منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 ثانيا : الإلهيات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:45 pm

تعريف الإلهيات

فيراد بالإلهيات ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته. وكثير من المتكلمين يقسم مباحث العقيدة إلى ثلاثة أقسام: 
الإلهيات، والنبوات، والسمعيات، ويعنون بها: البرزخ واليوم الآخر وما فيه.
وخير من ذلك وأولى أن نقسم مباحث العقيدة على مقتضى حديث جبريل عليه السلام: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. 
والإيمان بالله: يشمل أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات، وليس للمتكلمين اعتناء بتوحيد الألوهية، وجل مباحثهم إنما هي في الربوبيه والأسماء والصفات مع انحراف في ذلك
يقوم في أكثره على التأويل والتحريف والتعطيل، والذي عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب: أن يثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسول الله صل الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل







وجود الله ( مقدمة )

هل يحتاج وجوده تعالى إلى دليل ؟
        انقسم العلماء في هذا الموضوع إلى فريقين :ـ

        فريق يرى أن وجود الله تعالى أمر ضروري فطري ، لا يحتاج إلى دليل ، لأنه مركوز في فطرة الإنسان

        وفريق يرى أن وجوده أمر نظري مكتسب ، يحتاج في إثباته إلى الأدلة ، ولو كان ضروريا ما اختلف فيه أحد ، وما كفر بعض الخلق.

        ويرى الفريق الأول أن مهمة الرسل كانت لتوحيد الله ، لا لإثبات وجوده .

        يقول الإمام الشعراني : " لم يأت الأنبياء والرسل ليعلمونا بوجود الصانع ، وإنما أتونا ليدعونا إلى التوحيد ، قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } . والخلق إنما أشركوا بعد الاعتراف بالموجود لما اعتقدوه من شركاء لله تعالى ، أو لنفي واجب من صفاته ، أو لإثبات مستحيل منها ، أو لإنكارهم النبوات " (1).

        والاعتراف الذي يشير إليه الشعراني هو المذكور في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين(172) أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون(174)} [ الأعراف ] .

        ويوضح هذه الفكرة الدكتور عبد الحليم محمود ـ رحمه الله ـ فيقول : "الواقع حين بدأ الرسول صل الله عليه وسلم الجهر بدعوته بعد نحو ثلاث سنوات من الإسرار بها ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه لم يبدأ بإثبات وجود الله ، وإنما بدأ بالبرهنة على صدقه هو ، وتحدى العرب بصدقه ، ومن قبل ذلك حين فاجأه الملك في الغار ، ونزل الوحي ، لم يبدأ الملك ، أو لم يبدأ الوحي بإثبات وجود الله ، وإنما بدأ بالأمر بأن يقرأ الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ باسم ربه .

        أما الآيات الكثيرة التي يظن بعض الناس أنها نزلت لإثبات الوجود ، فليست من ذلك في قليل ولا في كثير ، إنها تبين عظمة الله ، وجلاله ، وكبرياءه ، وهيمنته الكاملة على العالم ، ما عظم من أمره ودق منه ، لا تفوت هيمنته صغيرة ولا كبيرة ، ولا يخرج عن سلطانه ما دق وما جل"(2).

        ويدعم هذا الفريق رأيه في أن وجود الله فطري لا يحتاج إلى دليل بالآيات القرآنية الآتية :

        • { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } [ العنكبوت /61].

        • { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } [ العنكبوت /63].

        • { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9)} [ الزخرف].

        • { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولهن الله فأنى يؤفكون (87)} [الزخرف /87]

        ويعترض هذا الفريق على من يحاول الاستدلال على وجود الله قائلين:

        " كيف تكون الكائنات مظهرة له ، وهو الذي أظهرها ، أو معرفة له ، وهو الذي عرفها ، وكيف يحتاج إلى الدليل من نصب الدليل؟ " (3).

        ويناجي أحدهم ربه قائلا : " إلهي ، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك !! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك !! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك !! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك !!

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الذي أظهر كل شئ !

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الذي ظهر بكل شئ.

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الذي ظهر في كل شئ.

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الظاهر قبل وجود كل شئ.

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو أظهر من كل شئ.

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الواحد الذي ليس معه شئ.

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو أقرب إليك من كل شئ.

        كيف يتصور أن يحجبه شئ ، ولولاه ما كان وجود شئ.

        شتان بين من يستدل به ، أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، فأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه ، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه " (4).

        هذه وجهة نظر أولئك الذين رأوا أن وجود الله لا يحتاج إلى دليل ، أما تعقيبنا عليها ، فإننا نرى أن عاطفة التدين موجودة في جميع بني البشر ، وأن معرفة الله معلومة لكل مخلوقاته { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)} [ الإسراء ] . وقد أيدت الأبحاث العلمية الحديثة هذه القضية ، حيث أثبتت وجود نوع من التدين لدى جميع المجتمعات ، وأن من ينكر وجود الإله ، إنما يستبدل وجود إله بإله.

        لكن الإنسان بعد ميلاده يتأثر بعوامل كثيرة ، شرحنا بعضها عند حديثنا عن ( ضرورة الدين للإنسان ) مثل : البيئة الفاسدة ، والتنشئة الخاطئة : والمصالح المادية ، والميول والأهواء ، ودور إبليس وأعوانه في هذا الوجود . . هذه المؤثرات تلعب دورا خطيرا في انحراف الفطرة الإنسانية .

        من هنا احتاج الناس إلى : التنبيه ، وإلى : التذكير.

        ومن هنا كانت آيات القرآن الكريم لتنبه ، ولتذكر ، وخاصة أن وسائل المعرفة لدى الإنسان من حواس ، وعقل معرضة للخطأ ، وأن موضوع معرفة ـ وجود الله ـ أجل من أن يحده شئ ، أو يحصره تصور ، بل إن الوضوح الظاهر ، أو الظهور الواضح ، أو القرب القريب ، قد يكون سببا في الخفاء والالتباس.

        وإن في انقسام العلماء في هذه المسألة إلى فريقين ما يدل على أنها ليست بدهية ، إذ الضروري يتفق عليه جميع العقلاء ، ولا يختلف فيه اثنان منهم ، لذلك فإننا سنعرض هنا مجموعة من الأدلة على وجود الله تعالى : سواء اعتبرها القارئ أدلة ، أو اعتبرها من باب التذكير والتنبيه على ما أودع في الفطرة .

==============

        المراجع والهوامش :

1ـ اليواقيت والجواهر ص 53
2ـ الإسلام والعقل ص 96 ـ 97
3ـ المدرسة الشاذلية للدكتور عبد الحليم محمود ص 25
4ـ الإسلام والعقل ص 103 .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:54 pm

أدلة وجود الله

        أولا ـ دليل الحدوث : ـ

        وهو الدليل الذي يذكره أغلب علماء العقيدة في كتبهم (1).

        وهو يعتمد على أن العالم حادث ، وكل حادث لابد له من محدث ، فالعالم لابد له من محدث ، وهو الله تعالى .

        والمراد بالعالم : كل شئ سوى الله تعالى ، وهو عبارة عن : أجسام وأعراض (صفات) وتوضيح ذلك : أنه يمكن أن نقسم الموجود إلى قسمين :

        1ـ موجود متحيز : أي يشغل قدرا من الفراغ ، وهو إما :

        (أ) مركب من جزئيات صغيرة ، لا تقبل الانقسام ، ويسمى : (الجسم).

        (ب) أو غير مركب من جزئيات صغيرة ، وإنما هو بسيط لا يقبل القسمة ، ويسمى : ( الجوهر الفرد)

        2ـ موجود غير متحيز : أي لا يشغل قدرا من الفراغ ، وهو إما :

        (أ) محتاج في وجوده إلى جسم يقوم به ، ويحل فيه ، ويسمى (العرض) مثل : اللون ، والصوت ، والحركة ، والسكون .

        (ب) أو غير محتاج في وجوده إلى جسم يقوم به ، ويحل فيه ، وهو : ( الله ) سبحانه وتعالى .

        والمراد بكلمة (حادث) في قولنا : (العالم حادث) أنه موجود بعد العدم.

        وبيان ذلك : أن الأعراض التي هي صفات الأجسام ، حادثة بالمشاهدة ؛ فإننا نرى حدوث الحركة بعد السكون ، والسكون بعد الحركة ، ونرى تغير لون الأشياء وشكلها ، ومقدارها من حال إلى حال ، وهذا يدل على حدوثها .

        وأما الأجسام فهي حادثة أيضا ؛ لأن أي جسم من الأجسام لا يخلو عن الأعراض الحادثة ، كالحركة أو السكون مثلا ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

        إذن العالم كله حادث ، وبما أنه حادث ، وموجود بعد العدم ، فهو محتاج إلى من يحدثه ويوجده من العدم ؛ لأنه يستحيل عقلا أن يوجد حادث بلا محدث أو فعل بلا فاعل ، وهذا أمر بدهى ، لا يحتاج إلى دليل ، ويعترف به الأطفال فضلا عن الكبار ، وذلك المحدث الذي أحدثه ، وأوجده من العدم هو ( الله ) جل في علاه ، خاصة أنه لم يدع أحد ـ خلال عصور التاريخ المختلفة ـ أنه هو الذي أحدث العالم ، وأوجده بعد أن لم يكن ، ولم يزعم أحد أنه هو الذي أحدث نفسه ، حتى الذين ادعوا الألوهية لم يزعموا ذلك ، إنما الذي ذكر ذلك على ألسنة رسله هو الله تعالى ، والدعوى تسلم لصاحبها طالما لم ينازعه فيها أحد.

        سئل أعرابي عن الدليل على وجود الله ؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، والروث على الحمير ، وآثار الأقدام على المسير . فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج . أما يدل ذلك على العليم الخبير !!

        ويمكننا أن نعرض ( دليل الحدوث) بطريقة أخرى نعتمد فيها على (الدلالة اللفظية ) لكلمتي : المحدث ـ بكسر الدال ـ والمحدث ـ بفتحها ـ وذلك أن هاتين الكلمتين من الأمور الإضافية التي لا يعقل وجود طرف دون وجود الطرف الآخر ، ووجود المحدث ـ بفتح الدال ـ لا شك فيه ، إننا نراه بأعيننا ، وهذا يدل على وجود المحدث ـ بكسر الدال ـ وهو الله سبحانه وتعالى .

        وقد أشار القرآن الكريم إلى دليل الحدوث . قال تعالى :

        • { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } [ العنكبوت /20]

        • { كما بدأكم تعودون (29) } [ الأنبياء /104]

        • { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين (76) فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)} [ الأنعام ]

        وقد استدل بأفول الكواكب على حدوثها ، فلا تصلح أن تكون ربا ، بل لها محدث وهو الله الذي أحدث السموات والأرض جميعا.

=================

        المراجع والهوامش :

        1ـ انظر على سبيل المثال : الإرشاد لإمام الحرمين ص 17 ، التمهيد للباقلاني ص 44 ، أصول الدين للبغدادي ص 68 ، أبكار الأفكار للآمدي ص 149 ، المحصل للرازي ص 147 ، شرح المواقف 8/2 ، شرح المقاصد 2/42.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        ثانيا : دليل الخلق : ـ

        ويسمى دليل الإبداع ، ودليل الاختراع ، ودليل الفطر.

        وقد وردت مادة ( الخلق) في القرآن الكريم (336) مرة ، تحدث القرآن عن خلق السموات ، والأرض ، والليل ، والنهار ، والشمس ، والقمر ، والإنسان ، وغير ذلك .

        ودليل الخلق يعتمد على مقدمتين :

        المقدمة الأولى : أن هذه الموجودات مخلوقة ؛ فإن ذواتنا نحن لم تكن موجودة ، ثم وجدت ، ولكل منا وقت وجد فيه لم يكن قبله موجودا، وكذلك عالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعناصر الكون مهما اختلف العلماء في تقدير أعمارها ، فهم متفقون على أنها لم تكن موجودة ، ثم وجدت .

        والقانون الثاني للديناميكا الحرارية (قانون الطاقة المتاحة) أو (ضابط التغير) يثبت أن للكون بداية(1) ، فهو إذن مخلوق.

        كما أن فناء الأشياء ـ كما نراه ـ يدل على أنها مخلوقة ؛ إذ الأزلي لا يفنى ، ويقاس عليها مثيلاتها من الممكنات الموجودة ، فهي قابلة للفناء أيضا ، فهي مخلوقة .

        يقول ( جون كليفلاند كوثران) رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث : " تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء ، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة ، والآخر بسرعة ضيئلة ، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية ، ومعنى ذلك أيضا أنها ليست أزلية ؛ إذ أن لها بداية ، وتدلنا الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية ، بل وجدت بصورة فجائية ، وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد ، وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لابد أن يكون مخلوقا، وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان " (2).

        والمقدمة الثانية : وهي كل مخلوق له خالق ، قضية بدهية ، لا تحتاج إلى دليل ، وهي مركوزة في فطرة الإنسان.

        إنه إذا وقعت حادثة لم يدر فاعلها قيل : إن الفاعل مجهول ، ولم يقل أحد قط : إنه ليس لها فاعل ، فكيف يراد من العقلاء أن يقطعوا الصلة بين العالم وربه ؟ .

        إننا لم نكن شيئا ، فكنا ، فمن كوننا ؟

        { قل الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } (3).

        وهذه القضية : ( كل مخلوق له خالق ) لا تطبق على الله فلا يقال : من خلق الله ؟ لأن الله ليس مخلوقا فالشئ إما أن يكون خالقا أو مخلوقا ، فإن ثبت أنه مخلوق استحال أن يكون خالقا ، وإذا ثبت أنه الخالق ، استحال أن يكون مخلوقا .

        ونقف قليلا مع نظرية ( النشوء والارتقاء ) لداروين تلك النظرية التي يدرسها طلبة الجامعات ، والمرحلة الثانوية (قسم العلوم) بوزارة التربية والتعليم ، ومعاهد الأزهر ، يدرسها الطلبة ( إجباريا ) ضمن منهج ( الأحياء ) ويطبع من الكتاب المقرر الذي يحويها آلاف النسخ في كل عام (4).

        وهي تتعارض مع الإسلام الذي قال بالخلق المباشر للموجودات ، ووجود خالق ، عالم ، مريد ، قادر ، إذ يرى أصحاب هذه النظرية : أن الأنواع والأجناس قد نشأ بعضها عن بعض بطريق التطور والارتقاء من البسيط إلى المعقد ، وبقانون الانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأصلح ، والوراثة ، حتى وصل التطور إلى ( القرد) ومن القرد إلى الإنسان مع وجود حلقة مفقودة بين القرد والإنسان ، ويرون أن ظاهرة الحياة قد نشأت في المادة في البداية بطريق الصدفة !!.

        ونسارع فنقول : إن هذه ليست نظرية ، إنما هي فرض لم تثبت صحته ؛ فلم يستطع صاحب الفرض ، ولا أتباعه التدليل على صحته بأدلة علمية ، وبراهين صحيحة مقنعة.

        كما أنها تتعارض مع ما قرره علم التشريح ، وعلم الأجنة (5)، ومع شهادة الصخور ، ونتائج علم الجيولوجيا (6).

        " إن قوانين التكاثر ـ كل حسب نوعه ـ تؤيده بقايا الكائنات الحية من كل الأنواع ، والعلم يتفق مع الحقيقة بأن جميع الأجناس قد انحدرت من الزوجين الأصليين .

        والحفريات تثبت الظهور المفاجئ ، لمدنيات أرقى ، والعلم يقول بأن الإنسان لا يستعمل إلا جزءا ضئيلا من مخه ، الأمر الذي يعتبر نقدا مباشرا لنظرية الارتقاء ؛ لأن الارتقاء لا ينجم عنه أجزاء عديمة النفع ، ولكن الأديان تقول بأن الإنسان كان في البداية كاملا ، ويستخدم مخه كله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) } [ التين ] .

        ويلاحظ هذا فيما كان يتمتع به قدماء المصريين من معرفة مذهلة ، وفي بناء الأهرامات دليل على قدر من المعرفة ، يقف علماء اليوم أمامه مبهورين محاولين في تواضع أن يكتشفوا سره ، ولكن هذا الكمال الأول قد فقده الإنسان بعصيانه لخالقه ، وما استتبع ذلك من تهور في قواه البدنية والذهنية " (7).

        وأعلن ( أوستين كلارك) العالم الجيولوجي ... أنه لا توجد علامة واحدة على الاعتقاد بأن أيا من المراتب الحيوانية الكبرى تنحدر من غيره . إن كل مرحلة لها وجودها المتميز ، الناتج عن عملية خلق خاصة ومتميزة . لقد ظهر الإنسان على الأرض فجأة، وفي نفس الشكل الذي نراه عليه الآن .

        ثم يأتي الدور على النشوئي الشهير (الكونت دي نوي ) ليعترف بأن : كل مجموعة ، كل فصيلة تبدو وكأنها جاءت إلى الوجود فجأة. إننا لم نعثر على أي شكل انتقالي ، ومن المستحيل أن ننسب أي مجموعة حديثة إلى أخرى أقدم " (Cool.

        هذا ما يقوله المتخصصون في هذا المجال ، ونوجه إلى أصحاب (النشوء والارتقاء ) هذه الأسئلة ، وليس لديهم عنها جواب :

        • كيف تفسرون هذا النوع من التطور الارتدادي الذي يتم من المعقد إلى البسيط ، أي عكس ما زعمتم من أن التطور يسير من البسيط إلى المعقد ؟

        • كيف تفسرون ما نلاحظه من أن التطور لا يتم بسرعة واحدة في الأنواع والأجناس المختلفة ، بل وفي النوع الواحد أيضا ؟

        • كيف تفسرون بقاء (القرد) وانقراض الحيوان الذي كان واسطة بينه وبين الإنسان ؟ أليس القول بالانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأصلح ، يقتضي انقراض القرد ، وبقاء الحيوان الواسطة ، والواقع غير ذلك ؟

        • كيف تفسرون وجود قدرات متفوقة لدى بعض المخلوقات لا يوجد مثلها لدى الإنسان ؟ كقدرة الطيور على الطيران ، وقدرة الضفادع على العيش في الماء والبر ، وقدرة الجمال والحمير على الرؤية في الظلام ، هل هذه الأنواع أرقى من الإنسان !!

        لقد أعلنت أوربا عن زيف هذه النظرية بعد أن أدت دورها الذي أشيعت من أجله . وهو بيان التعارض الصريح بين العلوم الطبيعية ، التي أدت إلى التقدم الحضاري في أوربا ، وبين الدين الذي قدمته الكنيسة للناس خلال قرون ، والذي من أجله اضطهد العلماء ، وحكم عليهم بالقتل والسجن والتعذيب ، وحكم على كتبهم ومؤلفاتهم بالإعدام والحرق.

        ثم استخدمت دول الاستعمار هذه النظرية في تحطيم أديان الأمم المستعمرة بعرضها في ثوب علمي ، حتى ينخدع بها طلاب العلم ، ثم تحدث آثارها في التشكيك في الدين .

        وقد ألغيت دراسة هذه ( الفرضية ) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1935م بعد أن ثبت علميا زيفها ، وأصدر ( الكنيست ) في إسرائيل قرارا بتحريم دراستها : ( لأنها تتعارض مع عقيدة الخلق كما وردت في التوراة ) هكذا ذكروا ، ونشر هذا في جريدة الأهرام القاهرية .

        ومع ذلك فإن المسئولين ـ في مصر ـ يصرون على تدريسها للشباب في هذا السن الذي يتسم بالقلق ، والحيرة ، والبحث عن حقيقة هذا الوجود بينما يعترضون على تدريس الدين الحق في الجامعات ، ويمارون في اعتباره مادة نجاح أو رسوب في المدارس ، إن هذا لشئ عجيب !!

نماذج من عرض القرآن لدليل الخلق : ـ

        1ـ خلق السموات والأرض : ـ

        قال تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواته في أربعة أيام سواء للسائلين(10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12) } [ فصلت]

        ورد الحديث عن خلق السموات والأرض في حوالي (42) موضعا من القرآن الكريم ـ وهذا الموضع أكثر تفصيلا ، حيث بين أنه تعالى خلق الأرض في يومين ، وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين ، وفرغ من السموات في يومين ، فكان خلق السموات والأرض في ستة أيام ، كما صرح بذلك القرآن الكريم في أكثر من سورة(9) ، وقد كانت السماوات والأرض شيئا واحدا متصلا ، خلقه الله تعالى من الماء ، فقد قال تعالى :

        { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(31) وجعلنا السماء سقفا محفوظاوهم عنءاياتنا معرضون(32)}[الأنبياء]

        قال البيضاوي : " أي كانتا شيئا واحدا ، وحقيقة متحدة ، ففتقناهما بالتنويع والتمييز" (10).

        وجاء في الحديث الشريف : " كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ، وخلق السموات والأرض"(11).

        وروى ابن جرير عن ابن عباس : أن الله عز وجل كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه . فسمى سماء ، ثم أيبس الماء ، فجعله أرضا ، فالماء أصل لجميع الكائنات.

        وقد حدد القرآن عدد السموات بأنها سبع سموات فقال تعالى :

        • { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } [ الإسراء /44].

        • { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17)} [المؤمنون}

        • { الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [ الملك / 3]

        • { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) [ نوح]

        أما الأرض فمع تكرر ذكرها في القرآن الكريم (461) مرة إلا أنه لم ترد إلا آية واحدة تشير إلى عددها وهي : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما (12) } [ الطلاق ].

        2ـ خلق الإنسان :

        ورد الحديث عن خلق الإنسان في القرآن الكريم في (42) موضعا.

        منها ما يتعلق بخلق الإنسان الأول سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ ومنها ما يتناول خلق زوجه حواء ، ومنها ما يدور حول خلق نسلهما.

        أما ما يتصل بخلق الإنسان الأول (آدم ) فإن القرآن فصل ذلك ، وبين مراحل خلقه ؛ ليثبت وجود الخالق ، ويظهر دلائل علمه ، وإرادته ، وقدرته .

        بين القرآن ( المادة ) التي خلق منها آدم ، وكيف تحولت من حال إلى حال ، حتى صار بشرا سويا صالحا لأن يكون خليفة في الأرض.

        وهذه المادة هي ( التراب ) قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) } [ آل عمران ].

        و ( الماء ) قال سبحانه : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) } [ الفرقان ] .

        ومن التراب والماء كان ( الطين ) قال تعالى : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) } [ ص ] وهو طين ( لازب ) أي لازق . يلصق باليد . قال سبحانه : { إنا خلقناهم من طين لازب (11)} [الصافات] واختار منه (سلالة) منتقاة . قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) } [ المؤمنون ].

        وهذه السلالة أسودت وتغيرت ، فصارت ( الحمأ المسنون ) . قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)} [الحجر] . أي من طين يابس ، يصلصل أي يصوت ، كأنه من حمأ مسنون، فهو كالفخار . قال تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار(14)} [ الرحمن].

        وبعد ذلك ( سواه ) أي خلقه ونفخ فيه من روحه . قال سبحانه : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) } [ ص ] .

        وأما ما يتعلق بخلق زوج آدم ( حواء ) فقد أجمل القرآن الحديث عنه فقال : { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } [ النساء/1] . وقال : {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها }[ الأعراف/189]

        وبين الحديث النبوي أن الله خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام .

        وأما حديث القرآن عن خلق نسل آدم ، فهو حديث مستفيض ، جاء في أكثر من موضع ، وكل هذه المواضع تدل على وجود الخالق الأعظم ، ويتسم أسلوب العرض بالدقة الدقيقة ، والجمال الأخاذ ، والإعجاز العلمي.

        من هذه المواضع قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) } [المؤمنون].

        وإذا فهمنا أن المراد بالإنسان في هذا النص المبارك هو الإنسان الأول ـ سيدنا آدم عليه السلام ـ فإنه خلق من سلالة من الطين على النحو الذي وضحته الآيات الكريمة التي سبق ذكرها .

        وإذا كان المراد بالإنسان عموما آدم ونسله ، فإن العلم الحديث أثبت أن جسم الإنسان يتكون من العناصر التي يتكون منها التراب " فهو يتكون من الكربون ، والأكسوجين ، والأيدروجين ، والفوسفور ، والكبريت ، والأزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم والحديد، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسليكون ، والألومنيوم ، وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها في إنسان عن آخر ، وفي الإنسان عن التراب إلا أن أصنافها واحدة ) (12).

        ومن هذه العناصر يتكون الغذاء ، ومنه تكون النطفة التي هي عبارة عن منى الذكر ، وبويضة الأنثى.

        إنها خلية واحدة ، ولكنها الدليل على وجود الخالق جل في علاه ، وهل تجد أدق من وصف رحم الأم بالقرار المكين ؟

        وتبدأ هذه الخلية الواحدة تنمو وتتكاثر ، فمنها يتكون اللحم ، والجلد، والأنسجة ، والغضاريف ، والسوائل ، والأجهزة المتنوعة المختلفة للإنسان ، والعجيب أن هذه الخلية الواحدة تحمل الصفات الوراثية سواء كانت جسمية أو عقلية ، أو نفسية !! .

        { فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) } [ الطارق ] . { ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون(23) ويل يومئذ للمكذبين (24) } [ المرسلات ].

        "انظر إلى الجنين : كيف يتغذى في بطن أمه ، وكيف يتنفس ، وكيف أن الحبل السري الذي يربطه بأمه ليتغذى به منها ، قد روعى عند تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه مما قد يؤذيه . إذا ما فكرنا في ذلك ، فلا نملك إلا أن نعترف بقدرة الصانع ، ولطف الخالق" (13).

        وتأمل كيف هيأ الله للجنين الجو المناسب ، والوضع الملائم ، فأحاطه بثلاثة أغشية صماء ، لا تتأثر بالحرارة الخارجية ، ولا ينفذ منها الماء أو الضوء ، ولا تؤذيه رائحة ما في جوف أمه : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6) } [ الزمر ].

        ويوضح لنا سيدنا رسول الله صل الله عليه وسلم معنى قوله تعالى : {خلقا من بعد خلق} فيقول فيما رواه الشيخان : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بكتب أربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ) .

        فتبدأ الأم تشعر بحركة الجنين بعد مائة وعشرين يوما عند نفخ الروح فيه وهذه الروح هي التي سيترتب عليها التكليف والحساب بعد البلوغ ، وهي تختلف عن الحياة الأولية التي كانت موجودة في الخلية.

        وتأمل كيف خلق الله من المضغة البناء العظمي للإنسان الذي يعطيه شكله المميز ، ويحفظ له قوامه وجعل بين كل عظمتين ( مفصلة) تمنحه الحركة الدقيقة المطلوبة سواء كانت دائرية أو في اتجاه واحد ، أو في اتجاهين ، ولولا هذه المفاصل لأصبح جسد الإنسان قطعة واحدة ، ووضع حول المفصل سائلا لزجا ، ييسر الحركة ، أشبه بالشحم الذي يوضع للآلات المعدنية ، وخلق حول العظام (عضلات) لحمية تقوم بتحريكها. مع اختلاف عجيب في حجم وشكل وعمل كل عظم ومفصل وعضلة !

        وتمر أيام الحمل حتى تحين لحظة الولادة ، ولكن كيف يخرج هذا الجنين من هذا المكان الضيق بعد أن كبر حجمه ، وزاد وزنه ؟

        إن الله سبحانه وتعالى يهيئ أسباب ذلك : فيفرز الرحم السوائل اللازمة لخروج الجنين إلى الخارج . يقول الحق : { قتل الإنسان ما أكفره(17) من أي شئ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) } [ عبس ] .

        يأيها الماء المهين من الذي سواكا ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا

        ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا

        ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاكا

        ومن الذي تعصي ويغفر دائما ومن الذي تنسى ولا ينساكا

        3ـ خلق الطعام :

        قال تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا(25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا(29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا(31)} [ عبس ].

        رأينا فيما سبق أن الإنسان في بطن أمه يحصل على غذائه منها عن طريق الحبل السري. وقبل خروجه من رحم أمه يكون الحق تعالى قد أعد له مصدرا آخر لطعامه ، وهو ثدى أمه الذي يبدأ في وتصنيع اللبن ، وهو الغذاء الأمثل له بما يحويه من مواد نشوية ، ودهنية ، وبروتينية ، وفيتامينات ، وأملاح . والذي يختلف تركيبه وتركيزه يوما بعد يوم ليتناسب مع حجمه ، ومع قدرة معدته على هضمه.

        وبعد أن يتم الرضاعة يكون الله قد هيأ له جهازه الهضمي من فم وأسنان الخ . لتناول ما أودعه الله له في الأرض من نبات وحيوان تكفي لمخلوقات الله { وقدر فيها أقواتها في أربع أيام } [ فصلت /10]

        فقد هيأ الله تربة الأرض للإنبات بحيث يسهل انتقال ما فيها من مواد غذائية إلى بذور النبات : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) } [ الحجر ] .

        وكل بذرة تحمل خصائص نوعها وصنفها ، فتشق الأرض إلى أعلى مكونة : الساحة ، والفروع ، والثمار ، وتشق الأرض إلى أسفل مكونة : الجذور ، والعروق التي تمتص من التربة الغذاء.

        ولابد من مياه الري ، وإلا بقيت البذور جافة كما هي دون إنبات فاقتضت حكمته تعالى أن تتبخر مياه البحار ، فتصير سحابا ، يسقط غيثا مغيثا ، تتكون منه الأنهار ، والعيون ، والمياه الجوفية محفوظة في صحن صخري ، حتى لا تغور في أعماق الأرض { قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30) } [ الملك ].

        وحرارة الشمس عنصر هام للإنبات . ولكن بقدر معين . لأنها لو كانت ساطعة دائما ، لاحترقت النباتات . من هنا كانت حكمة خلق الليل والنهار { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) } [ الأنعام ] .

        والمادة الخضراء الموجودة في النبات هي مصانع الغذاء ، حيث تحول المواد المبثوثة في التربة من ماء وأملاح ومعادن ، وتضيف إليها ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء مع استخدام حرارة الشمس تحول كل ذلك إلى مواد غذائية صالحة لطعام الإنسان والحيوان.

        نأمل قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لأيات لقوم يؤمنون(99)} [الأنعام ] .

===================

        المراجع والهوامش :

1ـ انظر : وحيد الدين خان : الإسلام يتحدى ص 55 والله يتجلى في عصر العلم ص 27
2ـ الله يتجلى في عصر العلم ص 25
3ـ عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي ص 21
4ـ انظر : التاريخ الطبيعي للصف الثالث الثانوي ص 160 ـ 183 ط سنة 1976 م وقد لاحظت وجود نقد يسير في الطبعات الأخيرة ، انظر طبعة سنة 1995م ص 202.
5ـ انظر : منيرة على الغاياتي : مذهب النشوء والارتقاء في مواجهة الدين ص 10 ـ 18 مكتبة وهبة .
6ـ المرجع السابق ص 17
7ـ المرجع السابق ص 25
8ـ المرجع السابق ص 13 ـ 14 وانظر : ( دارون ونظرية التطور) تأليف شمس الدين آق بلوت ترجمة عن التركية أورخان محمد علي ط. دار الصحوة .
9ـ في سورة الأعراف / 54 ـ يونس /3 ـ هود/7 ـ الفرقان /59 ـ السجدة /4 ـ ق / 38 ـ الحديد /4
10ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل ص 354
11ـ رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ـ الفتح 6ـ286
12ـ الله والعلم الحديث لعبد الرزاق نوفل ص 183
13ـ المرجع السابق ص 48

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        ثالثا : دليل التسخير :ـ

        وهذا الدليل يعتمد على ما نشاهده في هذا الكون من تسخير كل أجزائه لخدمة الإنسان ، وموافقة كل عوالمه لوجوده ، وهذا التسخير وتلك الموافقة يدلان دلالة قاطعة على وجود فاعل ، قادر ، حكيم .

        • تأمل تسخير عالم الأفلاك للإنسان . يقول تعالى :

        ـ { الله الذي رفع السموا بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } [ الرعد/2].

        ـ { فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر }[ الأنعام / 96ـ97 ] .

        ـ { وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجر لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40) } [ يس ].

        * وتدبر تسخير عالم الحيوان والطيور . يقول تعالى :

        ـ { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7) والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (Cool } [ النحل ].

        ـ { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66) } [ النحل ]

        ـ { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (69) } [ النحل ].

        ـ { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) } [ الحج ].

        ـ { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) } [ الزخرف ] .

        ـ { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لأيات لقوم يؤمنون (79) } [ النحل ].

        ـ { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير (19) } [ الملك ].

        * وانظر إلى تسخير عالم النبات للإنسان : يقول تعالى :

        ـ { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (11) } [ النحل ] .

        ـ { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده } [ الأنعام / 141 ] .

        ـ { فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم (32) [ عبس ] .

        * وفكر في تسخير عالم الرياح والبحار والأنهار . يقول الحق :

        ـ { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } [الأعراف/57]

        ـ { وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22) } [ الحجر ] .

        ـ { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله، كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) } [ الروم ] .

        ـ { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(14)} [ النحل ].

        ـ { أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون(61)} [النمل].

        ـ { ومن ءاياته الجوار في البحر كالأعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور(33)} [الشورى].

        * وتمعن في تسخير أجهزة جسمك وأعضائه لك :

        إن ما يسهل استخدامه ، والتحكم فيه ، قد سخره الله لك حسب إرادتك واختيارك : فلك أن تنظر بعينيك ، وأن تخطو بقدميك ، وأن تحمل بيديك ، وأن تنطق بلسانك وشفتيك ، وهكذا .

        أما ما يصعب على الإنسان التحكم فيه من أجهزته وأعضائه ، فقد سخره الله له اضطرارا ، يعمل ليلا ونهارا .

        • وتأمل تسخير جهازك ( الهضمي) وما فيه من : معدة ، وأمعاء ، وكبد ، وبنكرياس.

        • وجهازك ( الدوري) وما فيه من : قلب ، وشرايين ، وأوردة ، وشعيرات .

        • وجهازك ( التنفسي ) وما فيه من : أنف ، وحنجرة ، وقصبة هوائية ، ورئتين .

        فمن سخر كل ذلك للإنسان ؟ ليس إلا الله ، جل في علاه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
...... يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:55 pm

.....  تابع

أدلة وجود الله



        رابعا : دليل إجابة المضطر : ـ

        ويسمى الدليل النفسي ، وهو يعتمد على ما يشعر به كل إنسان في وقت الشدة والضيق ، أو الحيرة والقلق ، أو المرض أو الغرق، من وجود قادر حنان منان ، يجب دعاءه إذا سأله ، ويفرج كربه إذا تضرع إليه ، ويكشف ما به من سوء ، إذا لجأ إليه ، ومن منا لم يمر بمثل هذه الأوقات !!

        وكم أجاب الله دعوة المضطر !! تدبر هذه الآيات :

        ـ { قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41) } [ الأنعام ].

        ـ { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64) } [ الأنعام ] .

        ـ { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12) } [ يونس ] .

        ـ { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } [ يونس /22ـ 23 ].

        ـ { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67) } [ الإسراء ].

        ـ { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلا ما تذكرون (62) } [ النمل ].

        ـ { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) } [ العنكبوت ].

        ـ { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (Cool } [ الزمر ].

        مناقشة الماديين : ـ

        وبعد أن طوفت بك مع هذه الأدلة المختلفة على وجود الله ـ تعالى ـ أود أن أقف لحظات مع الماديين لنصفي معهم الحساب فيما يتعلق بهذا الموضوع. والماديون هم الذين لا يؤمنون بوجود شئ إلا المادة فقط ، فما يرى بالعين ، أو يسمع بالأذن ، أو يشم بالأنف ، أو يذاق بالفم ، أو يلمس بالحس ، هو الموجود ، وغير ذلك ليس موجودا .

        ويرون أن وسيلة المعرفة هي التجربة فقط ولا وسيلة غيرها .

        فهم يحصرون الوجود في الأشياء المادية وظواهرها ، وإذا أردت إدراك شئ فليس أمامك إلا الملاحظة والتجربة .

        وينكر الماديون بناء على ما تقدم وجود إله خالق لهذا الكون ، وما يترتب على وجود هذا الإله من إمكان النبوة ، والبعث ، والخلود ، وما إلى ذلك .

        وكثيرا ما نسمع منهم أن العالم وجد بالطبيعة ، أو وجد بالصدفة ، وأنه قديم لا بداية له ، وسيستمر إلى غير نهاية ، وأن الدين يتعارض مع مقررات العلم الحديث .

        ونريد أن نناقشهم فيما يلي : ـ

        1ـ هناك أشياء يؤمن بوجودها العلماء الماديون ، ويبنون عليها نظرياتهم ، ولم يرها عالم واحد منهم ، مثال ذلك :

        الالكترونات التي يؤمن بوجودها العلماء ويؤسسون على وجودها كثيرا من النظريات والمخترعات .

        والأثير الذي يتصورنه شيئا موجودا لطيفا ، لا وزن له ، غير قابل للضغط ، وهو يملأ الوجود كله .

        الجاذبية التي يعتبرون وجودها حقيقة علمية ، ويفسرون بها كثيرا من الطواهر .

        فماذا يقول الماديون في هذه الأمور ؟ أيستطيع واحد منهم أن يدعي أنه قد رأى شيئا منها ؟

        فلماذا ينكرون وجود إله لا نراه الآن ؟ إنما نوقن بوجوده عن طريق آثاره وأفعاله.

        يقول علماء الطبيعة : إن الضوء لا يرى وإنما نحسه بآثاره ، وعندما اقترب العلماء من الشمس وهي المصدر الطبيعي للضوء. كان المتوقع أن يكون الضوء أقوى وأشد . لكن كان العكس . لم يجدوا ضوءا قط ، وذلك لعدم وجود شئ يظهر به الضوء كالغبار، والذرات المائية مثلا.

        فالضوء خلق من خلق الله ، ولا يرى ، فكيف يستبعد وجود خالق ، لا يرى الآن !!

        2ـ وإلى هؤلاء القائلين بأن العالم وجد بالطبيعة ، نوجه إليهم هذا السؤال : ما الطبيعة ؟ ما المقصود بها ؟ وما حقيقتها ؟

        هل هي شئ حي أو ميت ؟ قادر أو عاجز ؟ عالم أو جاهل ؟

        فإن قالوا : حي قادر عالم ، فهو : الله

        أما إن كان غير ذلك فلا يتصور منه إيجاد أو خلق ؛ لأن فاقد الشئ لا يعطيه ، وتأمل ما كتبه الشيخ محمد الغزالي :

        " دار بيني وبين أحد الملاحدة جدال طويل ، ملكت فيه نفسي ، وأطلت صبري ، حتى ألقف آخر ما في جعبته من إفك ، وأدفع بالحجة الساطعة ما يوردون من شبهات .

        قال : إذا كان الله قد خلق العالم ، فمن خلق الله ؟

        قلت له : كأنك بهذا السؤال ، أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لابد لكل شئ من خالق.

        قال : لا تلقني في متاهات . أجب عن سؤالي

        قلت له : لا لف ولا دوران . إنك ترى أن العالم ليس له خالق : أي أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد . فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلا . وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا : إن الله الذي خلق العالم ليس لوجوده أول ؟

        إنها قضية واحدة . فلماذا تصدق نفسك حين تقررها ، وتكذب غيرك حين يقررها ؟

        وإذا كنت ترى أن إلها ليس له خالق خرافة ، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك وفق المنطق الذي تسير عليه .

        قال : إننا نعيش في هذا العالم ، ونحس وجوده ، فلا نستطيع أن ننكره ؟

        قلت له : ومن طالبك بإنكار وجود العالم ؟

        إننا عندما نركب عربة ، أو باخرة ، أو طائرة ، تنطلق بنا في طريق رهيب . فتساؤلنا ليس في وجود العربة ، وإنما هو : هل تسير وحدها ، أو يسيرها قائد بصير ؟

        ومن ثم فإنني أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك : إنه مردود عليك.

        فأنا وأنت معترفان بوجود قائم ، لا مجال لإنكاره ، تزعم أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة ، وأرى أنه لا أول له بالنسبة إلى خالقها ، فإذا أردت أن تسخر من موجود لا أول له ، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين ".

        3ـ أما القائلون بأن العالم وجد بالصدفة فإننا نقول لهم : من أين للعالم هذا النظام العجيب ، وهذا الترتيب الدقيق الذي يحير العقول، ويدهش الألباب ؟

        وإن ما يحدث صدفة لا يتكرر ، ولولا هذا التكرار المنظم ما استطعنا أن نقيم علما واحدا من العلوم الطبيعية والرياضية .

        " ولقد حسب العلماء احتمال اجتماع الذرات التي يتكون منها جزئ واحد من الأحماض الأمينية ـ وهي المادة الأولية التي تدخل في بناء البروتينات واللحوم ـ فوجدوا أن ذلك يحتاج إلى بلايين عديدة من السنين ، وإلى مادة لا يتسع لها هذا الكون المترامي الأطراف !!

        هذا لتركيب جزئ واحد على ضآلته . فما بالك بأجسام الكائنات الحية جميعا من نبات وحيوان ، وما بالك بما لا يحصى من المركبات المعقدة الأخرى ، وما بالك بنشأة الحياة ، وبملكوت السموات والأرض.

        إنه يستحيل عقلا أن يكون ذلك قد تم عن طريق المصادفة العمياء ، أو الخبطة العشواء ، لابد لك ذلك من خالق مبدع عليم خبير ، أحاط بكل شئ علما ، وقدر كل شئ ثم هدى " (1).

        ولندع الرد على القائلين بأن العالم وجد بالصدفة لكبار علماء الكون المتخصصين في أدق فروع العلم الحديث ، وفي ردهم أيضا أبلغ دليل على قضية تعارض العلم والدين .

        يقول عالم الطبيعة البيولوجية الدكتور ( فرانك ألن) : "إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة ، ولا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة ، أو العشوائية ، فالأرض كرة معلقة في الفضاء ، تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام فيكون في ذلك تتابع الفصول الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثرها مما لو كانت الأرض ساكنة" (2).

