مقدمة حول صفات الله التنزيهية
هي الصفات التي يكون معناها : نفي ضدها عن الله تعالى ، فهي تنفي النقص عنه سبحانه . فإذا قلنا : من صفاته السلبية ( البقاء) فمعناه: سلب الفناء عنه . وقد نفى الله تعالى النقائص عن ذاته : ليثبت له كمال ضدها وكذلك في السنة المطهرة.
مثال ذلك من القرآن الكريم :
• { ولا يظلم ربك أحدا (49)} [ الكهف} نفى الظلم يتضمن كمال عدله.
• { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان /58] نفى الموت يتضمن كمال حياته .
• { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة /255] نفى ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته.
• { ولا يؤده حفظهما } [ البقرة /255] لكمال قدرته.
• { وما مسنا من لغوب } [ ق ] أيضا لكما قدرته.
• { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام /103] لكمال جلاله ، وعظمته ، وكبريائه.
• { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ/3] لكمال علمه
ومثاله من السنة المطهرة : ـ
• " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام " (1).
• " إن الله لا مستكره له " (2) .
• " إن الله لا يتعاظم عليه شئ " (3).
• " إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" (4).
• " إن الله ليس بأعور" (5).
• " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة" (6).
وقد قام علماء التوحيد بدراسة صفات الله التنزيهية ، واختلفت طرقهم في عرضها ، فمنهم من يجمل ، ومنهم من يفصل ، ومنهم من يلتزم بالألفاظ الواردة في القرآن والسنة ، ومنهم من يستعمل المصطلحات العلمية في التعبير عنها ، بعد اتفاقهم على أنه يجب تنزيه الحق عن كل ما لا يليق بذاته جل في علاه .
وإليك نموذجا لمن أجمل صفات التنزيه في أحد كتبه وهو الإمام أبي حامد الغزالي قال عن الله تعالى :
" إنه في ذاته واحد ، لا شريك له ، فرد لا مثيل له ، صمد لا ضد له ، منفرد لا ند له ، وإنه واحد قديم لا أول له ، أزلي لا بداية له ، مستمر الوجود ، لا آخر له ، أبدي لا نهاية له ، قيوم لا انقطاع له ، دائم لا انصرام له ، لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال ، لا يقضي عليه بالانقضاء والانفصال ، بتصرم الآباد وانقراض الآجال، بل هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شئ عليم .
وأنه ليس بجسم مصور ، ولا جوهر محدود مقدر ، وأنه لا يماثل الأجسام ، لا في التقدير ، ولا في قبول الانقسام ، وأنه ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر ، ولا بعرض ، ولا تحله الأعراض ، بل لا يماثل موجودا ، ولا يماثله موجود ، ليس كمثله شئ ، ولا هو مثل شئ ، وأنه لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار ، ولا تحيط به الجهات ، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات.
وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواء منزها عن المماسة والاستقرار ، والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش ، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش والسماء ، وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنه رفيع الدرجات والثرى . وهو مع ذلك قريب من كل موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، وهو على كل شئ شهيد ؛ إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام ، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام.
وأنه لا يحل في شئ ، ولا يحل فيه شئ . تعالى عن أن يحويه مكان ، كما تقدس عن أن يحده زمان ، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان ، وهو الآن على ما عليه كان " (7).
وأغلب علماء التوحيد يذكرون في هذا الباب خمس صفات دل عليها العقل الصريح ، والنقل الصحيح ، وإليها نرجع سائر التنزيهات ، فهي لها كالأمهات . وهي : القدم أو الأولية ، والبقاء أو الآخرية ، والقيام بالنفس، والمخالفة للحوادث ، والوحدانية . وإليك التفصيل :
1ـ صفة الأولية :
ويسميها علماء التوحيد : ( صفة القدم) ومعناه أن الله تعالى لا أول لوجوده ، فهو أزلي لا بداية له ، ولم يسبقه عدم ، فقد كان الله ولا شئ غيره ، ثم خلق الخلق.
وقد سأل أحد الرهبان الإمام أبا حنيفة هذا السؤال : ماذا قبل الله ؟
فأجاب أبو حنيفة : هل تحسن العدد ؟ قال : نعم . قال : ماذا قبل الواحد ؟ قال : لا شئ قبله . قال : إذا كان الواحد الفاني لا شئ قبله ، فالله سبحانه لا شئ قبله .
