدنيا زعيقاً حول حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية المستباحة والديمقراطية المنقوصة والدولة المدنية، ونفس الوقت تجد أفرادها يتزاحمون على ركوب باصات التهنئة لنظام قتل مئات الألوف من شعبه، ولا يفتح الناس أفواههم هناك إلا بتمجيد الطاغية أو عند طبيب الأسنان!
وستجد معارضة تَعد الناس بالحل الإسلامي ثم تمارس من الإسلام ما يتوافق مع مصالحها، وتدَع من الإسلام ما لا يخدمها، ولا مانع من أن تتعايش مع خيارات معاكسة لها تماما إذا قام بها أشقاء لها في بلد آخر! وكل ذلك تحت شعار مصلحة الدعوة والإسلام!
والقائمة والأمثلة لدعوى الإصلاح -والتي هي في حقيقتها فساد- كثيرة جداً، وعدم الوعي بهذا التناقض والخداع سبب لضياع وتيه قطاعات كثيرة من العامة خلف وهْم وسراب الشعارات الخادعة مما يجلب الكوارث للمسلمين وبلادهم.
لقد كان هذا التنبيه الرباني في مطلع كتابه الحكيم ليكون المسلم على بصيرة في دينه ودنياه ولا ينخدع بالشعارات ويفحص عما خلفها من حقائق، ويكون بناء موقفه على الحقائق وليس الشعارات، وبذلك تتجنب الأمة التيه وينجو المسلم من الهلاك، والله المستعان.