        ويقول الدكتور جون كليفلاند كوثران رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث : " هل يتصور عاقل أو يفكر أو يعتقد أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة ؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام ، وتلك القوانين ، ثم فرضته على نفسها ؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبيا . بل إن المادة عندما تتحول إلى طاقة ، أو تتحول الطاقة إلى مادة ، فإن كل ذلك يتم طبقا لقوانين معينة ، والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة المعروفة التي وجدت قبلها " (3)

        ويقول الدكتور ( وولتر أوسكار لندبرج ) عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية ، وعضو ورئيس جمعيات عديدة لدراسة الطعام وتركيبه الغذائي ، ومؤلف سلسلة كتب تركيب الدهون : " إن الطريقة العلمية تقوم على أساس انتظام الظواهر الطبيعية ، والقدرة على التنبؤ بها في ظل هذا الانتظام ، ونستطيع أن نقول بكل دقة : إن هذا الانتظام في ظواهر الكون والقدرة على التنبؤ بها ـ وهما الأساسان اللذان تقوم عليهما الطريقة العلمية ـ هما في الوقت ذاته أساس الإيمان بفكرة وجود الله ، إذ كيف يتسنى أن يكون هنالك كل هذا الانتظام ، وأنى يتسنى لنا أن نتنبأ بهذه الظواهر ما لم يكن هنالك مبدع ، ومدبر ، وحافظ لهذا النظام العجيب" (4).

        وهذا عالم آخر حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة مانيسوتا ، ورئيس قسم البحوث الذرية بالبحرية الأمريكية ، وأخصائي في الإشعاع الشمسي والبصريات الهندسية والطبيعية يقول : "لقد أتيح لي بفضل اشتغالي بدراسة الطبيعة أن أدرس التركيب المعقد إلى درجة لا يتصورها العقل لبعض مكونات هذا الكون الذي لا تقل فيه روعة التذبذبات الداخلية لأصغر ذراته ، وما دون ذراته عن النشاط المذهل لأكبر النجوم السابحة في أفلاكها ، والذي يسير فيه كل شعاع من الضوء ، وكل تفاعل كيماوي أو طبيعي ، وكل خاصية من خواص كل كائن حي وفق قوانين ثابتة ، لا تتبدل ولا تتغير ، تلك هي الصورة التي تقدمها لنا العلوم ،والتي كلما تأملها الإنسان ، اكتشف من بالغ دقتها ، ورائع جمالها ما لم يكن قد اكتشفه من قبل " (5).

        ويقول : " إن كل ذرة من ذرات هذا الكون تشهد بوجود الله ، وإنها تدل على وجوده حتى دون حاجة إلى الاستدلال بأن الأشياء المادية تعجز عن خلق نفسها " (6).

        وهذا أستاذ آخر تخصص في وراثة النباتات ، ودراسة شكلها الظاهري ، وفي الحياة البرية يقول : " إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها ، والتي لا يحصيها عد ، وهي التي تتكون منها جميع المواد ، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها : كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة " (7).

        وتأمل ما يقوله مصمم العقل الالكتروني (كلودم . هاثاواي ) في هذا الصدد : " وليس العالم من حولنا إلا مجموعة هائلة من التصميم ، والابداع ، والتنظيم ، وبرغم استقلال بعضها عن بعض ، فإنها متشابكة متداخلة ، وكل منها أكثر تعقيدا في كل ذرة من ذرات تركيبها من ذلك المخ الالكتروني الذي صنعته ، فإذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي الذي هو جسمي ، والذي ليس بدوره إلا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون اللا نهائي في اتساعه وإبداعه إلى مبدع يبدعه ؟

        إن التصميم ، أو النظام ، أو الترتيب ، أو سمها ما شئت ، لا يمكن أن تنشأ وتأمل ما يقوله مصمم العقل الالكتروني (كلودم . هاثاواي ) في هذا الصدد : " وليس العالم من حولنا إلا مجموعة هائلة من التصميم ، والابداع ، والتنظيم ، وبرغم استقلال بعضها عن بعض ، فإنها متشابكة متداخلة ، وكل منها أكثر تعقيدا في كل ذرة من ذرات تركيبها من ذلك المخ الالكتروني الذي صنعته ، فإذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي الذي هو جسمي ، والذي ليس بدوره إلا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون اللا نهائي في اتساعه وإبداعه إلى مبدع يبدعه ؟

        إن التصميم ، أو النظام ، أو الترتيب ، أو سمها ما شئت ، لا يمكن أن تنشأ إلا بطريقتين : طريق المصادفة ، أو طريق الإبداع والتصميم ، وكلما كان النظام أكثر تعقيدا ، بعد احتمال نشأته عن طريق المصادفة ، ونحن في خضم هذا اللا نهائي لا نستطيع إلا أن نسلم بوجود الله " (Cool .

        هذه شهادات طائفة ممن تخصصوا تخصصا دقيقا على مستوى عال في فروع العلم الحديث المتنوعة . فماذا بعد هذا ؟

        وتأمل في هذه المعاني : ـ

قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض : من أرداكا ؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب : من عافاكا ؟
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا ؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا ؟
بل سائل الأعمى خطا بين الزحا م . بلا اصطدام : من يقود خطاكا؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا راع ومرعى : ما الذي يرعاكا ؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا ء لدى الولادة : ما الذي أبكاكا ؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله : من ذا بالسموم حشاكا ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا ؟
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدا وقل للشهد من حلاكا ؟
بل سائل اللبن المصفى كان بـ ين دم وفرث ما الذي صفاكا ؟
وإذا رأيت الحي يخرج من حنا يا ميت فاسأله : من أحياكا ؟
قل للهواء تحسه الأيدي ويخ فى عن عيون الناس من أخفاكا؟
قل للنبات يجف بعد تعهد ورعاية : من بالجفاف رماكا ؟
وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله : من أرباكا ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرا أنواره فاسأله : من أسراكا ؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبـ عد كل شئ من الذي أدناكا ؟
قل للمرير من الثمار من الذي بالمر من دون الثمار غذاكا ؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله : من يا نخل شق نواكا؟
وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار : من أوراكا ؟
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا قمم السحاب فسله من أرساكا ؟
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه ه فسله : من بالماء شقق صفاكا؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلا ل جرى فسله : من الذي أجراكا ؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأجا ج طغى ، فسله : من الذي أطغاكا ؟
وإذا رأيت الليل يغشى داجيا فاسأله : من يا ليل حاكا دجاكا ؟
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحيا فاسأله : من يا صبح صاغ ضحاكا؟
هذي عجائب طالما أخذت بها عيناك وانفتحت بها أذناكا !!
والله في كل العجائب ماثل إن لم تكن لتراه فهو يراكا ؟ (9).

===============

        المراجع والهوامش :

1ـ انظر : الله يتجلى في عصر العلم ص 4
2ـ المرجع السابق ص 6
3ـ المرجع السابق ص 24
4ـ المرجع السابق ص 33
5ـ المرجع السابق ص 40
6ـ المرجع السابق ص 41
7ـ المرجع السابق ص 52
8ـ المرجع السابق ص 79
9ـ هذه الأبيات من قصيدة بعنوان : ( مع الله ) للشيخ / إبراهيم بديوي من علماء الأزهر ، نشرتها مجلة ( الوعي الإسلامي) في عدد جمادي الثانية سنة 1389 هـ ص 36 .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دليل العناية طريقة شرعية لإثبات وجود الله

        إن الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها في كثير من آياته، ودعا الكل من بابها، وُجدت تنحصر في الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجله، وهو ما سماه العلماء بدليل العناية.
        وقد استدل كثير من علماء الإسلام بهذا الدليل من بينهم ابن رشد الذي اعتبره أقوى الأدلة على وجود الله، بل جعله الطريق الوحيد للوصول إلى الإقرار بوجوده سبحانه لأنه دليل عقلي وشرعي.

ودليل العناية مبني على أصلين:
        أحدهما: أن جميع المخلوقات موافقة لوجود الإنسان
        والثاني: أن هذه الموافقة دليل على وجود فاعل قاصد لذلك مريد له إذ ليس يُمكن أن تكون الموافق مصادفة.

        يقول ابن تيمية : "فالإستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها، وهدى الناس إليها وبينها وأرشد إليها" (1)

        وكذلك من تتبع معنى الحكمة لمعرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم.

        وأما الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الخالق والآيات المتضمنة لدليل العناية كثيرة، أذكر منها قوله سبحانهSad"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ")سورة البقرة 29

        وقوله تعالى "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (Cool وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)"النبأ

قوله تعالى " تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)"الفرقان

        وقوله تعالى "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"البقرة 164

        وقوله تعالى "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) "آلعمران

وقوله تعالى "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)"القصص

ووله تعالى "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) "فاطر
        لا شيء أحلى ولا أوضح من وجود الله تعالى الذي وهبنا ذلك العقل الساعي لمعرفته -لا أعرف دينا اشترط العقل في التكليف إلا الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل الحركة


        (ج) هل فكرت في هذه السيارات المنطلقة - اعني هذه الكواكب التي تخترق اعماء الجو- والتي تلزم مدارا واحدا لا تنحرف عنه يمينا ولا يسارا، وتلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرتقبها في موعدها المحسوب فلا تخالف عنه أبدا؟‍ إن الكرة تنطلق من أقدام اللاعبين ثم لا تلبث أن تهوي بعد تحليق. أما هذه الكرات الغليظة الحجم، الحي منها والميت، المضيء منها والمعتم، فهي معلقة لا تسقط، سائرة لا تقف .. كل في دائرته لا يعدوها. وقد يصطدم المشاة والركبان على أرضنا وهم أصحاب بصر وعقل. أما هذه الكواكب التي تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون) (يس:38 – 40 )


        من الذي هيمن على نظامها واشرف على مدارها؟ بل من الذي امسك بأجرامها الهائلة، ودفعها بهذه القوة الفائقة؟ إنها لا ترتكز في علوها إلا على دعائم القدرة، ولا تطير إلا بأجنحة أعارها لها القدر الأعلى: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن امسكهما من احد من بعده، انه كان حليما غفورا) (فاطر:41) أما كلمة الجاذبية فدلالتها العلمية كدلالة حرف "س" على المجهول. أنها رمز لقوانين تصرخ باسم الله، ولكن الصم لا يسمعون.
ويسمى هذا الدليل: دليل الحركة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل الإبداع


        (أ)إن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التي يدرج فوقها، ولا السماء التي يعيش تحتها.
والبشر الذين ادعوا الألوهية لم يكلفوا أنفسهم مشقة إدعاء ذلك. فمن المقطوع به أن وظيفة الخلق والإبراز من العدم، لم ينتحلها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد. ومن المقطوع به كذلك، أن شيئا لا يحدث من تلقاء نفسه، فلم يبق إلا الله وقد قرر القرآن الكريم هذا الدليل:
(أم خلقوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض، بل لا يوقنون) (الطور: 35-36) ويلفت أنظار العرب إلى مظاهر الإبداع في المجتمع الساذج الذي يحيون فيه. (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ والى السماء كيف رفعت؟ والى الجبال كيف نصبت؟ والى الأرض كيف سطحت) (الغاشية:17-20)
ويسمى هذا الدليل: دليل الإبداع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدليل الكوني

إن من أكثر الأدلة اشتهاراً على ألسنة العلماء وأكثرها التصاقاً بالجماهير فضلاً عن الخاصة الأدلة التي تتصل بالعالم، ونعني بتحليله وتفحصه والنظر إليه بقصد الصعود من ذلك كله إلى إثبات أن لهذا العالم خالقاً مدبراً.
وزاوية الرؤية إلى هذا العالم تختلف باختلاف إرادة الناظر إليه.
وعلى أساس من اختلاف زاوية الرؤية يختلف سير الدليل كله في جملته وتفاصيله، وفي الاسم الذي يطلق على هذا الدليل أو ذاك من الأدلة التي يصطنعها العلماء معتمدين في نقطة اللباب على تأمل الكون وفحصه.
ومن هذه الأدلة التي تتصل بالكون الدليل الذي نطلق عليه اسم : " الدليل الكوني" أو "دليل الحدوث".
وهذا الدليل في جملته يقوم على مقدمات تؤدي إلى نتيجة، وهذه المقدمات هي: ـ أن العالم حادث ـ تلك مقدمة أولى ، وكل حادت لابد له من محدث، مقدمة ثانية ينتج منها جميعاً : أن العالم لابد له من محدث ـ هذا المحدث هو الله سبحانه وتعالى.
والمتأمل في القضية الأولى : ـ العالم حادث ـ لا يحتاج من وجهة نظر الذين استعملوا هذا الاستدلال إلا مجرد استقراء جزئيات هذا العالم ليتمكن من إثبات هذا الحدوث".
وجزئيات هذا العالم : إنسان ، وحيوان، ونبات ، وجماد.
وكل هذه الأجناس مع لواحقها ينقسم ضرورة إلى أصول وعوارض.
والعوارض مثل الصفات كالطول والقصر، والسواد والبياض، والحركة والسكون ... إلخ.
وهذه الصفات يتغير بعضها على الشئ الواحد، فهو يكون ساكناً في وقت، متحركاً في وقت، مفترقاً في وقت مجتمعاً في وقت آخر إلى غير ذلك من تعاور الصفات وتبدلها على الشئ الواحد، وهذا التعاور وذلك التبدل آية حدوث هذه الأعراض وتلك الصفات، إذ أن الحركة والسكون حين يحل أحدهما على الآخر يدل هذا الحلول على فناء الأول منهما وحدوث الثاني، فإذا حلت الحركة محل السكون مثلاً ، انقطع السكون، واستحدثت الحركة مكانه، فإذا حل السكون مرة أخرى محل الحركة استحدث السكون، وفنيت الحركة السابقة عليه، وهكذا فإن الأعراض لها بدايتها ونهايتها التي لا تخفى على الملاحظة.
ولما كانت هذه الأعراض لا تقوم بذاتها، لأنها لا تتحيز بنفسها، وإنما لابد لها من محل تقوم به، ولما كان المحل الذي تقوم به الأعراض هو الأجسام، أو الجواهر المتحيزة بنفسها، كان قيام الحوادث من الأعراض، بالمتحيزات بنفسها ( الأجسام أو الجواهر) آية حدوث هذه الأجسام طبقاً للقاعدة العقلية القائلة ـ إن ما قام به الحوادث فهو حادث .
ويتعلق بهذه القضية ، قضية حدوث العالم بعوارضه وأصوله ، كثرة كاثرة من اللجاجة والمراء التي تفترض افتراضات عقلية لا يقصد من ورائها التحقيق العلمي، بمقدار ما يقصد من ورائها محاولة إثبات البراعة العقلية، أو الرغبة في السياحة الذهنية والترافة في التأمل والنظر.
والاستقراء هو خير شاهد على حدوث العالم بأصوله وأعراضه، أو بمادته وصفاته بما يشبه أن يكون ضرورياً .
فالإنسان يستطيع أن يتأمل ذاته لينظر التغير من نفسه من عدم إلى وجود، ومن طفولة إلى شباب إلى شيخوخة، ومن حركة إلى سكون .. الخ.
ويستطيع أن يتأمل الأشياء حوله، يجدها كلها عرضة لتعاور الأعراض وتبادل الصفات.
والقرآن الكريم يلفت النظر إلى هذا التغير في العالم حين يوجهنا إلى النظر فيه، بالأمر المباشر أو الاعتبار بالقصة في القرآن، التي ما جاءت إلا للعبرة، وتأمل النتائج والأحداث فيها.
فإبراهيم الخليل عليه السلام، اعتمد في إلزام قومه الحجة على فكرة التغير في الكون، لإثبات احتياجه وعوزه إلى إله دائم لا يطرأ عليه التغير، ولا تتعاوره الأعراض.
قال تعالى : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون" سورة الأنعام : الآيات 75 ـ 80.
وفي القرآن الكريم تحفيز العقل إلى النظر في آفاق الكون، أرضه وسمائه، وما بين الأرض والسماء، واستقراء جزئيات هذا الكون، ليظهر لأصحاب العقول، والبصائر أن هذا الكون متغير متقلب، متحول من حال إلى حال.
" إن في خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" سورة البقرة : آية 164.
وأمر الله العالمين أمراً جازماً أن يتوجهوا بعقولهم إلى هذا الكون فيتأملوه: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون" سورة يونس : آية 101.

أما أولئك النفر الذين ينكرون بغير سلطان من الحجة والإقناع، فهم محل إنكار الشرع عليهم، لأنهم قصروا في تأمل أقرب الأشياء إليهم وهي ذواتهم .
قال تعالى : "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" سورة الذاريات : آية 21.
ويتبين من هذا كله أن قضية حدوث العالم قضية تشبه أن تكون بديهية لوضوحها لمن يريد أن يتأملها، ويتبين من هذا كله أيضاً عناية الشرع بلفت الأنظار إليها، والتأكيد على أهميتها في استجلاء الأمر أمام العقول.
والمقدمة الثانية من هذا الاستدلال هي : أن كل حادث لابد له من سبب ينقله من العدم إلى الوجود .
وقد ذهب جمهرة من العلماء إلى أن هذه المقدمة ضرورية لا تحتاج إلى إعمال الفكر في إثباتها أو الاستدلال عليها.
يقول الإمام الحجة أبو حامد الغزالي تعليقاً على هذه المقدمة : ( إن هذا الأصل يجب الإقرار به فإنه أولى ضروري في العقل ) الاقتصاد في الاعتقاد ، الإمام الغزالي ، ص 40.
وبداهة هذه المقدمة أو ادعاء الضرورة فيها إنما يتصل بالتصديق بالنسبة الجامعة بين الطرفين، والثمرة المستفادة منهما.
غير أن الإمام الغزالي يستدرك هنا لإيضاح مسألة في غاية الأهمية.
ذلك أن الإمام الغزالي يرى أن هذا الأصل أو هذه المقدمة برغم أن التصديق بها أمر ضروري، إلا أن طرفي القضية : (الموضوع، والمحمول فيها) قد يدق واحد منهما أو كليهما على بعض الأفهام، فيحتاج من وقع الخفاء فيه إلى إيضاح.
وهذا الخفاء الذي يحتاج إلى إيضاح حتى يتمكن البعض من تصوره قد يوقع في خلط أو لبس فيظن القارئ أو الباحث أن إيضاح طرفي القضية، أو أحد طرفيها يعد لوناً من الاستدلال عليها.
والأمر أيسر من أن يوقع في اللبس.
فالاستدلال على القضية أمر، وإيضاح طرفيها أمر آخر.
فالاستدلال على القضية إنما يوجه أساساً إلى النسبة بين طرفيها رضى ينتهي المستدل بالقضية إلى حالة يجبر معها السامع بالحجة إلى التصديق بها.
أما إيضاح طرفي القضية أو أحدهما فإنما هو أمر يقصد منه تجلية ما تريد المستدل إيضاحه حتى يتمكن السامع عن تصوره تصوراً يرفع عنه كل خفاء.
يقول الإمام الحجة : ( ومن يتوقف فيه فإنما يتوقف لأنه ربما لا ينكشف له ما نريده بلفظ الحادث ولفظ السبب، وإذا فهمهما صدق عقله بالضرورة بأن لكل حادث سبباً ).
ولعله من المفيد هنا أن نوضح طرفي هذه القضية حتى لا يلتبس على القارئ تصورهما تصوراً صحيحة.
فالحادث هو كل شئ وجد من العدم.
وهو في حالة عدمه السابقة على وجوده كان ممكناً، إذ أنه لا يعقل أن يكون من قبيل الواجب الوجود لذاته، كما لا يعقل بداهة أن يكون من قبيل المستحيل.
ومن المعروف أن الممكن هو ما كان العدم والوجود بالنسبة إليه سواء، فإذا ترجح وجوده على عدمه. لابد لهذا الترجيح من سبب، إذ أن الترجيح بغير مرجح أمر يأباه العقل، ويحيله النظر.
وهكذا يكون قد اتضح أمامنا أن الحادث هو الموجود من العدم، وأنه لابد له من سبب.
وإذا ما اتضح معنى الحادث والسبب جميعاً تبين لنا بوضوح أن القضية المؤتلفة من هذين الطرفين، قضية ضرورية في العقل أولية في التفكير.
ولما كانت هذه القضية ضرورية في العقل أولية في التفكير جاءت النصوص الشرعية تلفت النظر إلى حدوث العالم على نحو ما ذكرناه، وإلى التغير فيه على نحو ما لفتنا النظر إليه، وتركت للعقل والبصيرة الانتقال من تأمل التغير والحدوث إلى الانتقال مباشرة عبر القضية الضرورية إلى إثبات الصانع وهو الله عز وجل.
غير أن علماء الكلام لم يتوقف الكثير منهم عند هذا الدليل بأسبابه ونتيجته، وإنما زادوا في الأمر وضوحاً واستدلالا على النتيجة التي استنتجوها من هذا الدليل.
فالدليل الذي انتهينا من مناقشة مقدماته قد أنتج لنا نتيجة محددة على هذا النحو (العالم حادث وكل حادث لابد له من محدث، فالعالم لابد له من محدث).
غير أن هذه النتيجة العالم لابد له من محدث، هل من الممكن أن تكون كافية لكي نقول اعتماداً عليها إن هذا المحدث هو الله عز وجل، أم أنه لابد من أن نحتاج إلى لون من الاستدلال يطور هذه النتيجة نفسها ؟.
كان من الممكن أن نكتفي بهذه النتيجة لولا ما وجد من محاولات بعض الفلاسفة التي ترمي إلى القول بأن هذا الاستدلال الذي ذكره المتكلمون إن كان يفيد أن الحادث لابد له من محدث فما هو وجه الضرورة التي يلجئنا إلى القول بأن هذا المحدث هو الله ؟ ! .
وهذا اللون من الشغب الفلسفي قد ألجأ المتكلمين إلى استكمال دليلهم على هذا النحو ( إن المحدث لهذا العالم إما أن يكون قديماً لا يحتاج إلى محدث، أو حادثاً يحتاج إلى غيره، فإن كان حادثاً دخل في جملة العالم، وعليه فإنه يحتاج إلى محدث يحدثه، ونقل الكلام إليه، وهكذا فإما أن يدور الأمر أو يتسلل أو ننتهي إلى قديم لا يحتاج إلى غيره يكون هو الذي أوجد العالم، وأخرجه من العدم.
والتسلسل والدور أمران باطلان في العقل، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو المطلوب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأدلة العقلية لوجوده سبحانه وتعالى       

 إن وجود الله تعالى أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقف على برهان , حيث أدركه كل ذي عقل , وأحسّ به كل ذي شعور , وفهمته كل فطرة .

        حتى الذي ينكره بلسانه لا محالة يتوجه إليه عند الاضطرار بقلبه وجَنانه , بل يمكن القول بأن وجوده تعالى فطري لا يحتاج في الحقيقة إلى دليل , ولكن نذكر لكم بعض الأدلة العقلية على وجوده تعالى حسبما طلبتموه :

الأول : برهان النظم

        أوضح الأدلة على إثبات الله تعالى الذي يحكم به العقل , هو دليل النظم والتدبير .
        فالكل يرى العالم بسماواته وأراضيه , وما بينهما من مخلوقاته ورواسيه من المجرة إلى النملة . فنرى أجزاءها وجزئياتها مخلوقة بأحسن النظم , وأتقن تدبير وأحسن صنع , وأبدع تصوير , فيحكم العقل بالصراحة أنه لابد لهذا التدبير من مدبر , ولهذا التنظيم من منظم , ولهذا السير الحكيم من محكم , وذلك هو الله تعالى .

الثاني : امتناع الصدفة

        فإنا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم , فلابد وأن نقول : بأن الصدفة هي التي أوجدته أو أن الطبيعة هي التي أوجدته . لكن من الواضح أنه لا يقبل حتى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وجدت بنفسها بالصدفة العمياء أو بالطبيعة الصماء .

الثالث : برهان الاستقصاء    
     فان كلاً منا إذا راجع نفسه يدرك ببداهة أنه لم يكن موجوداً أزلياً , بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم , وقد وجد في زمان خاص , إذن فلنفحص ونبحث : هل أننا خلقنا أنفسنا ؟ أم خلقنا أحد مثلنا ؟ أم خلقنا القادر الله تعالى ؟

        ولاشك أننا لم نخلق أنفسنا , لعدم قدرتنا على ذلك , ولاشك أيضاً أن أمثالنا لم يخلقونا لنفس السبب , إذن لا يبقى بعد التفحص والاستقصاء إلا أن الذي خلقنا هو الله تعالى , لأنه القادر على خلق كل شيء .

الرابع : برهان الحركة     
    إنا نرى العالم بجميع ما فيه متحركاً , ومعلوم أن الحركة تحتاج إلى محرك , لأن الحركة قوة والقوة لا توجد بغير علة . إذن لابد لهذه الحركات والتحولات والتغيرات من محرك حكيم قدير , وهو الله تعالى .

الخامس : برهان القاهرية     
    إن الطبيعة تنمو عادة نحو البقاء لو لا إرادة من يفرض عليها الفناء . فالانسان الذي يعيش والاشجار التي تنمو لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال إلا بعلة فاعلة قاهرة . فمن هو المميت ومن هو المزيل ؟ ذلك الذي له القدرة على فناء مخلوقاته وهو الله تعالى .

        هذه أدلة خمسة من بين الأدلة العقلية الكثيرة التي تبرز الايمان الفطري بوجود الله تعالى .
        وأما كيف وجد واين وجد فذلك ممنوع شرعاً عن التحدث عنه , بل ولا يمكن للعقل أن يدركه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:57 pm

أدلة الفلاسفة على وجود الله تعالى

 دليل القديس أنسلم
ما ذكرناه من ألوان الاستدلال يمكن أن يتفرع عندما نريد التصنيف إلى فرعين :
أحدهما : يتصل اتصالاً مباشراً بالكون ليستقرئ جزئياته، فيرقى منها إلى إثبات أن الله موجود.
وثانيهما : يقوم على أساس التأمل العقلي الذي لا يتصل بالواقع إلا اتصالاً عرضياً لا يمس جوهر الدليل، فهو بخطواته كلها عقلي مجرد.
أما هذا الدليل الثالث الذي ما زال يحمل حتى الآن اسم صاحبه "القديس أنسلم" الذي ابتكره لأول مرة ، فإنه يقوم على مزيج وخلط بين المنهجين جميعاً.
ففي هذا الدليل يعتمد القديس "أنسلم" على التفكير العقلي المجرد. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الواقع المحسوس، لا ليطبق فيه ما توصل إليه بالفكر تطبيقاً عملياً، وإنما ليستكمل باقي جزئيات الدليل.
ومحور الدليل الذي يصطفه القديس "أنسلم" هو فكرة الأكمل باعتبار أنها تفرض نفسها على كل عقل مهما كان مستواه الفكري، أو درجة ثقافته.
وبناء على هذه الركيزة، واستناداً إلى هذه المسِألة الضرورية، يبتدئ القديس "أنسلم" وحملة استدلاله على النحو التالي :
لا شك أن كل إنسان مهما كانت درجته يستشعر في عقله ضرورة أن يكون هناك موجود ليس هناك من هو أكمل منه.
وفكرة الكمال تظل ناقصة ما لم يوجد لها مقابل في الخارج، ولكي تكون هذه الفكرة كاملة لابد وأن يكون هناك موجود في الخارج غاية في الكمال لا يوجد من هو أكمل منه.
وهذا الوجود الأكمل على الإطلاق هو الذي نطلق عليه اسم الله.
وهكذا نرى أن هذا الدليل يمتزج فيه الاعتماد على العقل كقوة مفكرة، وعلى الواقع الخارجي في نفس الوقت.
وهذا الدليل على بساطته قد قابل ألواناً من الاعتراضات، ونوعاً من الاحتجاج الذي يعبر عن عدم الرضى من بعض معاصريه.
وكان من أكثر المعترضين على هذا النوع من الاستدلال في حياة "أنسلم" "جونيلو" في رسالته التي نشرها تحت عنوان (دفاع عن الأحمق) بين فيها أن هذا الاستدلال الذي ذهب إليه القديس "أنسلم" يلزم منه أن كل ما نتصوره عقلاً على أنه كامل أو أكمل يتحقق ضرورة في العالم الخارجي.
فإذا تصور المرء في أحلام اليقظة أن هناك جزيرة في مكان، وخلع عليها من الأوصاف ما يحب ويرضى، لزم على هذا التصور أن تكون هذه الجزيرة بأوصافها موجودة في العالم الخارجي.
ولقد حاول القديس "أنسلم" أن يدافع عن استدلاله، ولكنه لم يزد في معظم الأحيان على تكرار فكرة الدليل الأساسية وكان بإمكانه أن يرد على هذا الدليل اعتماداً على أساس فكري متين.
وهو لن يعدم هذا الأساس الفكري إن أراد أن يشغل نفسه به.
ذلك أن ما ذكره معارضه يختلف عن النقطة الأساسية التي اعتمد عليها الدليل، حيث إن النقطة الأساسية التي يعتمد عليها الدليل هي أنه إذا كان هناك فكرة تفرض نفسها على العقل كفرة وجود الأكمل، فإن هذه الفكرة لا تستوفي كمالها حتى تتحقق في الخارج.
أما ما ذكره معارضه هو ليس من هذا القبيل، إذ إن تصور جزيرة على هيئة كذا وكيت ليس فيه فرض على العقل، ففكرة الجزيرة تلك لا تفرض نفسها على العقل مثلما تفرض فكرة ضرورة وجود الأكمل نفسها عليه.
ومن هنا فإننا لا نجد وجها لهذا الاعتراض الموجه لهذا الدليل.
ويبقى دليل القديس "أنسلم" محتفظاً بطابعه واحترامه، وتقدير بعض العلماء له، ومحاكاة أساسه الذي اعتمد عليه فيما بعد.
وليست ميزة الاعتماد على العقل والواقع معاً هي الميزة الوحيدة التي طبعت تفكير "أنسلم" في هذا المجال ، ولكنه قد وضع قاعدة هامة من خلال هذا الدليل كما صرح هو بها تبطل ما كان موجوداً في عصره من قواعد ومسلمات تضر بالإنسان وتقدح في مسيرته على هذا الكوكب.
فلقد كان متصوراً إلى عصر "أنسلم" أن الإنسان يؤمن لأنه عاجز عن التفكير، أما "أنسلم" فإنه قد صرح بغير ملل بأنه يحتاج كما نحتاج نحن إلى الإيمان لكي يساعدنا على التفكير.
ومن هنا فإن قضية الإيمان عنده سابقة على المعرفة والتفكير.
وهو من ناحية أخرى لا يرى أية تناقض يذكر بين قضية الإيمان، وقضية التفكير.
ولقد بقى هذا الدليل يؤثر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في اللاهوت الكنسي فيما بعد، وإلى فترة متأخرة وفي التفكير الفلسفي الأوربي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:57 pm

نقاط مهمة حول وجود الله



بين البحث عن الله والبحث فيه

وإننا لن نمل من التكرار، ولا نيأس من التنبيه إلى قضية هامة، وهي وجوب التفريق بين البحث عن الله والبحث فيه، وهما أمران أدى الخلط بينهما إلى مهاو كثيرة من الضلال انحدر إليها ومازال ينحدر الكثيرون من المفكرين فإذا أراد العاقل أن يبحث عن الله، سيجد أن الله قد يسر له كل سبيل، ومهد أمام عينيه كل طريق يوصله إلى خالقه وبارئه.
ولكن الإنسان هو الإنسان، تغريه بعض النتائج التي أتيح له إدراكها بالتصدي إلى مجالات لا يمكنه أن يسير فيها.
فهو إذا استطاع أن يصل إلى معرفة أن الله موجود بالعقل تجده يظن أنه قادر على القول الفصل في تحديد ما يجب لله من صفات، وما لذاته السامية من مفاهيم، وما يجوز عليها من إطلاق الأسماء أو العبارات، فيتحدث عن ذات الله وصفاته بالعقل، حديث الواثق المطمئن إلى مقدماته ونتائجه، وهو لا يدري أن عقله محجوب عن ذلك، وفكره لا يستقل بالحديث فيما رام أن يتحدث فيه.
ولذا فإننا نقول : إنه ينبغي على العاقل أن يفرق بين البحث عن الله، والبحث فيه، ويتعرف على مدى إمكاناته التي تؤهله إلى هذا المجال أو ذاك، فلا يقحم ذاته على ميدان لا يتأتى له أن يبحث فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحقيقة الأولى الله جل جلاله


        هذا الاسم الكريم عَلَم على الذات المقدسة التي نؤمن بها ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا واليها مصيرنا. والله –تبارك وتعالى- أهل الحمد والمجد – وأهل التقوى والمغفرة، لا نحصي عليه ثناء، ولا نبلغ حقه توقيرا وإجلالا.


        لو أن البشر – منذ كتب لهم تاريخ، و إلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة – نسوا الله وكفروا به، ما خدش ذلك شيئا من جلاله – ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كف شعاعا من ضيائه، ولا غض بريقا من كبريائه، فهو –سبحانه- أغنى بحوله، وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع في ملكوته وجبروته من أن ينال منه وهم واهم، أو جهل جاهل.


        ولئن كنا في عصر عكف على هواه، وذهل عن أخراه، وتنكر لربه؛ إن ضير ذلك يقع على أم رأسه ولن يضر الله شيئا.
(ومن الناس من يجادل في الله بغير علم . ويتبع كل شيطان مريد. كُتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) (الحج 3-4)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل لهذا العالم من إله
ولقد تعرض هذا العالم " روبرت موريس ميج " .إلى بعض العوامل التي تؤدي إلى ضلال العقول، وانحرافها عن التفكير السليم من جهة أنها قد تهمل بعض قواعد المنهج في الوصول إلى بعض الحقائق الكونية، وسعد من هذه المقدمة إلى القول بأن الإنسان يخطئ منهجياً أحياناً حين يتعرض إلى قضية وجود الله ، فيؤدي به هذا الخطأ إلى إنكار هذا الوجود في نفس الوقت الذي لا يستطيع أن يتخذ من العلم شاهداً لهذا الإنكار، ولا من المنهج الصحيح معضداً للرفض أو الإلحاد.
يقول الأستاذ "روبرت موريس بيج " جواباً عن السؤال الذي وجه إليه وطلب منه أن يجيب عنه ـ هل لهذا العالم من إله ؟ تحت عنوان : "اختيار شامل".
يتطلب اختيار صحة فرض من الفروض تهيئة ظروف معينة مناسبة، وذلك للحصول على نتائج يوصل إليها هذا الفرض، على أساس أنه فرض سليم. وعلى ذلك فإنه لاختبار صحة فرض معين ينبغي أن تتوافر شروط ثلاثة:
1ـ ظروف معينة.
2ـ تحقيق نتائج تتفق مع سلامة هذا الفرض.
3ـ التسليم بصحة هذا الفرض حتى يثبت عكس ذلك.
أما الشرطان الأولان فلا يدور حولهما جدال، وأما الشرط الثالث فإنه كثيراً ما يهمل عند اختيار صحة الفرض رغم أهميته البالغة.
وفي بعض الأحيان يتطلب صحة بعض العروض ملاحظات قد لا تتوافر أو تتيسر لشخص معين، فإذا فرضنا مثلاً أن شخصاً لا يستطيع أن يلاحظ إلا الأشياء التي تكون كافية على وجه المحيط، فإن مثل هذا الشخص يعجز عن مشاهدة الأشياء التي تطير في الهواء أو تغوص في الماء، فبينما هو يدرك التي تسبح على سطح الماء كالسفن الكبيرة والصغيرة والبقايا العضوية الطافية والطيور عندما تحلق فوق سطح الماء، فإن الطيور والطائرات التي تطير في الهواء، والأسماك والغواصات التي تسبح في جوف الماء، تعتبر غير موجودة بالنسبة إليه فإذا ظهر لهذا الشخص طائر يكون قد هبط من الهواء إلى سطح الماء، أو جسم مغمور خرج من جوف الماء إلى سطحه، فإن ذلك يعتبر بالنسبة لهذا الشخص بمثابة ظهور شئ جديد من العدم، وبالعكس إذا اختفى جسم كان على سطح الماء بأن طار في الهواء أو غاص في الماء، فإن هذا الشخص يعتبر هذه الظاهرة فناء أو زوالاً . وهو سوف يجد أن هناك بعض الظواهر يستطيع أن يفهمها فهما واضحاً وتلك الظواهر التي تتصل بالأجسام الطافية على سطح الماء. ولكن سوف تصادفه ظواهر أخرى لا يستطيع لها فهماً أو إدراكاً، وتلك هي التي تتعلق بظهور بعض الأجسام فجأة على سطح الماء أو اختفائها فجأة من فوق سطحه.
فإذا قابل هذا الشخص شخصاً آخر يستطيع بطريقة ما أن يلاحظ الأشياء التي تطير في الهواء، أو تتحرك في جوف الماء ، فإن كثيراً من الظواهر التي شاهدها الشخص الأول، وعجز عن أن يجد لها تفسير يمكن شرحها وإدراك أسرارها بمساعدة الشخص الثاني، ومع ذلك فإن الشخص الأول قد يواجه بعض الصعوبات في إدراك بعض المعاني الأساسية التي تعينه على فهم الموضوع مثل الطيران في الهواء أو الغوص في الماء، وسوف يميل هذا الشخص بطبيعة الحال إلى التشكك في قول صاحبه حتى يتبين له بطريقة من الطرق صحة المعلومات التي يقدمها له. وقد لا يكون ذلك أمراً هيناً، ورغم ذلك فإن صاحبه يستطيع أن يثبت له صدقه بأن يتنبأ له في ضوء ما يراه " مما يعجز الشخص الأول عن ملاحظته" ببعض الظواهر والأشياء التي تتحقق فعلاً .
ولننتقل بعد هذه المقدمة الموجزة إلى فكرة وجود الله، ودعنا نعتبرها الآن كما يعتبرها البعض مجرد فرض، فإذا أردنا أن نختبر صحة هذا الفرض، فلابد أن نسلم أولاً، ولو مؤقتاً بأنه فرض صحيح سواء أكنا نعتقد في ذلك أم لا نعتقد فإذا لم نسلم بصحة هذا بأنه الفرض فإننا نعجز عن الوصول إلى اختبار حقيقي له.
ولابد لنا أن نسلم فوق ذلك بما يسلم به الكثيرون من أن قدرتنا على الملاحظة لا تستطيع أن تمتد لغير جزء ضئيل نسبياً من الحقيقة الكلية فالإله الذي نسلم بوجوده لا ينتمي إلى عالم الماديات ولا تستطيع حواسنا المحدودة أن تدركه، وعلى ذلك فمن العبث أن نحاول إثبات وجوده باستخدام العلوم الطبيعية لأنه يشغل دائرة غير دائرتها المحدودة الضيقة، فإذا لم يكن للإله وجود مادي فلابد أن يكون ذلك الإله روحانياً، أو هو يوجد في عالم من الحقيقة غير ذلك العالم الفيزيقي على أية حال، وبذلك فإنه لا يمكن أن نجده تلك الأبعاد الثلاثة، أو أن يكون خاضعاً للقيود التي نعرفها. ولابد لنا أن نسلم أن هذا الكون المادي الذي يخضع لقيود الزمان والمكان ليس إلا جزءاً يسيراً من الحقيقة الكبرى التي ينطوي عليها هذا الوجود.
فإذا سلمنا بوجود الله فلابد أن نسلم بقدرته على أن يكشف لنا بعض الحقائق الغيبية التي لا نستطيع أن ندركها لقصورنا (1).
=================================
(1) راجع مقال " روبرت موريس بيج " فذي كتاب " الله يتجلى في عصر العلم " ترجمة د/ الدمرداش عبد المجيد سرحان ، تحت عنوان : " اختبار شامل " ص 11 ـ 15.
عقيدتنا وصلتها بالكون والإنسان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل العالم خلق صدفة؟نشوء حياتنا هذه ودوامها يقومان على جملة ضخمة من القوانين الدقيقة يحكم العقل باستحالة وجودها هكذا جزافاً !!

        فوضع الأرض أمام الشمس مثلا .. ثم على مسافة معينة لو نقصت –بحيث ازداد قربها من الشمس- لاحترقت أنواع الأحياء من نبات وحيوان. ولو بعدت المسافة لعم الجليد والصقيع وجه الأرض، وهلك كذلك الزرع والضرع.. أفتظن إقامتها في مكانها ذاك لتنعم بحرارة مناسبة جاء خبط عشواء؟ وحركة المد والجزر التي ترتبط بالقمر!! أفما كان من الممكن أن يقترب القمر من أمه أكثر، فيسحب أمواج المحيطات سحبا يغطي به وجه اليابسة كلها، ثم ينحسر عنها وقد تلاشى كل شيء؟ من الذي أقام القمر على هذا المدى المحدود ليكون مصدر ضوء لا مصدر هلاك؟


        إننا على سطح هذه الأرض نستنشق "الأكسجين" لنحيا به ونطرد "الكربون" الناشئ من احتراق الطعام في جسومنا. وكان ينبغي أن يستفيد الأحياء – وما أكثرهم- هذا العنصر الثمين في الهواء، فهم لا ينقطعون عن التنفس أبدا. لكن الذي يقع أن النبات الأخضر يأخذ "الكربون" ويعطي بدله "أوكسجين" وبهذه المعاوضة الغريبة يبقى التوازن في طبيعة الغلاف الهوائي الذي يحيا في جوفه اللطيف الحيوان والنبات جميعا!! أفتحسب هذا التوافق حدث من تلقاء نفسه؟! إني أحيانا اسرح الطرف في زهرة مخططة بعشرات الألوان. التقطها بأصابع عابثة من بين مئات الأزهار الطالعة في إحدى الحدائق..
ثم اسأل نفسي: بأي ريشة نسقت هذه الألوان؟ إنها ليست ألوان الطيف وحدها. إنها مزيج رائق ساحر من الألوان التي تبدو هنا محففة، وهنا مظللة، وهنا مخططة، وهنا منقطة..
        وانظر إلى أسفل، إلى التراب الاعفر الذي اطلع على هذه الألوان انه –بيقين- ليس راسم هذه الألوان ولا موزع أصباغها.