وإذا وصفنا الله بالقدم ، فمعناه يختلف عن وصف شئ من المخلوقات بالقدم . إذ معنى قدم المخلوق : طول المدة ، وتوالي الزمن على الشئ.
وقد جاء لفظ ( القديم ) في القرآن الكريم في ثلاث آيات :
1ـ { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(39)} [يس].
2ـ { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)} [ يوسف].
3ـ { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم(11)} [ الأحقاف}.
فالقديم في هذه الآيات معناه الذي توالى عليه الزمن.
أما بالنسبة لله فهو الذي لا بداية له .
وهذا المعنى قد جاءت به اللغة العربية ، ودونه أصحاب المعاجم اللغوية :
جاء في ترتيب القاموس المحيط:"القدم ـ كعنب ـ ضد الحدوث"( وجاء في لسان العرب : " القديم على الإطلاق : الله عز وجل.. والقدم نقيض الحدوث" (9).
وورد في مختار الصحاح : "القدم ضد الحدوث"(10)
وكان الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ يطلق على الله لفظ (القديم) قال : " ثبت أن القديم شئ لا كالأشياء ، وحي لا كالأحياء" (11).
فنطلق على الله لفظ (القديم) على أنه صفة وليس اسما من الأسماء الحسنى : لأنه يتوسع في الصفات ما لا يتوسع في الأسماء.
وقد جاء الشرع بلفظ (الأول) وهو أفضل ؛ لأنه يششعر بأن ما بعده آيل إليه ، وتابع له . قال تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3)} [ الحديد ] .
وعن أبي هريرة قال كان رسول الله صل الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول : ( اللهم رب السموات ، ورب الأرض ، ورب العرش العظيم . ربنا ورب كل شئ ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر ، فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن ، فليس دونك شئ . اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر ) (12).
أما لفظ (القديم) فلم أجده في السنة المطهرة إلا في رواية لابن ماجه في كتاب الدعاء. فقد عده ضمن أسماء الله الحسنى في أثناء سرده لها . وهذه الرواية ضعيفة ، كما في الزوائد (13).
وعن عمران بن حصين رضى الله عنهما قال : "دخلت على النبي صل الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال : اقبلوا البشرى يا بني تميم . قالوا : قد بشرتنا فأعطنا (مرتين ) ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن . فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ، إن لم يقبلها بنو تميم . قالوا : قد قبلنا يا رسول الله . قالوا : جئناك نسألك عن هذا الأمر.
قال : كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ، وخلق السموات والأرض.
فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا ابن الحصين . فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب. فوالله لوددت أني كنت تركتها " (14).
وفي رواية : " كان الله ولم يكن شئ قبله ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض " (15).
بلفظ (قبله ) بدل (غيره) وكأن راويها رواها بالمعنى أخذ من حديث: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ " السابق ذكره .
وبعطف خلق السموات والأرض بلفظ ( ثم ) بدل الواو . ويؤيد ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " إن الله قدر مقادير الخلائق بل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشه على الماء " (16).
والدليل العقلي على صفة القدم : ـ
أنه تعالى لو لم يكن قديما ، لكان حادثا مثل هذه المخلوقات ، فلا يتأتى له أن يحدثها ، ولاحتاج إلى علة تمنحه الوجود . كيف وهو الخالق لكل موجود !
2ـ صفة الآخرية : ـ
ويسميها علماء التوحيد : صفة ( البقاء ) ومعناها : أن الله تعالى لا آخر لوجوده ، فلا يلحقه عدم أو فناء.
أما البقاء بالنسبة للمخلوق فمعناه : استمرار الوجود زمنين أو أكثر.
والدليل النقلي على صفة البقاء :
قوله تعالى : { هو الأول والآخر }.
وقوله سبحانه:{ كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88) [القصص]
قال مجاهد : معناه إلا هو( 17 ) تعالى .
وقال الشوكاني في تفسيره : أي إلا ذاته (18) تعالى.
وقوله تعالى : { كل من عليها فان(26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) } [ الرحمن ].
قال ابن عباس : الوجه عبارة عنه (19) تعالى.
وقال الشوكاني : الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده (20) .
فسواء فسرنا ( الوجه ) بالذات ، أو بصفة من صفات الذات . فمعلوم أن الصفة لا تبقى بدون الموصوف . فالله باق بذاته وصفاته.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شئ بعده " (21).