        هل الصدفة هي التي اشرفت على ذلك؟ أي صدفة؟ إن المرء يكون غبيا جدا عندما يتصور الأمور على هذا النحو.. وألوان الزهرة هذه ملاحظة شكلية ساذجة بالنسبة إلى ملاحظة قصة الحياة في أدنى صورها. إن إنشاء الحياة في اصغر خلية يتطلب نظاما بالغ الأحكام. ومن الحمق تصور الفوضى قادرة على خلق "جزيء" في جسم دودة حقيرة؛ فضلا عن خلق جهازها الهضمي أو العصبي. فما بالك بخلق هذا الإنسان الرائع البنيان الهائل الكيان. ثم ما بالك بخلق ذلكم العالم الرحب..؟؟


        لماذا يطلب مني –إذا رأيت ثويا مخيطا أنيقا- أن أتصور خيطا قد دخل من تلقاء نفسه في ثقب إبرة، اشتبكت من تلقاء نفسها في نسيج الثوب، أو أخذت تعلو وتهبط صانعة الصدر والذيل والوسط والأكمام والأزرار والفتحات والزركشة والمحاسن إلخ.
إن إحالة الأمور على المصادفات ضرب من الدجل العلمي يرفضه أولو الألباب. لنفرض أن الآلة الكاتب في احد الدواوين وجدت بجوارها ورقة مكتوب عليها اسم عمر ماذا يعني هذا..؟


        أحد أمرين: اقربهما إلى البداهة وهو أن خبيرا في الكتابة طبع الاسم على الورقة. والأمر الثاني: أن حروف الاسم تجمعت وترتبت وتلاقت هكذا جزافا.
إن الفرض الأخير معناه من الناحية العلمية ما يأتي:
الابتداء بكتابة العين، أو سقوط حرفها وحده على الورقة دون وعي يجوز بنسبة 1 إلى 28 – وهو عدد حروف الهجاء العربية-. وسقوط حرفي العين والميم يجوز بنسبة 1 إلى 28 × 28 ونزول الحروف الثلاثة بعوامل الصدفة المحضة يجوز بنسبة 1 إلى 28 × 28 × 28 أي بنسبة 1 إلى 21952..
وليس أغبى فكرا ممن يترك الفرض الوحيد المعقول ويؤثر عليه فرضا آخر لا يتصور وقوعه إلا مرة بين اثنتين وعشرين ألف مرة..
والصدف حين تخط على القرطاس كلمة عمر اقرب إلى الذهن من تصور الصدف هذه تخلق قطرة ماء في المحيطات الغامرة، أو حبة رمل في الصحاري الشاسعة..
إن العلم بريء من مزاعم الإلحاد، ومضاد لما يرسل من أحكام بلهاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا ريب في وجود الله

        نيويورك –رويتر- استفتت مجلة "كوليرز" المعروفة، عددا كبيرا من علماء الذرة والفلك، وعلم الأحياء "البيولوجيا" والرياضة.
        "فأكدوا أن لديهم أدلة وقرائن كثيرة تثبت وجود كائن أعظم ينظم هذا الوجود ويرعاه بعنايته ورحمته وعلمه الذي لا حد له".
        ويقول الدكتور "راين" انه ثبت من أبحاثه في المعامل: ان في الجسم البشري روحا أو جسما آخر غير منظور.
وقال عالم آخر: " انه لا يشك في أن الكائن الأعظم –وهو ما تسميه الأديان السماوية"الله" – هو الذي يسيطر على الطاقة الذرية وغيرها من الظواهر والقوانين الخارقة في هذا الوجود".
        ونشرت جريدة (المصري) هذا التلغراف الذي أذاعته (رويتر) على العالم كله. وقد قرأته كغيري، وشعرت بعاطفة من السرور تغمرني، لان أولي العلم وأرباب البحث لمسوا –ولا أقول عرفوا- أثرا الحقيقة العليا، وبدأ إيمانهم بالله يتركز على أساس من التجربة المادية والإحساس النفسي.
أتعرف ما هو الإلحاد؟ أن يسفه المرء نفسه، ويركب رأسه، ويغمض عينيه عن كل ما حوله، ثم يصدر الأحكام جزافا، لا تخضع لمنطق، ولا يربطها فكر سليم.
وعندما جاء القرآن ليأخذ بأيدي الناس إلى الحق المبين لم يكلفهم عسرا . ولم يزد أن طلب إليهم فتح أبصارهم على آفاق السماء، وفجاج الأرض، وخواص الأشياء.
(قل انظروا ماذا في السموات والأرض..) (يونس:101)
(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء..) (الأعراف:185)
(أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق واجل مسمى..) (الروم:Cool.
        فإذا أرسل المرء نظراته الفاحصة يستقصي بها أنباء الوجود ويستكنه أسرار الحياة، فسيرجع –بعد جولة قريبة- بهذه الحقيقة المشرقة اللامعة.
        الحقيقة التي أجملتها الآية الكريمة: (الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السموات والأرض، والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون* قل أفغير الله تأمرونيّ اعبد أيها الجاهلون) (الزمر:62-64)؟
إن للإلحاد شبابا ممسوخا في بلادنا، يعرف قشورا من العلم، ويتعلق بأوهام لا وزن لها عند أولي الألباب. تراه يتكلم عن الألوهية والدين والوحي فيلوي لسانه بعبارات مشحونة بالغرور الادّعاء.
        وليس وراءها إلا ما يذكرك بقول الله: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) (الحج:8-9)
        إلى هؤلاء الشباب ممن يظنون العلم طريق الإلحاد، نسوق إليهم نتائج البحوث التي وصل إليها سادتهم عن اصل الحياة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

برهان التمانع

        ويقال لـه برهان التّطارد، وتقريره:لو وجد على جهة الفرض فردان متّصفان بصفات الألوهيّة، لأمكن التمانع بينهما، بأن يريد أحدهما صحّة زيد والآخر سقمه مثلا، وحينئذ: إمّا أن يحصل مرادهما وهو محال لاستلزامه اجتماع الضدّين، أو لا يقع مرادهما وهو محال أيضا لاستلزامه عجزهما مع اتصافهما بصفات الألوهيّة، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال أيضا لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح، واستلزامه عجز من فرض قادرا، ويلزم منه عجز الآخر لانعقاد المماثلة.
        وفي قولـه تعالى:* (لو كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللـهُ لَفَسَدَتا) إشارة إلى هذا البرهان. وتكملة الاستدلال بناء على منطوق الآية، ولم تفسد السّماوات والأرض، هذه هي المقدّمة التّالية، فدلّ على أنّه لا يوجد أكثر من إلـه، وهو اللـه تعالى.
- برهان التّوارد، وتقريره:
        لو وجد إلـهان متّصفان بصفات الألوهيّة، فإذا قصدا إيجاد مقدور معيّن، فوقوعه إمّا بكلّ منهما، فيلزم اجتماع مؤثّرين على أثر واحد، وهو محال، لأنّ الجوهر الفرد مخلوق أيضا ولو تواردت عليه قدرتان وإرادتان، صار أثرين، فيلزم انقسام ما لا يقبل القسمة، إن قدّر أنّ الذي أوجده أحدهما غير الذي أوجده الآخر، وهو لا يعقل، لأنّ الفرض أنّه شيء لا يقبل القسمة، فليس لـه إلاّ وجود واحد لا يمكن انقسامه، وإمّا تحصيل الحاصل إن قدّر الذي أوجده كلّ واحد هو ما أوجده الآخر، وهو محال أيضا. وإن كان الإيجاد لأحدهما فيلزم الترجيح بلا مرجّح، لأنّ المقتضي للقادريّة ذات الإلـه وللمقدوريّة إمكان الممكن، فنسبة الممكنات إلى الإلـهين المفروضين على السّويّة من غير رجحان.
        هذه هي بعض الأدلّة التي شرحها علماء الإسلام تثبيتا لعقائد الدّين. فعلى أصحاب الـهدى التّمسّك بها وفهمها، وتعقّل ما تحتوي عليه من معان راقية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:58 pm

أحكام الحكم العقلى

أقسام الحكم العقلي، وبيان معناها والعلاقة بين العقل وبين النقل

أقسام حكم العقل لا محالة ثم الجواز ثالث الأقسام

هي الوجوب ثم الاستحالة فافهم منحت لذة الأفهام

        المذكور هنا هو الأحكام العقلية الثلاثة، وقد ذكرها المصنف إشارة إلى ما يطلق عليه العلماء مبادئ علم التوحيد، وهي الأمور التي إذا جهلها الإنسان ولم يلتفت إليها -ولا يشترط في العلم القدرة على التلفظ-، فإن فهمه لعلم التوحيد يختل، فكيف إذا نفاها إنسان، وأنكرها، بل فكيف إذا حرم تعلمها ؟!

        لقد وجد في هذا الزمان أناس من الذين تحجرت عقولهم، بل لم يعودوا يلتفتون إليها وهؤلاء ينتسبون انتساباً باطلاً إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم، وقد عطلوا عقولهم ورموا بالمسلمات التي يقوم عليها الدين رمياً، واستهانوا بعلماء الأمة، ولا تجد لهم عند النظر في حالهم تحصيلاً. وهؤلاء لبسوا على عامة الناس بمظاهر من اللباس والتنطع بكلمات لا يعون معناها، وقد اغتر بهم بعض العوام، فتبعوهم، وحذر منهم أغلب العامة فلم يستطيعوا أن يردوا عليهم لتجردهم من علوم الدين، ولم يقدروا على تأديبهم لما يظهر عليهم من التمسك بما أوحوا إلى الناس أنه من الدين.

        وسوف نوضح في مواضع متفرقة نبذاً من أحوالهم ونرد بالأدلة الناصعة القوية على أهم مقولاتهم فيما يتعلق بهذا العلم، وبعض ما يناسبه من علوم أخرى بعون الله وتوفيقه. وسوف أشير هنا بقليل من التفصيل لبعض أهم القواعد العقلية وكيفية استنباطها. حتى يكون ما هو مذكور هنا مقدمة نتوكأ عليها في مستقبل المباحث، وقد فصَّلتُ في ذكر هذه القواعد في مواضيع مما كتبت، ولذا أذكر هنا ما لا بد من ذكره ليعقله كل من يبحث عن الحق، ويريد التمسك بالأدلة الخارقة للباطل، وكل من يريد التبري من ربقة التقليد في أصول نظرته في الوجود، فتكون بعون الله تعالى سلاحاً يدافع به كل منتم لأهل الحق عن أصل الدين وركنه الوطيد، ويهاجم به أوكار الباطل والتعصب للهوى والرغبة. فتكون له أداة عملية لبناء الدين في الأرض ونشر وإعمال الحق.

        وسأقسم الكلام إلى قسمين مجموعهما يؤلف ما أشرنا غليه من المهمات.

القسم الأول في الكلام في بدائه العقول.

والثاني نظرات في وجود العالم وصفاته.         نبدأ في القسم الأول بعون الله وتوفيقه وهو بدائه العقول:

        والمقصود منها أنها مجموعة من التصورات والأحكام أي التصديقات قد ثبتت ثبوتاً قطعياً في العقول، أي النفوس، وثبت صدقها أي مطابقتها للواقع الخارجي، وهي مهمة جداً في قيام التفكير الإنساني ووجوده، فبدونها لا يمكن أن يوجد تفكير، أو إذا وجد فهو خاطئ.

        وسوف نذكر كلاً منها واحدة بعد أخرى ونشرحها شرحاً مختصراً كافياً لتحصيل المقصود وهو استعمالها في إثبات العقائد الإسلامية كما سيأتي.

1        - أقسام المعلوم: نبدأ بتعريف العلم، وإن كنا قد أشرنا إليه فيما مضى

        العلم هو صفة ينجلي بها المذكور لمن قامت به، أي يتضح به ما يذكر ويمكن أن يعبر عنه موجوداً كان أو معدوماً. والمقصود بهذا أن المراد بالعلم هنا هو الصفة التي يتضح بها ما يمكن أن يطلبه الإنسان ويذكره في نفسه.

        والإدراك: هو وصول النفس إلى معنى تام معين، وسوف نبين فيما يلي ما هي وسائل الإدراك، فهذا المعنى المدرك إما أن يكون تصوراً ساذجاً أي خالياً من إدراك وقوع نسبة أو عدم وقوعها، أو يكون تصوراً مع إدراك للنسبة وهذا يسمى حكماً. فالحاصل أن الإنسان إما أن يدرك مفهوماً معيناً إدراكاً ساذجاً خالياً من الحكم عليه وهذا الإدراك يسمى تصوراً. أو يدرك المفهوم مع حكمه عليه، وهذا هو الحكم ويسمى التصديق، فالحكم مركب من تصورين على الأقل ونسبة بينهما. أما التصور فيمكن أن يكون مفرداً.

2        - مدارك العلوم: العلوم التي نحصل عليها لها أسباب، آي آلات يتم بها الإدراك، والأصل في هذا قوله تعالى "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لعلكم تشكرون" وفي هذه الآية الكريمة أحكام كثيرة نذكر منها هنا ما يلائم هدفنا، أول فائدة نستفيدها من الآية هي أن الإنسان عند ولادته يكون خالياً من العلوم، الكلية والجزئية، فلا يولد مع الإنسان شيء من العلوم.

        الفائدة الثانية: أن الإنسان عند ولادته يكون قابلاً للعلوم، فاستعداده للعلوم فطري، أي جزء من خلقته.

        الفائدة الثالثة: أن العلوم التي يستفيدها الإنسان تراكمية، أي تتراكم وتتجمع مع بعضها البعض.

        الفائدة الرابعة: وسائل المعرفة محصورة في ثلاث: السمع وهو الخبر، والبصر وهو الحس، والفؤاد ويشمل العقل بالمعنى الأخص. وسوف نوضح بعض ما يتعلق بهذه الثلاثة فيما يلي.

        وأيضاً هناك وسيلة أخرى لحصر وسائل المعرفة أن يقال: سبب العلم وآلته إما أن يكون من خارج الإنسان أو يكون فيه، فإن كان من خارج الإنسان فهو الخبر، أما إن كان من الإنسان فلا يخلو إما أن يكون نفس المدرك أو غيره، فإن كان غيره فهو الحس، وإلا فهو النظر.

        ووسيلة ثالثة لحصرها وهي الاستقراء، بأن يتم استقراء كيف حصلنا على علومنا التي ندركها علماً علماً، ثم نصنف الحاصل فينتج الثلاثة.

        ونشرع الآن ببيان بعض ما يتعلق بكل واحدة من هذه الثلاثة.

        أولاً: الحواس: والمقصود بها الخمسة الظاهرة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس.

        والحاسة هي القوة الحساسة، وكل حاسة يدرك بها ما وضعت هي له، فالسمع تدرك به الأصوات والبصر يدرك به الأضواء والألوان والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، والشم يدرك به الروائح والذوق يدرك به المطعوم واللمس يدرك به الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك.

هذه وسائل الإدراك، والمدرك هو النفس.

        والحواس تنمو وتتكامل في الصغير حتى يصل إلى سن معينة ويمكن تنميتها بالاكتساب فوق الحد العادي. وهي لا يدرك بها إلا الصور، فلا تدرك بها النسب والأحكام، بل هذه وظيفة الفؤاد، والحواس لا تخطئ، وكل من قال: إنها تخطئ يكون قد توهم أنها حاكمة، فلذا نسب إليها الخطأ، والذي يغلط حقيقة هو العقل كما سنبين ذلك. والحاسة لا تدرك إلا صورة واحدة كل لحظة زمانية.

        ولا نستطيع إدراك كل الصور أي صور الموجودات بالحواس، لأن الحواس لها مدى محدود تنتهي إليه، ولها قابلية كذلك، فما خرج عن ذلك لا يدرك.

        واختلف العلماء هل الإدراك ثابت للحواس فتكون هي المدركة أو هو ثابت للنفس بواسطة الحواس فلا تكون مدركة بل مدركاً بها ؟

        قال العلماء: ولا تفتقر الإدراكات بالحواس إلى بنية مخصوصة كالأذن للسمع والعين للبصر، بل هذه شروط عادية لا عقلية، فلو خلعت عين إنسان وأثرنا على العصب البصري بموجة معنية، فإنه يرى فتأمل.
        ثانياً: الفؤاد: – يستطيع كل إنسان عاقل أن يتأمل في ذاته ليعلم بعض الأمور عنها، وجهات النظر تختلف، فلو نظر كل واحد في نفسه من حيث هو متصف بالعلم والحكمة وغير ذلك من الأمور التي تدل على الاتزان لوجد أموراً في نفسه، فهو يحب ويكره، ويخاف ويطمئن إلى أمور وينفر من أخرى، ويريد فعل بعض الأمور لكنه يمسك نفسه عنها لسبب نحو مضرة أو فقد مصلحة أكبر فهو يتحكم في نفسه ليسير في طريق معين مرسوم له، إما أن يكون هو قد اختاره أو اختاره له غيره.
        وكل شعور من المشاعر التي تنتابه يترتب عليها فعل، فإذا أحب أمراً فهو ينجذب نحوه، وإذا أراد شيئاً فهو يحاول أن يصل إليه باكتساب الأمور التي توصله إليه وهكذا، ونعلم أيضاً أن الإنسان يبذل أحياناً جهداً، أو يفعل فعلاً معيناً ليتوصل به إلى إدراك ومعرفة بعض الموجود في الخارج أو غيره، فنراه يبذل جهداً ليعلم قانوناً رياضياً، أو طبيعياً، أو فقهياً وغيرها، وهو في كل هذه يكون في طور الفاعل لا المنفعل.

        ولا يشترط في الفعل أن يكون بالجوارح كما يظن بعض الناس بل يمكن أن يؤدي الإنسان فعلاً نفسانياً، كالحب والكراهية وهكذا، فلا ينكر أحد أن هذه تكون بالنفس قائمة، وتظهر آثارها على الجوارح.

        وتلخيصاً لما مضى نقول: يقوم بالإنسان نوعان من الكيفيات والأفعال: الأول ما يسمى بالوجدانيات كالحب والكراهية والخوف والرضا والإيمان، وهي مشاعر تحس بها النفس إحساساً داخلياً. والثاني هو ما نطلق عليه العلوم أي أن تدرك الشيء على ما هو به في الواقع.

        ونحن ندرك فرقاً ضرورياً بين هذين النوعين، ولكنا قطعاًَ ندرك أموراً مشتركة بينهما أهمها أن الإنسان الذي لا يعلم أمراً من الأمور، بل هو سائر في حياته على الحب والكره والخوف وغيرها من المشاعر، فإذا قلت له: لماذا تفعل هذا الأمر ؟ قال: لأني أحبه أو أخاف من كذا وهكذا، أقول: لو فرضنا وجود مثل هذا الإنسان، فنحن نقطع بعدم جواز تسميته عاقلاً. وكذا العكس فلو فرضناً رجلاً يعلم الصحيح من الغلط ولكن لا يحب ولا يكره ولا يؤمن ولا يرضى ولا يحس بالخوف مطلقاً، فنحن نجزم أيضاً بعدم جواز إطلاق اسم العاقل عليه؛ لأننا ندرك أنه لم يحقق أصله، حتى يشتق له منه اسم، كصاحبه، وهذا دليل ضروري على أن العاقل يجب أن يكون له وجدان وإدراك وعلم.

        فهاتان جهتان نعلم بالضرورة والبداهة وجوب وجودهما في الإنسان لكي يتحقق أنه عاقل.

        وما دمنا وصلنا إلى هذه النقطة، فقد هان الأمر. وبقيت مسألة في هذا المقام وهي من هو المقدم هل هو العلم أم الوجدان، أي هل يجب أولاً أن تعلم لكي تحب وترضى وتبغض، أم العكس. الظاهر لي أن العلم هو الأصل بهذا المعنى، ولكن في المسألة تفصيل ليس هذا محله.

[تكملة في غاية الأهمية]       
يدرك كل واحد أنه عند الحب والكره والإيمان والخوف، يحس بهذه الأمور في قلبه، أو يظهر أثرها في قلبه، وهو اللحمة الصنوبرية الشكل، ولذلك عند الغضب يشعر بتغير في نبضات قلبه، وكذا عند الحب يشعر بانشراح فيه، وكذا عند الإيمان والخوف انقباض.

        والقاعدة التي نستخلصها أن الكيفيات النفسانية يظهر أثرها في القلب. فاحفظ هذا وافهمه، ثم انظر في نفسك عندما تفكر في أمر غير وجداني ولا يتعلق إلا بالتفكير المجرد الذي هو ترتيب المقدمات لاستخلاص النتائج، فهل الأثر الذي تشعر به محله في القلب أو هو في الدماغ ؟ لا ينكر واحد منا أنه عندما يقوم بهذا الفعل فإنه يشعر بثقل في رأسه لا في قلبه. ولهذا غالباً ما يشعر بصداع، خصوصاً عندما يمعن في التفكير. ومن هذا نقول: إن التفكير المجرد يظهر أثره في الدماغ.

        ونحن ندرك بالاعتماد على ما مضى من معنى العاقل أنه لا بد من وجود علاقة بين الكيف النفساني، وبين الفكر المجرد، وهذه العلاقة تدرك عند الالتفات إلى ما يلي:

        عملية التفكير المجرد لا يمكن أن تحدث في الإنسان إلا بإرادته، وهذا أمرٌ ضروري لا يمكن لأحد أن يقول بخلافه، والإدارة كما سنعلم بالنسبة للإنسان هي من الكيفيات النفسانية محلها القلب، فالإرادة محلها القلب، وهي شرط للعلم، لأن العلم عملية إرادية، فلا يعلم الإنسان إلا إذا أراد، وهذا في غير الأمور الضرورية البدهية كما هو بيِّن، ومن هنا قال الإمام الشافعي: العقلُ أصلُه في القلب، ناظراً إلى العقل من ناحية أصله الذي لا يقوم إلا بناءً عليه، وقال الإمام أبو حنيفة: العقل أصله في الدماغ ناظراً إليه من حيث محل ظهور أثر التفكير المجرد. وتفصيل المسألة كما ذكرناه.

        وبناءً على هذا الفهم الدقيق القائم على أمور ضرورية قطعية، نستطيع أن نفهم قوله تعالى: (لهم قلوب لا يعقلون بها) وغيرها من الآيات.

        وهذا هو الجواب على من يسأل فيقول: لماذا يخاطب الله تعالى في معظم الآيات القرآنية القلوب لا غيرها، فقد تبين لنا أن القلب هو الذي يجب أن يوجه إليه الخطاب لا من حيث هو هو، بل من حيث هو شرط في حصول التفكير المجرد لمن يريد، فلا بد من دافع يدفع الإنسان لذلك، وهو التشويق.

        وهذه المسألة بما فيها لن تجدها مشروحة كما هي هنا في كتاب غيره، والقليل من العلماء من استطاع الربط كما فعلنا نحن هنا، وبناءً على هذا الفهم تنحل عقد كثيرة في علم العقائد وفي غيره من العلوم، كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى في محله.
        ثالثاً: الخبر الصادق: وكان الأنسب أن نقول المخبِر الصادق، لأن منشأ الصدق في الحقيقة هو المخبر، لا الخبر. ونحن إذا عرفنا صدق الخبر من المخبر فذاك هو المطلوب، أو من نفس الخبر فهذا مستحيل، لأن الخبر من حيث كونه خبراً لا دلالة له على الصدق أو الكذب، بل هو يحتمل الأمرين، أو من غيرهما وهو الحواس والعقل فيعود ما مضى الكلام عليه، وما دام الأصل هو المخبر، والمخبر من الناس قد يكون واحداً أو أكثر، والواحد قد يكون خبره دائماً صادقاً، إذا كان معصوماً مثل الأنبياء، وإلا فإنه كما يجوز عليه الصدق يجوز عليه الكذب، والعصمة التي هي صفة المخبر نعرفها بدلالة العقل.

        ومن هذا فإذا لم يكن الواحد معصوماً، فإن خبره يجوز عليه الصدق والكذب، فليس بحجة وحده. أما إذا كان المخبر أكثر من واحد ووصلوا إلى حدٍّ يستحيل عليهم الغلط والنسيان وتعمد الكذب، فيكون خبرهم عند ذاك حجة، وهذا هو الحد الذي يدعى بالتواتر، والتواتر يكون سبباً للعلم، إذا كان الخبر عن واقع مدرك بالحواس، أما إذا كان عن اجتهاد وتفكير فليس بحجة قطعاً. وذلك كأن يخبرنا عدد كبير من الناس أنهم رأوا كوكباً ينفجر، فعند هذا، نعلم أنهم صادقون لأنهم وصلوا إلى التواتر. أما إذا أخبرنا عدد كبير من الناس أنهم اجتهدوا ونظروا مثلاً في العالم فوجدوا أنه قديم، فخبرهم هذا لا يكون حجة علينا ولا عليهم أنفسهم، لأن هذا العدد الكبير يجوز عقلاً أن يغلطوا في النظر وهذه إشارة كافية وانظر تفصيلها في محل آخر.
3        - الأحكام العقلية الثلاثة: أو جهات الوجود، وهي الوجوب والامتناع والجواز.

        وتقريرها أن نقول: ما تصوره العقل يشمل التصور والتصديق، ويتحصل لنا مفهوم عقلي، فإذا نسب هذا المفهوم إلى وجوده في نفسه، أي إذا نسبنا الذات المتصورة إلى نفسها، أو نسبناها إلى وجودها لأمر آخر غيرها حصل في العقل معان هي الوجوب والامتناع والإمكان.

        ثم إن تصورات هذه المعاني ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طرق الاكتساب، إلا أنها قد تعرف لمجرد التنبيه والإخطار في البال، فيقال: الوجوب ضرورةُ الوجود أو اقتضاؤه أو استحالة العدم، والامتناع ضرورة العدم أو اقتضاؤه أو استحالة الوجود، والإمكان جواز الوجود والعدم أو عدم ضرورتهما أو عدم اقتضاء شيء منهما.

        ولذا لا يُتحاشى عن أن يقال: الواجب ما يمتنع عدمه أو ما لا يمكن عدمه أو ما لا يقبل العدم، والممتنع أو المستحيل هو ما يجب عدمه أو ما لا يمكن وجوده أو ما لا يقبل الوجود، والممكن أو الجائز هو ما لا يجب وجوده ولا عدمه أو ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه أو ما يقبل الوجود والعدم.

        فالواجب لو فرض معدوماً يلزم عنه محال، والممتنع لو فرض موجوداً يلزم منه محال. ويلزم على هذا أن الواجب يستمد وجوده من ذاته، ولا يمكن أن يحتاج غيره لكي يوجد، فالواجب لا يكون محتاجاً، فالوجوب هو شدة الوجود وتأكده، وأما الممتنع فلا يمكن وجوده، وإن أمكن فرض وجوده، أما الممكن فلا يمكن أن يكون وجوده مستمداً من ذاته، بل لا يمكن أن يكون مستمداً إلا من الواجب، فإذا اتصف الممكن بالوجود، كان ذلك من سبب خارج، ويكفي في عدمه عدمُ سبب وجوده، فبالحقيقة كما قال بعض المحققين: وجود الممكن يحتاج إلى سبب، ويستدعي سبباً موجوداً يجب الممكن به ما دام موجوداً وهذا يعني أنه مهما وجد، فإنه لا يستغني عن السبب.
4        - الإمكان هو علة الاحتياج. ويمكن أن نستدل نحن على الإمكان من معرفة الحدوث، فإذا كان الشيء حادثاً، فإنه حتماً يكون ممكناً، لأن الحدوث هو الكون بعد العدم، وما قَبِل العدمَ والوجودَ، كان ممكناً والمحتاج الموجود دليل على وجود الواجب. وعلى ما مر تصبح معرفة الحدوث علة معرفة الاحتياج بوساطة الإمكان فتنبه.
5        - قلب الحقائق محالٌ. فإنَّ حقيقة الممكن يحتاج إلى موجد، فلو أمكن انقلاب الممكن لصار إما واجباً أو ممتنعاً، وهذا ما مضى من أن معرفة الفرق بين الواجب والجائز والممتنع بديهية.

        ولو جاز الانقلاب لبطل التفريق بين هذه الأحكام الثلاثة، ولكن التفريق حاصل، إذن الانقلاب باطل. وهذا هو المبدأ الذي يسمى بمبدأ الهوهوية، وقد يعبر عنه في علوم أخرى بعبارة (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، ولو جاز قلب الحقائق لجاز حدوث الواجب ووجوب الممتنع وحدوثه وبطلت العلوم، وهذا عبث محض.
6        - أحد طرفي الممكن وهما الوجود والعدم، ليس أولى به من الآخر، بل هما بالنظر إلى ذاته جوهراً كان أو عرضاً على السواء. فالممكن متساوي النسبة إلى الوجود والعدم، فكما أن وجوده يكون من الغير، فكذلك عدمه أيضاً يكون من الغير فلا يكون من ذاته.
7        - الممكن الباقي محتاج في بقائه إلى السبب. وهذا بناء على أنَّ عِلَّة الاحتياج هي الإمكان كما مضى، والممكن حال البقاء لا يزال ممكناً بالذات وإن كان واجباً بالغير، وذلك لأن الإمكان للممكن ضروري، لأن الإمكان للممكن صفة ذاتية، وما بالذات لا يزول عنها ما دامت.
8        - الترجيح من دون مرجح مستحيل، فالأمران المتساويان يستحيل ترجيح واحد منهما على الآخر من، دون مرجع، وهذه المقدمة يكفي في معرفة حقيتها مجرد تصورها. فهي مقدمة بديهية.
9        - مراتب التقابل في المذكورات أربعة، وهي أنواع المنافاة:
        الأول: تنافي النقيضين، والنقيضان هما إيجاب الشيء وسلبه، نحو زيد، لا زيد، وزيد قائم، زيد ليس بقائم، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
        الثاني: تنافي الضدين، والضدان هما المَعْـنَيَان الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف، ولا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، كالبياض والسواد، لا كالبياض والحركة، يجوز ارتفاع الضدين إذا كان بينهما ثالث، وكلها لا ترتفع، ولا تجتمع.
        الثالث: تنافي العدم والملكة، والعدم والملكة هما وجود الشيء وعدمه عمَّا من شأنه أن يتصف به، كالبَصَر والعمى، والعلم والجهل البسيط، فالبصر وجودي وهو الملكة، والعمى عدمي إذا العمى عدم البصر عمَّا من شأنه البصر وكذا العلم والجهل، لا يجوز ارتفاعهما معاً ولا اجتماعهما كذلك.
        الرابع: تنافي المتضايفين، والمتضايفان هما الأمران الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف ويتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، كالأبوة والنبوة، والمراد بالوجودي هنا، ما ليس معناه (عدم كذا) لا الموجود في الخارج عن الذهن، إذ الأبوة مثلاً لا وجود لها في الخارج عن الذهن. ولا تنافي بين الخلافين كالبياض والحركة. والمثلان لا يجتمعان.
10        - الدور محالٌ: معنى الدور نوضحه بمثالٍ، فنقول: إذا قيل ما علة [أ] ؟ فقيل: [أ] فهذا محالٌ، لأنَّا علمنا أن [أ] حادثة أي كانت معدومة ثم وجدت، فيستحيل أن تكون هي قد أوجدت نفسها، لأنَّ هذا يلزم منه أن تكون قد وجدت قبل نفسها؛ فالعلة تسبق المعلول في الوجود، وهذا تناقض، لأنه يلزم منه كون [أ] موجودة ومعدومة في نفس الوقت، وهذا باطل.
        وأيضاً فالشيء الواحد لا يكون قابلاً وفاعلاً من جهة واحدة في نفس الوقت، وتكون قابليتُه صفة قائمة بذاته وفعله واقع على ذاته صادراً منها.
        وهذا المثال يمكن أن يكون على الدور من الدرجة الأولى وبعد ذلك تتعدد الدرجات، فقد يقال ما علة [أ] ؟ فيقال: [ب]، فيقال: وما علة [ب] ؟ فيقال: [أ]، هذا دور باطل، وفساده أظهر من سابقة، ولكما كانت الدرجة أعلى كان الفساد أكثر بياناً وظهوراً.
11        - التسلسل محال: التسلسل معناه يتضح مثال: أن قيل ما علة [أ] ؟ قيل: [ب]، وما علة [ب] ؟ قيل: [ج]، وما علة [ج] ؟ قيل: [د]، وما علة [د]، قيل [هـ]... وهكذا إلى لا نهاية، فيتكون عندنا ما يسمى بالسلسة وهي [أ] ثمَّ [ب] ثمَّ [ج] ثمَّ [د] ثمَّ [هـ] ... وهكذا، وهذا الأمر يسمى تسلسلاً، والتسلسل محالٌ. تتضح استحالته مما يلي:
        - لو تسلسلت الأسباب والمسببات إلى غير نهاية، لكانت بأسرها موجودة في الحال، بناء على المقدمة القائلة: إن العلة والمعلول يوجدان معاً، وإذا كان كذلك، فنقول: مجموع تلك الأسباب والمسببات إما أن يكون واجباً لذاته أو ممكناً لذاته، والأول باطلٌ، لأنَّ كلَّ مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من آحاده، وكل واحد من آحاد هذا المجموع ممكنٌ لذاته، والمفتقر إلى الممكن لذاته أولى بأن يكون ممكناً لذاته، فهذا المجموع ممكن لذاته، وكل واحد من آحاده ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فله مؤثر مغاير له، فهذا المجموع مفتقر بحسب مجموعيته، وبحسب كل واحد من آحاد مجموعتيه إلى مؤثر مغاير له، وكل ما كان مغايراً لمجموع الممكنات ولكل واحد من آحاد مجموع الممكنات لم يكن ممكناً لذاته، وكل موجود لا يكون ممكناً لذاته كان واجباً لذاته، فثبت بهذا البرهان وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى موجود واجب لذاته، وهو المطلوب.
        - برهان آخر، لو تسلسلت الأسباب والمسببات لا إلى نهاية، فعلى هذا التقدير، الأثر الأخير موجودٌ، إلا أن الخصم يقول: المؤثر الأول غير موجود. فلنأخذ من هذا الأثر الأخير لا إلى بداية جملة واحدة، ولنأخذ أيضاً من المرتبة الخامسة من مراتب الآثار لا إلى بداية جملة أخرى، فلا بد وأن تكون الجملة الأولى أزيد من الجملة الثانية بأربع مراتب، ثم لنطبق هذا الطرف الأخير من جانب الآثار على الطرف الأخير من هاتين الجملتين، ومعنى هذا التطبيق أنَّ الأول من هذه الجملة مقابل بالأول من تلك الجملة، والثاني من هذه بالثاني من تلك الجملة، فإمَّا أن يتقابل كل واحد من آحاد الجملة الزائدة بواحد من آحاد الجملة الناقصة لا إلى بداية فيكون الكلُّ مثل البعض، وذلك محال، وإما أن تنقطع الجملة الناقصة من الطرف الأخير فتكون الجملة الناقصة متناهية من ذلك الطرف، والزائدة زادت عليها بأربع، فتكون الجملة الزائدة أيضاً متناهية من ذلك الطرف، فيكون للأسباب والمسببات في سلسلة التصاعد طرفٌ ومبدأ، وذلك يمنع من القول بأنه لا نهاية لها، ثم ذلك الطرف إن كان ممكناً لذاته افتقر إلى مؤثر آخر، فلم يكن طرفاً، هذا خلف. وإن كان واجباً لذاته فذلك هو المطلوب.
        - وتوجد براهين عديدة على امتناع التسلسل، وما ذكرناه يكفي، فيتحصل لدينا من هذا أن القول بالتسلسل في الممكنات والحدواث والمفتقرات لا إلى نهاية، إنما هو قول باطل، وأن كل هذه الأفراد يجب أن تنتهي إلى واجب لذاته.

12- ما أدى إلى محال فهو محال. فكلُّ شيء نفرضه ويؤدي بنا إلى تجويز المحال فما فرضناه قطعاً باطل، فكلُّ فَرضٍ أدَّى بنا إلى الدور أو التسلسل، أو إلى تحصيل الحاصل، أو إلى نقض المقدمة المسلَّمة أو غير هذا من المحالات فهذا المفروض يكون قطعاً باطلاً.

13- إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وذلك لأن تلك الأشياء لما كانت حقائقها مساوية لحقيقة ذلك الشيء كانت حقيقتها واحدة، فلو لم تكن متساوية، لما كانت حقيقتها واحدة، فيلزم أن تكون حقيقتها واحدة وأن لا تكون حقيقتها واحدة، فيجتمع النفي والإثبات، وهو باطل كما مر.


14- إن حكم الشيء حكم مثله، وذلك لأنَّه إذا دلَّتْ الدلالة على أن التعيين الذي به الامتياز غير داخل في المناط، فحينئذ لم يبقَ إلا الماهية، فلو صارت تلك الماهية محكوماً عليها بحكم في موضع ويسلب منها ذلك الحكم في موضع آخر، لزم اجتماع النفي والإثبات وهو باطل.


15- إن المفهوم من الألف مغاير للمفهوم من الياء، فهما شيئان. وتقرير هذا يرجع إلى استحالة اجتماع النفي والإثبات، كما يلي: لما صحَّ تعقل أحدهما مع الذهول عن الآخر، فلو كانا واحداً، لكان قد صدق عليه إنه معلوم وغير معلوم، فيجتمع النفي والإثبات.


16- السبب قد يكون بسيطاً وقد يكون مركباً. فالبسيط هو الذي لا يتوقف تأثيره وإيجابه لمعلوله كما أنه فاعل. وأما السبب المركب فهو الذي يتوقف إيجاده على غيره، ومثل هذا السبب لا يكون تاماً ولا يكون فاعلاً محضاً ولا غاية له، بل له غاية خارجة عنه،

        وهذا السبب قد يكون مركباً من علل أربع: فاعل وغاية ومادة وصورة، وقد يحتاج مع ذلك إلى آلة كالبخار في النحت يحتاج إلى القدوم. وقد يحتاج إلى شرط كالنار في إحراق الحطب تحتاج إلى اليبوسة، والشرط ما يتوقف عليه تأثير السبب. وقد يحتاج إلى وقت كتسخين الشمس وجه الأرض تحتاج إلى الصيف. وقد يحتاج إلى مكان ووضع كإضاءة الشمس للبيت من ثقبة الكوة تحتاج إلى أن يكون في موضع خاص من الفلك، وقد يحتاج إلى شريك كالبناء في أن يبني بيتاً يحتاج إلى الفعلة.

        وإذا حصل سبب تام للشيء بسيطاً كان ذلك السبب أو مركباً، وجب وجود الشيء، وإلا فلا يكون سبباً تاماً.

        ومن هذا كله يلزم أن نعلم أن علة الشيء وسببه يجب أن تكون غير ذات الشيء، وكذلك الشرط غير المشروط.

17- استحالة قادر غير مريد. لأن القادر بالتعريف هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك. فكونه مريداً شرط كونه قادراً. وإلا فإن كان فاعلاً وغير مريد، فإما أن يكون علة تامة أو ناقصة، وكلاهما لا تلزمه الإرادة، وسنبين أن الفاعل العلة التامة والفاعل العلة الناقصة ويسمى هذا فاعلاً بالطبع كلاهما نقص في الوجود.

18- استحال مريد غير عالم، لأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد الطرفين على الآخر، فالمرجح لا بد أن يكون عالماً بالأطراف.

19- استحالة عالم ليس بحي.

وهذه القواعد الثلاث سوف نـزيدها وضوحاً في بحث الصفات إن شاء الله.


20- ما لازم الحادث في الوجود لا يكون إلا حادثاً. وهذه قاعدة شريفة نبينها كما يلي: إذا فرضنا أمراً لا يمكن أن يوجد إلا متصفاً ببعض الحوادث، أي ملازماً لها ومقارناً لها، فشرط صحة وجوده هو وجود الحوادث معه. هذا الأمر المفروض يجب ببداهة العقل أن يكون حادثاً، ويزداد التصديق بهذه القضية عند استحضار امتناع التسلسل والدور. ولا يجوز إذا تحقق هذا الفرض أن يقول قائل: إن هذا الأمر يجوز كونه قديماً أي لا أول له.


21- كل موجود فلا يخلو إما أن يكون قديماً أو حادثاً، والقديم هو ما لا أول لوجوده، والحادث ما له أول. فالقديم قطعاً يكون واجباً، والحادث لا يكون إلا ممكناً، ولا واسطة بين الوجود والعدم. فالحادث محتاج والقديم غني.


22- المذكور في النفس، الواقع في الوهم والخيال، إما أن يكون موجوداً أو معدوماً والموجود، إما واجب أو جائز، والمعدوم إما ممكن أو مستحيل.

        وبهذا نكون قد ذكرنا ما أردنا بيانه من أسميناه بدائه العقول، وهي أهم القواعد التي يستحيل قيام تفكير صحيح إلا بمراعاتها، ونحن ندعي أن غالبها يصدق به ويدرك أنه صحيح بمجرد تصوره، وكلُّ إنسانٍ لا تخلو نفسه من العلم بها ولكن قد لا يكون شاعراً بحصولها، وقد ذكرناها نحن لفتاً للفؤاد إليها ولهذا اكتفينا في غالبها بمجرد الذكر، لأنها لا تحتاج في حجيتها إلى الأدلة، وبينا بعض أدلة ما قد يكون فيه نـزاع. وسوف نذكر القسم الثاني من القواعد الضرورية للتفكير في الموجودات عند الشروع ببيان حدوث العالم إن شاء الله تعالى.

        قال الشيخ رحمه الله تعالى عن الأحكام العقلية الثلاثة: أعرف هذه الأقسام الثلاثة حتى معرفتها لأن على معرفتها مدار الإيمان بالله تعالى ويرسله عليهم الصلاة والسلام اهـ.

        وهكذا أقول عن القواعد التي ذكرتها فيما سبق، ومن أدركها فإنه سيلتذ بمعرفتها لذة عظيمة، ومن أعطي لذة العلوم والمعارف فقد أعطي خيري الدنيا والآخرة.

        وبعد معرفتك ما ذكرناه، لا تلتفت إلى من يتشدق ويشنع على من تكلم بهذه القواعد وادعى أن هذا من الفلسفة مشنعاً على من يتداولها بحجة أن الفلسفة حرام، فإن من يقول هذا، إنما يذم عقله، فهذه القواعد ضرورية للتفكير البشري فلا يمكن لأحد أن يفكر تفكيراً صحيحاً إلا بها.

        وهذا القائل عندما يحرمها ويمنع منها إنما يقوم في قوله هذا على إدراكه لمعنى الواجب والمستحيل، فهو يعتقد عدم جواز التكلم فيها، فهو مانع من وجودها، وهذا لا يتم له إلا بتسليم الفرق بين الواجب والممتنع والجائز، التي هي إحدى القواعد التي ذكرناها، وهكذا فحتى المحرم لها يستعملها من حيث لا يدري.

        وأما قوله: إنها من الفلسفة، فالفلسفة في حاصلها إنما هي إدراكات بشرية، قد تكون صحيحة أو غلطاً، وقد تكون مفيدة أو ضارة فمجرد كونها من الفلسفة هذا لا يعني الذم. وهذا هو قول العلماء المحققين مثل الرازي والغزالي والجويني وغيرهم، بل في الفلسفة نافع وضار.
        ونحن نجزم أن الذي ينطق بهذا الكلام لا بد وأن يكون جاهلاً غير مدرك لما نقول وإلا ما تلفظ به، والإنسان عدو ما يجهل كما يقال.
        وعلى كل حال فبعدما ثبت للفاهم فائدتها، فلا يلفت إلى المخالف. وهؤلاء الناس لا يجوز إدارة الكلام معهم على إثبات هذه العلوم أو نفيها، أي لا يجوز مناظرتهم ومناقشتهم، بل السبيل أن يفهموا معناها، أي يدور الكلام معهم على سبيل التعليم بالأسلوب المناسب لهم القريب إلى نفوسهم، فهم إذا أدركوا معناها لم يستطيعوا منعها، بل أكثر ما يمكن لهم قوله: إننا لسنا بحاجة للخوض في مثل هذه الأمور، فيطالبون بالدليل على كلامهم هذا، ولن يستطيعوا الإتيان بشيء، إلا محض توهمات وتخرصات، ثم بيان فساد كلامهم يعارضون بضرورة الاحتياج إلى الكلام فيها لأن بعض الناس ينكرون وجود الله تعالى، ولا يمكن إثبات وجود الله تعالى لهم إلا إذا أثبتنا هذه القواعد وفهمناها. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.


العقل والنقل


        لما خلق الله تعالى الإنسان، وهب له وسائل للعلم، وجعله مكلفا بناءاً على وجود هذه الوسائل كما ذكر بالنص البين الذي لا يمكن تأويله (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).

        فانظر رحمك الله كيف جعل الشكر مترتباً على وجود وسائل المعرفة المذكورة، وهي السمع والأبصار والأفئدة.
        وقد أمرَنا الله تعالى أن لا نتبع شيئاً إلا إذا وصَلَنا عن طريق من هذه الطرق وذلك في قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً)، وفي هذا مدح لكل وسيلة من هذه الوسائل من حيث كونها طريقاً إلى العلم. وقد ذم الله تعالى الكفار لأنهم يتبعون مطلق الظن والعائد إلى الشهوة النفسية، وشنع عليهم بأنهم لا يملكون علماً، وفي هذا لفت للنظر إلى وجوب استخدام هذه الوسائل، لأنها طرق العلم.
        فالله تعالى هو الذي نصب هذه الوسائل طرقاً للمعرفة والعلوم، وقد مدح الله أقواماً لأنهم لا يعقلون، وهذا إشارة إلى مدح مُطْلق العقل، وأنه لا يوجد شيء اسمه عقل مذموم إلا على سبيل المجاز، إذ كيف يكون عقلاً ومذموماً، فهذا يناظر أن يقال: علم غلط، وهو جمع بين الضدين أو حتى بين النقيضين.
        فالعقل ممدوح مطلقاً، لأن الله تعالى مدحه مطلقاً، ومَدَحَ المتصف بالعقل، ولم يرد في نصٍّ شرعيٍ ذمٌّ للعقل، ولا يجوز شرعاً ذمه.
        ولا خلاف بين العلماء أن العقل إن لم يكن هو نفسه هذه الوسائل الثلاثة أو واحداً منها، فلا بد أن يكون لازماً عنها، وما كان لازماً للحق فهو حق، ويستحيل وجود لازم للحق وهو باطل.
        ولما أرشدنا الله تعالى إلى وسائل المعرفة عطفها على بعض بالواو التي تفيد مطلق الجمع، وما هذا إلا إشارة إلى أنه لا تعارض بين أي واحد من هذه الثلاثة، ولا يجوز وجود تعارض، ومع عدم وجود التعارض يستحيل وجود ترجيح، لأنه فرع التعارض.
        وعلى هذا يكون من رجح أمراً على أمر منها مخالفاً لنص القرآن. وهذا الكلام لا يجوز أن يخالف فيه إلا من لا يحصِّلُ معانيه.فهذه مقدمة مهمِّة جداً في بيان الأصل الذي تقوم عليه هذه المسألة.

        ومعلوم لدى كل إنسان عاقل أنه يحكم على بعض الأمور أحياناًَ على سبيل الجزم وأحياناً على سبيل الظن، فتبين التفرقة الضرورية بين منـزلة الظن والقطع.

        ومعلوم لدى كل عاقل أيضا أن للألفاظ مراتبَ في دلالتها، وهذا الأمر اتفق عليه علماء الدين، فبعض الألفاظ لا تحتمل إلا معنى واحداً في دلالتها، وبعضها تحتمل أكثر من معنى مع رجحان في واحد أو بدونه، وهذا أيضاً معلوم، فلا يشترط في اللفظ أن يدل على معنى واحد فقط.
        وقد مضى بيانُ أن العلم يمكن أن يأتي عن طريق السمع، ويمكن أن يأتي عن طريق الفؤاد، ولا يمكن تعارض العلوم مهما كانت وسائلها.
        وحيثما وقع تعارض فلا بد من وجود غلطٍ في نسبة أحد المعنيين أو كليهما إلى وسائل المعرفة.
        وحيثما وقع التعارض فيجب ترجيح العلم والقطع على غيره، بغض النظر عن مصدر أي منهما. وأما إن كان المتعارضان طنيين فينظر في القرائن والغَلَبَة.
        والمرتبة التي يدور عليها الكلام في القانون الكلي الذي ذكره العلماء، هي تعارض القطعيات مع الظنيات مطلقاً، ما هو الذي يرجح عند ذاك ؟الإجماع قائم على تقديم القطع مهما كان مصدرُه.
        هذه هي المسألة بوضوح واختصار، وهذا هو المعنى الذي يذكره الإمام الرازي في القانون المعلوم، فهو يفرض فرضاً عقلياً تعارض قواطع عقلية مع ظواهر نقلية شرعية أي محتملة، فالواجب حتماً ترجيح القطعي، لا لكونه عقلياً، بل لكونه قطعياً.
        وحينئذ للنقلي احتمالان: إما أن يكون باطلاً من حيث السند، أو يكون المعنى المتوهم أنه ظاهر منه، ليس كذلك، بل يكون المعنى المراد به معنى آخر بدلالة قرائن أخرى، غفل عنها الناظر لأول وهلة، وهذه الدلائل بها يظهر معنى آخر.
        هذا هو القانون الكلي الذي أقام المجسمة وأتباعهم الدنيا وأقعدوها أو لم يقعدوها، وهذا الفعل منهم يبين كم هي نفوسهم ضحلة، ولا يعيشون إلا في ضباب.
        وقد تكلم الإمام الرازي في كتبه على احتمال واحد من الاحتمالات العديدة، فقال مثلاً في كتاب أساس التقديس ص172: "الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها."اهـ.
        والقانون الذي ذكره مبني على هذا الاحتمال، وهذا احتمال ممكن، وكونه ممكناً يدرك بمجرد فهم معنى الظاهر ومعنى البرهان كما أشرنا، فالظاهر لفظ محتمل مع رجحانه إذا أخذ منفرداً في معنى، وأما البرهان فهو لا يستعمل إلا في القطعي من الأدلة، فصار كما لو كانت المسألة: لو تعارض قطعي وظني فكيف يكون الحال فيها، فالذي يقول: إننا نقدم الظني على القطعي فهو مخطئ كما لا يخفى.
المسألة هكذا، بهذا البداهة، وبهذا الوضوح، إلا عند المتلاعبين من المجسمة.
        وقد قلتُ في تعليقاتي على كتاب درء التعارض لابن تيمية زعيم هؤلاء المجسمة ذوي الأصول الكرامية الدارمية، كلاماً هو خلاصة هذه المسألة نذكره هنا لما فيه من فائدة:
        والحاصل من كلام الرازي أن العقل القطعي والنقل القطعي لا يتعارضان قطعاً، ولا يمكن تصور ثبوت التعارض، وكل دليل عقلي إما أن يكون دليلاً برهانياً، أي قطعياً، أو غير قطعي أي ظنياً، وكذا الدليل النقلي إما أن يكون قطعياً ونقصد هنا القطعية في الدلالة والثبوت معاً، أو ظنياً في أحدهما أو كليهما، فالتعارض غير متصور بين العقلي والنقلي القطعي، ومتصور في غير هذا، فإذا وقع تعارض فالمقدم هو القطعي مطلقاً سواء كان النقلي أم العقلي، فوجه الترجيح والتقديم ليس هو كون الدليل عقلياً أو نقلياً، بل كونه قطعياً أو لا، وإذا تعارض ظنيان كان المقدم هو الأقوى.
        هذا هو خلاصة معنى كلام الرازي كما هو ظاهر، وقد خصص الكلام على حالة واحدة هي إذا كان التعارض واقعاً بين قطعي عقلي وظني نقلي، فالصحيح إنه يجب تقديم القطعي العقلي أيضاً، وعدم تسليم ما ينسب إلى النص النقلي، أي عدم التسليم بأن المعنى الفلاني هو الظاهر، بل هو غير ظاهر لأنه قام الدليل على استحالة كونه مقصوداً، أو يقال بالتفويض.

من الشرح المطول للخريدة البهية للإمام الدردير
تأليف

الأستاذ سعيد فودة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 8:59 pm

عقيدة الألوهية عند الفلاسفة والعلماء

        معرفة الله سبحانه وتعالى مركوزة في كل طبع، واسمه الكريم معروف في كل لغة، واختلاف الأجناس والألسنة لم يصرف الأفئدة والأفكار عن هذه الحقيقة الواحدة.
        بيد أن هذه المعرفة المتصلة برب العالمين لم تأخذ امتدادها الكامل وسماتها الراشدة، ولم تبرأ من الأوهام وتبعد عن الأهواء، إلا عندما تلقاها الناس مصفاة من ينابيع الوحي، وسمعوا آياتها تتلى من أفواه الأنبياء.
ولكن ذلك لم يمنع الكثير ممن لم يدخلوا في نطاق الرسالات الأولى – أو لم تبلغهم- على وجه صحيح- هدايات القرآن الكريم، أن يفكروا في الله من تلقاء أنفسهم، وان يطلقوا لعقولهم عنان البحث.

        والفلسفة الإلهية حافلة بالكثير من هذه الأفكار، كما أن علماء الكون في العصر الأخير قد تكلموا عن الله في حدود ما هداهم إليه البحث المجرد في آفاق الطبيعة وأسرارها، وقوانينها. والفلاسفة القدامى اسموا الله: الصانع، والعقل الأول، وواجب الوجود، وسبب الأسباب، وغير ذلك من الأسماء التي اصطلحوا عليها. كما أن للعلماء المحدثين تصورات في الألوهية التبس فيها الحق بالباطل كما سترى.
        وعلة هذا اللبس، أن هداية السماء لم تصحب العقل في سيره. ومن ثم اقر العقل بالمبدأ الواجب، واخطأ في التفاصيل المتعلقة به. المهم أن العقل الذكي، والبحث النزيه والفكرة المبرأة عن الغرض، المستقيمة على النهج، تتأدى بأصحابها –حتما- إلى الله، وتقفهم خاشعين أمام الشعور الغامر بعظمته وجلاله.
وان من الغباوة والبلادة أن يظن السفهاء من الناس أن الإيمان وليد استغلاق الذهن، أو أن استبحار العلوم واتساع المعارف الإنسانية يخدش قاعدة الإيمان ويوهي الصلة بالإله الديان.
        قال "هرشل" –من فلاسفة القرن الثامن عشر- (انه كلما اتسع نطاق العلوم تحققت وكثرت الأدلة على وجود حكمة خالقة قادرة مطلقة. وعلماء الأرضيات والهيئة والطبيعيات والرياضة يهيئون بمساعيهم واكتشافاتهم كل ما يلزم لإنشاء معبد العلوم؛ إعلاء لكلمة الخالق).
وانظر إلى مادُوّن من آراء لسقراط عن تلميذه أفلاطون:
"هذا العالم يظهر لنا على هذا النحو الذي لم يترك فيه شيء للمصادفة، بل كل جزء من أجزائه متجهة نحو غاية، وتلك الغاية متجهة إلى غاية أعلى منها، وهكذا يتم الوصول إلى غاية نهائية منفردة وحيدة"
        من أين نشأ هذا النظام الكامل في تفرعاته؟ المحفوف بالعظمة والجلال من نواحيه كافة؟ ليس من الممكن أن يحمل ذلك على المصادفة. فلو أمكننا أن نقول: انه نشأ من تلقاء نفسه، لصح لنا أن نقول: أن ألواح "بوليكلت" و "زونكريس" حدثت من تلقاء نفسها.
وإذا ما نظرنا إلى أن العناصر التي تحتوي عليها الكائنات كثيرة إلى درجة لا يمكن أن يحصرها العقل، كان من المحال أن نحمل وجود ذلك كله على المصادفة، فلابد إذن من وجود عقل أعلى .. وهو الصانع الوحيد. لأن الطبيعة اثر يتجلى فيه الاتحاد الدال على وحدانية الصانع، الذي ينفذ حكمه كنفوذ الفكر في الحال، بدون أي خطأ. وهو حاضر غالب –أي عالم قادر- ومع هذا، فمن المستحيل اداركه بالحواس.. فهو كالشمس التي تمس جميع الأبصار، لكنها لا تبيح لأحد أن ينظر إليها. ا.هـ. من تاريخ التصوف للأستاذ "محمد علي عيني بك".
        وقد شرح "لابلاس" دليل الحركة الكونية، وأبان قوة هذا الدليل في حسم الشبهات التي يثيرها الجاحدون، فقال: "أما القدرة الفاطرة فقد عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس، والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث أن هذا النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل".
هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفات في نظر "لابلاس" إلا باحتمال واحد في أربعة تريوليونات.
وما أدراك [1] ما أربعة تريوليونات؟ انه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصي إلا إذا لبث خمسين ألف عام، يعد الأرقام ليلا ونهارا على أن يعد في كل دقيقة 150 عددا".
وقال سبنسر:
        " إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن الحادثات مظاهر قدرة مطلقة متعالية عن الإدراك. وان الأديان كانت أول من قبل هذه الحقيقة العلوية ولقنها. ولكنها نشرت أول الأمر ممزوجة بالأباطيل"؟ وسبنسر غير متدين.
إن العقول السليمة تتلاقى على الحق، وكلما زادت علما كان تلاقيها على الحق أيسر واقرب. ومن اجل هذا رأينا العلماء بعد ذلك الانتكاس المادي الذي اعترى بعضهم في أواخر القرن التاسع عشر يرجعون إلى التلاقي على الحق، ويكادون يجمعون اليوم إجماعا بلسان أكابرهم على أن هذه القوانين والنواميس التي نشأت على أساسها الحياة وتطورت، تنطوي على وحدة في القصد، والإرادة، والعناية، والحكمة. يستحيل معها على العقل السليم المفكر أن يؤمن بان هذه الحياة خلقت وتطورت بالمصادفة العمياء. فهذا اللورد "كلفن" العالم الإنجليزي الكبير يعلن هذا الإيمان على الناس، ويسخر من القائلين بالمصادفة في خلق هذه الحياة، ويعجب من إغضاء بعض العلماء عما في آثار الحكمة والنظام من حجة دامغة، وبرهان قاطع على وجود الله ووحدانيته حيث يقول:" يتعذر على الإنسان أن يتصور بداية الحياة أو استمرارها دون أن تكون هنالك قوة خالقة مسيطرة. واني لاعتقد من صميم نفسي أن بعض العلماء في أبحاثهم الفلسفية عن الحيوان قد أغضوا إغضاء عظيما مفرطا عما في نظام هذا الكون من حجة دامغة، فان لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام هذا الكون من حجة دامغة. فان لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام مدبر وخير. وهي براهين تدلنا بواسطة الطبيعة على ما فيها من اثر إرادة حرة، وتعلمنا أن جميع الأشياء (الحية) تعتمد على خالق واحد احدي ابدي".
        وهذا "اينشتاين" العصيم يأتي من بعد "كلفن" ليقول:
"إن جوهر الشعور الديني في صميمه هو أن نعلم بان ذلك الذي لا سبيل لمعرفة كنه ذاته موجود حقا، ويتجلى بأسمى آيات الحكمة وابهى أنوار الجمال. وإنني لا أستطيع أن أتصور عالما حقا لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل. فالعلم بلا إيمان يمشي مشية الأعرج، والإيمان بلا علم يتلمس تلمس الأعمى".
        فهل تريد أحسن من هذا التلاقي بين عقول العظماء وبين القرآن الذي يقول لنا: (إنما يخشى الله من عباده العلماء). ولبعض الناس –مع إيمانهم بالألوهية- أفكار خاطئة في تصورها؛ كتب "كميل فلامريون" في كتاب "الله في الطبيعة": " إذا انتقلنا من ساحة المحسوسات إلى الروحيات فان الله يتجلى لنا كروح دائم موجود في حقيقة كل شيء. ليس هو سلطانا يحكم من فوق السموات، بل نظام مستتر مهيمن على كافة الموجودات!. ليس مقيما في جنة مكتظة بالصلحاء والملائكة!! بل إن الفضاء اللانهائي مملوء به. فهو موجود مستقر في كل نقطة من الفضاء، وفي كل لحظة من الزمان، أو بتعبير اصح: هو قيوم لا نهائي، منزه عن الزمان والمكان والتسلسل والتعاقب. ليس كلامي هذا من جملة عقائد ما وراء الطبيعة المشكوك بصحتها، بل من النتائج القاطعة التي استنبطت من القواعد الثابتة للعلم، كنسبية الحركة وقدم القوانين. إن النظام العام الحاكم في الطبيعة، وآثار الحكمة المشهودة في كل شيء، المنتشرة كنور الفجر وضياء الشفق في الهيئة العامة، لاسيما الوحدة التي تتجلى في قانون التطور الدائم، تدل على أن القدرة الإلهية المطلقة هي الحوافظ المستترة للكون، هي النظام الحقيقي، هي المصدر الأصلي لكافة القوانين الطبيعية وأشكالها ومظاهرها".
        والقائل فيلسوف ينكر اليهودية والنصرانية، ولا يعرف الإسلام، ولكنه يعرف الله الواحد من إدمانه النظر في العلوم والأكوان، وأمثاله كثيرون. وفكرة هذا العالم عن الألوهية تظهر فيها فلسفة وحدة الوجود. وهي فلسفة ندّت عن الصواب، وإن تعبّق بها بعض القدامى من فلاسفة الهنود، وسرت عدواها إلى التصوف الإسلامي، فشردت به عن الحق، وعن تعاليم الإسلام.
وأفكار أولئك الباحثين لو أنها ضبطت بتعاليم الوحي، ومشت في هدي الشريعة، لاستقامت مع ما ذكر القرآن الكريم عن الله عز وجل من صفات، وما نسب إلى ذاته العظمى من نعوت الجلال والجمال..!!
        وحسب أولئك – وان لم يعرفوا الحق كاملا- أن لاح منه بريق فأقروا ولم ينكروا. ولئن صدقوا ما عرفوا، إنهم أهل الإيمان الصحيح الكامل لو اتيحت لهم آياته، ويسرت لهم رسالاته، أي لو اتيحت لهم معرفة الإسلام الصحيح من خلال الكتاب والسنة.
ومع زحمة الوجود بالدلائل المؤيدة لعقيدة الألوهية، وانتصاب الشواهد المتكاثرة في الآفاق ترشد الناس إلى رب العالمين، فان العالم لم يخل من منكرين يجحدون الحق ويكفرون بالله. وقد استقصينا أقوال هؤلاء فلم نر بها إلا الانكار المجرد والعناد السمج.
يقول "يوخنز" عميد العلماء الماديين في العصر الماضي: " من الممكن إرجاع ظهور الأجرام السماوية وانتشارها وحركاتها إلى أصول بسيطة من الممكنات، فلا يبقى إذن محل للاعتقاد في قوة خالقة مشخصة". ويقول: "إن الإنسان محصول المادة وليست له خاصة فكرية على النحو الذي يصور الروحانيون". ويقول –ماضيا في إنكار الروح، ومصورا العقل الإنساني بصورة مادية- : " إن الكبد والكليتين تفرز مادة مرئية دون أن نعلم نحن بذلك. أما الحركة الدماغية فلن تكون خارج إرادتنا وإدراكنا، والدماغ يفرز قوة بدل المادة (!).."
        ويقول "بروسيه" – مؤيدا هذا التفسير المادي للروح والعقل- : (إن الذكاء والحساسية عمل من أعمال الأجهزة العصبية، كما أن تحويل المأكولات إلى دم يندفع في العروق، عمل الأجهزة الهضمية والتنفسية..!)
وكتبت جريدة طبية مقالة ذكرت فيها أن (الفكر تركيب يشبه حمض فورميك! والتفكير تابع للفسفور! والفضيلة والصداقة والشجاعة ما هي إلا تيارات كهربية للأعضاء الإنسانية). يبدو أن الفيلسوف يقر مرغما – من قبيل إنطاق الحق له – (بأنا) التي ينكرها [2] "
ثم إنهم يقولون: "إن القوة لا تنفصل عن المادة – كما يقررون- فأين مادة القوة التي يفرزها الدماغ؟".
الحق أن الإلحاد الذي يشيع بين طوائف المتحذلقين والمتنطعين لا يستند البتة إلى ذرة من المعرفة أو التفكير السليم.
        هذه هي الصورة التي يقدمها الملحدون للإنسانية ومعنوياتها! وهذه هي أدلتهم على إنكار ما وراء المادة، وعلى رفض الإيمان بالله العلي الكبير. وقد سميانها أدلة تجاوزا، و إلا فأي إمارة على الفهم الصحيح في هذا اللغو القبيح؟ ومتى كان التشكيك والفرض والتوهم أدلة محترمة؟ إن من المقطوع به عقلا أن العدم لا يتحول إلى وجود ولا يخلق وجودا. فإذا قيل: أن العالم مفتقر في أحداثه إلى سبب، وان الأحياء محتاجة في وجودها إلى خالق. قيل: بل يجوز أن يتم ذلك من تلقاء نفسه.
        وإذا كانت حركة المرور في القاهرة –مثلا- تتطلب فرقة من الجنود لتنظيمها و إلا لسرت الفوضى في أرجائها، فهل يستغرب القول بقدرة منظمة مشرفة على الألوف المؤلفة من الكواكب السيارة في الفضاء؟ وهل يعتبر القول بأن المصادفات المخصصة هي التي تتولى هذا التنظيم.. هل يعتبر إلا لغوا ومجونا؟
        ثم ما هذه السخافات الزاعمة بن الفضائل والرذائل اهتزازات كهربائية للأعضاء والأجهزة الجسمانية! . لأنه لا روح –كما يقولون! - .
        يجيب "كميل فلامريون" –متهكما فيقول- : "ما معنى إفراز القوة؟ ولم لا يفرز الدماغ كيلومترات أو فراسخ؟".
        ويقول المشير "احمد عزت باشا" : " من حيث انه لا روح ولا نفس ناطقة، فمن الذي يشعر بما تفرزه الحركة الدماغية؟ ومن الذي لا يشعر بها؟ وما معنى كلمة "نحن" التي يستعملها ذلك المتكلم؟ (يوختز السابق).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:00 pm

مقدمة حول صفات الله تعالى

لكل موجود صفات يتميز بها عن غيره ، وصفات الله تعالى كلها صفات كمال ، لا مجال للنقص فيها بحال من الأحوال ؛ لأن له تعالى المثل الأعلى ، كما قال سبحانه : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } [ النحل /60].
وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به المشركون من صفات النقص فقال : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180)} [ الصافات ].
وقد سبق أن أشرنا إلى أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء ؛ لأن كل اسم من أسمائه الحسنى متضمن لصفة من صفاته العليا ، دون العكس .
ولأن من صفاته تعالى ما يتعلق بأفعاله ، وأفعاله لا نهاية لها .
ونحن نصف الله عز وجل بما وصف به نفسه في القرآن الكريم . وفي السنة المطهرة ، ولا سبيل للعقل البشري لأن يدرك كنه وحقيقة صفاته تعالى ، وإن اشترك بعضها مع بعض صفات الخلق ، لكنه اشتراك في الاسم فقط كما سبق أن أشرنا . فعلى العقل البشري أن يقف عند ما أتى به الوحي من صفات لرب العز جل في علاه ، ولا يتجاوز ذلك . ولا يجنح إلى الإفراط أو التفريط.
وإلى الإمام الشافعي : " لا يبلغ الواصفون كنه عظمته . الذي هو كما وصف نفسه . وفوق ما يصفه خلقه "
تقسيم صفات الله تعالى
لا يمكننا حصر صفاته عز وجل . لكننا إذا نظرنا إلى معناها ، نجدها تنقسم إجمالا إلى قسمين :
1ـ صفات سلبية أو تنزيهية : وهي تدل على سلب النقص عنه تعالى. فإذا قلنا : إن من صفاته ( البقاء) فهذا يعني : سلب الفناء والعدم عنه تعالى .
2ـ صفات وجودية أو ثبوتية : وهي تدل على كمال موجود في الحق ، وهي أكثر ورودا في القرآن والسنة من الصفات السلبية .
وهي تنقسم إلى قسمين : ذاتية وفعلية : ـ
( أ ) فالصفات الذاتية : هي المعاني التي تدل على الكمال والعظمة ، فيتصف بها ويستحيل أن يتصف بضدها ؛ لأن ضدها نقص . وذلك كالعلم والقدرة . ومنها الصفات الخبرية التي جاءت في القرآن والسنة ، ولا يدل عليها العقل. مثل : الوجه واليد.
( ب ) والصفات الفعلية : هي الصفات التي تتعلق بمشيئته وقدرته . إن شاء فعلها ، وإن لم يشأ لم يفعلها ، فيمكن أن يتصف بها أو بضدها . وذلك كالإحياء ، والإماتة ، والخلق ، والرزق.
وكان علماء التوحيد القدامى لا يقسمون الصفات ، ولا يميزون بعضها عن بعض في كتبهم . إنما يسردونها سردا مكتفين بذكر الآيات القرآنية التي وردت فيها الصفة ، والأحاديث النبوية بأسانيدها التي تدل على هذه الصفة . كما نرى ذلك عند الإمام ( ابن خزيمة ) 223 ـ 311هـ في : ( كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ) .
لكن من جاء بعدهم من العلماء اهتم بتقسيم صفات الله عز وجل وتبويبها تيسيرا على الدارس لها ، والراغب في التعرف عليها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:07 pm

مقدمة حول صفات الله التنزيهية

هي الصفات التي يكون معناها : نفي ضدها عن الله تعالى ، فهي تنفي النقص عنه سبحانه . فإذا قلنا : من صفاته السلبية ( البقاء) فمعناه: سلب الفناء عنه . وقد نفى الله تعالى النقائص عن ذاته : ليثبت له كمال ضدها وكذلك في السنة المطهرة.
مثال ذلك من القرآن الكريم :
• { ولا يظلم ربك أحدا (49)} [ الكهف} نفى الظلم يتضمن كمال عدله.
• { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان /58] نفى الموت يتضمن كمال حياته .
• { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة /255] نفى ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته.
• { ولا يؤده حفظهما } [ البقرة /255] لكمال قدرته.
• { وما مسنا من لغوب } [ ق ] أيضا لكما قدرته.
• { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام /103] لكمال جلاله ، وعظمته ، وكبريائه.
• { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ/3] لكمال علمه
ومثاله من السنة المطهرة : ـ
• " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام " (1).
• " إن الله لا مستكره له " (2) .
• " إن الله لا يتعاظم عليه شئ " (3).
• " إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" (4).
• " إن الله ليس بأعور" (5).
• " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة" (6).
وقد قام علماء التوحيد بدراسة صفات الله التنزيهية ، واختلفت طرقهم في عرضها ، فمنهم من يجمل ، ومنهم من يفصل ، ومنهم من يلتزم بالألفاظ الواردة في القرآن والسنة ، ومنهم من يستعمل المصطلحات العلمية في التعبير عنها ، بعد اتفاقهم على أنه يجب تنزيه الحق عن كل ما لا يليق بذاته جل في علاه .
وإليك نموذجا لمن أجمل صفات التنزيه في أحد كتبه وهو الإمام أبي حامد الغزالي قال عن الله تعالى :
" إنه في ذاته واحد ، لا شريك له ، فرد لا مثيل له ، صمد لا ضد له ، منفرد لا ند له ، وإنه واحد قديم لا أول له ، أزلي لا بداية له ، مستمر الوجود ، لا آخر له ، أبدي لا نهاية له ، قيوم لا انقطاع له ، دائم لا انصرام له ، لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال ، لا يقضي عليه بالانقضاء والانفصال ، بتصرم الآباد وانقراض الآجال، بل هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شئ عليم .
وأنه ليس بجسم مصور ، ولا جوهر محدود مقدر ، وأنه لا يماثل الأجسام ، لا في التقدير ، ولا في قبول الانقسام ، وأنه ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر ، ولا بعرض ، ولا تحله الأعراض ، بل لا يماثل موجودا ، ولا يماثله موجود ، ليس كمثله شئ ، ولا هو مثل شئ ، وأنه لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار ، ولا تحيط به الجهات ، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات.
وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواء منزها عن المماسة والاستقرار ، والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش ، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش والسماء ، وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنه رفيع الدرجات والثرى . وهو مع ذلك قريب من كل موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، وهو على كل شئ شهيد ؛ إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام ، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام.
وأنه لا يحل في شئ ، ولا يحل فيه شئ . تعالى عن أن يحويه مكان ، كما تقدس عن أن يحده زمان ، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان ، وهو الآن على ما عليه كان " (7).
وأغلب علماء التوحيد يذكرون في هذا الباب خمس صفات دل عليها العقل الصريح ، والنقل الصحيح ، وإليها نرجع سائر التنزيهات ، فهي لها كالأمهات . وهي : القدم أو الأولية ، والبقاء أو الآخرية ، والقيام بالنفس، والمخالفة للحوادث ، والوحدانية . وإليك التفصيل :
1ـ صفة الأولية :
ويسميها علماء التوحيد : ( صفة القدم) ومعناه أن الله تعالى لا أول لوجوده ، فهو أزلي لا بداية له ، ولم يسبقه عدم ، فقد كان الله ولا شئ غيره ، ثم خلق الخلق.
وقد سأل أحد الرهبان الإمام أبا حنيفة هذا السؤال : ماذا قبل الله ؟
فأجاب أبو حنيفة : هل تحسن العدد ؟ قال : نعم . قال : ماذا قبل الواحد ؟ قال : لا شئ قبله . قال : إذا كان الواحد الفاني لا شئ قبله ، فالله سبحانه لا شئ قبله .
وإذا وصفنا الله بالقدم ، فمعناه يختلف عن وصف شئ من المخلوقات بالقدم . إذ معنى قدم المخلوق : طول المدة ، وتوالي الزمن على الشئ.
وقد جاء لفظ ( القديم ) في القرآن الكريم في ثلاث آيات :
1ـ { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(39)} [يس].
2ـ { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)} [ يوسف].
3ـ { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم(11)} [ الأحقاف}.
فالقديم في هذه الآيات معناه الذي توالى عليه الزمن.
أما بالنسبة لله فهو الذي لا بداية له .
وهذا المعنى قد جاءت به اللغة العربية ، ودونه أصحاب المعاجم اللغوية :
جاء في ترتيب القاموس المحيط:"القدم ـ كعنب ـ ضد الحدوث"(Cool
وجاء في لسان العرب : " القديم على الإطلاق : الله عز وجل.. والقدم نقيض الحدوث" (9).
وورد في مختار الصحاح : "القدم ضد الحدوث"(10)
وكان الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ يطلق على الله لفظ (القديم) قال : " ثبت أن القديم شئ لا كالأشياء ، وحي لا كالأحياء" (11).
فنطلق على الله لفظ (القديم) على أنه صفة وليس اسما من الأسماء الحسنى : لأنه يتوسع في الصفات ما لا يتوسع في الأسماء.
وقد جاء الشرع بلفظ (الأول) وهو أفضل ؛ لأنه يششعر بأن ما بعده آيل إليه ، وتابع له . قال تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3)} [ الحديد ] .
وعن أبي هريرة قال كان رسول الله صل الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول : ( اللهم رب السموات ، ورب الأرض ، ورب العرش العظيم . ربنا ورب كل شئ ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر ، فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن ، فليس دونك شئ . اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر ) (12).
أما لفظ (القديم) فلم أجده في السنة المطهرة إلا في رواية لابن ماجه في كتاب الدعاء. فقد عده ضمن أسماء الله الحسنى في أثناء سرده لها . وهذه الرواية ضعيفة ، كما في الزوائد (13).
وعن عمران بن حصين رضى الله عنهما قال : "دخلت على النبي صل الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال : اقبلوا البشرى يا بني تميم . قالوا : قد بشرتنا فأعطنا (مرتين ) ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن . فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ، إن لم يقبلها بنو تميم . قالوا : قد قبلنا يا رسول الله . قالوا : جئناك نسألك عن هذا الأمر.
قال : كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ، وخلق السموات والأرض.
فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا ابن الحصين . فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب. فوالله لوددت أني كنت تركتها " (14).
وفي رواية : " كان الله ولم يكن شئ قبله ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض " (15).
بلفظ (قبله ) بدل (غيره) وكأن راويها رواها بالمعنى أخذ من حديث: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ " السابق ذكره .
وبعطف خلق السموات والأرض بلفظ ( ثم ) بدل الواو . ويؤيد ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " إن الله قدر مقادير الخلائق بل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشه على الماء " (16).
والدليل العقلي على صفة القدم : ـ
أنه تعالى لو لم يكن قديما ، لكان حادثا مثل هذه المخلوقات ، فلا يتأتى له أن يحدثها ، ولاحتاج إلى علة تمنحه الوجود . كيف وهو الخالق لكل موجود !
2ـ صفة الآخرية : ـ
ويسميها علماء التوحيد : صفة ( البقاء ) ومعناها : أن الله تعالى لا آخر لوجوده ، فلا يلحقه عدم أو فناء.
أما البقاء بالنسبة للمخلوق فمعناه : استمرار الوجود زمنين أو أكثر.
والدليل النقلي على صفة البقاء :
قوله تعالى : { هو الأول والآخر }.
وقوله سبحانه:{ كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88) [القصص]
قال مجاهد : معناه إلا هو( 17 ) تعالى .
وقال الشوكاني في تفسيره : أي إلا ذاته (18) تعالى.
وقوله تعالى : { كل من عليها فان(26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) } [ الرحمن ].
قال ابن عباس : الوجه عبارة عنه (19) تعالى.
وقال الشوكاني : الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده (20) .
فسواء فسرنا ( الوجه ) بالذات ، أو بصفة من صفات الذات . فمعلوم أن الصفة لا تبقى بدون الموصوف . فالله باق بذاته وصفاته.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شئ بعده " (21).
والدليل العقلي على اتصافه بالبقاء : ـ
أنه لو لم يجب لله البقاء ، لجاز عليه الفناء . كيف ذلك وقد ثبت قدمه ، وكل ما ثبت قدمه استحال عدمه .
3ـ صفة القيومية : ـ
ويسميها علماء التوحيد ( القيام بالنفس ) ومعناها : أنه تعالى مستغن عن غيره استغناء تاما ، فهو لا يحتاج إلى محل ؛ لأن الحال في محل محتاج إليه فهو لا يحتاج إلى مكان ، ولا زمان ؛ لأنه خالق ذلك كله، فلا يحده مكان ، ولا يحصره زمان ؛ لأنه كان قبل المكان وقبل الزمان ، فهو على ما عليه كان .
وهو غير محتاج إلى مخصص خارجي بخصصه ببعص الصفات دون بعض فهو مستغن عن كل ما سواه ، وكل ما سواه محتاج إليه .
ويلزم من قيامه بنفسه أنه واحد أحد غير مركب من أجزاء . وإلا لكان محتاجا إلى كل جزء من أجزائه ، وكل جزء غيره وكل مركب متقوم بغيره ، فلا يكون متقوما بنفسه . ولا مقوما لكل ما عداه.
ويلزم من كونه قيوما أن كل ما سواه حادث ، موجود بإيجاده.
وتكرر وصف الله بالحي القيوم في القرآن ثلاث مرات في البقرة /255 وآل عمران /2 وطه /111 والقيوم : القائم بنفسه . المانح لغيره ما به قوامه . كما قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد/33].
وروى البخاري : كان النبي صل الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد ، أنت قيم السموات والأرض ، ومن فيهن " وفي رواية " قيام السموات " . قال قتادة : القيام القائم بنفسه بتدبير خلقه ، المقيم لغيره (22).
ومن أسمائه الحسنى (الغني ) قال : { وربك الغني ذو الرحمة} [الأنعام/133] .
وقال : { يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد(15)} [ فاطر].
وقال : { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم } [ الأنعام].
وقال:{وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون(88)} [المؤمنون]
وقال في الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي . لو أن أولكم وآخركم ، وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي . لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا " (23).
والدليل العقلي على اتصافه تعالى بهذه الصفة : أنه تعالى لو كان محتاجا إلى محل ، أو مخصص ، لكان حادثا ، وهو محال.
4ـ مخالفته للحوادث : ـ
ومعنى هذه الصفة : عدم مماثلته تعالى للمخلوقات في الذات ، والصفات ، والأفعال ، فذاته ليست كذواتنا ، وصفاته ليست كصفاتنا ، وأفعاله ليست كأفعالنا. ومهما تصورت ببالك ، فالله بخلاف ذلك . ولا يعلم حقيقة الله إلا الله .
والدليل النقلي على هذه الصفة قوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير(11)}[الشورى] أي ليس كهو شئ . فالكاف لتأكيد النفي مثل قوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي بالذي آمنتم به .
وقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد(4)} [الإخلاص].
والدليل العقلي : أنه لو كان مماثلا للمخلوقات ، لكان حادثا مثلها ، واحتاج إلى محدث ، وقد ثبت له القدم ، فبطل كونه حادثا ، فلا يكون مماثلا للمخلوقات.
النصوص الموهمة للتشبيه : ـ
وردت آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية بها بعض ألفاظ ربما فهم منها مشابهة الله تعالى في ذاته ، أو صفاته ، أو أفعاله لمخلوقاته . مثل قوله تعالى :
• { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)} [ الرحمن ].
• { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح / 10].
• { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)} [ طه ].
• { الرحمن على العرش استوى (5) } [ طه].
• { وجاء ربك والملك صفا صفا (22)} [ الفجر].
• { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام /18].
• { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)} [ البقرة].
• { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (13) } [ النساء ].
ولقد كثر الجدل في هذه النصوص ، وما يزال مستمرا حتى الآن ، بل قد انتقل الجدل إلى تحديد مذهب السلف نفسه ، وما يزال مستمرا بين أنصار الإمام الأشعري ، وأتباع الإمام ابن تيمية . حتى لتكاد هذه المسألة من بين مسائل العقيدة تحتل مركز الصدارة عند بعض الدعاة المعاصرين : ولا يجد في الإسلام ما يستحق التناول والعرض في أوربا وأمريكا إلى استواء الرحمن على العرش ، ونزول ربنا جل في علاه ، ووضع قدمه في النار.
وخلال قرون مضت كتبت رسائل ، وألفت كتب في هذا الموضوع تمثل كل الاتجاهات . ويمكننا أن نحصر كل ما قيل فيها في مذهبين :
المذهب الأول : مذهب السلف . ويرون وجوب الإيمان بهذه النصوص كما وردت ، وتنزيه الله عن الجسمية ولوازمها ، ونفي المعنى المادي لهذه الألفاظ فالله ليس كمثله شئ.
إلى هنا يتفق العلماء في تحديد مذهب السلف ، ثم يختلف أنصار الأشعري مع أتباع ابن تيمية في تصوير بقية مذهب السلف.
فيرى الفريق الأول : أن السلف كانوا يفوضون معنى هذه الألفاظ إلى الله تعالى ، ولا يحاولون تفسيرها ، بل يمرونها كما جاءت . وأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله .
بينما يرى الفريق الثاني : أن السلف كانوا يفسرون هذه الألفاظ ، ويعلمون معانيها ، ولا يفوضون معناها إلى الله ، وأن الكيفية فقط هي المجهولة لهم . وأن هذه المسألة ليست من المتشابه ، والآيات الواردة فيها آيات محكمات.
المذهب الثاني : مذهب الخلف الذين جاءوا بعد القرون الثلاثة المفضلة في الحديث النبوي. ويرون وجوب الإيمان بهذه النصوص ، وتنزيه الله عن الجسمية ولوازمها ، ويؤلونها تأويلا يتفق مع تنزيه الله ، ومع قوله : { ليس كمثله شئ } فلغة العرب فيها الحقيقة ، وفيها المجاز المختلف الأنواع ، وقد نزل القرآن بها ، فلابد من فهمه على قواعدها.
ويقولون : إن الراسخين في العلم ممن يعلم تأويله.
وعلى هذا المذهب الغالبية العظمى من مفسري القرآن الكريم، وشراح الحديث النبوي الشريف.وفيما يلي نماذج لتأويلهم هذه النصوص:
من أمثلة التأويل في القرآن الكريم : ـ
• قوله تعالى : { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) } [ الملك ].
أي من ملكوته في السماء من ملائكة وعرش وكرسي ولوح محفوظ.
• وقوله تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } [ الزمر /56] أي في طاعته ؛ فالجنب المعروف في المخلوق لا يقع فيه تفريط.
• وقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) }[ القلم] الساق: كناية عن شدة الأمر وصعوبته ، فمن وقع في أمر عظيم ، شمر عن ساقه . أي جد واجتهد.
ومن أمثلة التأويل في السنة المطهرة : ـ
• قوله صل الله عليه وسلم:"خلق الله عز وجل أدم على صورته" (24) أي تام الخلقة . لم يتطور خلقه كبنيه من نطفة إلى علقة .. الخ.
• وقوله صل الله عليه وسلم : " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ، ثم يتوب الله على القاتل ، فيسلم ، فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد" (25) فمعنى (يضحك) أي أبدى كرمه ، وأبان فضله ، وهذا أصل الضحك في اللغة.
• وقوله صل الله عليه وسلم : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له"(26) أوله (مالك بن أنس) وغيره بنزول رحمته وأمره وملائكته ، ويقوي هذا رواية النسائي : " إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ، يم يأمر مناديا يقول : هل من داع ، فأستجيب له" (27) أو المراد بالنزول الإقبال على الداعين بالإجابة.
• وقوله صل الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (28).
المراد من الحجاب : المانع من رؤيته ، والمراد بسبحات وجهه : نوره وجلاله ، والمعنى : أن هناك مانعا من رؤيته تعالى في الدنيا: لو أزاله وتجلى لخلقه ، لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته.
• وسؤاله صل الله عليه وسلم الجارية : " أين الله ؟ قالت : في السماء. قال : من أنا ؟ قالت:أنت رسول الله . قال: أعتقها ، فإنها مؤمنة"(29).
قالوا : إن رسول الله صل الله عليه وسلم خاطبها على قدر عقلها ، فهي جارية أمية راعية غنم . وهذا أقصى ما تستطيع أن تعبر به .
• وقوله صل الله عليه وسلم : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه ، فتقول : قط قط " (30).
قال الحسن البصري : القدم همم الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه.
ويقال لهم : ( الرجل) كما في بعض الروايات . وقيل : وضع القدم على الشئ مثل يضرب للردع والقمع.
وقبل أن أذكر رأي في هذا الموضوع أحب أن أنبه إلى أمور : ـ
أولا ـ هذا النوع من صفات الله تعالى ليس من الصفات العقلية التي يصل إليها العقل بالتفكير في العالم . كصفات العلم ، والإرادة ، والقدرة ، والحياة . إنما هو من الصفات التي تؤخذ من الكتاب والسنة.
ثانيا : ليس كل ما يضاف إلى الله يكون صفة له ، فقد أضاف إليه أمورا ليست من صفاته . كبيت الله ، وعبد الله ، وناقة الله ، وروح الله .
ثالثا : لا يلزم من إسناد بعض الأفعال إليه تعالى في القرآن والسنة أن له صفات من جنسها . مثال ذلك :
• { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة /67] فهل من صفاته النسيان !!
• { وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21)} [ الإنسان] فهل من صفاته السقى !!
• { سأرهقه صعودا (17)} [ المدثر] فهل من صفاته الإرهاق !!
رابعا : لا يجوز أن نجمع هذه الألفاظ في موضع واحد ، حتى لا ندع للخيال فرصة ، ولا للوهم سبيلا لرسم صورة معينة في الذهن لذات الحق تعالى . فإذا ما تأملنا كل كلمة منها في سياقها ، وجدناها أبعد ما تكون عن مماثلة المخلوقين .
خامسا : لابد لمن يتعرض لبيان معاني هذه الألفاظ من العلم بأساليب اللغة العربية ، وطرقها في التعبير عن المعاني . فقد قال الإمام مالك : " لا أوتي برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالا"(31).
وعقد الإمام الشافعي في رسالته الشهيرة بابا بعنوان : ( الصنف الذي يبين سياقه معناه ) (32) تناول فيه : كيف يحدد السياق ، أو ما يسميه علماء البلاغة ( القرينة ) المراد من اللفظ ، وهو ما اصطلح عليه علماء البلاغة بالمعنىالمجازي ، إذ المعنى الحقيقي لا يحتاج إلى قرينة . وكلامه في غاية النفاسة .
ويرى الإمام ابن قدامة الحنبلي في كتابه : ( المغني ) أن إنكار المجاز مكابرة .
ومع ذلك لا أريد أن أدخل في جدال حول تحديد ( الظاهر المتبادر) لكل لفظة وردت ، أو ما إذا كان هذا المعنى لهذه الكلمة (مجازيا ) أو هو من استعمالات اللغة للكلمة .
وقد لاحظت أن بعض ما ذكره (الخلف) من تأويل ومجازات روى عن بعض(السلف) كما ذكرت في معنى(الوجه) في الصفة السابقة(البقاء)
وكما ورد منذ قليل عن الإمام مالك وهو من كبار أئمة السلف في حديث النزول.
وكما ورد عن الحسن البصري في معنى القدم.
وكما ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا (22) } [ الفجر] " أي أمره وقضاؤه . قاله الحسن " (33).
وكما ذكر الطبري في تفسير { يد الله فوق أيديهم } بأنها : "قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صل الله عليه وسلم " (34).
وقال ابن كثير في تفسيرها:"أي هو حاضر معهم ، يسمع أقوالهم ، ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم " (35).
وكما ذكر السيوطي في تفسير قوله تعالى : { يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } عن مجاهد : في ذكر الله (36) . وعن السدي : تركت من أمر الله (37).
لكني أريد أن أعرض نماذج وأمثلة لما يتحتم أن يفهم في ضوء العلم بلغات العرب على حد تعبير الإمام مالك ، أو بنوع من أنواع المجاز المعروفة في لغة العرب.
من أمثلة ذلك في القرآن الكريم : ـ
* قوله تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7) } [ المجادلة].
فهل يعني ذلك أنه حال في المكان معهم ، مختلط بهم ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أنه معهم أي بعلمه وتدبيره ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم . يدل على ذلك بداية الآية ونهايتها.
* قوله تعالى:{ وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)}[طه].
فهل يعني ذلك أن موسى ستكون تربيته فوق عين الله ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أن الأسلوب يعني أن تربيته ستكون بحفظ الله ورعايته.
• وقوله تعالى : { وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر } [ القمر].
نفهم من الآية أن سفينة نوح ستكون في رعاية الله وتوفيقه .
• قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون(84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون(85)} [الواقعة].
فهل يعني ذلك قرب ذات الحق من ذات من حضره الموت ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أن المراد من القرب هنا هو قرب ملائكة الموت الذين سيتولون إخراج الروح.
ومن أمثلة ذلك في السنة المطهرة : ـ
• حديث : " يسب الدهر ، وأنا الدهر " الذي مر في الأسماء الحسنى.
فمعنى ( أنا الدهر) أي خالق الدهر، ومقلب الليل والنهار.
• حديث : " أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إلى شبرا ، تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلى ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة" (38).