والدليل العقلي على اتصافه بالبقاء : ـ
أنه لو لم يجب لله البقاء ، لجاز عليه الفناء . كيف ذلك وقد ثبت قدمه ، وكل ما ثبت قدمه استحال عدمه .
3ـ صفة القيومية : ـ
ويسميها علماء التوحيد ( القيام بالنفس ) ومعناها : أنه تعالى مستغن عن غيره استغناء تاما ، فهو لا يحتاج إلى محل ؛ لأن الحال في محل محتاج إليه فهو لا يحتاج إلى مكان ، ولا زمان ؛ لأنه خالق ذلك كله، فلا يحده مكان ، ولا يحصره زمان ؛ لأنه كان قبل المكان وقبل الزمان ، فهو على ما عليه كان .
وهو غير محتاج إلى مخصص خارجي بخصصه ببعص الصفات دون بعض فهو مستغن عن كل ما سواه ، وكل ما سواه محتاج إليه .
ويلزم من قيامه بنفسه أنه واحد أحد غير مركب من أجزاء . وإلا لكان محتاجا إلى كل جزء من أجزائه ، وكل جزء غيره وكل مركب متقوم بغيره ، فلا يكون متقوما بنفسه . ولا مقوما لكل ما عداه.
ويلزم من كونه قيوما أن كل ما سواه حادث ، موجود بإيجاده.
وتكرر وصف الله بالحي القيوم في القرآن ثلاث مرات في البقرة /255 وآل عمران /2 وطه /111 والقيوم : القائم بنفسه . المانح لغيره ما به قوامه . كما قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد/33].
وروى البخاري : كان النبي صل الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد ، أنت قيم السموات والأرض ، ومن فيهن " وفي رواية " قيام السموات " . قال قتادة : القيام القائم بنفسه بتدبير خلقه ، المقيم لغيره (22).
ومن أسمائه الحسنى (الغني ) قال : { وربك الغني ذو الرحمة} [الأنعام/133] .
وقال : { يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد(15)} [ فاطر].
وقال : { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم } [ الأنعام].
وقال:{وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون(88)} [المؤمنون]
وقال في الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي . لو أن أولكم وآخركم ، وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي . لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا " (23).
والدليل العقلي على اتصافه تعالى بهذه الصفة : أنه تعالى لو كان محتاجا إلى محل ، أو مخصص ، لكان حادثا ، وهو محال.
4ـ مخالفته للحوادث : ـ
ومعنى هذه الصفة : عدم مماثلته تعالى للمخلوقات في الذات ، والصفات ، والأفعال ، فذاته ليست كذواتنا ، وصفاته ليست كصفاتنا ، وأفعاله ليست كأفعالنا. ومهما تصورت ببالك ، فالله بخلاف ذلك . ولا يعلم حقيقة الله إلا الله .
والدليل النقلي على هذه الصفة قوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير(11)}[الشورى] أي ليس كهو شئ . فالكاف لتأكيد النفي مثل قوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي بالذي آمنتم به .
وقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد(4)} [الإخلاص].
والدليل العقلي : أنه لو كان مماثلا للمخلوقات ، لكان حادثا مثلها ، واحتاج إلى محدث ، وقد ثبت له القدم ، فبطل كونه حادثا ، فلا يكون مماثلا للمخلوقات.
النصوص الموهمة للتشبيه : ـ
وردت آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية بها بعض ألفاظ ربما فهم منها مشابهة الله تعالى في ذاته ، أو صفاته ، أو أفعاله لمخلوقاته . مثل قوله تعالى :
• { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)} [ الرحمن ].
• { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح / 10].
• { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)} [ طه ].
• { الرحمن على العرش استوى (5) } [ طه].
• { وجاء ربك والملك صفا صفا (22)} [ الفجر].
• { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام /18].
• { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)} [ البقرة].
• { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (13) } [ النساء ].
ولقد كثر الجدل في هذه النصوص ، وما يزال مستمرا حتى الآن ، بل قد انتقل الجدل إلى تحديد مذهب السلف نفسه ، وما يزال مستمرا بين أنصار الإمام الأشعري ، وأتباع الإمام ابن تيمية . حتى لتكاد هذه المسألة من بين مسائل العقيدة تحتل مركز الصدارة عند بعض الدعاة المعاصرين : ولا يجد في الإسلام ما يستحق التناول والعرض في أوربا وأمريكا إلى استواء الرحمن على العرش ، ونزول ربنا جل في علاه ، ووضع قدمه في النار.