فهل يعني قوله : ( تقربت إليه ) قرب ذات الحق من ذات العبد ؟ وقوله : ( أتيته هرولة ) إثبات صفة الهرولة لله تعالى ؟
نفهم من الحديث تصوير سرعة تفضل الله على عبده المقبل عليه ، وعظم جزائه لمن توجه إليه .
• حديث : " من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، يده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي ، لأعيذنه " (39).
فهل يعني هذا أن الله يكون سمع الولي ، وبصره ، ويده ، ورجله . فيكون جزءا من العبد ؟
نفهم من الحديث : أنه تصوير لنصرة وتأييد الله لوليه . فقوله : (كنت سمعه) أي حافظ سمعه : ومسدد بصره . وهكذا.
فمن فهم هذه الآيات والأحاديث على هذا النحو لا يمكن أن نتهمه في دينه أو في عقيدته ؛ لأنه أولها ، أو فسرها بالمجاز ؛ لأن هذا صنيع كل المفسرين للقرآن ، والشارحين للسنة المطهرة . وأيضا صنيع بعض أئمة السلف.
رأيي في هذا الموضوع : ـ
وألخص رأيي في هذه الصفات في كلمتين : إقرارها ، وإمرارها.
وأستشهد عليه بكلام السلف أنفسهم : ـ
1ـ قال الأوزاعي : سئل (مكحول) و(الزهري) عن تفسير الأحاديث فقال: "أمروها كما جاءت" وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال : سألت (مالك ابن أنس) و(سفيان الثوري) و(الليث بن سعد) و(الأوزاعي) عن الأخبار التي جاءت في الصفات . فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف .. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم ، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين"(40).
2ـ قال (محمد بن الحسن ) 131ـ189 هـ صاحب أبي حنيفة : "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن ، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل ، من غير تفسير، ولا وصف ، ولا تشبيه ، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك ، فقد خرج عما كان عليه النبي صل الله عليه وسلم ، وفارق الجماعة ، فإنهم لم يصفوا،ولم يفسروا،ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة. ثم سكتوا" (41).
3ـ وعن سفيان بن عيينة قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟
قال الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول،ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين ، وعلينا التصديق.
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (42).
4ـ وقال الإمام الشافعي رضى الله عنه : " آمنت بالله ، وبما جاء عن الله ، على مراد الله ، وآمنت برسول الله ، وبما جاء عن رسول الله ، على مراد رسول الله " (43).
قال ابن كثير : " وقد روى عن الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ـ أي الشافعي ـ ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تحريف على طريقة السلف" (44).
5ـ وقال الإمام أحمد بن حنبل وقد سئل عن هذه الصفات : " نؤمن بها ، ونصدق بها ، لا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد شيئا منها ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، ولا نرد على رسول الله صلى لله عليه وسلم ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه ، بلا حد ولا غاية " (45).
هذه أقوال كبار علماء السلف في القرون الثلاثة الأولى حول ما ينبغي على المسلم تجاه هذه النصوص ، ويتلخص ـ كما سبق ـ في أمرين : إقرارها ، وإمرارها .
ألا يكفينا ما كفاهم !! ألا نقنع بما قنع به هؤلاء الأكابر !!
أذلك خير : أم هذا الجدل الذي يضيع الوقت ، ويبدد الجهد، ويورث الضغينة في قلوب المؤمنين من شبابنا المعاصر؟
مع الأخذ في الاعتبار أن التأويل قد ورد عن السلف لبعض الآيات كما سبق أن أشرنا . ولعلنا نفرد له بحثا مستقلا إن شاء الله .


... يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:10 pm

.... تابع

مقدمة حول صفات الله التنزيهية


5ـ صفة الوحدانية : ـ
ومعنى وحدانية الله تعالى : عدم التعدد في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله .
فذاته تعالى ليست مركبة من أجزاء ، ولذك قال تعالى : { قل هو الله أحد } فالشئ قد يكون واحدا ومع ذلك يكون مركبا من أجزاء ، أما الله تعالى ، فهو أحد ليس مركبا من أجزاء ، ولا توجد ذات تشبه ذاته تعالى.
ومعنى عدم التعدد في الصفات عدم وجود صفتين لله من نوع واحد كعلمين وقدرتين ، وعدم وجود صفة لغيره تشبه صفته تعالى .
وأما عدم التعدد في الأفعال فمعناه عدم وجود فعل لأحد غيره يشبه فعله تعالى :
الأدلة النقلية : ـ
قال تعالى : * { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة /255].
• { لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء /22].
• { قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (42) } [ الإسراء ].
• { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون /91].
• { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (11)} [ الشورى].
• قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا أحد (4) } [ الإخلاص].
الأدلة العقلية : ـ
إذا أبطلنا التعدد في الذات بمعنى وجود ألهين ، فقد أبطلنا التعدد في الصفات بمعنى وجود صفة لغيره تشبه صفته تعالى ، وأبطلنا التعدد في الأفعال بمعنى وجود فعل لغيره يشبه فعله ، لأن كلا منهما راجع إلى تعدد الذات .
وبناء على ذلك فنحن في حاجة إلى ثلاثة أدلة : ـ
1ـ لنفي التعدد في الذات بمعنى عدم تركبها من أجزاء.
2ـ ولنفي التعدد في الذات بمعنى عدم وجود إلهين.
3ـ ولنفي تعدد الصفات بمعنى عدم وجود صفتين له من نوع واحد.
وإليك الأدلة : ـ
أولا : أما الدليل على نفي التعدد في الذات بمعنى عدم تركبها من أجزاء .
فهو أنه لو تركبت ذاته تعالى من أجزاء ، لكان محتاجا إلى أجزائه ، والاحتياج دليل الحدوث ، والحدوث عليه محال.
ولكان محتاجا إلى من ركبه فلا يكون واجب الوجود.
ثانيا : وأما دليل نفي التعدد في الذات بمعنى عدم وجود إلهين . فهو : لو فرض وجود إلهين ، كل منهما متصف بصفات الألوهية من العلم والإرادة والقدرة الخ فإما أن تتفق إرادتهما ، أو تختلفا ، وكل من الفرضين محال. فوجود إلهين محال.
وذلك أنه لو تعلقت إرادة أحدهما بخلق شئ مثلا ، وتعلقت إرادة الآخر بعدم خلقه ـ وهذه حالة الاختلاف ـ فالاحتمالات العقلية ثلاثة :
( أ ) إما أن ينفذ مرادهما معا . وهو محال ؛ لأنها اجتماع للنقيضين ، (الخلق وعدم الخلق) .
( ب) وإما ألا ينفذ مرادهما معا ، وهو محال ؛ لأنه رفع للنقيضين ، ويلزم عجزهما ، والعجز على الإله محال.
( ج ) وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر . وهذا يستلزم عجز من لم تنفذ إرادته . وبما أن الثاني مثله فهو عاجز أيضا ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين يثبت للآخر.
وأما بطلان احتمال اتفاق إرادة الإلهين على شئ واحد مثل : إيجاد محمد مثلا ، فالاحتمالات العقلية أربعة .
( أ ) أن يوجداه معا على سبيل الاستقلال في وقت واحد ، وهو محال ؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع مؤثرين على أثر واحد.
( ب ) أن يوجداه معا على سبيل الترتيب ، بأن يوجده أحدهما ، ثم يوجده الآخر ، وهو محال ؛ لأنه تحصيل الحاصل.
( ج ) أن يوجداه على سبيل المعاونة ، فكل منهما يعاون زميله في إيجاده . وهو محال ؛ لأنه يلزمه أيضا عجز كل منهما ، واحتياجه إلى الآخر .
( د ) أن يوجداه على سبيل التقسيم ، بأن يوجد أحدهما بعضه ، والآخر بعضه . وهو محال ؛ لأنه يلزمه أيضا عجز كل منهما ، فكل منهما لا يقدر على التصرف فيما تصرف فيه زميله .
وإذا بطلت هذه الاحتمالات سواء في حالة الاختلاف ، أو في حالة الاتفاق انتفى القول بتعدد الذوات ، وثبتت الوحدة لله تعالى .
ثالثا : وأما الدليل على نفي التعدد في الصفات ، بمعنى عدم وجود صفتين لله تعالى من نوع واحد كقدرتين مثلا فلأنه يلزم عليه أحد محالين :
( أ ) إن كان الإيجاد بهما معا ، يلزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد.
( ب ) وإن كان الإيجاد بإحداهما دون الآخر ، يلزم عليه التعطيل للأخرى ، وكونها لا فائدة منها.
وفي قوله صل الله عليه وسلم : " اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك" ما يشير إلى أنه ( علم) واحد، و(قدرة) واحدة.
رأى النصارى في المسيح : ـ
حرف النصارى معنى وحدانية الله تعالى ـ بعد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ ولأهمية هذا الموضوع وخطورته عرض القرآن الكريم آراءهم. ورد عليها بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة . وبأسلوب بليغ أخاذ قريب من الفطرة السليمة . والعقل المستنير. وفيما يلي نورد بعض هذه المواضع :
الموضع الأول : قال تعالى : { يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فءامنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173) } [النساء].
والمعنى : ينهى الله تعالى ـ اليهود والنصارى عن الغلو في الدين ، والغلو هو مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط . وقد تجاوز اليهود الحد في سيدنا عيسى حتى رموا أمه بالزنا ، وتجاوز النصارى الحد فيه حتى رفعوه إلى مرتبة الإله ، أو ابن الإله (46).
يقول الله لهم : لا تقولوا على الله إلا القول الحق الثابت بالأدلة العقلية القاطعة ، أو المؤيد . بالأدلة النقلية المتواترة . فعيسى رسول كباقي الرسل ، أيده الله بالمعجزات . قال تعالى : { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بءاية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين (49) } [ آل عمران].
والمعجزة الخامسة له نزول المائدة بطلبه . كما جاء في سورة [المائدة /114/115].
وهو كلمة الله مكون بكلمة (كن ) التكوينية . فإن الله تعالى : {إذا قضى أمرا . فإنما يقول له كن فيكون } فكل مولود له سببان : أحدهما السبب الظاهر . وهو اتصال والديه . وثانيهما السبب الخفي . وهو إرادة الله تعالى المعبر عنها بكلمة (كن) فعيسى وجد في خلقه السبب الثاني فقط .
وقيل : معنى الكلمة : الآية . كما في قوله تعالى : { وصدقت بكلمات ربها } [ التحريم /12] وقوله : { ما نفدت كلمات الله} [لقمان/27] أي آياته.
وقيل : معنى الكلمة . البشارة . كما في قوله تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } [ آل عمران /45] وهو روح من الله " قال أبي ابن كعب. خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ، ثم ردها إلى صلب آدم ، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام ـ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام . لهذا قال وروح منه " (47).
وليست ( من ) في الآية للتبعيض ، وإنما لابتداء الغاية ، كما في قوله تعالى : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } [ الجاثية /13] وإلا لكان كل شئ بعضا من الله تعالى .
وقيل : وروح منه أي ورحمة منه فقد كان رحمة لمن آمن به . قال تعالى : { ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا(21)} [مريم].
وقيل : معنى الروح : جبريل عليه السلام . قال تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) } [ مريم ] وقد قال تعالى عن سيدنا آدم { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) } [ الحجر] وهذه الآية تدعو إلى المساواة بين آدم والمسيح في أنهما من روح الله . وتشير إلى فضل آدم على المسيح بسجود الملائكة له .
هذه حقيقة عيسى ، فآمنوا بالله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وآمنوا برسله جميعا . ولا تفرقوا بين نبي ونبي ، فتجعلوا عيسى إلها.
ولا تقولوا : آلهتنا ثلاثة الله والمسيح ومريم ، ويؤيده قوله : {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك } [ المائدة /116].
أو لا تقولوا هم ثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس ، ويريدون بالأب الذات ، وبالابن العلم أو عيسى ، وبروح القدس الحيات ، وكل من الثلاثة عين الآخر ، وكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد.
إن هذا القول يتنافى مع العقل السليم ، والفطرة المستقيمة ، إذ كيف يكون الإله واحدا وثلاثة ؟ وكيف يحل الإله في إنسان ؟ وكيف يتحد به ؟
ثم ينهاهم الحق عن الشرك ، ويطلب منهم ما هو خير لهم ، وهو الإيمان بإله واحد منزه عن أن يكون له ولد ، فليس الإله في حاجة إلى الولد الذي يعاونه عندما يكبر ، ويحمل اسمه وذكره ، ويرثه بعد موته ، فالله هو الحي الذي لا يموت.
لن يأنف . ولن يتكبر المسيح أن يكون عبدا لله ، ولا الملائكة المقربون الذين هم أعظم قوة من المسيح أن يكونوا عبيدا طائعين لله ، ومن يستنكف ويستكبر عن عبادة الله ، فسيحشرهم إليه جميعا ليجازيهم . فأما الذين آمنوا به ، وعملوا الصالحات من الأعمال ، فيوفيهم أجورهم كاملة ، بل إنه يزيدهم من فضله ، فهو واسع الفضل ، وأما الذين استنكفوا واستكبروا عن عبادته ، فإنه يعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون وليا لهم ، ولا نصيرا ينصرهم من الله تعالى.
الموضع الثاني : قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير(17)} [المائدة ].
والمعنى : حكم الله بالكفر على أولئك الذين ادعوا أن الله هو المسيح ابن مريم . والنصارى اليوم طوائف أشهرها : الكاثوليك ، والأرثوذكس ، والبروتستانت ، وهم يصرحون بألوهية المسيح في أقوالهم وكتاباتهم.
وقد ورد في إنجيل يوحنا هذا النص : " في البدء كانت الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، والله هو الكلمة ، ويعنون بالكلمة "المسيح" فيكون معنى النص : الله هو المسيح.
ولقد استدلوا على أن الله هو المسيح بن مريم بما ظهر على يديه من الآيات والأفعال التي يعجز عنها البشر ، ولا يقوم بها إلا الإله. كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكلامه في المهد.
وجوابنا على هذا الاستدلال : أنه معارض بموسى عليه السلام، وما ظهر على يديه من الآيات ، فإنه قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر ، وغير ذلك . وقلب الجماد حيا أصعب في العقل من إعادة الميت حيا ، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ، فلا يوجب إحياء الموتى ألوهية عيسى من باب أولى.
وقد ثبت أن كلا من إلياس وإليسع أحيي الموتى ، وكذلك حزقيال. فإذا كان عيسى قد أحيي ثلاثة مثلا في كل حياته . فإن حزقيال أحيى ألوفا.
وأما كلامه في المهد ، فإننا نطالبهم بنص كلامه الذي يخفونه ؛ لأن فيه الرد الدامغ عليهم.
وإذا كان عيسى إلها ، فلماذا لم يدفع الموت عن أمه ؟ ولماذا لم يدفع الصلب عن نفسه الذي هو شر أنواع الهلاك ؟ " فقد قيل في الإنجيل : (ملعون كل من علق على خشبة ) من إحدى رسائل بولس الرسول ، وثبت أن المسيح استغاث بربه ضارعا خائفا ، ليصرف عنه ذلك الكأس.
فلم يجب إلى طلبه . في إنجيل متى : إلهي إلهي . لماذا تركتني ؟ " . ( يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس .. إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ) (48).
فإذا كان إلها ؟ فبمن كان يستنجد وهو معلق على خشبة الصلب ـ في زعمهم ؟ يرحم الله القائل :
عجبا للمسيح بين النصارى حيث قالوا : إن الإله أبوه
ثم لاوا : ابن الإله إله ثم قاموا بجهلهم عبدوه
ليت شعري ، وليتني كنت أدري ساعة الصلب أين كان أبوه
هل كان يستنجد بنفسه . أو هناك إله آخر كان يستنجد به ؟
وإذا كان إلها ؟ فلماذا استسلم للرومان وصلب ـ في زعمهم ـ ولماذا لم يجاهد لتخليصهم من الظلم والاضطهاد ؟ وإن كان قد جاء ليخلص العالم كله . فهل أثمرت دعوته ؟ فأين الذين خلصهم ؟ إن التاريخ يروي لنا أن النصارى بعد رفع عيسى لقوا من الاضطهاد والظلم ما لم يلق بشر(49).
وإذا لم تثمر دعوته . فهل عجز عن ذلك ؟ وهل يعتبر العاجز إلها ؟
قل يا محمد صل الله عليه وسلم ـ ردا عليهم ودفعا لقولهم : من يمنع من إرادة الله تعالى ـ وقدرته شيئا إن أراد أن يهلك ويميت المسيح ابن مريم ، وأمه ، وكل من في الأرض ؟ اللهم لا أحد . فإذن ليس المسيح إلها .
وإذا كانت ولادة عيسى . وما ظهر على يديه من الآيات هو سبب شبهة النصارى . فإن الله هو مالك السموات والأرض . خلقهما من عدم . وخلق ما بينهما بأسباب خلقها . فخلق البشر من ذكر وأنثى ، وخلق حواء من ذكر فقط ن وخلق عيسى من أنثى فقط ، وخلق آدم من غير ذكر وأنثى . يخلق ما يشاء خلقه ، فهو على كل شئ قدير.
الموضع الثالث : قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار(72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم(74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الأيات ثم انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76) } [ المائدة].
المعنى : لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وهم النصارى القائلون باتحاد اللاهوت أي الإله بالناسوت أي بالجسم الإنساني لعيسى ، فرد عليهم بما ذكره عيسى نفسه . إذ طلب من بني إسرائيل أن يعبدوا الله ربه هو ، ورب بني إسرائيل ، ورب السموات والأرض وما بينهما ، وحذرهم من الشرك بالله ، وبين لهم عاقبته ، فإن من يشرك بالله . فقد حرم عليه الجنة ، وسيدخله نارا خالدا فيها . فليس للظالمين أنفسهم بالشرك أنصار ينصرونهم من عذاب الله يوم القيامة .
وإذا سألناهم عن معنى اتحاد اللاهوت في الناسوت قالوا : هو ظهور الكلمة على جسم عيسى ن كظهور الصورة في المرآة ، أو كامتزاج اللبن بالماء ، أو كالحديدة إذا حميت في النار.
ونقول لهم : إن ذلك كله باطل :
ففي المثال الأول ـ الصورة لم تنتقل إلى المرآة لا اختلاطا ، ولا امتزاجا ، ولا مجاورة ، وإنما هي عرض زائل بسبب انعكاس الضوء على الجسم المرئي.
وفي المثال الثاني ـ الامتزاج حدث بين جسمين : الماء واللبن ، والله ليس جسما .
وفي المثال الثالث ـ الحرارة الداخلة على الحديدة عرض زائل ، كان بواسطة مجاورة النار للحديدة.
ونقول لهم أيضا ردا على دعواهم حلول اللاهوت في الناسوت.
إما أن يحل اللاهوت كله في الناسوت ، أو يحل جزء منه فقط فيه ، والاثنان باطلان :
أما الأول ـ فلأن اللاهوت كان جسما ، فحينئذ يكون حلوله في الناسوت عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء الناسوت ، وذلك يجب التفرق في أجزائه وتركبه ، وهذا ينافي الألوهية.
وإن كان عرضا ، كان محتاجا إلى محل يقوم به ، والاحتياج إلى الغير ينافي الألوهية.
وأما الثاني ـ وهو حلول جزء ، فإنه يلزمه تركب الإله ، وعند انفصال هذا الجزء يكون ناقصا .
ونقول لهم : يلزم على دعوى الاتحاد : إما أن ينقلب الحادث قديما ، أو القديم حادثا ، أو يبقى كل منهما على حاله ، ومن المحال أن ينقلب الحادث قديما ، أو القديم حادثا ، فإن هذا قلب للحقائق ، وإن بقى كل منهما على حاله ، فأين الاتحاد ؟
ونقول لهم : إن اتحاد اللاهوت بالناسوت . إما أن يكون كمالا ، أو نقصا : فإن قالوا : إنه نقص . فقد وصفوه تعالى بالنقص ، وهو منزه عنه.
وإن قالوا : إنه كمال ، يلزم أن يكون الاتحاد موجودا في الأزل مع أن الناسوت حادث . وهم معترفون بذلك . فهم يقولون إنه ابن مريم حملته وولدته . أو يلزم خلو الله تعالى عن هذا الكمال حتى ميلاد الناسوت الذي كمل به . تعالى الله عما يقولون .
لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة . وهو قول النصارى القائلين بالأقانيم الثلاثة فقد ( جاء في الرسالة الأولى ليوحنا الرسول بالإصحاح الخامس والعدد 7 و 8 " فإن الذين يشهدون في السماء هم : الأب ، والكلمة ، والروح القدس ، وهؤلاء الثلاثة هم واحد ، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة:الروح، والماء، والدم ،الثلاثة هم واحد").
هذا صريح في عقيدة التثليث . فبم يشهد الثالوث الأول ، والثالوث الثاني ؟ وما هذا الثالوث الثاني ؟ وما الفرق بين الاثنين ؟ بأيهما نؤمن ؟ وكيف نستسيغ أن الأب ، والابن ، والروح القدس ، والماء ، والدم يشهدون ؟ وما معنى أن الثلاثة هم واحد ، أو في الواحد ، أو بالعكس ؟ إن هذا لشئ عجاب (50).
ونقول لهم: لو وجدت في ذات الله تعالى ثلاثة أقانيم ـ أصول ـ تمتاز بامتياز حقيقي ـ كما تزعمون ـ للزم أن يكون كل منها إلها بذاته ، مع كون كل منها مفتقرا إلى غيره ، وإلا لما تألفت منها ذات واحدة ، فإذا ثبت التركيب ، ثبت الافتقار ، والافتقار نقص ، ينافي الألوهية ، كما أن الامتياز يناقض الافتقار.
ونقول لهم : هل هذه الأقانيم التي تدعون تركب الإله منها ذوات أو صفات ؟ فإن قالوا : ذوات ، لزم وجود ثلاثة آلهة لا واحد . وقولهم : لا يلزم ، فإنها كالشمس ذات أجزاء ثلاثة ، الحرارة ، والضياء ، والجرم الذي هو الأصل ، ومع ذلك فهي واحدة . قولهم هذا باطل ؛ لأن ثلاثة الشمس ليست كلها ذوات ؛ لأن الحرارة والضياء عرضان بخلاف الثلاثة التي معنا . والتي فرضنا أنها ذوات .
وإن قالوا : إنها صفات . فلم خصت هذه الصفات الثلاثة بالذات بجعلها إلها دون باقي الصفات ؟ وكيف يعقل أن تكون الصفات إلها وحدها . أو مع الذوات ؟
هذا قليل من كثير يمكن أن يوجه إليهم ردا على عقائدهم الباطلة . ولذلك هددهم الله تعالى بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا الضلال ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . وتعجب من إصرارهم على القول بالاتحاد والحلول. وكان الواجب أن يتوبوا إلى الله،ويستغفرونه، فالله غفور رحيم.
فحقيقة عيسى أنه رسول كسائر الرسل ، وأمه صديقة . كسائر النساء . صدقت عيسى فيما جاء به ، وعيسى وأمه كان يأكلان الطعام . ويحتاجون إليه كسائر البشر ، ويذهبان إلى الخلاء ، ليقضيا حاجتهما ، كسائر الناس ، ومن يحتاج إلى ( دورات المياه ) لا يصلح للألوهية.
ويرحم الله القائل :
قوم عيسى قد تغالوا فيه زورا وضلالا
مذم أتوه حيث قالوا : أنت رب ؟ قال : لا لا
ما أنا إلا عبيد أعبد الله تعالى
فعصوه ثم قالوا : أنت رب لا محاله
انظر يا من يتأتى منك النظر كيف نبين لهم الآيات ، ونوضح لهم الدلالات على الحق ، ثم انظر كيف يصرفون عنه بعد هذا البيان .
وقل لهم : أتعبدون عيسى وهو لا يملك لكم ضرا ، ولا نفعا ، والله هو السميع العليم الذي يملك الضر والنفع ، ومن كان هذا شأنه فهو الإله الحق سبحانه وتعالى .
المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه مسلم في الإيمان 1/162
2ـ رواه مسلم في الذكر والدعاء 4/263
3ـ رواه أحمد في المسند 2/458
4ـ رواه مسلم في السلام 4/1707
5ـ رواه البخاري في التوحيد ـ المتن 9/148 والفتح 13/401
6ـ رواه مسلم في صفات المنافقين 4/2162
7ـ إحياء علوم الدين 1/154.
8ـ 3/506
9ـ 5/3552
10ـ ص 525
11ـ عقيدة الإمام أحمد لابن تميم الحنبلي بذيل طبقات الحنابلة 2/265
12ـ رواه مسلم في الذكر والدعاء 4/2084
13ـ سنن ابن ماجه 2/1270
14ـ رواه البخاري في بدء الخلق ـ الفتح 6/330 والبشرى : أن من أسلم نجا من الخلود في النار ، وقولهم : ( بشرتنا فأعطنا ) أي : أعطنا من أمور الدنيا . والذكر : اللوح المحفوظ ، أو سجل الكائنات التي قدرها الحق.
15ـ رواها البخاري في التوحيد ـ الفتح 13/414
16ـ رواه مسلم في القدر 4/2044.
17ـ تفسير القرطبي ص 5038 ط . الشعب.
18ـ فتح القدير 4/189.
19ـ تفسير القرطبي ص 6335.
20ـ فتح القدير 5/136.
21ـ رواه البخاري في المغازي ـ الفتح 7/469 رقم 4114.
22ـ رواه البخاري في التهجد ـ الفتح 3/6.
23ـ رواه مسلم في البر والصلة 4/1994.
24ـ رواه مسلم في كتاب الجنة 4/2183.
25ـ رواه مسلم في الإمارة 3/1504
26ـ رواه مسلم في صلاة المسافرين 1/526.
27ـ تنوير الحوالك للسيوطي 1/315.
28ـ رواه مسلم في الإيمان 1/163.
29ـ مسلم في المساجد 1/382.
30ـ رواه مسلم في الجنة 4/2187 و (قط) بسكون الطاء أو كسرها منونة أو غير منونة معناها : حسبي.
31ـ صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام للسيوطي 1/96
32ـ رسالة الشافعي ص 62 تحقيق أحمد شاكر طبعة دار التراث.
33ـ الجامع لأحكام القرآن ص 7145 ط . الشعب
34ـ جامع البيان 26/48
35ـ تفسير القرآن العظيم 4/185
36ـ الدر المنثور 7/241 والنص مهم فليراجع
37ـ تفسير الطبري 24/18
38ـ رواه البخاري في التوحيد ـ الفتح 13/395 رقم 7405
39ـ رواه البخاري في الرقاق ـ الفتح 11/348 رقم 6502.
40ـ الفتوى الحموية لابن تيمية ص 27
41ـ المرجع السابق ص 33
42ـ المرجع السابق ص 27
43ـ لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص 6
44ـ البداية والنهاية 10/265
45ـ لمعة الاعتقاد ص 6
46ـ انظر : محمد أبو زهرة ـ محاضرات في النصرانية ص 17.
47ـ انظر : تفسير القرطبي ص 2018 ط . الشعب.
48ـ انظر : محمد محمود حجازي ـ التفسير الواضح 6/40
49ـ انظر : محاضرات في النصرانية ص 28 ـ 32
50ـ التفسير الواضح 6/75 وانظر : شرح المقاصد 2/51 والتمهيد للباقلاني ص 79 وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 261.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:12 pm

أحكام الواجب
في أحكام الواجب 
هناك نوعين من الوجود، أو نوعين من الموجودات :
أحدهما واجب الوجود لذاته، هو المسئول وحده، والمستحق أن يتوجه إليه غيره بالقصد والطلب، لأنه هو الذي أوجد هذه الموجودات من العدم إلى الوجود.
وثانيهما : موجود ناقص في ذاته يستمد وجوده من غيره، وليس له من ذاته استمرار وجوده.
والموجود الكامل الذي وجوده لذاته يستلزم منطقياً مجموعة من الأحكام بها يتصور العقل نفي كل نقص عن هذا الموجود الكامل، وفي غيبة هذه الأحكام لا يتصور العقل كمال فكرة الواجب، بل إن الفكر السليم يجد نفسه في حالة من التناقض ما لم يسلم ضرورة بمقتضى هذه الأحكام التي تلزم على القول بالواجب، الذي قام البرهان العقلي على وجوده.
وقبل أن نستطرد في ذكر أحكام الواجب نحب أن ننبه إلى أن كل حكم من هذه الأحكام ينفي عن الواجب أمراً لا يليق به.
وحين يريد الإنسان أن ينفي عن موجود شيئاً لا يليق به، فإن أمامه طريقين يسلك أحدهما حين يفاضل بين هذين الطريقين، ويختار لنفسه الطريق المناسب لطريقة بحثه، والمتلائم مع الموضوع الذي يريد البحث فيه.
وأحد هذين الطريقين اللذين افترض العقل إمكانهما أن يقوم الإنسان باستقراء الأشياء التي لا تليق ، وتتبع جزئياتها، ونفي مفهوم كل جزء عن الموضوع الذي يريد أن يصفه بالكمال.
وثاني هذين الطريقين : أن يقصد المرء إلى الأشياء الكلية التي تجمع شتات مسائل جزئية كثيرة فيعمد إلى نفيها بالكلية، عن الموضوع الذي يريد وصفه بالكمال.
إن الباحث لا يجد أمامه سوى هذين المسلكين ، لكي يختار بينهما حين يريد أن ينفي أشياء لا يليق أن يصف بها موضوع بحثه، لأنها تتنافى مع الكمال اللائق بهذا الموضوع.
والمتأمل الحصيف يجد أن مجرد سلوك الطريق الأول مخاطرة فكرية، لا تناسب الهدف الذي يرسمه الباحث لنفسه حين يريد أن يضفي على موضوعه شيئاً من الكمال، لأن مجرد نفي الأشياء الجزئية عما يعتقد في نفيه أنه كامل، ولو كان هذا الكمال نسبياً يعد امتهاناً لهذا الكمال ، ونيلاً من قدره.
ونوضح ذلك بمثال فيقول : إن الإنسان إذا أراد أن يمدح ملكاً أو رئيساً في محفل عام، فأخذ يعدد في كلمته أراذل الناس وأسافلهم، ويقول : إن الملك أو الرئيس ليس كهؤلاء، فإن مجرد هذا التعداد نفسه يعد ذماً لهذا الملك أو هذا الرئيس، مع أن المادح لم يكذب، وإنما لمجرد أنه استحضر صورة العظيم مع صورة من هو أنزل منه تفصيلاً، كان جو الاستحضار نفسه منقصة للعظيم ونزولاً به عن قدره (1).
ويتبين من هذا المثال وذلك التحليل، أن الباحث إن أراد السلامة العقلية لبحثه، إن كان بحثه متعلقاً بإيضاح كمال الكامل، فليس أمامه فيما يتعلق بسلب النقص، ونفي ما لا يليق إلا اتباع الطريقة الإجمالية.
وإذا كان هذا هو الطريق المتاح المعقول في إثبات الكمال النسبي، فإنه يكون الطريق الواجب المحتوم، الذي ينبغى اتباعه إذا كان المراد هو البحث في كمال الواجب.
وعلى ذلك فإننا نرى معظم المفكرين وعظماء الإسلام، لم يسلكوا إلى تحقيق هذه الغاية سوى الطريق الإجمالي في نفي ما لا يليق عن الله عز وجل.
وكان من بين هؤلاء الذين قصدوا إلى الحديث عن أحكام الواجب التي تنفي عنه ما لا يليق به الطريق الإجمالي، الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من المحدثين(1)، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي من القدماء ، وبينهما من سلك هذا الطريق نفسه مثل عضد الملة والدين الإيجي(2).
وسوف نحاول في الصفحات القادمة أن نتعرض لهذه الأحكام التي تنفي عن الواجب ما لا يليق به، قاصدين إلى الإجمال ما أمكنا الإجمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عقيدة أهل الحق تنزيه الله عن الحيز والجهة 


        يقول الله عز و جل في القرءان الكريم: ﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾ و قال عز وجل:﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ و قال سبحانه و تعالى في القرءان الكريم :﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾، ويقول الإمام البيهقي في كتابه الأسماء و الصفات: استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه، أي عن الله عز و جل، بقول النبي صل الله عليه و سلم :" أنت الظاهر فليس فوقك شىء و أنت الباطن فليس دونك شىء " و إذا لم يكن فوقه شىء و لا دونه شىء لم يكن في مكان. و قد قال سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: كان الله و لا مكان و هو الآن على ما عليه كان، رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي. فكما صح وجود اللهِ تعالى بلا مكان و جهة قبل خلق الأماكن و الجهات كذلك يصِح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان و جهة، و هذا لا يكون نفياً لوجوده تعالى.
        قال الإمام زين العابدين علي ابن الحسين ابن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم في الصحيفة السجادية المنقولة بإسناد متصل متسلسل إليه بطريق أهل البيت رضي الله عنهم: "لا يحويه مكان"، و قال الغزالي: "إن الله منزه عن المكان و عن جميع الأمكنة"، و قال الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الله خلق العرش إظهاراً لقدرته و لم يتخذه مكاناً لذاته"، رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي.
        و نرفع الأيدي في الدعاء إلى السماء لأنها مهبط الرحمات و البركات، و ليس لأن الله موجود بذاته في السماء كما أننا نستقبل الكعبة الشريفة في الصلاة لأن الله أمرنا بذلك، و ليس لأن الله ساكن فيها. فمن يعتقد بأن الله موجود بذاته في الجنة التي هي فوق السماوات السبع أو أنه فوق العرش يلامسه أو فوقه بالمسافة، أو إعتقد أنه بذاته في السماء أو في كل مكان أو في مكان معلوم أو في مكان مجهول فإنه كافر بربّه ليس بمسلم و لا مؤمن و إن زعم أنه مسلم مؤمن، إذ أنه من المعلوم القطعي أن الشخصَ لا يكون مسلماً لمجرد ظنه بنفسه أنه مسلمٌ، بل لا بد أن يخلو قلبه عن كل إعتقاد فيه نسبة النقص إليه سبحانه و تعالى. و لا يعذر في هذا الجاهل لجهله إذ أن نسبة الجهة و المكان لله تعالى تنقيص لله و تشبيه له بخلقه. فالجاهل الذي يزعم أنه يعبد الله و هو يعتقد بأن الله موجود بذاته في جهة من الجهات الست أو في مكان ما فهو بعيد عن الإيمان و هو يعبد مخلوقاً من حيث لا يشعر، إذا لو كان يعبد الله حقاً لنزهه عن الجهة و المكان.
        و قال الإمام التابعي الجليل ذو النون المصري رضي الله عنه: "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك"، و قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة المشهورة: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" أي أنه لا تحوي الله تعالى الجهات الست لأن هذا حال المخلوقات. فالحاصل أن من زعم أن الله يسكن في مكان فقد جعل الله جسماً أي شىء له طول و عرض و عمق و قال إمامنا الأكبر أبو الحسن الأشعري في كتابه النوادر: "من إعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه و إنه كافر به.
        و لقد قرأ بعض الناس قول الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العرش استوى ﴾ فتوهموا بأن المعنى أن الله جالس على العرش فكفروا و هم لا يدرون لأنهم جعلوا الله مخلوقاً و جعلوا له مكاناً يحتاج إليه و أثبتوا لله المشابهة لخلقه و التفسير الموافق للشرع و العقل و اللغة لقوله تعالى :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، أن يقال: الرحمن قهر العرش لأن القهر صفة كمال لله تعالى هو وصف نفسه بها قال جل شأنه:﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾، و ليس من مانع لغوي أو شرعي يمنع تأويل الإستواء بالقهر قال القشيري في التذكرة الشرقية: قوله على العرش استوى، قهر و حفظ و أبقى.
        و أما ما في صحيح مسلم من أن رجلاً جاء إلى رسول الله صل الله عليه و سلم فسأله عن جارية له قال قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: إيتني بها، فأتاه بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟، قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة، فمعناه أن الرسول يسألها عن مكانة الله لا عن المكان لأنه يعلم أن الله موجود بلا مكان، فأجابته بما يعني أن الله عال القدر جداً. و لقد إفترى بعض الجهلة على الإمام أبي حنيفة فنسبوا إليه القول بإثبات المكان لله و هو مردود على من إفترى و إدعى، و كيف يصدق هذا و هو الإمام الجليل الذي قال في الفقه الأكبر " و ليس قرب الله تعالى من قبيل المسافة و لكن على معنى الكرامة و المطيع قريب منه تعالى بلا كيف و العاصي بعيد عنه بلا كيف".
        فبعد هذا البيان وضح أن دعوة إثبات المكان لله تعالى أخذاً من كلام أبي حنيفة إفتراء عليه و تقول عليه ما لم يقله. و كذلك ما نقله البيجوري عن الإمام الغزالي أنه قال عن الله تعالى " فهو فوق الفوق ليس له فوق و هو في كل النواحي لا يزول" فإن هذا القول غير ثابت عن الغزالي و ليس بموجود في كتابه بل الموجود في كتبه تنزيه الله عن المكان و عن الجهات الست و هي فوق و تحت و أمام و خلف و يمين و يسار و قد قال الإمام أبو جعفر الطحاوي " و من وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر" أي من وصف الله بصفة من صفات البشر فقد كفر و الإستقرار و الجلوس على العرش أو الكرسي و التحيز و السكنى في مكان من صفات البشر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يجوز أن يكون واجب الوجود عرضاً 
إن هذا الحكم يعتبر من أيسر الأحكام التي يمكن الحديث عنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
ذلك أن العرض في عرف الفلاسفة والمتكلمين شئ لا يتقوم بذاته وإنما يحتاج إلى غيره لكي يقوم به .
والغير الذي يحتاج إليه العرض لكي يكون محلاً له يتقوم به جسم، والجسم حادث، وما يقوم به الجسم حادث مثله.
هذا فضلاً عن أن الأعراض متغيرة متبدلة بالمشاهدة، والتغير والتبدل أيضاً علامات الحدوث.
ولهذه الأسباب وغيرها لا يجوز أن يكون الواجب عرضاً، فالعرض حادث لتغيره ولقيامه بالحادث، والواجب قديم أزلي لا أول لوجوده.
والغرض يحتاج إلى غيره لأنه يحتاج إلى محل يتقوم به، والواجب قائم بذاته لا يحتاج إلى غيره.
ومع كل هذا فإن العقل قد يفترض جواز إطلاق لفظ العرض على الأول بعد إخراجه عن المعنى المتبادر إلى الذهن منه.
ونقول : إن هذا افتراض عقلي، حيث إن ما تحت أيدينا من المراجع ليس فيها نسبة هذا الافتراض إلى قائل بعينه، وإنما قصارى ما وجدناه هذا اللون من الافتراض العقلي فيما ذكره الإمام الغزالي من افتراضات وأجاب عنه بأن من قال بذلك يكون قد خالف اللغة والشرع على نحو ما قلنا به سلفاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الواجب لابد وأن يكون باقياً لا يطرأ عليه الفناء 
إن هذا هو الحكم الثاني من الأحكام التي يستوجبها العقل ويؤكدها الشرع، باعتبار أنها لازمة لإثبات وجود الواجب، لا تنفك عن هذه القضية ولا تنفصل عنها.
والدليل على ذلك أن الموجود الأول ما دام قد ثبت وجوده، فقد ثبت له القدم على نحو ما سبق.
والذي يثبت قدمه يستحيل عليه الفناء.
لأن الفناء يحتاج إلى سبب يخرج الموجود من الوجود إلى العدم، كما أن المعدوم يحتاج إلى سبب يخرجه من العدم إلى الوجود.
وما دام الأول لم يحتج إلى سبب فوق ذاته يهبه الوجود، فإنه لا يجوز القول بأنه يطرأ عليه من الأسباب أو يتسلط عليه من الفاعلين ما ينقله من الوجود إلى العدم.
تلك قضية عقلية لا يقبل العقل المشاحة فيها.
ومن ناحية أخرى فإن من ثبت قدمه، ثبت له بحكم هذا القدم أنه لا أول لوجوده.
وما دام قد ثبت له أنه لا أول لوجوده ، فإنه يثبت له بالضرورة أنه لا انتهاء لوجوده، طبقاً للقاعدة العقلية القائلة، بأن كل ما ليس له أول ليس له آخر بالضرورة.
والخلاف قائم بين العلماء حول الاسم الذي ينبغي أن نطلقه للتعبير عن هذا الحكم (إن الواجب لا آخر لوجود) على نحو ما كان في الحكم السابق.
فمنهم من يرى أن هذا الحكم يعبر عنه باسم (وجود البقاء لله سبحانه وتعالى) .
في حين أن البعض الآخر يرى : أن مثل هذا الاسم لا يجوز استعماله لأنه غير مأذون به في الشرع، والمأذون به شرعاً هو (الآخر)، ولم يرد استعمال كلمة (الباقي) للتعبير عن مفهوم هذا الحكم.
وأيا ما كان الأمر فإن رأينا على نحو ما وضحناه سلفاً أن هذا خلاف لفظي بحت ، الأحوط فيه استعمال ما صرح الشرع باستعماله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يجوز أن يكون الواجب جوهًرا متحيزا ً أو جسماً مركباً 
هذا هو الحكم الثالث من أحكام الواجب، وهو ينفي عن الله سبحانه وتعالى :
( أ ) أن يكون جوهراً متحيزاً .
( ب ) كما ينفي عنه أنه جسم مركب .
وهذه أمور معقولة بل واجبة في العقل.
أما أنه لا يجوز أن يكون الواجب جوهراً متحيزاً، فإن التحيز يحتاج إلى مكان ، والواجب لا يحتاج إلى غيره، والتحيز كذلك يستلزم أن يكون المتحيز محدوداً بحدود حيزه، والواجب سبحانه وتعالى لا يتناهى ..... إلى غير ذلك من الأمور الفاسدات التي يستلزمها القول بأن الأول جوهر متحيز.
غير أن الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين قد استجازوا لأنفسهم القول بالجوهر بالنسبة لله عز وجل، بعد أن اصطلحوا على تغيير معنى الجوهر، وحمله على معنى آخر يليق بالواجب، ولا يقتضي معنى التحيز (1).
وهذا أمر لا يحكم العقل فيه، كما يرى الإمام الغزالي، وإنما الاحتكام فيه أولاً إلى اللغة، وثانياً إلى الفقهاء .
فنحن نحتكم إلى اللغة في مثل هذا الموضوع، لنعرف ما إذا كان من الجائز أن يحتمل اللفظ اللغوي هذا المعنى الذي ذكره الفلاسفة ، وما إذا كان هذا المعنى هو أحد المعاني التي قصدها واضع اللغة حين وضع هذا اللفظ .
وأما الاحتكام إلى الفقهاء فإنه ضروري ، لأنهم هم الذين يملكون الفصل في قضية جواز إطلاق اسم أو صفة لا تشعر بنقص على الله عز وجل من غير أن يأذن الشرع في ذلك الإطلاق.
والفقهاء هم الذين يملكون فصل المقال في هذا الموضوع الجلل، ذلك أن إطلاق اسم أو صفة على الله من هذا القبيل، لا يتعلق به حكم عقائدي من كفر أو إيمان ، وإنما يتعلق به حكم فقهي من الحرمة أو الجواز، أو ما يشبه ذلك من الأحكام الفقهية.
ومن المعروف عند جمهور الفقهاء، وعلماء الأمة، وأصحاب الرأي فيها أن أسماء الله وصفاته توقيفية، بمعنى أنه لا يجوز شرعاً أن يطلق على الله اسم لم يأذن به الله ولا رسوله، فليست أسماء الله من قبيل الاجتهادات، وليست بمحل القول بالرأي فيها.
وخلاصة القول في مسألة الجوهر هذه أنه لا يجوز إطلاقها على الله بالمعنى الشائع المعروف، لأنها تثبت لله شيئاً لا يليق به، ومن قصد إلى ذلك كان كافراً.
ولا يجوز إطلاق الجوهر على الله بالمعنى الذي يقصده الفلاسفة والحكماء، لأن أسماء الله عز وجل توقيفية، ومن اجترأ على إطلاق الجوهر على الله بهذا المعنى كان آثماً .
نفي الجسمية
وبعد الحديث عن نفي الجوهر نتحدث عن نفي الجسمية فنقول: بأن الأول لا يجوز أن يكون جسماً، لأن الجسم مركب من أجزاء، وما كان مركباً من أجزاء، فإن الأجزاء فيه توجد قبل الكل التركيبي؛ ولا يجوز والحالة هذه أن نقول: بأن أي جسم من الأجسام قديم، إذ إن كل جسم مركب من أجزاء، والأجزاء سابقة في الوجود على الكل، فمفهوم القول بالجسم، ينافي مفهوم القول بالقدم، وما دام قد ثبت أن الله قديم، فإنه يستحيل بهذا المعنى أن يقال بأنه جسم.
ومن ناحية أخرى فإن القول بالجسم يستلزم أن الجسم المركب من أجزاء يحتاج أولاً إلى كل جزء من أجزائه، ويحتاج ثانياً : إلى مركب يركب هذه الأجزاء.
ومن المعروف أن هذه الأمور كلها تتنافى مع مفهوم القول بالواجب، فإن القول بالواجب يعني أنه لا يحتاج إلى غيره على أي معنى كان من معاني الاحتياج.
والشئ الغريب أننا قد وجدنا في الأوساط العلمية، ومن بين بعض المفكرين من يقول : بجواز إطلاق اسم الجسم على الله عز وجل بعد إخراجه عن المعنى المفهوم للناس.
ولقد أشار إلى هذه الفرقة الإمام الغزالي من غير أن يسميها (1).
إلا أن صاحب المواقف قد أشار إلى بعض هؤلاء الذاهبين إلى هذا الرأي قال : [ المقصد الثاني : في أنه تعالى ليس بجسم،وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم، فالكرامية : قالوا هو جسم أي موجود.
وقوم قالوا : هو جسم أي قائم بنفسه ] (2).
وأياما كانت هذه التفسيرات ، وتلك التخريجات فإن إطلاق هذا اللفظ بهذا المعنى الجديد، أو ذاك على الله عز وجل، أمر لا تقبله اللغة كما لا يقبله الموقف الشرعي على نحو ما فصلناه في الفقرة السابقة.
والأغرب من هذا الاتجاه ما وجدناه أيضاً لدى لفيف ممن يدعون العلم من جواز إطلاق لفظ الجسم على الله بمعناه المتعارف، الذي يستلزم التحيز والتركيب وغير ذلك من اللوازم التي تلزم الجسم وتصاحبه.
وذهب صاحب المواقف بحق إلى أن هذه الفكرة دخيلة على الإسلام وأهله، ولا تحسب على الإسلام، ولا تنتقص من فكر أهله، وإنما هي قد نزعها عرف إلى الفكر اليهودي، الذي يتسم بالمادية في كلياته وتفاصيله، ثم شاع الفكر اليهودي في المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات بشكل خاص، فمال إليه أهل الرأي والهوى ممن ينتسبون إلى الإسلام، وشجعهم على الأخذ بهذا الاتجاه مفكرو اليهود في المجتمع الإسلامي الذين لم يألوا جهداً في الكيد للإسلام وأهله(3).
والشئ الغريب بعد هذا البيان الذي بيناه أن نجد كثيراً من الدراسات الغربية المستحدثة التي تحسب على الإسلام أنه يتصور الذات الإلهية على أنها جسم، وأن ذلك يعتبر من صلب العقيدة الإسلامية(1).
ولسننا ننكر أن هناك نصوصا توهم بظاهرها جواز أن يكون الله جسماً، غير أن هذه النصوص يعارض ظاهرها كثرة أخرى من النصوص التي لا تجيز أن يكون الله سبحانه وتعالى كذلك.
وليس في هذا شئ من التناقض كما فهم البعض، وإنما هي وجوه مختلفة لاستعمالات اللغة.
ولذا فإن العلماء أمام النصوص الموهمة على فريقين .
فريق يرى : أنه من الممكن تتبع هذه النصوص نصاً نصاً، وبيان المراد منها على وجه الصحيح.
وفريق آخر يقول : بأنه ينبغي التوقف في تأويل هذه النصوص مع القول الجازم بأن ظاهر المعنى منها ليس مراداً.
وحجة هؤلاء أن هذه النصوص تتحدث عن ذات الله وهي فوق الأفهام والعقول.
ونحن نرى أن هذا الموقف الأخير في غاية السلامة، ومذهب رجاله على هذا النحو مذهب أولئك النفر الذين يحترمون مواقفهم العقلية، فينفون ما يحتمل العقل أن ينفيه، ويتوقفون في كل ما لا يستطيع العقل أن يقول فيه برأي.
ولقد نسب صاحب المواقف للإمام أحمد قوله تعليقاً على قوله تعالى:
" الرحمن على العرش استوى " ( الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والبحث عنها بدعة )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يجوز أن يكون واجب الوجود في مكان أو في جهة 
وهذا الحكم من أحكام الواجب مفهوم معقول لأولئك النفر الذين يدركون أن هناك فرقا في الوجود، بين وجود يكون المتصف به واجب الوجود لذاته ووجود آخر يكون المتصف به واجب الوجوه لغيره.
وهذا القول بثنائية الوجود يجعل من المحتوم أن يكون لكل نوع من نوعي الوجود أحكام تخصه وصفات يتصف بها لا يجوز أن يتصف بها النوع الآخر، وإلا لما كان للثنائية معنى يفهمه العقل، إذ أنه ليس من المعقول أن يميز العقل بين نوعين في الوجود، ثم يحكم بصفات واحدة يشترك فيها النوعان بغير تمييز.
وحين يحكم عقل من العقول بأن هناك ثنائية في الوجود، ثم يخلع على كل من نوعي الوجود صفاتاً واحدة، ويحكم عليهما بأحكام مشتركة يكون هذا العقل قد وقع في التناقض الفكري بمسلكه هذا الذي لا يقره عليه عاقل.
تلك قاعدة عامة يفهمها العاقل في هذا الموقف الذي نحن بصدده، وفي غيره من المواقف المشابهة.
وقد قررنا هذه القاعدة هنا، وذكرناها في هذا الموقف بالذات لأنه هو الموقف الذي وقع فيه الكثير من الخلط في الأحكام، وتورط الكثيرون من المفكرين في الديانات المختلفة كاليهودية وغيرها.
والعاقل لا يجيز بعقله، ولا يتحمل بمشاعره أن يتصف الأول بأنه في جهة أو مكان.
ذلك أن هذا الاتصاف في حد ذاته يمس المشاعر، ويؤذي الفؤاد، ويجرح الحس الديني، والعواطف الوجدانية الرقيقة.
ومن ناحية أخرى فإن القول بأن الواجب في جهة أو في مكان ، يضع العقل السليم أمام لون من الإعضال الفكري، بل ألوان من المصاعب لا يمكنه الفكاك منها، ما دام يقول بأن الواجب في جهة أو في مكان.
ومن هذه المعضلات الفكرية أن مسألة الجهات والأماكن من قبيل المسائل النسبية.
فجهة فوق تكون بالنسبة لما يلي رأس الإنسان ، وجهة تحت أو أسفل تكون بالنسبة لما يلي قدمي الإنسان مثلاً. ونقول مثل ذلك بالنسبة للجهات الأربع الباقية ( يمين ، ويسار، وأمام ، وخلف ).
وإذا كانت الجهات نسبية فهي لا تتحدد إلا بالنسبة إلى شئ ما، والأشياء كلها حادثة، والأول قديم.
فمن يجيز لنفسه أن يصف الأول بأنه في جهة، هل يقول بأن اختصاص الواجب بجهة أمر حادث بحدوث الأشياء فيلزم عليه القول بالتغير في ذات الله؟! أم أنه يقول بأن وجود الأول في جهة، واختصاصه بهذه الجهة قديم من قبل أن توجد الجهات ؟!
ومن المعضلات الفكرية التي تلزم على القول بأن الواجب في جهة أو في مكان أن الجهات والأماكن بالنسبة لمن يختص بها متساوية، فاختصاص الموجود بمكان أو جهة يحتاج إلى مخصص يخصص الموجود بجهة أو مكان على سائر الجهات والأماكن، والاحتياج أمارة الحدوث، وآية النقص في الموجود، وقد تقرر سلفاً أن واجب الوجود هو الموجود الأكمل الذي لا يوجد من هو أكمل منه.
على أن المتأمل في معنى الجهة، ومعنى أن يكون الموجود في جهة، يجد أن جميع المعاني المحتملة تتنافى مع حقيقة الواجب.
ذلك أن معنى وجود الشئ في جهة أنه قد اختص بها والاختصاص لا يخرج عن أحد احتمالين :
[ أحدهما : أنه يختص به بحيث يمنع مثله من أن يوجد حيث هو، وهذا هو الجوهر.
والآخر: أن يكون حالاً في الجوهر فإنه قد يقال إنه في جهة ولكن بطريق التبعية للجوهر فليس كون العرض في جهة ككون الجوهر بل الجهة للجوهر أولى، والعرض بطريق التبعية فهذان وجهان معقولان في الاختصاص بالجهة(1).
ونحن لا نفهم للاختصاص بالجهات معنى آخر فوق هذين المعنيين.
وقد ظهر لنا بأن المتحيز بالمعنى الأول جوهر، والمتحيز بالمعنى الثاني عرض.
والأعراض والجواهر حادثة كما تبين، والواجب بخلاف ذلك.
وعليه فإن معنى التحيز والاختصاص بالجهة يمنع بذاته أن يكون الأول متحيزاً في جهة.
وقد يحتمل العقل أن يكابر مكابر فيقول : إن لديه معنى آخر للتحيز والاختصاص بالجهة فوق هذين المعنيين بحيث يليق بذاته تعالى.
قد يحتمل العقل ذلك على أنه افتراض نظري لا صلة له بالواقع العملي، وعملية الافتراض تحتمل أشياء كثيرة غير أن الواقع لا يحتمل إلا ما يمكن تحقيقه فيه.
ولو أننا فتحنا هذا الباب، وتركنا لكل عقل أن يحتمل من الافتراضات ما لا يعرب عنه لأوقعتنا كثرة الاحتمالات المستورة، التي لا يعرب عنها أصحابها في بلبلة فكرية، وحيرة منطقية.
نحن إذا محكومون بحدود الدلالات المختلفة للألفاظ، والتي يعرفها العلماء ويدركونها، ولسنا مطالبين بالجري وراء الاحتمالات التي توقعنا في الأوهام.
وننتهي إلى القول بأن الواجب لا يجوز أن يكون في مكان أو جهة، لأننا إذا أجزنا على الواجب أن يختص بجهة أو مكان، لأوقعنا ذلك في بيداء التناقض الفكري الرهيب، وعرضنا إلى جرح المشاعر، وإيلام الوجدان الذين لا يحتملهما عاقل.
وكنا نظن أن هذه المسألة من قبيل البديهيات أو تقرب منها، بحيث لا يختلف على هذا الحكم من أحكام الواجب قاص أو داني، ولا يضار بها عالم ولا غيره.
غير أننا رأينا فرقاً تنتسب إلى أهل العلم يصفون الله بأنه في جهة، ويجوزون ما يترتب على هذا الوصف من أوصاف أخرى تجعل الحق شبيهاً بخلقه، وتقربه من الموجودات الحادثة.
وسمى هؤلاء الطوائف باسم المشبهة لظهور التشبيه فيما صرحوا به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الله تعالى منزه عن الزمان والمكان 
الجهة والمكان والزمان 
        قلنا فيما سبق أنه انتشرت في عصرنا مفاهيم خاطئة حول تفسير وفهم النصوص التي تتحدث عن الذات الإلهية المقدسة وكان السبب الرئيسي في ذلك اعتماد الخيال والوهم مصدراً للعقيدة والديانة، فتم قياس الغائب على الشاهد فأثبتوا لله حيزاً يشغله ومكانا يحويه مع إقرارهم بأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فوقعوا في التناقض والاضطراب.
وكان من عمدتهم في إثبات المكان لله سبحانه: تفسيرهم الخاطئ للآية الكريمة الرحمن على العرش استوى ( ) ، وأخواتها من الآيات  ...ثم استوى العرش... ( ) ، وهن سبع آيات في القرآن الكريم، كان ذلك مع وجود التفسيرات العديدة اللائقة بذات الله سبحانه والمتفقة مع تنزيهه، والمؤيدة بالقرائن والدلائل في نفس سياق الآيات، إضافة إلى آيات التنزيه العامة القاطعة  ليس كمثله شيء( )  ...ولم يكن له كفواً أحد  الإخلاص آية (4).
لذا قدمنا هذه الكلمات في إيضاح هذا المفهوم، فنقول مستعينين بالله سبحانه.
المكان 
يطلق المكان على: الحيز الذي فيه الجسم والمحدود بأطراف الجسم أما في الاصطلاح فيقول البيجوري: « والمكان عند أهل السنة هو: الفراغ الموهوم » أ هـ.
        أي الفراغ الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده، وسماه موهوما لأنه لا يوجد إلا في الوهم بعد أن يتخيله العقل بدون وجود الجسم فيه.
وفيه أقوال: متقاربة
أحدها: أنه السطح الباطن للجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوِىّ عليه، كالسطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظاهر من الماء الذي فيه.
قال الراغب: المكان عند أهل اللغة: (الموضوع الحاوي للشيء).
الثاني: أنه الأبعاد التي بين غايات الجسم.
الثالث: أنه بعد مفروض مقدر.
الرابع: أن المكان هو الخلاء، وهو رأي علماء الكلام.
ذكر هذه الأقوال الأربعة الزركشي في شرحه على جمع الجوامع ونقلناها عنه باختصار.
فالمكان بهذا مستحيل في حق الله سبحانه، لأنه لو كان له مكان لكان جسما، ولكان مماثلا لمخلوقاته وهذا محال  ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ،  ولم يكن له كفواً أحد .
ويلاحظ أن نفي المكان يستلزم نفي الحدود عن ذات الله تعالى وكذا نفي الجهة.
ومن المعلوم أنه عز وجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما –أعني الزمان والمكان- مخلوقان، وبالضرورة أن من هو في مكان فهو محيط به ويكون مقدراً ومحدوداً، وهو سبحانه وتعالى منزه عن التقدير والتحديد، وعن أن يحويه شيء وأن يحدث له صفه، تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علواً كبيراً.
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (المعتمد): أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان.
فإن قيل يلزم من نفي المكان نفي الجهات ونفيها يُحيل وجوده؟
فالجواب:- وأيضاً إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلَّم، فأما إذا لم يقبلهما فليس خُلُوّه من طريقي النقيض بمحال، ويوضح هذا أنك لو قلت: كل موجود لا يخلو أن يكون عالماً أو جاهلاً قلنا: إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم، فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلاً فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل، ونحن نُنَزِّه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزه نفسه عن كل ما يدل على الحدوث، وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وَهْم ولا يتخيَّله خيال، والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات، وتعالى عن ذلك.
الزمان 
        يقول الإمام فخر الدين الرازي:
"قوله تعالى  قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ( ) وهذا مشهر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى.
وقوله  وله ما سكن في الليل والنهار ( ) من سورة الأنعام وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك الله تعالى.
ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيان والزمان والرمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله في تفسيره"
أ.هـ. من أساس التقديس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:14 pm

صفتا القدم والبقاء

القِدَمُ:
        بما أن اللـه تعالى واجب الوجود فلا يتصف بأنه في زمان أو في مكان، وذلك لأن الزمان مركب من وحدات أو يقدر بالإضافة إلى وحدات مركبة، وليس الزمان موجودا بذاته، ولو كان موجودا بذاته لكان مركبا، وكل ما كان هذا شأنه فيستحيل أن يكون صفة للخالق الواجب الوجود، ويستحيل نسبة الخالق إليه أو نسبته إلى الخالق بأي شكل من الأشكال غير كونه مخلوقا للـه عز وجل.
        والزمان في الحقيقة هو أمر اعتباري يقدر وجوده بملاحظة المتغيرات الخارجية، فلا يوصف بالزمان، إلا ما يلاحظ في وجوده وحقيقته تغير ما، والله تعالى يستحيل في حقه التغير من صفة إلى أخرى، فلا يصح إثبات الزمان لذاته.
        فاللـه موجود ليس لوجوده بداية، لأنه قديم بالذات. ولا ابتداء لوجوده لأنه يمتنع أن يسبق في وجوده بعدم.
والقِدَمُ عبارة عن عدم الأولية للوجود، لئلا يلزم حدوثه، ومن لازم الحدوث الافتقار إلى محدث ويلزم التسلسل، وهو محال. فيصبح حقيقة القدم اللازمة عن نفي الأولية هو استغناء الموجود عن غيره في وجوده. وهو معنى وجوب الوجود.
        وقد تصور بعض الناس أن وجود اللـه تعالى زماني بمعنى أن التغيرات لا تزال تطرأ عليه، ويعتبرون هذا صفة كمال، وهؤلاء هم المجسمة، وتَنْزِعُ الفلسفة البراغماتيّة (العملية النفعية) إلى هذا التصور. بل يتصور هؤلاء جميعا أن اللـه تعالى ينفعل بما نفعلـه ويستفيد من عبادتنا لـه تعالى عن ذلك.
        فاللـه تعالى كامل الوجود كمالا مطلقا، لا يحتاج في ذاته إلى غيره، بل كل ما سواه فهو فقير إليه تعالى.
واللـه تعالى لا يجوز أن يقال إنَّهُ في زمان كما قال ابن تيمية والبراغماتيّة، وزاد ابن تيميّة عليهم أن المخلوقات لم تزل موجودة، ولم يوجد اللـه تعالى قط في زمان إلا ومعه مخلوق من مخلوقاته، وهذه الفكرة هي المسماة بالقدم النوعي للعالم( ). وهي فكرة باطلة، فالمخلوقات كلـها حادثة لـها أول، واللـه تعالى لا أول لـه كما ذكرنا.
        وحاصل المعنى أنه يجب على المكلف اعتقاد أن اللـه تعالى قديم لم يسبق بعدمِ نفسه ولا بغيرِهِ، والمراد بالقدم هنا القِدَمُ الذاتي لأنه المختص به تعالى لرجوعه إلى وجوب الوجود، فهو صفة نفسية، وأما القدم الزماني المشار إليه فليس بمراد، فهو عبارة عن مرور الأزمنة على الشيء مع بقائه وهو محال على اللـه تعالى، لأن الله يتقدس عن الزمان كما يتقدس عن المكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البقاءُ:
        لما ثبت أن اللـه تعالى قديم بمعنى أنه تعالى واجب الوجود، لزم أن يثبت لـه تعالى أنه واجب البقاء، لأن المسلّمة العقلية تنص على أن ما كان لا أول لـه، فهو لا نهاية لـه. لأنَّ الأوَّليِّةَ والنِّهاية نَقْصٌ، وكلٌّ مِنْهُما لا يَرِدُ على من ثبت أنه واجب الوجود بالذات. فكل ما ثبت قدمه استحال عدمه.
        ودليل هذا أنه لو قُدِّرَ لُحُوقُ العَدَمِ لـه تعالى، لكانت نسبة الوجود والعدم إلى ذاته تعالى سواء، فيلزم افتقار وجوده إلى موجد يخترعه بدلا عن العدم الجائز عليه، فيكون حادثا. وهو باطل فينتج أن الفرض الأول باطل؛ وكيف يصح ذلك وقد تقرر أن اللـه تعالى واجب الوجود؟! والحاصل: أنه يجب على المكلف اعتقاد أن اللـه تعالى باق لا يلحقه عدم، لأن البقاء عدم انتهاء الوجود، أو نفي العدم اللاحق للوجود. وقد قال تعالى: *(هو الأول والآخر)؛ والأول هو القديم بالذات والآخر هو الباقي. فليس لأوليته تعالى ابتداء ولا لآخريتّه تعالى انقضاء، أي ليس لسبقه على جميع المخلوقات ابتداء، ولا لبقائه بعد فناء الخلق انتهاء.
        وهذا بخلاف أولية المخلوقات، فان كل أول منها لـه آخر. إلا الجنة والنار وأهلـهما خلافا للبعض؛ فقد قال: الجنة لـها أول وليس لـها آخر، ولا لأهلـها كذلك، أما النار فلـها أول ولـها آخر ولأهلـها كذلك. وهذا الكلام باطل تردّه النصوص الدينية من قرآن وسنة، ويردُّه إجماع الأمة على عدم فناء الجنة والنار معاً لا الجنة فقط. وأنا أستغْرِبُ كيف يجرؤ على هذا القول من دون أدلة قوية يعتمد عليها إلاّ خيالات ضعيفة، وكلمات واهية. وقد تكفل علماء الإسلام بالرد عليه، ولم يؤيّده حتّى أصحابه ومتّبعو مذهبه في هذا الزّمان.






معنى الإستواء وآيات الإستواء

الاستواء في اللغة على وجوه
1- بمعنى استقر( ): ومنه قوله تعالى: { واستوت على الجودي (} )[هود44] وهذه صفة المخلوق الحادث، كقوله تعالى:  {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهره}[الزخرف 13] ( ) وهو نزه نفسه عن ذلك في كتابه العزيز بآت التنزيه ونفي التشبيه والتمثيل.
2- ومنها القصد إلى الشيء: ومنه قوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء}  الآية 11 من سورة فصلت قصد خلقها.
ويكون المعنى كما بينه الإمام أبو نصر عبد الرحيم القشيري:  ثم استوى على العرش: على تأويله الاستواء بالقصد قول الشاعر:

ثم استويتم لنا ترمون انكبنا بغيا وفي البغي إن لم ينتهوا النكل.


        قال الإمام الزركشي في (البرهان في علوم القرآن):  قال الأستاذ والصواب ما قاله الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني أن معنى قوله (استوى) أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه فسماه استواء كقوله { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } أي قصد وعمد إلى خلق السماء فكذا هاهنا قال: وهذا القول مرضى عند العلماء ليس فيه تعطيل ولا تشبيه .
الأستاذ المشار إليه في النقل السابق هو إسماعيل الضرير المفسر المقرئ المحدث.
قلت: قد ذكر العلامة الخضر: الشنقيطي أيضاً أن (على) تأتي بمعنى (الباء) وبمعنى (إلى) ثم قال:  وحروف الجر وتعاقبها في كلام العرب غير محصور ( ) أهـ
3- ومنها إتمام الشيء: ومنه قوله تعالى:  {ولما بلغ أشده واستوى }القصص 14( ) ويكون معنى قوله تعالى { على العرش استوى} : استتم خَلْقه بالعرش فلم يخلق خارج العرش شيئاً وجميع ما خلق ويخلق دنيا وأخرى لا يخرج عن دائرة العرش لأنه حاو لجميع الكائنات ومع ذلك فلا يزن في مقدوراته تعالى ذرة فأني يكون مستَقَراً قال تعالى {ولما بلغ أشده واستوى } وقال { كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه }الفتح 29( )
        فعلى هذا التقدير يكون فاعل (استوى) ضميراً عائداً على المصدر المفهوم من لفظ (خلق) في أول كل آية من الآيات الست أما الآية السابعة  {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش }الرعد2( )
وهذا جائز لغة قال تعالى {...على أن لا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى}المائدة 8 ( ) فالضمير  هو  يعود على العدل المفهوم من فعل الأمر أعدلوا.
و  على  بمعنى الباء في قوله تعالى { على العرش } فيكون المعنى: استتم واستكمل الخلق بالعرش فلم يخلق شيئاً فوق العرش وإتيان  على  بمعنى (الباء) وارد في كتاب الله تعالى  {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق }( ) فقوله {على أن } هنا معناه  بأن  وقد قرئ في بعض القراءات { حقيق بي } ذكر هذا التأويل الإمام أبو طاهر القزويني ونقله عنه العلامة محمد الخضر الشنقيطي في (استحالة المعية بالذات)( ) وقال عنه أنه من أحسن التأويلات ومخرج من كل شبهة واردة. ونقله وارتضاه أيضاً الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) واختاره وارتضاه دون سواه ابن حزم رحمه الله في كتابه (الفصل).
4- التأويل الرابع : الاستعارة التمثيلية
الاستعارة التمثيلية – كما يقول علماء البيان – "تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة معناه الأصلي" وكما هو معلوم فليس هناك قرينة أقوى من تنزيه الله سبحانه عن الجسمية ولوازمها.
وفي مسألتنا هذه – الاستواء – يكون التأويل بأن يشبه شأنه تعالى في تدبيره لأمر ملكه ونفاذ سلطانه على كافة خلقه بحال الملك العظيم المستوي على عرش مملكته النافذ السلطان على كل من فيها، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
وهذا يعد من أقوى النأويلات في مسألة الاستواء
ومن أمثلة الاستعارة التمثيلية ما يقال لمن يأتي بالقول الفصل:
(قطعت جهيزة قول كل خطيب) من غير أن يكون هناك جهيزة ولا خطيب وإنما هو تشبيه حال بحال
أو كقول أحدهم لمن رآه يعزم على الأمر مرة ويعدل عن عزمه أخرى: (مالي أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى؟!) ولا رجل هناك ولا تقديم لها ولاتأخير، وإنما هو معنى الإقدام والإحجام أورد في هذه الصورة الحسية، وكذا يقال (استوى على عرش المملكة الفلانية) إذا تولى ملكها، ويقال (ثل عرشه) إذا زال عنه الملك.
وكثر ذلك حتى أصبح لا يكاد يلتفت الذهن إلى المعنى الأصلي الأول المنقول منه، فإذا سمع العربي:
(استوى فلان على عرش العراق أو على عرش مصر) لم يخطر بباله قعود على عرش ولا جلوس على سرير بل يسبق فهمه إلى المراد بهذا التركيب....
5- التأويل الخامس: الاستواء هو الاعتدال
يقول د. إبراهيم عبد الرحمن: أن يكون من الإعتدال بمعنى القيام بالعدل في الخلق والتدبير أ.هـ يقول الإمام ابن اللبان:  قد قررنا (استوى) افتعل من السواء وأصله (العدل) وحقيقة الاستواء المنسوب إلى ربنا في كتابه بمعنى العدل، أي: أقام العدل
وأصله من قوله تعالى  شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط .
والعدل هو استواؤه ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزوناً بحكمته للتعرف إلى خلقه بوحدانيته ولذلك قرنه بقوله { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } والاستواء المذكور في كتابه استواءان: استواء سماوي، واستواء عرشي...  إلى أن قال:
 وأما الاستواء العرشي فهو أنه تعالى قام بالقسط معَترَفاً بوحدانيته في عالمين: عالم الخلق وعالم الأمر وهو عالم التدبير ألا له الخلق والأمر فكان استواؤه للتدبير بعد انتقاء عالم الخلق لقوله { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} وبهذا تم سِرُّ تعدية الاستواء العرشي بعلى لأن التدبير للأمر لابد فيه من استعلاء واستيلاء أ.هـ المقصود منه( ) ص41.رد الآيات المحكمات إلى المتشابهات





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:15 pm

التجسيم والتشبيه


ليس كمثله شيء

        مخالفة الذات الإلهية لغيرها من المحدثات ظاهرة، والبداهة تقضي بأن بين المخلوق والخالق أمدا بعيدا، وان الخالق لا يشبه شيئا من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته.
وقد وصف الله عز وجل نفسه بصفات كثيرة، من الصعب إدراك حقيقتها على النحو الذي ندرك به أمورنا المعتادة، بل هذا مستحيل!
من أين للتافه أن يعرف كنه العظيم؟
        إن النملة لا تعرف حقيقة الإنسان، فحدود عالمها الذي تعيش فيه تقفها دون ذلك. والطفل –في المرحلة الأولى من عمره- لا يعرف ما هي الرجولة، ولا ما يصحبها من سعة عقل، واستحكام إدراك.
بل إن الإنسان عاجز عن إدراك حقيقة الوجود المادي الذي يعيش فيه، فكيف يعرف ما وراءه من غيوب؟
إذا قيل: أن الله يسمع، فليس ذاك بأذن كآذاننا. أو يرى، فليس ذلك بعين كأعيننا. وإذا قيل: انه بنى السماء، فليس على النحو المألوف من تكليف فعلة واستحضار أدوات. وإذا قيل: يده فوق أيدينا، فليس الوصف لجارحة كأعضائنا. والذي نوقن به ابتداء، أن صفات المحدثين وأحوالهم لا يجوز أن تنسب إلى الله، فهو –سبحانه وتعالى- غير مخلوقاته.
وشأن الألوهية أسمى مما تتصور الأذهان الكليلة والعقول القاصرة.
        وقد وردت في الوحي الكريم كلمات عن الوجه، واليدين، والأعين والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء، والقرب من العباد..الخ، حاول كثير من المسلمين استكناه دلالتها واستكشاف حقيقتها، فلم يرجعوا إلا بالحيرة، حتى قال قائلهم.
نهاية إقدام العقول عقال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
وكم من جبال قد علا شرفاتها

وآخر سعي العالمين ضلال !
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا !
رجال فبادوا والجبال جبال!


ولا غرو فان البحث عبث فيما لا يملك المرء وسائل الخوض فيه.