وخلال قرون مضت كتبت رسائل ، وألفت كتب في هذا الموضوع تمثل كل الاتجاهات . ويمكننا أن نحصر كل ما قيل فيها في مذهبين :
المذهب الأول : مذهب السلف . ويرون وجوب الإيمان بهذه النصوص كما وردت ، وتنزيه الله عن الجسمية ولوازمها ، ونفي المعنى المادي لهذه الألفاظ فالله ليس كمثله شئ.
إلى هنا يتفق العلماء في تحديد مذهب السلف ، ثم يختلف أنصار الأشعري مع أتباع ابن تيمية في تصوير بقية مذهب السلف.
فيرى الفريق الأول : أن السلف كانوا يفوضون معنى هذه الألفاظ إلى الله تعالى ، ولا يحاولون تفسيرها ، بل يمرونها كما جاءت . وأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله .
بينما يرى الفريق الثاني : أن السلف كانوا يفسرون هذه الألفاظ ، ويعلمون معانيها ، ولا يفوضون معناها إلى الله ، وأن الكيفية فقط هي المجهولة لهم . وأن هذه المسألة ليست من المتشابه ، والآيات الواردة فيها آيات محكمات.
المذهب الثاني : مذهب الخلف الذين جاءوا بعد القرون الثلاثة المفضلة في الحديث النبوي. ويرون وجوب الإيمان بهذه النصوص ، وتنزيه الله عن الجسمية ولوازمها ، ويؤلونها تأويلا يتفق مع تنزيه الله ، ومع قوله : { ليس كمثله شئ } فلغة العرب فيها الحقيقة ، وفيها المجاز المختلف الأنواع ، وقد نزل القرآن بها ، فلابد من فهمه على قواعدها.
ويقولون : إن الراسخين في العلم ممن يعلم تأويله.
وعلى هذا المذهب الغالبية العظمى من مفسري القرآن الكريم، وشراح الحديث النبوي الشريف.وفيما يلي نماذج لتأويلهم هذه النصوص:
من أمثلة التأويل في القرآن الكريم : ـ
• قوله تعالى : { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) } [ الملك ].
أي من ملكوته في السماء من ملائكة وعرش وكرسي ولوح محفوظ.
• وقوله تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } [ الزمر /56] أي في طاعته ؛ فالجنب المعروف في المخلوق لا يقع فيه تفريط.
• وقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) }[ القلم] الساق: كناية عن شدة الأمر وصعوبته ، فمن وقع في أمر عظيم ، شمر عن ساقه . أي جد واجتهد.
ومن أمثلة التأويل في السنة المطهرة : ـ
• قوله صل الله عليه وسلم:"خلق الله عز وجل أدم على صورته" (24) أي تام الخلقة . لم يتطور خلقه كبنيه من نطفة إلى علقة .. الخ.
• وقوله صل الله عليه وسلم : " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ، ثم يتوب الله على القاتل ، فيسلم ، فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد" (25) فمعنى (يضحك) أي أبدى كرمه ، وأبان فضله ، وهذا أصل الضحك في اللغة.
• وقوله صل الله عليه وسلم : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له"(26) أوله (مالك بن أنس) وغيره بنزول رحمته وأمره وملائكته ، ويقوي هذا رواية النسائي : " إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ، يم يأمر مناديا يقول : هل من داع ، فأستجيب له" (27) أو المراد بالنزول الإقبال على الداعين بالإجابة.
• وقوله صل الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (28).
المراد من الحجاب : المانع من رؤيته ، والمراد بسبحات وجهه : نوره وجلاله ، والمعنى : أن هناك مانعا من رؤيته تعالى في الدنيا: لو أزاله وتجلى لخلقه ، لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته.
• وسؤاله صل الله عليه وسلم الجارية : " أين الله ؟ قالت : في السماء. قال : من أنا ؟ قالت:أنت رسول الله . قال: أعتقها ، فإنها مؤمنة"(29).
قالوا : إن رسول الله صل الله عليه وسلم خاطبها على قدر عقلها ، فهي جارية أمية راعية غنم . وهذا أقصى ما تستطيع أن تعبر به .
• وقوله صل الله عليه وسلم : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه ، فتقول : قط قط " (30).