        إن الكيميائي قد يعرف خواص سائل أو غاز يقلبه تحت يده، ويجري عليه ما شاء من تجارب – فكيف يجوز للعباد أن يتدخلوا بالبحث النظري في شأن الألوهية لينكروا أو ليثبتوا؟ وشأن الألوهية بالنسبة إليهم عزيز المنال، والحق يقول- في كلامه عن ذاته وصفاته- : (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران:7).
        وعلى ذلك فكل ما قطعنا بثبوته في كتاب الله وسنة رسوله مما وصف الله به نفسه وأسنده إلى ذاته؛ قبلناه على العين والرأس، لا نتعسف له تأويلا ولا نقصد به تجسيما ولا تشبيها، ويحتاج الكلام في هذا الموضوع إلى زياد بيان:
إن اللغات من وضع الناس على مر الزمان. فنحن العرب وضعنا كلمة "أذن" مثلا لهذا التجويف أيمن الوجه أو أيسره الذي نسمع عن طريقه الأصوات و نتبين الكلمات..
وقد وضع غيرنا من أبناء اللغات الأخرى كلمات تدل على هذه الحاسة غير الكلمة المتداولة بيننا، والمهم أن هذه الألفاظ الموضوعة استحدثها الناس لمفاهيم مادية أو معنوية مارسوها وألفوها، ومن هنا فالمجيء بهذه الكلمات للدلالة على أمور مغيبة ليس إلا من قبيل التقريب للذهن، ولا يمكن أن تكون هذه العبارات التي صنعناها نحن بيانا للمحسوسات أو المعقولات المأنوسة لنا في عالمنا –وصفا حقيقيا لعالم ما وراء المادة.
        على ضوء هذا الملحظ نفهم حديث أي لغة عن الله جل شأنه وعن صفاته العليا، إن الأمر لا يعدو تقريب الحقائق المطلقة لوعينا المحدود. والله اكبر من أن تحيط بعظمته عقولنا. أو تستوعب كمالاته أقدارنا. ولغات البشر اجمع قوالب صالحة لما يدور في حياتهم من تفاهم، ولكتها دون ما ينبغي لذات الله من تجلية وإدراك.
        وقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم على ذلك. ولكن اختلفت مناهجهم في التنزيه والتمجيد. فمنهم من وقف عند ظاهر النص. ولكنه قال: ليس هذا الظاهر على ما نألف في فهمنا المادي للأمور. ومنهم من قال: أن هذا الظاهر ليس مرادا والمقصود كذا .. والهدف واحد تقريبا. إذا جاء في القرآن الكريم مثلا: (ولتصنع على عيني) قال الأولون: إن له عينا ليست كأعيننا. وقال الآخرون: إنما هي الرعاية والحفظ..
كلا الفريقين يوافق الآخر على تنزيه الله ونفي شبهة بالحوادث، ولكن أسلوب التنزيه عند هذا غيره ذاك.
وكنت أود لو كف المسلمون الأوائل عن خوض معارك الجدل في الموضوع، أو لو استبان بعضهم وجهة نظر الآخر بدقة.
وأنا شخصيا أوثر مذهب السلف. وارفض أن يشتغل العقل الإسلامي بالبحث المضني فيما وراء المادة. وارتضى قبول الآيات والأحاديث التي تضمنت أوصافا لله جل شأنه دون تأويل.
ولئن كنا نسلك هذا المسلك في تقديس الذات ونسبة الصفات، إننا لا نحب أن نتخذ منه ذريعة لتكفير من قصدوا إلى تنزيه الله عن طريق التأويل، وصرف الآثار الواردة إلى المجاز لا إلى الحقيقة.
        فان الذين اوّلوا فعلوا ذلك خشية أن يؤول أمر الألوهية إلى مثل ما عليه اليهود والنصارى، من تجسيم زري، وأحوال مضحكة.
        إن التوراة تحكي: أن صراعا نشب بين الرب ويعقوب، لم يفلت منه الرب إلا بصعوبة، وبعدها قدم ليعقوب لقبه المعروف "إسرائيل"! وكلام الإنجيل عن الله يخيل إليك أنه رب أسرة من والد ووالدة!
فجنوح المؤولين –عندنا- إلى المجاز، قد يكون هناك ما يُعْتَذر به عنهم. بيد أننا لاحظنا أن هذا التنزيه والتأويل والانصراف الدائم عن الحقيقة إلى المجاز قد جنى على اصل الإيمان لدى جمهور العامة، وجعل فكرتهم غامضة عن إله: لا هو في السماء ولا هو في الأرض، ليست له يد، ولا عين، ولا وجه، لا يوصف بفرح ولا رحمة ولا ضحك، ولا ولا، مما وصف به نفسه.
        والخطة المثلى أن نتقبل ما ورد به الشرع، و ألا نتكلف علم ما لم نطالب بعلمه مما يدق عن الافهام. وهناك فرق بين أن يحكم العقل باستحالة شيء وبين أن يعلن عجزه عن فهم شيء. فالعقل يحكم بأن اجتماع النقيضين مستحيل.
فالضوء –مثلا- لا يكون موجودا وغير موجود في وقت واحد. ولكن العقل الذي يحكم باستحالة هذا، يعجز عن فهم حقيقة الضوء. ما هي؟ وما كنهها ؟ وما انتقالها بهذه السرعة الهائلة؟
        وهذا العجز الظاهر لا يمس حقيقة الضوء، ولا يمس وجودها. فعدم علمك بشيء، ليس علما بعدم ذلك الشيء.
وللأستاذ عبد الكريم الخطيب كلام في هذا الموضوع ننقله إتماما للفائدة.. قال: والذات الإلهية ليست ذاتا مبهمة مجهلة. كما أنها ليست محدودة مجسدة. هي "ذات" لا كالذوات التي يراها الحس أو يتخيلها الوهم، لأنها لو وقعت في دائرة الخيال –مهما امتد واتسع- كانت بهذا المعنى محددة ومقيدة..
وذات الله _ مع أنها فوق أن تدرك وفوق أن تحد _ قد وصفت في القرآن بصفات كثيرة كالإرادة ، والقدرة، وغيرها . وهى صفات كاملة الكمال المطلق.
ومع هذا فلا بد أن تضاف إلى " ذات " كما تضاف مثل هذه الصفات وغيرها إلى ذواتنا . مع الفارق البعيد بين كمالها في ذات الإله ، ونقصها في الإنسان !
جاء في القرآن الكريم كثير من هذه الآيات التي تضيف إلى الله صفات عاملة في الوجود . كقوله تعالى في أول ما نزل من الكتاب : (اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) "العلق : 5:1 ".
ففي الآيات تعريف بذات الله . وأنها تخلق وتعلم.
        وكقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة:185) فالله سبحانه وتعالى مريد.وبإرادته تتعلق مصاير الأمور. وكقوله جل شأنه: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى. وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) (الرعد: 8-9).
فالله في هذه الآيات يعلم وهو حكيم... وكل شيء عنده بمقدار، وقد وصف نفسه بأنه الكبير المتعال. وكقوله سبحانه: (الله لطيف بعباده، يرزق من يشاء وهو القوي العزيز) (الشورى:19) فالله لطيف. وقوي. وعزيز.
        وكقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة:1). فذات الإله تسمع كل شيء، وترى كل شيء.
ويقول جل شأنه: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء. لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (آل عمران:5-6)
وأكثر فواصل القرآن تنتهي بصفة من صفات الله تعالى. أو المزاوجة بين صفتين من صفاته. فمن النوع الأول قوله تعالى: (إن الله كان بكل شيء عليما) (النساء:126).
ومن النوع الثاني وهو الأعم قوله تعالى: (وكان الله غفورا رحيما) (النساء:96)، (إن الله كان عليا كبيرا) (النساء:34)، (والله واسع عليم) (البقرة:247)، (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (آل عمران:18) ، (انه كان بعباده خبيرا بصيرا) (الإسراء:30).
        ولا شك أن هذه الصفات –كما قلنا- كلما ذكرت ذكر معها "ذات" تعمل في الوجود بهذه الصفات. وان تلك الصفات لابد أن تضاف إلى ذات تقوم بها. وأكثر من هذا، فقد جاء في القرآن آيات تذكر "للذات" يدا، وعينا، ويدين، وأعينا كقوله تعالى: (ولتصنع على عيني) (طه:39). وقوله: (يد الله فوق أيديهم) (الفتح:1) وقوله: (وقالت اليهود يد الله مغلولة. غلت أيديهم. ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (المائدة:64). وقوله: (واصنع الفلك بأعيننا) (هود:37).
        كذلك ورد في السنة المطهرة أحاديث تذهب هذا المذهب، كقول الرسول الكريم: "خلق ادم على صورة الرحمن" وقوله (صل الله عليه وسلم): "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فيها. فتقول: قط، قط (كفى كفى) وعزتك. فيزوي بعضها إلى بعض" وقوله: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفه كيف يشاء!!".
        فهذه الآيات وأمثالها لا يمكن أن يقراها قارئ أو يستمع إليها مستمع دون أن تتحرك في ذهنه صور لهذه الصفات، وان يكون لهذه الصفات متعلق بأي "ذات" تفيض عنها..!
        قال: ويصح لنا أن نسأل: أكل ما ذكر عن ذاته وصفاته في كتاب الله، وفي حديث الرسول (صل الله عليه وسلم) من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى سؤال أبدا؟
ونستطيع أن نقول في الإجابة على ذلك: نعم.
فإن مفهوم الألوهية حين يعرف الإنسان الطريق إليه، وحين يتلقاه بقلبه ويستقبله بفطرته – لواضح اشد الوضوح. إذ هو الكمال المطلق الذي يسمح للإنسان أن ينطلق إلى ما لا نهاية في السمو والارتفاع بمقام الذات .. وكلما انتهى إلى غاية مد بصره إلى غيرها وهكذا أبدا. (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11).
وفي هذا "المفهوم" عاش الصحابة والتابعون –رضوان الله عليهم- لا يسألون: ما يد الله؟. وما عينه؟. وما قدرته؟. وما علمه؟.
فلقد هدوا بفطرتهم إلا جواب لهذه الأسئلة إلا ما يجده المرء في قلبه وفي كيانه كله، من تقديس الله وجلاله، ونسبة الكمال المطلق كله إليه!
ولقد هدوا بفطرتهم أيضا إلى أن العقل لا يستطيع أن يدرك كنه صفة من هذه الصفات. ولا أن يمسك بها على أية صورة. فان أية صورة لن تكون هي أبدا ما دام الكمال المطلق هو صفتها.
        و "الله" الذي جاء القرآن ليدل الناس عليه، ويعرفهم به ويدعوهم إلى إفراده بالوحدانية واختصاصه بالعبادة –هذا الإله لابد أن يكون له مفهوم في عقول الناس حتى يعرفوه، وحتى يأنسوا به، وينظروا إليه فيما يأخذون أو يدعون من أمره ونهيه.
ومن هنا كان لابد أن تقيم الشريعة الإسلامية (مفهوما) للإله في عقول الناس كي يكون (الله) حقيقة يؤمنون بها، ويتعاملون معها.
فما المفهوم الذي جاء به القرآن لذات الإله؟ اهو مادي؟ اهو معنوي؟ وهل هو محدود أو مطلق؟
لقد كان صنيع الإسلام في هذا الأمر الخطير آية الآيات ومعجزة المعجزات الدالة على صدق الرسالة المحمدية، وعلى أنها متلقاة من احكم الحاكمين رب العالمين! وننظر فنرى عجبا عجابا .. حكمة بالغة، وتدبيرا محكما.
        فأولا: لم يكن مفهوم الألوهية –في شريعة الإسلام- مفهوما ماديا. لأنه لو كان كذلك لتجسد الإله. ولو تجسد لتحدد. ولو تحدد لوقع في دائرة الحس وفي محيط النظر. ولأصبح شيئا من الأشياء.. يحوي مكان وتفرغ منه أمكنة، ويراه خلق ويغيب عن خلق. وذلك مما يذهب بجلال الذات، وينزل قدرها، ويسقط من هيبته.
إن اكبر شيء نراه، ونرى امتداد سلطانه في الوجود هو (الشمس) وقد كانت لهذا إله الآلهة في وقت من الأوقات.
ولكن العقل الرشيد لا يقبل أن يكون الإله محيزا، يحضر ويغيب. وهذا إبراهيم عليه السلام وقد نظر إلى النجم، ثم إلى القمر.. فلما أفلا قال: ( لا أحب الآفلين) . والحب هنا إجلال وتقديس. ثم نظر إلى الشمس، فلما افلت التمس الإله في وقت غير الكواكب والشموس... (فلما رأى الشمس بازغة. قال:هذا ربي.. هذا اكبر.. فلما أفلت قال: يا قوم ، إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين) (الأنعام:78-79).
ثانيا: لم يرتض الإسلام أن يكون مفهوم الإله أمرا "معنويا" وفكرة مجردة مطلقة لا يدل عليها وصف، ولا يدرك لها واقع تتجلى فيه. فإنها لو كانت كذلك لما امسك بها عقل، ولا اطمأن إليها قلب، ولما وجد الإنسان لمثل هذه الفكرة المجردة أثرا يعمل في كيانه، ويؤثر في سلوكه..
ومن اجل هذا لم يكن مفهوم الإله –في شريعة الإسلام- هذا أو ذاك، لم يكن شيئا ماديا، كما لم يكن فكرة مجردة.
وإنما اختار الإسلام لمفهوم الإله –في أذهان البشر- مقاما وسطا بين هذين، بين التجسيد والتجريد. فحيث ينظر الإنسان إلى الله في القرآن الكريم يجد "الله" سميعا، بصيرا، عالما، قادرا، حكيما، مريدا، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، قائم على الملك. مستو على عرشه، والملائكة حافون من حول العرش لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وهذا من شأنه أن يخيل للإنسان صورا ما "للذات".
ثم ينظر المسلم في كتاب الله فيرى "الله" "ليس كمثله شيء"..
        ويعمل هذا المفهوم عمله في تفكير الإنسان، فتأخذ تلك المفاهيم التي كانت قد بدأت تتشكل وتتجسد –تأخذ في "الذوبان" كما تذوب صخور الثلج في عباب المحيط.
ذلك –في إيجاز- هو الذي يقع في إدراكي للمفهوم الذي أراد القرآن أن يقيمه في عقول الناس وقلوبهم.. وذلك المفهوم ضروري –كما قلنا- لكي نستشعر "الذات" ونتجه إليها ونرفع لها صلواتنا ودعواتنا..
أما حقيقة هذه الذات العظمى فأمر وراء ما نتصور..
ولكن لما لم يكن بد من أن نتصور فقد أسعفنا القرآن الكريم بالقدر الضروري الذي يسد حاجتنا في هذا المقام فجعل للإله مفهوما غير مجسد "ذاتا" لها العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الكمال التي تليق برب العالمين..
الله ذات .. ولكن ليس كمثله شيء!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث توهم التجسيم والتشبيه :


أحاديث الصورة:
        " عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن أناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم  : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صل الله عليه وسلم  :" هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا : لا يا رسول الله . قال : فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ..."الى أن قال:" فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم , فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ... " الحديث
قال النووي في شرحه لهذا الحديث:قوله صل الله عليه وسلم  : ( فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ... فيتبعونه )
أعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين : أحدهما وهو مذهب معظم السلف أو كلهم , انه لا يتكلم في معناها بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزه عن التجسيم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم والقول الثاني وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها حسب مواقعها وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ذا رياضة في العلم.


        وأما قوله صل الله عليه وسلم : ( فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ) فالمراد بالصورة هنا الصفة ومعناه فيتجلى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم يرونه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته وقد علموا انه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون أنت ربنا وإنما عبر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام. أ.هـ
نقل الإمام البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن الإمام الحافظ أبى سليمان الخطابي أنه قال: وأما ذكر الصورة في هذه القصة فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وصفاته منفية وقد يتأول معناها على وجهين (أحدهما) أن تكون الصورة بمعنى الصفة كقول القائل صورة هذا الأمر كذا وكذا , يريد صفته فتوضع الصورة موضع الصفة ( والوجه الأخر ) أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صور وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوها، ثم لما عطف عليها ذكر الله سبحانه خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة )
        فقيل يأتيهم الله في صورة كذا إذ كانت المذكورات قبله صورا وأجساماً وقد يحمل آخر الكلام على أوله في اللفظ ويعطف بأحد الاسمين على الأخر والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم كالعمرين والأسودين والعصرين , ومثله في الكلام كثير ومما يؤكد التأويل الأول وهو " أن معنى الصورة الصفة " قوله من رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد " فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها: وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك " فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها وقد تكون الرؤية بمعنى العلم ، كقوله:  وأرنا مناسكنا  أي علَمنا.
        قال أبو سليمان: ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستشنعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها وأن مذهب كثير من الصحابة وأكثر الرواة من أهل النقل الاجتهاد في أداء المعنى دون مراعاة أعيان الألفاظ وكل منهم يرويه على حسب معرفته ومقدار فهمه وعادة البيان من لغته ، وعلى أهل العلم أن يلزموا أحسن الظن بهم وأن يحسنوا التأني لمعرفة معاني ما رووه وأن ينزلوا كل شئ منه منزلة مثله ، فيما تقتضيه أحكام الدين ومعانيها وعلى أنك لا تجد بحمد الله ومنه شيئاً صحت به الرواية عن رسول الله  صل الله عليه وسلم إلا وله تأويل يحتمله وجه الكلام ومعنى لا يستحيل في عقل أو معرفة. أ.هـ
        ثم روى الحافظ البيهقي عن علي بن أبي طالب  كرم الله وجه أنه قال: " إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  حديثا فظنوا برسول الله صل الله عليه وسلم  أهيأه وأهداه"
وروى أيضا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " إذا حدثتم عن رسول الله صل الله عليه وسلم  فظنوا به الذي هو أهيأ وأهدى وأتقى " أ.هـ
وقد ذكر الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث كلام النووي عن الصورة وأقره ، وعند قوله صل الله عليه وسلم 
" فإذا جاء ربنا عرفناه " ذكر أن القرطبي قال: " ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين هل بينكم وبينه علامة؟" .
ويقول ابن حجر في فتح الباري: وهذه الزيادة أيضا في حديث أبي سعيد و لفظه"آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة ... " إلى أن قال وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن: " ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول : أنا ربكم فاتبعوني فيتبعه المسلمون "
        وقوله في هذه الرواية: " فيعرفهم نفسه " أي يلقي في قلوبهم علما قطعيا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى ، وقال الكلاباذي في معاني الأخبار: عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه.
ومعنى كشف الساق: زوال الخوف والهول الذي غيرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم "().
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله  صل الله عليه وسلم " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق أدم على صورته ")
        قال النووي في شرحه على صحيح مسلم لهذا الحديث:
قال المازري: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت ورواه بعضهم : " إلا الله خلق آدم على صورة الرحمن " ، وليس بثابت عند أهل الحديث وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك.
قال المازري وقد غلط أبن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره قال: لله تعالى صورة لا كالصور وهذا الذي قاله ظاهر الفساد لأن الصورة تفيد التركيب وكل مركب محدث والله تعالى ليس هو مركبا فليس مصورا. قال: وهذا كقول المجسمة : جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون : الباري سبحانه وتعالى شيء لا كالأشياء طردوا الاستعمال فقالوا: جسم لا كالأجسام . والفرق أن لفظ شيء لا يفيد الحدوث. قال: العجب من أبن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور مع أن ظاهر الحديث على رأيه يقتضي خلق آدم على صورته فالصورتان على رأيه سواء فإذا قال : لا كالصور تناقض قوله ويقال له أيضاً: إن أردت بقولك : صورة لا كالصور أنه ليس بمؤلف ولا مركب فليس بصورة حقيقية وليست اللفظة على ظاهرها وحينئذ يكون موافقاً على افتقاره إلى التأويل واختلف العلماء في تأويله فقالت طائفة : الضمير في صورته عائد على الأخ المضروب وهذا ظاهر رواية مسلم وقالت طائفة يعود إلى الله تعالى ويكون المراد إضافة تشريف واختصاص كقوله تعالى : ( ناقة الله ) وكما يقال في الكعبة: بيت الله ونظائره والله أعلم. أ.هـ
        ويقول ابن حجر تعليقا على هذا الحديث وأختلف في الضمير على من يعود ؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه ولو لا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها.
وذكر ابن حجر حديث أبي هريرة مرفوعا " لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته "
يقول ابن حجر: وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك() . أ.هـ.
        وقال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات بعد أن ساق ما ذكرناه من الأحاديث : وذهب بعض أهل النظر إلى أن الصور كلها لله تعالى على معنى الملك والفعل ثم ورد التخصيص في بعضها بالإضافة تشريفا وتكريما كما يقال ناقة الله وبيت الله ومسجد الله وعبر بعضهم بأنه سبحانه ابتدأ صورة ادم لا على مثال سابق ثم اخترع من بعده على مثاله فخص بالإضافة والله أعلم . وعلى هذا حملوا ما في هذا الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم  : " لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق أدم على صورة الرحمن " ويحتمل أن يكون لفظ الخبر في الأصل كما روينا في حديث أبي هريرة ( يشير إلى لفظ على صورته) فأداه بعض الرواة على ما وقع في قلبه من معناه . أ.هــ
أقول على إن إسناد هذا الحديث معلول فقد قال الإمام الحافظ ابن خزيمة : في هذا الحديث ثلاث علل:
1. النوري خالف الأعمش وأرسل
2. والأعمش مدلس وقد عنعن ولم يقل سمعت
3. وكذلك حبيب. أ.هــ بمعناه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث اليد واليمين ونحوها :
        يقول الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه ( فتح الباري ) : كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى { لما خلقت بيدي } : اليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة ، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز.
الأول: الجارحة ، الثاني : القوة نحو : { داود ذا الأيد  }(1) الآية 17 من سورة ص.
والثالث: الملك  {إن الفضل بيد الله  }((2) الآية 73 من سورة آل عمران ، ويلاحظ أنه كرر الثالث.
الرابع العهد: { يد الله فوق أيديهم } (3) الآية 10 من سورة الفتح.
) ومنه قول : هذي يدي لك بالوفاء. الخامس: الاستسلام والانقياد .قال الشاعر :
 أطاع يداً بالقول فهو ذَلولُ 
السادس: النعمة، قال:
 وكم لظلال الليل عندي من يد 
السابع: الملك { قل إن الفضل بيد الله  } الثامن : الذل  {حتى يعطوا الجزيةَ عن يد} (4) الآية 29 من سورة التوبة .
) التاسع :الاختصاص {  أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }(6) الآية 237 من سورة البقرة.
العاشر: السلطان . الحادي عشر: الطاعة. الثاني عشر: الجماعة. الثالث عشر: الطريق، يقال أخذتهم يد الساحل. الرابع عشر: التفرق : تفرقوا أيدي سبإ.




الخامس عشر: الحفظ. السادس عشر: يد القوس: أعلاها . السابع عشر يد السيف : مقبضه. الثامن عشر: يد الرحى : عود القابض. التاسع عشر: جناح الطائر. العشرون: المدة ، يقال لا ألقاه يد الدهر. الحادي والعشرون: الابتداء، يقال لقيته أول ذات يدي، وأعطاه عن ظهر يد. الثاني والعشرون: يد الثوب: ما فضل منه. الثالث والعشرون: يد الشيء: إمامه، الرابع والعشرون: الطاقة. الخامس والعشرون: النقد نحو بعته يدا بيد((7) فتح الباري (19/447-448) أ.هــ
عن أبي هريرة  عن النبي صل الله عليه وسلم  قال:
" يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: ( أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ) "(Cool صحيح البخاري ح 6519 كتاب الرقاق – باب يقبض الله الأرض يوم القيامة.ورواه مسلم أيضاً


        وفي رواية أخرى لمسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم  " يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول: أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ".
وفي رواية أخرى لمسلم أيضا
عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: " يأخذ الله عز وجل سمواته وأراضيه بيده فيقول: أنا الله – ويقبض أصابعه ويبسطها – أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صل الله عليه وسلم  ؟.


        قال النووي في شرح مسلم:قال العلماء: المراد بقوله يقبض أصابعه ويبسطها النبي  صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال: إن أبن مقسم نظر إلى أبن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم  . وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين، لأن أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس ، وذكر اليمين والشمال حتى يتم المثال ، لأنا نتناول باليمين ما نكرمه ، وبالشمال ما دونه ، ولأن اليمين في حقنا يقوى لما لا يقوى له الشمال. ومعلوم أن السموات أعظم من الأرض، فأضافها، إلى اليمين، والأرضيين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة، وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ، ولا أثقل من شيء ، هذا مختصر كلام المازري في هذا. قال القاضي: وفي هذا الحديث ثلاثة ألفاظ : يقبض، ويطوي، ويأخذ، كله بمعنى الجمع، لأن السموات مبسوطة، والأرضيين مدحوة وممدودة ، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسموات ، فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض، ورفعها وتبديلها بغيرها . قال: وقبض النبي  صل الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات، وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط والمقبوض وهو السموات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة.
        وقوله في المنبر: يتحرك من أسفل شيء منه أي من أسفله إلى أعلاه، لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى، ويحتمل أن تحركه بحركة النبي  صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة. قال القاضي: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع، ثم قال: والله أعلم بمراد نبيه  صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ، ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته، ولا نشبه شيئا به، ولا نشبهه بشيء،{  ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وما قاله رسول الله صل الله عليه وسلم  وثبت عنه فهو حق وصدق، فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى ، وما خفي علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى ، وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به ، ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه سبحانه عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى. وبالله التوفيق. "أ.هـ(1) من شرح النووي على صحيح مسلم كتاب ( صفة المنافقين وأحكامهم ) ح 2787 ، ح 2788
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حديث الشفاعة  
      1-عن أنس  قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم  " يجمع المؤمنون يوم القيامة ...."إلى أن قال:" فيأتون آدم فيقولون له: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده وأسجد لك الملائكة.... " (1) صحيح البخاري ح 7516 كتاب التوحيد ونحوه في مسلم ح ( 193 ) باب شفاعة  ، كتاب الإيمان .




2        - عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم  " احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما ، فحج آدم موسى ، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة .... "(2) رواه مسلم ح 2652 كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام.




3        - - عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم  " احتج آدم وموسى ، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، قال آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك بيده ، .... " (3) رواه البخاري ح 6614 كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله تعالى.




4        - عن المغيرة ابن شعبة يرفعه قال " سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة.... " الحديث وفيه: " قال: رب فأعلاهم منزلة قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها.... " (4) رواه مسلم ح 189 كتاب الإيمان باب آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة.




        يقول الإمام ابن حجر في ( فتح الباري ) عند شرحه للحديث رقم ( 6614 ):
" .... وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف ، وكذا إضافة روحه إلى الله " أ.هــ.
ويقول النووي في شرحه لصحيح مسلم عند شرحه لحديث ( احتج آدم وموسى..) رقم ( 2652 ) قوله ( اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده ) في اليد هنا المذهبانالسابقان.... أحدهما: الإيمان بها ولا يتعرض لتأويلها مع أن ظاهرها غير مراد ، والثاني: تأويلها على القدرة ومعنى اصطفاك أي اختصك وآثرك بذلك.


        ويقول النووي أيضا عند شرحه لحديث ( سأل موسى ربه... ) الحديث رقم 189 من صحيح مسلم:
" .... وأما غرست كرامتهم بيدي إلى آخره فمعناه اصطفيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير " أ. هــ. المقصود منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


....  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:16 pm

.....  تابع

التجسيم والتشبيه

حديث الأصابع 
        عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي  صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو يا أبا القاسم ، إن الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، والجبال والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله  صل الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ثم قرأ: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون  }(1) متفق عليه واللفظ لمسلم كتاب صفة الجنة والنار ح ( 2786 ) ورواه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ( لما خلقت بيدي ) ح (7414 ).


        قال الإمام علي بن خلف بن بطال شارح صحيح البخاري: " لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة ، بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات ، لا تكيف ولا تحدد ، وهذا ينسب للأشعري ، وعن ابن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقاً يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع ، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان كقول القائل: ما فلان إلا بين إصبعي ، إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه "
إلى أن قال: " وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات ، وأخبر عن قدرة الله على جميعها ، فضحك النبي  صلى الله عليه وسلم تصديقاً له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى ، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم ولذلك قرأ قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره}  الآية أي ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم ويحيط به الحصر ، لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هي اليوم. قال تعالى:  {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا  } وقال: { رفع السموات بغير عمدٍ ترونها}  نقل ذلك ابن حجر في ( فتح الباري ) ثم قال: وقال الخطابي : لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به ، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع ، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين. وأما ضحكه صل الله عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل الرضا والإنكار ، وأما قول الراوي: " تصديقاً له " فظن منه وحسبان وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة ، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل . وبصفرته على الوجل ، ويكون الأمر بخلاف ذلك. فقد تكون الحمرة لأمر حدث في البدن كثوران الدم . والصفرة لثوران خلط مرار وغيره ، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظاً فهو محمول على تأويل قوله تعالى:{  والسموات مطويات بيمينه} أي قدرته على طيها وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئاً في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه ، بل يقله ببعض أصابعه. وقد جرى في أمثالهم: فلان يقل كذا بإصبعه ويعمله بخنصره انتهى ملخصا.




        قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: " قوله : إن الله يمسك السموات على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، إلى قوله : ثم يهزهن هذا من أحاديث الصفات ، وقد سبق فيها المذهبان التأويل ، والإمساك عنه مع الإيمان بها ، مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد ، فعلى المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل ، والناس يذكرون الإصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار ، فيقول أحدهم: بإصبعي أقتل زيداً أي لا كلفة عليَ في قتله . وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته ، وهذا غير ممتنع ، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة.
قوله: فضحك رسول الله  صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقاً له ، ثم قرأ:{  وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه  }ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  صدق الحبر في قوله : إن الله تعالى يقبض السموات والأرضيين والمخلوقات بالإصبع ، ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين: ليس ضحكه صل الله عليه وسلم  وتعجبه وتلاوته للآية تصديقاً للحبر ، بل هو رد لقوله ، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده ، فإن مذهب اليهود التجسيم ، ففهم منه ذلك ، وقوله: تصديقاً له إنما هو من كلام الراوي على ما فهم ، والأول أظهر." (1) من كتاب صفة الجنة والنار ح ( 2786 ).


        أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول:" إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله  صل الله عليه وسلم " اللهم مُصرﱢف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " (2) في كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء ح ( 2654 ).


        يقول الإمام النووي في شرحه للحديث : " هذا من أحاديث الصفات وفيها القولان السابقان قريباً: أحدهما: الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى ، بل يؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد قال الله تعالى: ( ليس كمثله شيء )
الثاني : يتأول بحسب ما يليق بها ، فعلى هذا المراد المجاز: كما يقال ( فلان في قبضتي ) و ( في كفي )، لا يراد به أنه حال في كفه ، بل المراد: تخت قدرتي.
        ويقال ( فلان بين أُصْبُعَيّ أقلبه كيف شئت ) أي: أنّه مِنيﱢ على قهره والتصرف فيه كيف شِئْتُ.
فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء ، لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراده كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه ، فخاطب العرب بما يفهمونه ومثله بالمعاني الحسية تأكيداً له في نفوسهم.
فإن قيل : فقدرة الله تعالى واحدة ، والأصبعان للتثنية ، فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة ، فوقع التمثيل بحسب ما اعتاده غير مقصود به التثنية والجمع والله أعلم " أ.هــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث الساق        روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري  أن ناسا في زمن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟قال رسول الله  صل الله عليه وسلم:" نعم ، قال هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ ..."إلي أن قال:" فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود.... "(1) ح رقم 183 كتاب الإيمان باب رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى.


        قال النووي في شرحه لهذا الحديث عند قوله  صل الله عليه وسلم ( فيكشف عن ساق ): ضبط يكشف بفتح الياء وضمها وهما صحيحان.
        وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق عنها بالشدة أي يكشف عن شدة وأمر مهول، وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر، ولهذا يقولون: قامت الحرب على ساق. وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد شمر ساعده، وكشف عن ساقه للاهتمام به.


        قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل : والمراد بالساق هنا نور عظيم ، وورد ذلك في حديث عن النبي صل الله عليه وسلم  قال ابن فورك: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف.
قال القاضي عياض : وقيل : قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقه عظيمة لأنه يقال : ساق من الناس ، كما يقال: رجل من جراد ، وقيل : قد يكون ساق مخلوقاً جعله الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة ، وقيل : معناه كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم وما كان غلب على قلوبهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ، ويتجلى لهم فيخرون سجدا". انظر شرح النووي لصحيح مسلم ( 3/401 ) ح 183.
.

        روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال:" قلنا يا رسول الله صل الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة ..."إلي أن قال:" فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه ؟ فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن.... "(3) ح رقم 7439 كتاب التوحيد باب " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ".


        قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لهذا الحديث:قال: وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق "(4) آية 42، من سورة القلم
. قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت ومنه
قد سن أصحابك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق


        وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها: عن نور عظيم ، قال أبن فورك : معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف.

        وقال المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ، ولغيرهم نقمة ، وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق ومعنى قول ابن عباس إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة ، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منها حسن ، وزاد : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه من الشعر وذكر الرجز المشار إليه ، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: * في سنة قد كشفت عن ساقها *


        وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة ، قال الخطابي: وقد يطلق ويراد النفس.أ.هـ انظر فتح الباري ح 7439 ( 19/484 – 485 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث القدم والرجل        روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  عنه قال: قال رسول الله  صل الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمجبرين ..." إلى أن قال : " فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله تقول: قط قط فهنالك النار تمتليء ويزوي بعضها إلى بعض .... " (2) كتاب الجنة وصفة نعيمها باب جهنم أعاذنا الله منها ح 2846.

        وفي رواية أخرى: عن أنس بن مالك عن النبي  صل الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعزتك وكرمك .... " (3) كتاب الجنة وصفة نعيمها باب جهنم أعاذنا الله منها ح 2848.

        قال النووي في شرح صحيح مسلم على هذا الحديث : قوله  صل الله عليه وسلم : " فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله "
        وفي الرواية التي بعدها : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط".

        هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات ، وقد سبق مرات بيان اختلاف العلماء فيها على مذهبين: أحدهما ، وهو قول جمهور السلف ، وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها ، بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ، ولها معنى يليق بها ، وظاهرها غير مراد.

        والثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها. فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث ، فقيل: المراد بالقدم هنا المتقدم ، وهو شائع في اللغة ، ومعناه حتى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب .
قال المازري والقاضي: هذا تأويل النضر بن شميل ونحوه عن ابن الأعرابي
        الثاني: أ ن المراد قدم بعض المخلوقين، فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم.

        الثالث:أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية . وأما الرواية التي فيها يضع الله فيها رجله فقد زعم الإمام ابن فورك أنها غير ثابتة عند أهل النقل ، ولكن قد رواها مسلم وغيره فهي صحيحة ، وتأويلها كما سبق في القدم ، ويجوز أيضا أن يراد بالرجل الجماعة من الناس كما يقال رجل من جراد أي قطعة منه.
قال القاضي: أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها.
        قالوا: ولابد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى. أ.هــ) النووي شرح صحيح مسلم ( 17/310 – 311 ) ح ( 2846 ).
روى البخاري في صحيحه عن أنس  عن النبي  صل الله عليه وسلم قال: " يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول قط قط "(2) ح 4848 كتاب التفسير باب قوله تعالى " وتقول هل من مزيد ".

        وفي رواية أخرى : " تحاجت الجنة والنار ..." إلى ان قال : " فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فتقول قط قط ... "(3) ح 4850 كتاب التفسير باب قوله تعالى " وتقول هل من مزيد ".


        قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لهذا الحديث:واختلف في المراد بالقدم فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله. وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك فقال: المراد إذلال جهنم فإنها إذا بالغت في الطغيان وطلب المزيد أذلها الله فوضعها تحت القدم وليس المراد حقيقة القدم.
والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال ولا تريد أعيانها كقولهم رغم أنفه وسقط في يده. وقيل المراد بالقدم الفرط السابق : أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب قال الإسماعيلي: القدم قد يكون اسما لما قدم كما يسمى ما خبط من ورق خبطا. فالمعنى ما قدموا من عمل.


        وقيل المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين فالضمير للمخلوق معلوم، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم أو المراد بالقدم الأخير لأن القدم أخر الأعضاء فيكون المعنى: حتى يضع الله في النار أخر أهلها فيها ويكون الضمير للمزيد. وقال ابن حبان في صحيحه بعد إخراجه : هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عُصي الله فيها فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة المذكورة فتمتليء لأن العرب تطلق القدم على الموضع
قال تعالى ( أن لهم قدم صدق ) يريد موضع صدق.
        وقال الداودي : المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد والإشارة بذلك إلى شفاعته وهو المقام المحمود فيخرج من كان في قلبه شيء من الإيمان وتعقب بأن هذا منابذ لنص الحديث لأن فيه يضع قدمه بعد أن قالت ( هل من مزيد ) والذي قاله مقتضاه أنه ينقص منها وصريح الخبر أنها تنزوي بما يجعل فيها لا بما يخرج منها.
        قلت : ويحتمل أن يوجه بأن من يخرج منها يبدل عوضهم من أهل الكفر كما حملوا عليه حديث أبي موسى في صحيح مسلم: " يعطي كل مسلم رجلا من اليهود والنصارى فيقال هذا فداؤك من النار " فإن بعض العلماء قال: المراد بذلك أنه يقع عند إخراج الموحدين وأنه يجعل مكان كل واحدا منهم واحد من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور فإذا قع العظم حصل الملء الذي تطلبه
ثم قال : وقال أبو الوفاء بن عقيل : تعالى الله عن أنه لا يعمل أمره في النار حتى يستعين عليها بشيء من ذاته أو صفاته وهو القائل للنار: " كوني برداً وسلاماً " فمن يأمر نارا أججها غيره أن تنقلب عن طبعها وهو الإحراق فتنقلب كيف يحتاج في نار يؤججها هو إلى استعانة؟(1) فتح الباري ( 13/571 – 572 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحاديث توهم الحركة والانتقال
حديث النزول :
        روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن رسول الله صل الله عليه وسلم  قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فاستجيب له .... "((1) ح 758 باب صلاة الليل والوتر كتاب صلاة المسافرين وقصرها.ورواه البخاري ح 1145 باب الدعاء والصلاة من آخر الليل كتاب التهجد
قال النووي في شرحه لهذا الحديث:
قوله صل الله عليه وسلم  " ينزل ربنا ....الخ"

        هذا الحديث من أحاديث الصفات ، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان ومختصرهما أن أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ، ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق، وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق
والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والاوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما تأويل مالك بن أنس وغيره معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال: فعل السلطان كذا إذا فعله إتباعه بأمره ، والثاني أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف. والله أعلم." أ.هــ

        وعبارة الإمام مالك " يتنزل ربنا – تبارك وتعالى – أمره فأما هو فدائم لا يزول " تأويلات الإمام مالك أنظر التمهيد (7/143) لابن عبد البر ، سير أعلام النبلاء (8/105) ، يقول يحيى بن كثير تلميذ مالك " حسن والله ... " فهو متابع له فيه.
        قال ابن حجر في فتح الباري:قوله: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو ، وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز ، تعالى الله عن ذلك.
وقد اختلف في معنى النزول على أقوال ، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقتة وهم المشبهة ، تعالى الله عن قولهم
إلى أن قال " ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف.
ونقله البيهقي عن الأئمة الأربعة و السفيانين [ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة ] والحمادين [ حماد بن زيد وحماد بن سلمة ] والاوزاعي والليث وغيرهم .... ". إلى أن قال:ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبا مستعملا في كلام العرب.
وبين ما يكون بعيدا مهجورا فأول في بعض وفوض في بعض وهو منقول عن مالك وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد.


        قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه..."إلى أن قال: " وقال ابن العربي : حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث وعن السلف إمرارها ، وعن قوم تأويلها وبه أقول.
فأما قوله: " ينزل " فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الملك المبعوث بذلك ، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحه. انتهى.
وقال ابن حجر: والحاصل أنه تأوله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه. (1) فتح الباري (4/146-147). أ.هــ


        ويقول الإمام الحافظ ابن حزم في شرحه النزول الوارد في هذا الحديث:
وهذا إنما هو فعل يفعله الله تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وهذا معهود في اللغة تقول نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي. ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  علق التنزل المذكور بوقت محدود فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذ وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البته. وقد بين رسول الله  صل الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أنه ذكر عليه السلام أن الله يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك. وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصح ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تبارك وتعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق. (2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/152 وما بعدها ).
أ.هــ


        وقال الحافظ ابن حيان في صحيحه (2/136) عقب روايته لحديث النزول: " ينزل بلا آلة ولا تحرك ولا انتقال من مكان إلى مكان " أ.هــ
        روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة  أن ناسا قالوا لرسول الله  صل الله عليه وسلم :" يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة .... " وفيه " فيأتيهم الله تبارك وتعالى... "
يقول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث : يقال في قوله صلى الله عليه وسلم  فيأتيهم الله بعد أن أشار إلى قولي أهل العلم في أحاديث وآيات الصفات وأن الأول التفويض مع التنزيه والثاني التأويل على ما يليق بها ثم قال: فعلى هذا المذهب –يقصد التأويل – يقال في قوله صل الله عليه وسلم  فيأتيهم الله أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان فعبر بالإتيان و المجئ هنا عن الرؤية مجازا، و قيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتيانا ، وقيل المراد بيأتيهم الله أي يأتيهم بعض ملائكة الله.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الوجه أشبه عندي بالحديث.


        قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق قال أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة أي يأتيهم بصورة ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله يختبرهم ، وهذا آخر امتحان المؤمنين فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم ، ويستعيذون بالله منه. (2) شرح صحيح مسلم للنووي ( 3/394 -395 ).
وقال ابن حجر في فتح الباري بنحو كلام النووي (3) فتح الباري (17/453)
أ.هــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث توهم الانفعالات النفسية
حديث العجب والضحك والفرح :

        روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  قال: جاء رجل إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود ..." إلى أن قال: " فلما أصبح غدا إلى النبي صل الله عليه وسلم  فقال: " قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة " ح 2054 ،كتاب الأشربة ، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره.

        قال النووي في شرحه لهذا الحديث الحديث:قوله  صل الله عليه وسلم : " عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة "
قال القاضي: المراد بالعجب من الله رضاه ذلك.
قال: وقد يكون المراد عجبت ملائكة الله ، وأضافه إليه سبحانه وتعالى تشريفا. (2) شرح النووي على مسلم ( 14/209 ). أ.هــ

        وروى البخاري في صحيحه في موضعين عن أبي هريرة  : أن رجلا أتى النبي صل الله عليه وسلم  فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعلكما فأنزل الله " ويؤثرون على أنفسهم ... "(3) ح 3798 كتاب مناقب الأنصار ، ح رقم 4889 كتاب التفسير باب قول الله عز وجل ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ). الآية جزء من الآية 9 سورة الحشر.


        قال ابن حجر في شرحه على هذا الحديث ( رقم 3798):" ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما ". أ. هــ

        وقال ابن حجر في الحديث الأخر رقم (4889 ):" قال الخطابي: أخلاق العجب على الله محال ومعناه الرضا فكأنه قال إن ذلك الصنيع حل من الرضا عند الله حلول العجب عندكم قال: وقد يكون المراد بالعجب هنا أن الله يُعجَّب ملائكته من صنيعهما لندور ما وقع منهما في العادة، قال: وقال أبو عبد الله : " معنى الضحك هنا الرحمة. "

        قال ابن حجر: " ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري، قال الخطابي: وتأويل الضحك بالرضا أقرب من تأويله بالرحمة، لأن الضحك من الكرام يدل على الرضا فإنهم يوصفون بالبشر عند السؤال "
ثم قال ابن حجر: " الرضا من الله يستلزم الرحمة وهو لازمه والله أعلم "فتح الباري (11/104) ، (14/21-22).أ.هــ


        روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  عن رسول الله صل الله عليه وسلم  :" ..... والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة.... "(5) ح 2675 باب الحض على التوبة والفرح بها كتاب التوبة.

        قال النووي في شرحه على هذا الحديث عند قوله  صل الله عليه وسلم : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده ... " قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه ، و قال المازري :الفرح ينقسم على وجوه: منها السرور ، والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به. قال: فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة ، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره. (1) شرح مسلم للنووي (17/219).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:20 pm

هو الأول والآخر


هو الأول

        وجود الله سبحانه وتعالى ممتد في القدم، بحيث لا يتصور قبله وجود قط. وما دام كل وجود قد نشأ عنه، فالله تعالى اسبق منه، ونحن لا نعرف عن الأول شيئا، إذ عَهْدُنا بالوجود قد حدث بعد ميلادنا.
عن أبي كعب (رضي الله عنه): أن المشركين قالوا للنبي (صل الله عليه وسلم) : انسب لنا ربك، فنزل: (قل هو الله احد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد) (الإخلاص: 1-3) لأنه ليس شيء يولد إلا وسيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، إن الله تعالى لا يموت ولا يورث.
(ولم يكن له كفوا احد) (الإخلاص:4) قال: لم يكن له شبيه ولا عديل وليس كمثله شيء.
إن أولئك المشركين نظروا إلى الألوهية بعقولهم القاصرة، وقاسوا وجودها المطلق على وجودنا المحدود، فتوهموا أن له أولا.
وليس الأمر كما يتوهمون. إن لوجودنا المادي أولا. لأننا نحس بذلك وندركه عن يقين، ونجزم باستحالة غيره.
أما الوجود الإلهي فقديم لا أول له.