قال الحسن البصري : القدم همم الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه.
ويقال لهم : ( الرجل) كما في بعض الروايات . وقيل : وضع القدم على الشئ مثل يضرب للردع والقمع.
وقبل أن أذكر رأي في هذا الموضوع أحب أن أنبه إلى أمور : ـ
أولا ـ هذا النوع من صفات الله تعالى ليس من الصفات العقلية التي يصل إليها العقل بالتفكير في العالم . كصفات العلم ، والإرادة ، والقدرة ، والحياة . إنما هو من الصفات التي تؤخذ من الكتاب والسنة.
ثانيا : ليس كل ما يضاف إلى الله يكون صفة له ، فقد أضاف إليه أمورا ليست من صفاته . كبيت الله ، وعبد الله ، وناقة الله ، وروح الله .
ثالثا : لا يلزم من إسناد بعض الأفعال إليه تعالى في القرآن والسنة أن له صفات من جنسها . مثال ذلك :
• { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة /67] فهل من صفاته النسيان !!
• { وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21)} [ الإنسان] فهل من صفاته السقى !!
• { سأرهقه صعودا (17)} [ المدثر] فهل من صفاته الإرهاق !!
رابعا : لا يجوز أن نجمع هذه الألفاظ في موضع واحد ، حتى لا ندع للخيال فرصة ، ولا للوهم سبيلا لرسم صورة معينة في الذهن لذات الحق تعالى . فإذا ما تأملنا كل كلمة منها في سياقها ، وجدناها أبعد ما تكون عن مماثلة المخلوقين .
خامسا : لابد لمن يتعرض لبيان معاني هذه الألفاظ من العلم بأساليب اللغة العربية ، وطرقها في التعبير عن المعاني . فقد قال الإمام مالك : " لا أوتي برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالا"(31).
وعقد الإمام الشافعي في رسالته الشهيرة بابا بعنوان : ( الصنف الذي يبين سياقه معناه ) (32) تناول فيه : كيف يحدد السياق ، أو ما يسميه علماء البلاغة ( القرينة ) المراد من اللفظ ، وهو ما اصطلح عليه علماء البلاغة بالمعنىالمجازي ، إذ المعنى الحقيقي لا يحتاج إلى قرينة . وكلامه في غاية النفاسة .
ويرى الإمام ابن قدامة الحنبلي في كتابه : ( المغني ) أن إنكار المجاز مكابرة .
ومع ذلك لا أريد أن أدخل في جدال حول تحديد ( الظاهر المتبادر) لكل لفظة وردت ، أو ما إذا كان هذا المعنى لهذه الكلمة (مجازيا ) أو هو من استعمالات اللغة للكلمة .
وقد لاحظت أن بعض ما ذكره (الخلف) من تأويل ومجازات روى عن بعض(السلف) كما ذكرت في معنى(الوجه) في الصفة السابقة(البقاء)
وكما ورد منذ قليل عن الإمام مالك وهو من كبار أئمة السلف في حديث النزول.
وكما ورد عن الحسن البصري في معنى القدم.
وكما ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا (22) } [ الفجر] " أي أمره وقضاؤه . قاله الحسن " (33).
وكما ذكر الطبري في تفسير { يد الله فوق أيديهم } بأنها : "قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صل الله عليه وسلم " (34).
وقال ابن كثير في تفسيرها:"أي هو حاضر معهم ، يسمع أقوالهم ، ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم " (35).
وكما ذكر السيوطي في تفسير قوله تعالى : { يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } عن مجاهد : في ذكر الله (36) . وعن السدي : تركت من أمر الله (37).
لكني أريد أن أعرض نماذج وأمثلة لما يتحتم أن يفهم في ضوء العلم بلغات العرب على حد تعبير الإمام مالك ، أو بنوع من أنواع المجاز المعروفة في لغة العرب.
من أمثلة ذلك في القرآن الكريم : ـ
* قوله تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7) } [ المجادلة].
فهل يعني ذلك أنه حال في المكان معهم ، مختلط بهم ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أنه معهم أي بعلمه وتدبيره ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم . يدل على ذلك بداية الآية ونهايتها.
* قوله تعالى:{ وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)}[طه].
فهل يعني ذلك أن موسى ستكون تربيته فوق عين الله ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أن الأسلوب يعني أن تربيته ستكون بحفظ الله ورعايته.
• وقوله تعالى : { وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر } [ القمر].
نفهم من الآية أن سفينة نوح ستكون في رعاية الله وتوفيقه .
• قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون(84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون(85)} [الواقعة].
فهل يعني ذلك قرب ذات الحق من ذات من حضره الموت ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أن المراد من القرب هنا هو قرب ملائكة الموت الذين سيتولون إخراج الروح.
ومن أمثلة ذلك في السنة المطهرة : ـ
• حديث : " يسب الدهر ، وأنا الدهر " الذي مر في الأسماء الحسنى.
فمعنى ( أنا الدهر) أي خالق الدهر، ومقلب الليل والنهار.
• حديث : " أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إلى شبرا ، تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلى ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة" (38).
فهل يعني قوله : ( تقربت إليه ) قرب ذات الحق من ذات العبد ؟ وقوله : ( أتيته هرولة ) إثبات صفة الهرولة لله تعالى ؟
نفهم من الحديث تصوير سرعة تفضل الله على عبده المقبل عليه ، وعظم جزائه لمن توجه إليه .
• حديث : " من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، يده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي ، لأعيذنه " (39).
فهل يعني هذا أن الله يكون سمع الولي ، وبصره ، ويده ، ورجله . فيكون جزءا من العبد ؟
نفهم من الحديث : أنه تصوير لنصرة وتأييد الله لوليه . فقوله : (كنت سمعه) أي حافظ سمعه : ومسدد بصره . وهكذا.
فمن فهم هذه الآيات والأحاديث على هذا النحو لا يمكن أن نتهمه في دينه أو في عقيدته ؛ لأنه أولها ، أو فسرها بالمجاز ؛ لأن هذا صنيع كل المفسرين للقرآن ، والشارحين للسنة المطهرة . وأيضا صنيع بعض أئمة السلف.
رأيي في هذا الموضوع : ـ
وألخص رأيي في هذه الصفات في كلمتين : إقرارها ، وإمرارها.
وأستشهد عليه بكلام السلف أنفسهم : ـ
1ـ قال الأوزاعي : سئل (مكحول) و(الزهري) عن تفسير الأحاديث فقال: "أمروها كما جاءت" وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال : سألت (مالك ابن أنس) و(سفيان الثوري) و(الليث بن سعد) و(الأوزاعي) عن الأخبار التي جاءت في الصفات . فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف .. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم ، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين"(40).
2ـ قال (محمد بن الحسن ) 131ـ189 هـ صاحب أبي حنيفة : "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن ، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل ، من غير تفسير، ولا وصف ، ولا تشبيه ، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك ، فقد خرج عما كان عليه النبي صل الله عليه وسلم ، وفارق الجماعة ، فإنهم لم يصفوا،ولم يفسروا،ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة. ثم سكتوا" (41).
3ـ وعن سفيان بن عيينة قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟
قال الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول،ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين ، وعلينا التصديق.
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (42).
4ـ وقال الإمام الشافعي رضى الله عنه : " آمنت بالله ، وبما جاء عن الله ، على مراد الله ، وآمنت برسول الله ، وبما جاء عن رسول الله ، على مراد رسول الله " (43).
قال ابن كثير : " وقد روى عن الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ـ أي الشافعي ـ ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تحريف على طريقة السلف" (44).
5ـ وقال الإمام أحمد بن حنبل وقد سئل عن هذه الصفات : " نؤمن بها ، ونصدق بها ، لا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد شيئا منها ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، ولا نرد على رسول الله صلى لله عليه وسلم ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه ، بلا حد ولا غاية " (45).
هذه أقوال كبار علماء السلف في القرون الثلاثة الأولى حول ما ينبغي على المسلم تجاه هذه النصوص ، ويتلخص ـ كما سبق ـ في أمرين : إقرارها ، وإمرارها .
ألا يكفينا ما كفاهم !! ألا نقنع بما قنع به هؤلاء الأكابر !!
أذلك خير : أم هذا الجدل الذي يضيع الوقت ، ويبدد الجهد، ويورث الضغينة في قلوب المؤمنين من شبابنا المعاصر؟
مع الأخذ في الاعتبار أن التأويل قد ورد عن السلف لبعض الآيات كما سبق أن أشرنا . ولعلنا نفرد له بحثا مستقلا إن شاء الله .
... يتبع