        وقد تمر بالخاطر هواجس نتساءل عن أسرار هذا الأزل الغامض على عقولنا، وذلك من استشراق العقل إلى اكتناه ما يعجزه، ولا يقدح ذلك في صحة الإيمان.
        فعن أبي هريرة (رضي الله عنه): ( أن أناسا من أصحاب رسول الله (صل الله عليه وسلم) سألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم احدنا أن يتكلم به؟ قال: أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان" (أي: كراهتكم لتلك الوسوسة صريح الإيمان؛ والصريح: الخالص من كل شيء).
وفي رواية أخرى: (الحمد لله الذي رد كيده –الشيطان- إلى الوسوسة". وعن ابن مسعود (رضي الله عنه): "قالوا: يا رسول الله، إن احدنا ليجد في نفسه ما لان يحترق حتى يصير حممة، أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، قال:ذلك محض الإيمان".
إن تاريخ الإنسان والعالم والحياة كلها جد بعد عدم، لا يُدرى مداه. وربما استطاع الإنسان إدراك أعراض يسيرة في بيئته المحدودة، أعراض تمس يومها الحاضر، أو أمسها القريب، أو غدها الموشك. وقد يكون من هذه الأعراض المدركة جملة من المعارف النافعة..
ثم تقف بعد ذلك أشعة بصيرته فلا تستطيع حراكا ولا إدراكا..
        فإذا كانت تلك حدود قدرته العقلية في عالم الشهادة، فلا جرم انه يكون في عالم الغيب اعجز، وعن فهمه اقصر. وراكب السفينة قد يستطيع التجوال فيها، فإذا بدا له أن يقذف بنفسه في أغمار اليم فقلما يعود.
وعقلنا في قوته المحدودة كبصرنا الذي لا يقرأ إلا على أشبار، فإذا ابتعد الخط عنه مسافة لم يميز منه حرفا. كذلك لا يستطيع العقل أن يدرك إلا في دائرة وجوده الضيقة: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (الإسراء:85).
        ومن ثم فنحن نؤمن بقدم الذاتية الإلهية وامتداد هذا القدم في أغوار الأزل الذي لا نعرف عنه كنهه.
.. ذلك وطبيعة الوجود المحدث تقتضي البداية والنهاية، أما من وجوده من ذاته فحقه أسمى من أن يسبقه أو يطرأ عليه عدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآخر

        والله سبحانه باق أبدا، انه ليس جسما فيموت، ولا مادة فتتحلل وتذوي، إنه الدائم الذي يصير إليه كل شيء.
(كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم واليه ترجعون) (القصص:88)
(وتوكل على الحي الذي لا يموت، وسبح بحمده، وكفى به بذنوب عباده خبيرا) (الفرقان:58)

        وذو الوجود الخالد المتأبي على الفناء قد يمنح للأخيار من عبادة الخلود في جنات النعيم
فهذا الفضل الممنوح لا يعني أن بشرا أصبح حقيقا بوصف الباقي والآخر.
        فالأمر كما قلنا: أن وجود الله عز وجل واجب له من ذاته لا ينفك عنه أبدا.
أما ما عداه فهو صفر إن لم تدركه نعمة الوجود المفاض عليه من الخالق جل علاه








العقائد وأحاديث الآحاد

العقائد وأحاديث الآحاد
        إن العقائد عند المسلمين لا تبنى إلا على القطعيات واليقينيات ولا يمكن بناؤها على الظنيات أبدًا.
        والظن كما هو معلوم هو كل ما غلب عليه الصواب لكن احتمل أن يدخله الخطأ، ولما كانت أحاديث الآحاد من هذا الصنف امتنع الاستدلال بها في العقائد وإليك نماذج:

1- قال الحافظ الخطيب البغدادي في « الفقيه والمتفقه » (1/132):
« باب القول فيما يرد به خبر الواحد: …
وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رد بأمور:
أحدهما: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه … » اهـ.

2- وقال الإمام الحافظ النووي في « شرح صحيح مسلم » (1/131):
« وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد؛  . ثم قال بعد أسطر:
« وأما من قال يوجب العلم- خبر الواحد- فهو مكابر للحس، وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرق إليه؟! والله أعلم » اهـ.

3- وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في « فتح الباري » (6/19) عند شرح حديث البخاري:
[ عن أنس قال « بعث النبي صل الله عليه وآله وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا … » ] الحديث فقال الحافظ:
(قوله : « بعث النبي صل الله عليه وآله وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر » قال الدمياطي: هو وهم؛ فإن بني سليم مبعوث إليهم والمبعوث هم القراء وهم من الأنصار. قلت: التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين والوهم في هذا السياق من حفص بن عمر شيخ البخاري … )أ.هـ.

        والحديث من ثلاثيات البخاري العالية؛ وحفص هذا هو ابن عمر بن الحارث بن سخبرة قال عنه أحمد كما في «تهذيب الكمال» (7/28): «ثبت متقن لا يؤخذ عليه حرف واحد».




حديث الجارية

حديث الجاريةنص الحديث الذي فيه قصة الجارية بلفظ « أين الله » كاملاً:
        أخرج مسلم في صحيحه قال: « حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في لفظ الحديث قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال:بينا أنا أصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم؛ فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم!! فقلت: واثكل أمياهُ ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم!! فلمّا رأيتهم يُصَمِّتُونني لكنّي سكتُّ، فلمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه؛ فو الله ما كهرني( *) ولا ضربني ولا شتمني؛ قال:« إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن » أو كما قال رسول الله صل الله عليه وآله وسلم، قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية؛ وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان؛ قال:
« فلا تأتهم » . قال ومنا رجال يتطيرون؛ قال:« ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم » قال ابن الصباح: فلا يصدنكم.
وقال: قلت: ومنا رجال يخطون؛ قال: « كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك » .

        قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية؛ فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون؛ لكني صككتها صكة فأتيت رسول الله صل الله عليه وآله وسلم فعظم ذلك على، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟! قال:« ائتني بها » فأتيته بها؛ فقال لها: « أين الله؟ » قالت: في السماء قال:
« من أنا » قالت: أنت رسول الله. قال: « أعتقها فأنها مؤمنة » أ.هـ.صحيح مسلم بشرح النووي (5/20).

        قال الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه (الأسماء والصفات) عقب روايته للحديث: «وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعًا من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية؛ وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه، وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث » أ.هـ ص422.
فهو يصرّح بأن قصة الجارية التي هي قطعة من الحديث:
( أ ) ليست في صحيح مسلم عنده.
(ب) أن هذه القصة اختلف الرواة في ألفاظها.
النقطة الأولى:
        يتضح من كلام الحافظ البيهقي أن نسخ صحيح مسلم لم تتفق كلها على هذه القصة فلعل الإمام مسلم قد راجع كتابه في مرحلة تالية وحذفها كما كان الإمام مالك يفعل في الموطأ وكما فعل البخاري عندما أخرجه في كتابه (خلق أفعال العباد) واقتصر على ما يتعلق بتشميت العاطس بدون أي إشارة إلى اختصاره للحديث، أي أنه لم يعتمد صحة ما ورد في قصة الجارية نظرا لاختلاف الألفاظ الواردة فيها والدالة على عدم الضبط.
النقطة الثانية:
        اختلاف ألفاظ الحديث بين رواية الصحابي معاوية بن الحكم ورواية غيره قلت: بل اختلفت رواية الصحابي معاوية بن الحكم نفسه!! كما سنوضحه.
أولاً روايتي معاوية بن الحكم:
1- الرواية الأولى التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحه وفيها: « فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت أنت رسول الله فقال: اعتقها فإنها مؤمنة » .
2- الرواية الثانية أوردها الذهبي في كتابه (العلو) ص3 وذكر سندها الحافظ المزي في (تحفة الأشراف) 8/427 من طريق سعيد بن زيد عن توية العنبري عن عطاء بن يسار قال: حدثني صاحب الجارية- يشير إلى معاوية بن الحكم- وذكر الحديث وفيه:
« فمدّ النبيُّ يده إليها مستفهما: من في السماء؟ قالت: الله … » .
فكما ترى لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم  (أين الله) بل ولم يقل أيضًا (من في السماء)!! وإنما هو أشار فقط والكلام في الروايتين هو من تعبير الراوي وفهمه وليس من كلام رسول الله صل الله عليه وسلم  .
وإسناد هذه الرواية حسن إن شاء الله فسعيد بن زيد ثقة من رجال مسلم وثقه ابن معين وابن سعد والعجلي وسليمان بن حرب وقال عنه البخاري والدرامي: صدوق حافظ، وإن كان يحيى بن سعيد وآخرون قد ضعفوه لذا: فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن.
والرواية الأولى (رواية الإمام مسلم) فيها هلال بن علي بن أسامة (هلال بن أبي ميمونة) قال عنه أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس به بأس أي أن إسناد الحديث حسن كما أشار إلى ذلك الحافظ يعقوب بن سفيان القسوى وكذا الحافظ ابن عبد البر.
        وبهذا يتبين وجود اضطراب في متن الحديث لا مفر من الاعتراف به وكذا ثبوت أن لفظة (أين الله) وكذا (في السماء) هما من تعبير الراوي.
        والراوي سيدنا معاوية بن الحكم السلمي لم يكن من علماء الصحابة ولا فقهائهم ولم يكثر من صحبة رسول الله صل الله عليه وسلم  حتى يتعلم دقائق العلم بل كما ورد في حديثه كان (حديث عهد بجاهلية)، و كان لا يدري أن تشميت العاطس والكلام مع الآخرين مبطل للصلاة فمن الظلم البين أن نحملّه مسئولية الألفاظ المروية بناءً على فهمه! وسيتبين ذلك بصورة أوضح بالمقارنة مع الرواية الأخرى للحديث من غير طريقه.
        وهناك رواية أخرجها البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الظهار باب إعتاق الخرساء إذا أشارت بالإيمان وصلت من طريق عوف بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم  بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها فقال لها: فمن أنا فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم  وإلى السماء تعنى أنت رسول الله. فقال رسول الله صل الله عليه وسلم  (أعتقها فإنها مؤمنة).
فإذا كان الغالب أنها نفس القصة السابقة والتي فيها: « فمد النبي يده إليها مستفهما: من في السماء؟… » فتكون المحادثة بالإشارة من الطرفين ويكون اللفظ ضائعا فكيف يستدل به؟!
ثانيا: روايات غير معاوية بن الحكم لنفس القصة بلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا الله؟)
        الرواية الأولى: لعطاء بن يسار أيضا في (مصنف الحافظ عبد الرزاق) 9/175:
«عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء: أن رجلاً كانت له جارية في غنم ترعاها، كانت شاة صفين يعني غريزة في غنمه تلك، فأراد أن يعطيها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء السبع فانتزع ضرعها فغضب الرجل فصكّ وجه جاريته، فجاء نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، وذكر أنها كانت عليه رقبة مؤمنة وافية، قد هم أن يجعلها إياها حين صكها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إيتني بها» فسألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله» قالت: نعم: «وأن محمدًا عبد الله ورسوله؟» قالت: نعم. «وأن الموت والبعث حق؟» قالت: نعم. «وأن الجنة والنار حق؟» نعم. فلما فرغ قال: «أعتق أو أمسك» وهذا سند صحيح عال إلى عطاء راوي الحديث عن معاوية بن الحكم كما ترى فهذا هو اللفظ الثالث لحديث الجارية من طريق عطاء بلفظ «أتشهدين» وقد تقدم اللفظ الأول وهو «أين الله» والثاني الذي فيه أنه أشار إليها مستفهمًا بيده دون أن ينطق «من في السماء؟» وهذا كله يقرر ويقضي بأن النبي صل الله عليه وآله وسلم لم يقل «أين الله» .
وتنبه هنا جيدًا إلى أن هناك اضطرابًا آخر مع باقي الروايات الواردة في حديث الجارية من غير طريق عطاء أكبر وأعظم من هذا الاضطراب الذي بيناه الآن، وهو اضطراب متن عطاء مع متون أخرى.
        الرواية الثانية لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة في (الموطأ):
روى مالك في الموطأ ص (777) بسند عال جدًا عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله بجارية له سوداء. فقال يا رسول الله إن على رقبة مؤمنة؟ فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم. قال: «أتشهدين أن محمدًا رسول الله؟» قالت: نعم. قال: «أتوقنين بالبعث بعد الموت» قالت: نعم. فقال رسول الله صل الله عليه وآله وسلم: «أعتقها». أخرجها البيهقي في السنن الكبرى 10/57.
ورواه الإمام عبد الرزاق في المصنف (9/175) قال: أخبرني معمر عن الزهري عن عبيد الله عن رجل من الأنصار به ومن طريقه رواه الإمام أحمد في المسند (3/451-452) كما رواه غيرهم أيضًا.
        أما عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فهو أحد الفقهاء السبعة المشهورين من رجال الستة أيضًا إمام ثقة. قال الحافظ في التقريب عنه: «ثقة فقيه ثبت» ولا يعرف بتدليس؛ وعنعنته محمولة على السماع وقد قال: «عن رجل من الأنصار» .
قال ابن كثير في تفسير (1/547) «إسناده صحيح وجهالة الصحابي لا تضرّه» وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (9/114): «ظاهره الإرسال لكنه محمول على الاتصال للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة»؛ وقال الحافظ الهيثمي في « المجمع » (1/23) «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .
فقد تبين بذلك أن حديث قصة الجارية في صحيح مسلم وسؤال رسول الله صل الله عليه وسلم  لها مضطرب المتن على أقل تقدير أما إذا أخذنا بجانب الترجيح بالشواهد والأمارات فستكون رواية (أتشهدين … ) وهي الراجحة، لأنها هي المطابقة لعقائد الإسلام اليقينية وكذا أصح إسنادا.
        وفي جميع الحالات يمتنع أخذ رواية (أين الله) على ظاهرها لذا أوّلها بعض العلماء كالنووي والقاضي ابن العربي والباجي وغيرهم.
يقول الإمام النووي في تعريف الحديث المضطرب:« المضطرب: هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة، فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبة المروي عنه أو غير ذلك فالحكم للراجحة؛ ولا يكون مضطربًا، والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعدم الضبط ويقع في الإسناد تارة وفي المتن أخرى؛ وفيهما من راوٍ أو جماعة » .

        وقال الحافظ ابن دقيق العيد في الاقتراح :« المضطرب : هو ما روى من وجوه مختلفة. وهو أحد أسباب التعليل عندهم، وموجبات الضعف للحديث » .
من شواهد ترجيح لفظ (أتشهدين … ):
1- ما رواه الدارمي في «السنن» (2/187) قال: أخبرنا أبو الوليد الطيالسي ثنا حماد ابن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشريد قال: أتيت النبي صل الله عليه وآله وسلم فقلت: إن على أمي رقبة وإن عندي جارية سوداء نوبية أفتجزئ عنها؟ قال: «أدع بها» فقال: «أتشهدين أن لا إله إلا الله» قالت: نعم. قال: «أعتقها فإنها مؤمنة».
2- ما رواه البزار (كشف الأستار 1/14) والطبراني (12/27 في الكبير) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن على أمي رقبة وعندي أمة سوداء، فقال: «ائتني بها» فقال لها رسول الله صل الله عليه وآله وسلم: « أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قالت: نعم. قال: «فأعتقها» .
قال الحافظ الهيثمي في « المجمع » (4/244) عن هذا السند: فيه محمد بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ وقد وثق، وستأتي شواهد متواترة لهذا اللفظ أتشهدين في فصل خاص إن شاء الله تعالى.
الرواية التي جاءت بلفظ « من ربك؟ » صحيحة الإسناد أيضًا:
روى النسائي في السنن الصغرى 6/252 و ابن حبان في صحيحه (1/418-419) وغيرهما عن الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء، قال: «أدع بها» فجاءت، فقال: «من ربك؟» قال: الله، قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة». وهو بمعنى رواية (أتشهدين).
مناقشة متن الحديث:
        هل السؤال بـ (أين) التي يسأل بها عن المكان الحسي، يدل على إلوهية المسئول عنه؟
وبمعنى آخر، والجارية المسئولة من العرب الذين سبق منهم إشراك غير الله في الإلوهية- هل يدل هذا السؤال على أنها لا تعبد معه إلها آخر في الأرض أو في أي مكان آخر؟ ألم يكن بعض العرب يعبدون أصناما آلهة في الأرض مع إقرارهم بإله السماء؟أليس هناك من عبد الشمس والقمر والكواكب –ذكر القرآن ذلك- وهم في السماء أيضًا؟
        فالسؤال المذكور (أين الله) لا يدل على الألوهية والإجابة الواردة في الحديث (في السماء) لا تدل على التوحيد!!
        فعلى أي شيء ذكرت هذه الرواية- الشاذة المردودة- أن رسول الله صل الله عليه وسلم  شهد لها بالإيمان؟ والنماذج السابقة والآتية توضح وتؤكد أن المطلوب هو (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) وليس شهادة أن لله- تعالى عما يقولون- مكان هو في السماء!! فالسؤال إذا كان قد حدث هو عن العلو المعنوي وليس الحسي، كما ذكر النووي.
==================================
( *) الكَهْرُ: القهر، والانتهار واستقبالك إنسانًا بوجه عابس تهاونًا به. كما في القاموس المحيط.
دعوة للإنصاف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصريح بعض الأئمة من الحفاظ والمحدثين باضطراب حديث الجارية:1- الإمام الحافظ البيهقي:
        تقدم أن الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى قال في « الأسماء والصفات » ص(422):
« وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعًا من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية؛ وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه، وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث» (أنظر السنن الكبرى 7/388).
        فالبيهقي يرى بكل صراحة ووضوح أن قصة الجارية ليست في صحيح مسلم.
ومن جهة أخرى هناك أمر آخر مهم أيضًا وهو أن الحافظ البيهقي صرح باضطراب الحديث أي باختلاف الرواة في لفظة !! فعلى تسليم أنه في صحيح مسلم فهو مضطرب بلا شك لما أثبتاه في الفصول التي تقدمت عند عرض طرقه.
ومن جهة ثالثة أيضًا لم يذكر الإمام مسلم قصة عتق هذه الجارية في كتاب العتق ولا في كتاب الأيمان والنذور، وهذا مما يؤكد كلام الحافظ البيهقي وغيره.

2- الإمام الحافظ البزّار:
        لقد صرح الإمام البزار باضطراب الحديث أيضًا في مسنده، فقال بعد أن روى الحديث من طريق من طرقه (كما في كشف الأستار 1/14):
« وهذا قد روى نحوه بألفاظ مختلفة » .

3- الحافظ ابن حجر العسقلاني:
        صرح الحافظ ابن حجر باضطرابه أيضًا إذ قال في « التلخيص الحبير » (3/223) ما نصه:
« وفي اللفظ مخالفة كثيرة » اهـ.
        وقد صرّح الحافظ ابن حجر بأنه لا يجوز اعتقاد «الأين» في حق المولى سبحانه وتعالى فلم يعمل بهذا الحديث رغم صحة سنده بنظره وذلك لاضطرابه !! لأن الاضطراب موجب للضعف مع كون الإسناد صحيحًا لذلك قال الحافظ في «فتح الباري» (1/221):

        « فإنّ إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف؛ كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث.. » اهـ.
        وبهذا ثبت ثبوتًا لا شك فيه عندنا حسب قواعد المصطلح وتصريحات أهل الحديث في القديم والحديث اضطراب متن حديث الجارية بحيث لا يمكن التعويل على لفظ من ألفاظه؛ وأصح أسانيده كما رأيت بلفظ «أتشهدين أن لا إله إلا الله …»؛ فإن كان هناك مجال للترجيح بين هذا الروايات فالرواية الراجحة بلا شك ولا ريب هي رواية «أتشهدين … » لأنها الأصح، ولأن المعهود من حال النبي صل الله عليه وآله وسلم الثابت عنه بالتواتر أنه كان يأمر الناس ويقاتلهم ويختبر إيمانهم بالشهادتين فتكون رواية «أين الله» شاذة أو منكرة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:23 pm

كيف نتعامل مع النصوص



( أ ) المسلك الأول:
الأخذ بظواهر النصوص ويلزمنا حينئذ إما الترجيح بين أدلة الكون السفلي وأدلة الكون العلوي أو الجمع بينها.
أولا: الترجيح بين الأدلة: وبالنظر إلى أن النصوص الدالة على الكون السفلي أكثر من النصوص الأخرى فيكون الله سبحانه موجودًا في الأرض بذاته- تعالى عن ذلك- وهذا لا نقول به لمنافاته للتنزيه.
ثانيًا: الجمع بين النصوص الدالة على الكون العلوي والسفلي: فيكون الله سبحانه موجودًا بذاته في كل مكان- في أرضنا والأرض السابعة وفي السماء وفوق العرش… - كظواهر الآيات: {وهو الله في السماوات وفي الأرض}( ) سورة الأنعام، الآية 3.
،{ وَهُوَ الَّذِي في السَّمَاءِ إلَهٌ وَفي الأَرْضِ إلَهٌ }( ) سورة الزخرف، الآية 84.
{ألاَ إنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ مُّحِيطُ(} ( ) سورة فصلت، الآية 54.
وهذا أيضًا لا نقول به لمنافاته للتنزيه.
(ب) المسلك الثاني: التنزيه وهو مذهب أهل الحق:
        وهو أن الله سبحانه منزه عن المكان والحدود والتحيز وما إلى ذلك فهو سبحانه كان موجودًا وليس ثمة عرش ولا سماء ولا أرض-قال عليه السلام: « كان الله ولا شيء غيره » أخرجه البخاري- ولم تحدث له سبحانه صفة بعد خلقها، وهو الآن على ما عليه كان.
        وإذا كانت النصوص الدالة على الكون السفلي مصروفة عن ظاهرها بقرينة تنزيه الله وتعظيمه وتفسر المعية أو الأقربية المذكورة في النصوص بمعية العلم أو النصرة والتأييد وكذلك الأقربية وغيرها حسب القرائن الواردة في نفس النصوص، فكذلك النصوص الواردة في الكون العلوي: (في السماء) أو (على العرش) مصروفة والتقدير بالقرائن الواردة في نفس النصوص.
يقول الإمام شهاب الدين بن جهبل في رده على استدلال بعضهم على الفوقية الحسية بقوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ }( ) سورة النحل، الآية 50.
« الفوقية ترد لمعنيين:
        أحدهما: نسبة جسم إلى جسم، بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل. بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس الأسفل. وهذا لا يقول به من لا يجسم. وبتقدير أن يكون هو المراد وأنه تعالى ليس بجسم فلم لا يجوز أن يكون (من فوقهم) صلة لـ(يخافون) ويكون تقدير الكلام: يخافون من فوقهم ربَّهم. أي أن الخوف من جهة العلو وأن العذاب يأتي من تلك الجهة.
وثانيهما: بمعنى المرتبة، كما يقال (الخليفة فوق السلطان) و(السلطان فوق الأمير) وكما يقال جلس فلان فوق فلان، والعلم فوق العمل، والصياغة فوق الدباغة. وقد وقع ذلك في قوله تعالى حيث قال:{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ}( ) سورة الزخرف، الآية 3.
) ولم يطلع أحدهم على أكتاف الآخر، ومن ذلك قوله تعالى: { وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ( }( ) سورة الأعراف، الآية 127.
) وما ركبت القبط أكتاف بني إسرائيل ولا ظهورهم ( ) الحقائق الجلية ص 54. أ.هـ
قلت: ووقع ذلك أيضًا في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين:{  فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إلَى السَّلْمِ وَأنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ  }( ) سورة محمد، الآية 35.
ويمكن القول تعقيبا على حديث الجارية: «وأما عدم صحة الاحتجاج به في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات. قال الله تعالى:{ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله(} ( ) سورة الأنعام، الآية 12.

        وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى. وقال تعالى:{  وَلَهُ مَا سَكَنَ في الَّيْلِ وَالنَّهَارِ(} سورة الأنعام، الآية 13.
وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى.
فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيه سبحانه عن المكان والزمان كما في (أساس التقديس) للفخر الرازي » أ.هـ

        وقد استنبط إمام الحرمين عبد الملك الجويني تنزه الله سبحانه عن الجهة من نهيه  عن تفضيله على يونس بن متى عليه السلام، ولفظ البخاري «لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى». يقول الإمام الجويني: «إن هذا الحديث يدل على أن النبي  وهو عند سدرة المنتهى لم يكن بأقرب إلى الله من يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت في قعر البحر، فدل ذلك على أنه تعالى منزه عن الجهات وإلا لما صح النهي عن التفضيل» أ.هـ وتابعه على ذلك الفهم واستحسنه الكثير من أئمة أهل الحق منهم القاضي ابن العربي والقاضي عياض والقرطبي والسبكي والكوثري






الغنى المطلق


        الله سبحانه وتعالى واسع الغنى، وليست سعة غناه راجعة إلى انه يملك هذا العالم بسماواته وأرضه وما حوى من معادن نفيسة وعناصر غالية.
        ولا لأنه يملك عددا لا يحصى من الجن والإنس والملائكة . لا .. لا. فالغنى الإلهي أعظم من ذلك وامجد!.
إننا قد نعتبر الرجل غنيا لأنه يملك القناطير من الذهب والفضة، أو لأنه يحكم الألوف المؤلفة من الناس. فإذا فقد ذلك لم يصبح على شيء من الغنى، إذ انهارت الدعائم التي يقوم عليها. وقد يكون الملكوت الواجب الذي نعرف اقله ونجهل أكثره مظهرا للغنى الإلهي العظيم.
لكن الله عز وجل يستطيع أن يفني ذلك اجمع، ولا ينقص غناه المطلق شيئا البتة!! ويبقى قائما بنفسه، مستغنيا عن خلقه، ومستكملا نعوت قداسته، ومستعليا في أنوار جلالته.
        إن العرش فما دونه صفر إلى جانب الذات العليا، وتسبيح العباد من بدء الخلق إلى قيام الساعة، أو لغو الفجار في هذا الأمد الطويل، لا يضفي ولا ينتقص من عظمة الحق شيئا.
وقد جاء في الحديث القدسي: " يا عبادي لو أن أولكم واخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على اتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على افجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا"
المخلوقات جليلها ودقيقها تقوم بالله عز وجل، أما الله، فقائم بنفسه، مستغن بذاته عما سواه







الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:24 pm

ما يجب لله من الأسماء والصفات


إن ما يجب لله من الأسماء والصفات قد تحدث القرآن عنه وقد ذكر بعضه في الآثار الصحيحة المنسوبة إلى رسول الله صل الله عليه وسلم .
والمؤمن المكلف الحريص على دينه يجب عليه الإيمان تفصيلاً بجميع الصفات والأسماء الوارد ذكرها في الشرع الحكيم، كما يجب عليه أن يؤمن إجمالاً بأن الله يجب له كل كمال يليق بذاته.
فقد أثار العلماء قضية ما إذا كان من الممكن أن يثبت الإنسان لله صفة أو اسماً يظن أنه من الكمال الواجب لله عز وجل من غير أن يكون الشرع قد نص على هذه الصفة أو ذكر هذا الاسم .
وقد سبق أن قلنا :إن الرأي الراجح في هذه القضية أنه لا يجوز أن يبتكر الإنسان صفة أو اسماً وينشئهما إنشاء ثم يثبتهما إلى الله عز وجل ، كما سبق أن بينا أيضاً أن مثل هذا الإجراء الذي ينطوي على نسبة اسم أو صفة يظن المثبت أن في هذا الاسم أو تلك الصفة كمالاً تجب إضافته لله عز وجل. إن مثل هذا الإجراء. لو وقع من إنسان لا يعد بفعله هذا كافراً خارجاً عن الملة وإنما هذا الإجراء يعرض صاحبه إلى المساءلة الشرعية باعتبار أنه قد ارتكب شيئاً محرماً.
والفرق بين الحكم عليه بالحرمة والحكم بالكفر واضح، فالأول من الأحكام الفقهية في حين أن الحكم الثاني من أحكام العقيدة بحيث يكون من حكم عليه بمقتضى الحكم الأول يكون مؤمناً لكنه عاص، أما الذي يحكم عليه بالكفر فإن هذا الحكم يخرجه من الملة أصلاً .
وننتقل الآن إلى استعراض موقف علماء الأمة من قضية الصفات على العموم.
ولقد صرح ابن حجر نقلاً عن غيره معتمداً هذا النقل : بأن حديث الأسماء والصفات أمر مشترك بين فرق الأمة جميعاً.
فما من طائفة من الطوائف الإسلامية إلا وقد تناولت موضوع الصفات الثبوتية بالنفي أو الإثبات وبين هذين الطرفين المتناقضين في موضوع الصفات أو القطبين المتنافرين مذاهب وآراء.
وأياً ما كان الأمر فإن فرق الأمة كلها قد تناولت موضوع الصفات والأسماء بالدرس والتحليل وكان لكل فرقة فيها رأي من الآراء يناسب موقفها الفكري.
قال ابن حجر في فتح الباري : " وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفرق الخمس، من مثبت لها وناف، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يعطلون، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان ومن تبعه من الرافضة والكرامية، فإنهم بالغوا في ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه، تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علواً كبيراً " (1).
وأبرز الآراء التي توسطت هذين الرأيين المتناقضين الرأي القائل : بأن لله صفات ثبوتية هي صفات المعاني المشهورة في الأوساط العلمية وهي القدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام والحياة.
وهذه الصفات على الجملة قديمة قدم الذات ولكنها لا تحتمل القول : بأنها تعد شركة لله في قدمه بمعنى أنها لها وجودها المستقل عن الذات تماماً حتى يشاغب بها من يريد المشاغبة.
ومن جهة أخرى : فإن هذه الصفات ـ خاصة ما يتصل منها بفعل الله عز وجل ـ لها نوعان من التعلق . فهي :
قبل أن يخلق الله الخلق كانت كلها صالحة لأن تتعلق بفعل ما ، لكنها لم تتعلق به وهذه الصلاحية لا تنقص من القيمة الذاتية للصفة ـ كما أنها لا تنقص من قدر الموصوف بها.
وهناك نوع آخر من التعليق وهو : التعليق الفعلي للصفة بمتعلقها.
ويطلق العلماء على النوع الأول من التعلقات اسم: " صلوحي قديم".
كما أنهم يطلقون على النوع الثاني : " تبخيري حادث".
والتنجيزي الحادث لا يعني عندهم أن هناك تغييراً طرأ على الصفة ولا على الموصوف وإنما كل ما حدث هو التغير الطارئ على متعلق الصفة (1).
وأصحاب هذا الرأي قد ذهبوا بفكرة التعليق تلك مذهباً حسناً، إذ إنهم بواسطتها قد تخلصوا من التزام القول بقدم العالم ومحاولة فلسفة هذا القدم، كما أنهم بواسطة هذه الفكرة ذاتها قد استطاعوا أن يثبتوا أن الله موجود عن طريق القول بحدوث العالم (2).
تلك هي الفرق المختلفة التي تورطت في حديث الصفات والقول في كل صفة على التفصيل أو في مجموع الصفات على الإجمال.
============================
(1) فتح الباري ج 1 ص 346 : 347.
(2) راجع الغزالي : المقصد الأسنى.
(3) قد عارض بعض العلماء " خاصة المحدثون " قضية التعلق وتورطوا من أجل ذلك في القول : بجواز التسلسل في الحادثات إلى ما لا نهاية بحيث لا يكون هناك حادثاً ما نقول معه: إنه أول الحادثات إذ ما من حادث إلا وقبله حادث .
راجع هذا الموضوع في نحو النونية لابن القيم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرق بين الأسماء والصفات
فالفرق بين أسماء الله تعالى وصفاته يرجع إلى أمرين:
الأول: أن الأسماء هي كل ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به، مثل: الحكيم والعليم والسميع، فهي تدل على ذات الله، وما قام به من الحكمة والعلم والسمع والبصر.
والصفات: هي نعوت الكمال القائمة بذات الله تعالى، كالحكمة والعلم والسمع والبصر.
فالاسم يدل على أمرين، والصفة تدل على أمر واحد.
والثاني: أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء، فمن صفاته سبحانه، الإتيان والمجيئ والنزول، وليس لنا أن نشتق من هذه الصفات أسماء لله تعالى، فلا يقال: الآتي ولا الجائي ولا النازل.
أما الأسماء فيدل كل اسم منها على صفة كما سبق، فالرحمن والسميع والبصير تدل على الرحمة والسمع والبصر.
ومن صفات الله تعالى ما يتعلق بأفعاله سبحانه كالفرح والضحك والغضب، وأفعاله لا منتهى لها، جل وعلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملخص لما يجب له من الصفات
صفات الله : الصفة الأولى- الوجود

الأصلُ الذي تُبنى عليه العقيدةُ الإسلاميةُ معرفةُ الله ومعرفةُ رسولِهِ، فمعرفةُ الله هو العلمُ بأنه تعالى موجودٌ، فيجب اعتقادُ أنه تعالى موجودٌ في الأزلِ أي لا ابتداءَ لوجودِهِ ، قال تعالى: }أفي الله شَكٌ{ وقال: }هو الأوَّلُ{ أي هو الذي لا ابتداءَ لوجودِهِ، روى البخاريُّ في الصحيحِ والبيهقيُّ وأبو بكرِ بن الجارودِ عن عمرانَ بنِ الحُصينِ أن رسولَ الله صل الله عليه وسلم جاءَه قومٌ من أهلِ اليمنِ فقالوا: يا رسولَ الله جئناك لنَتَفَقَّهَ في الدينِ ولنسألَكَ عن بدءِ هذا الأمرِ ما كانَ، وفي لفظٍ: "عن أولِ هذا الأمر"، قال: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ وكان عرشُهُ على الماءِ وكتَبَ في الذّكرِ كُلَّ شىءٍ". كانَ سؤالُهُم عن أولِ العالمِ ثم الرسولُ أجابَهُم بما هو أهَمُّ من ذلِك وهو قولهُ: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ" أي أن الله موجودٌ في الأزلِ لا ابتداءَ لوجودِهِ ولم يكن في الأزلِ معه شىءٌ أي لا زمانٌ ولا مكانٌ ولا أجرامٌ([5]).

وأتبَعَ ذلك جوابَهُم بأن الماءَ والعرشَ وُجِدا قبلَ غيرهِما من المخلوقاتِ فأعلمهُم أن الماء قبل العرشِ لأنه لما قال لهم "وكان عرشُهُ على الماءِ" أفهمَهُم أن الماءَ خُلق قبل العرشِ.

وأما معرفةُ الرسولِ فهو العِلمُ بأنهُ مبلغٌ عن الله صادقٌ فيما جاءَ به في الإيجابِ والتحريمِ والإخبارِ عن ما مضى وعما ما سيَحدُثُ في الدنيا والبرزخِ والآخرةِ، فمن جزَمَ بذلك بلا شكٍّ ولا ارتيابٍ فهو عارفٌ بالله ورسولِهِ ومؤمِنٌ بالله ورسولِهِ سواءٌ عرَفَ الدليلَ العقليّ على ذلك أو لم يَعرِف. وضلت المعتزلةُ باشتراطِ معرفَةِ الدليلِ العقليّ لصحةِ الإيمانِ، وأما أهلُ الحقّ فلا يَشتَرطونَ ذلك ولكنهُم يرونَ الاستدلالَ على وجودِ الله تعالى بدليلٍ عقليّ ولو كان إجماليًّا واجبًا، وهذا الدليل الإجماليُّ حاصلٌ لكلّ مؤمنٍ ولو لم يعرف ترتيبَ هذا الدليلِ كأن يقالَ العالمُ مُتغيرٌ وكلُّ مُتغيرٍ حادثٌ فالعالم حادث فلا بد له من محدِثٍ وهذا المحدِثُ هذا الموجِدُ هو الذي يسمى الله، فإن من نظرَ بعقلِهِ نظرًا صحيحًا يدلُّه على ذلك. والاستدلالُ الإجماليُّ لا يخلو منه المسلمُ العالِمُ أو العاميُّ ويسمى ذلك الاستدلالُ استدلالا طبيعيًّا. ولا يُتصَوَّرُ فِقدانُ الدليلِ الإجماليّ في مسلمٍ إلا فيمن نشأ على شاهقِ جبلٍ سمع أُناسًا يقولونَ إن للخلقِ ربًّا خلقهم يستحقُّ العبادَة عليهم، فصدَّقهُم إجلالا لهم عن الخطَإ واعتقدَ ذلك ولم يتفكر في شىء من الدليل، وهذا أيضًا إيمانُه صحيحٌ لكنه يجبُ عليه الاستدلالُ. فالمؤمنُ الذي لم يستدلَّ قال أهلُ الحقّ إنَّهُ عاصٍ وذلك لأن الله تباركَ وتعالى أمَرَ بالتّفكُّرِ في خلقِهِ ليستدلوا بحالِ العالمِ على وجودِ خالقِهِ. ثم بعد معرفةِ وجودِ الله تعالى وتفردِه باستحقاقِ العبادةِ أي نهاية التذللِ يجبُ عليه معرفة بقيةِ الثلاث عَشرَةَ صفة من صفاتِ الله وهي: القِدَمُ، والبقاءُ، والمخالفةُ للحوادثِ، وقيامُهُ بنفسِهِ، والوحدانيَّةُ، والحياةُ، والقدرةُ، والإرادةُ، والعلمُ، والسمعُ، والبصرُ، والكلامُ.

والدليلُ الإجماليُّ لهذه الصفات هو أن يقالَ: لو لم يكُن الله تعالى متصفًا بهذه الصفاتِ لم يكنِ العالمُ موجودًا، فهذا الاستدلالُ الإجماليُّ كافٍ للاستدلالِ الواجبِ.

وأما الأدلةُ التفصيليَّةُ فمعرفتها ليست من فروضِ العينِ بل هي من فروضِ الكفاية، فإذا وجد في المسلمين من يعرفُ بقية الصفات الثلاث عشرة وما يتبعُ ذلك من أصولِ الاعتقادِ بالدليلِ العقليّ فقد أسقَطَ الحرج عن غيرِه من المسلمينَ وذلك لأنَّه يحتاجُ إلى ذلك لردّ شُبهِ الملاحِدَةِ والمبتدِعَةِ في الاعتقادِ. فلو جاءَ مُلحدٌ وقال للمسلمينَ أعطوني دليلا عقليًّا على وجودِ الله تعالى فلا بد من رفعِ شُبهِهِ وتشكيكاتِهِ بإيرادِ أدلَّةٍ تفصيليةٍ من البراهينِ العقليةِ لأن هذا الملحدَ إذا قيل له قال الله تعالى: }أفي الله شَكٌ{ وقال تعالى: }وَهُوَ على كلِّ شَىءٍ قَديرٌ{ وقال: }وهو بكلِّ شىءٍ عليمٌ{ وقال: }هُوَ الأوَّلُ{ وقال: }إنَّ الله لغنيٌّ عن العالمين{ ونحو ذلك، قال الملحدُ أنا لا أؤمنُ بكتابِكُم، أنا لا أريدُ أن تذكرَ لي من كتابِكم شيئًا، فكيفَ تدفَعُ شُبَهَهُ وتشكيكاتِه؟ مثالٌ لذلك لو قال عابدُ الشمسِ: إن معبودي محسوسٌ ظاهرٌ نافعٌ للإنسانِ ولسائرِ الحيوانِ والنباتِ والماءِ والهواءِ كيف لا يكونُ ديني هذا حقًّا ونحنُ وأنتُم نعلم أنَّ هذا موجودٌ وهي محسوسةٌ بحاسةِ البصرِ، فكيف تقولون إنَّ دينيَ هذا باطلٌ، فإن هذا إن قيل له قال تعالى كذا يقول أنا لا أؤمنُ بكتابِكُم أُريدُ منكُم دليلًا عقليًّا، إن وجدتُم ذلك وأقمتُم لي فأنا أُسَلّم لكم وإلا فَكيفَ تطلبونَ مني أن أؤمنَ بدينكُم. فكيف تُقامُ على هذا الحجةُ؟.

فهؤلاءِ الذين يظنونَ أن علمَ التوحيدِ لا يشتملُ على بيانِ البراهينِ العقليةِ والبراهينِ النقليةِ مع الحاجةِ الشديدةِ إلى ذلك، لا يستطيعونَ أن يُفحِموا هذا الكافرَ وإنما يستطيعُ إفحامَهُ السُّني الذي يُنَزّهُ اللهَ عن الكيفِ والحدّ والتحيُّزِ بالمكانِ والجهةِ، فيقول له: معبودُك هذا له حدٌّ وشكلٌ فيحتاجُ إلى من جعلَهُ على هذا الحدّ والشكلِ، والمعبودُ الحقُّ هو الموجودُ الذي ليس له حدٌّ ولا شكلٌ فلا يحتاجُ إلى غيرِه، أما معبودُك الذي هو الشمسُ فلا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ هو أَوجَدَ نفسَهُ على هذا الحدّ وهذا الشكلِ، إنما الذي يستحِقُّ أن يُعبَدَ هو معبودُنا الذي هو موجودٌ لا كالموجوداتِ، فهنا ينقطع عابِدُ الشمسِ.

والقرءانُ أرشَدَ إلى الاستدلالِ العقليّ بعِدّةِ ءاياتٍ كقوله تعالى: }وفي أنفسكم أفلا تُبصِرُون{ أي أنَّ في أنفُسِكُم دليلا على وجودِ الله. وذكر لذلك بعضُ عُلماءِ العقيدَةِ مثالا وهو أن يقالَ أنا كنتُ بعد أن لم أكن وما كان بعد أن لم يكُن فلا بدَّ له من مُكوِّنٍ فأنا لا بُدَّ لي من مُكوِّنٍ.

ويُستنتَجُ من هذا القولِ انّ ذلك المُكَوِِّنَ لا يكون شبيهًا لي ولا لشىءٍ ما من الحادثاتِ التي هي مشارِكةٌ لي في الحدوثِ، وهذا المُكَوِّنُ هو المُسَمَّى الله.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله : الصّفَةُ الثانِيَةُ- القِدم

القِدمُ معناهُ الأزلية فإذا قيل الله قديمٌ معناه لا ابتداءَ لوجودِهِ، هذا في حق الله أما في حق غيره إذا قيل قديم فمعناه مضى عليه زمانٌ طويلٌ، كذلك الأزليُّ، فالله تعالى هو الأزليُّ بهذا المعنى أي لا ابتداءَ لوجودِهِ فلا أزلي إلا الله، وأما الأزليُّ بمعنى قِدَمِ العهدِ والزمنِ فيوصفُ به المخلوقُ لغةً وعلى لسانِ حَمَلَةِ العلمِ. أما لُغةً فقد قال الفيروز ابادي صاحب القاموس في مادةِ هرم: الهرمانِ بِناءانِ أزليانِ بمصرَ. فالله تبارك وتعالى هُوَ القديمُ، هو الأزليُّ بمعنى لا ابتداءَ لوجودِهِ، وما سواهُ لا يقالُ عنه قديمٌ ولا أزليٌّ بهذا المعنى إلا بالمعنى الثاني وهو تقادمُ العهدِ وطولُ الزمنِ، ولم يَرِد في القرءانِ إطلاقُ القديمِ على الله بهذا اللفظِ لكن وردَ معناه قالَ تعالى: }هُوَ الأوَّلُ{ لأنهُ لا يجوزُ تفسيرُهُ بقدَمِ العهدِ لأنَّ قِدمَ العهدِ صفةٌ من صفاتِ المخلوقاتِ والله تعالى كانَ قبلَ الزمانِ فلا يوصفُ بقدمِ الزَّمَنِ.

قال أهلُ الحقّ: الموجوداتُ ثلاثةُ أقسامٍ: القسم الأول: أزليٌّ أبديٌّ وهو الله تعالى وصفاتُه فقط وصفاتُه كلُّها أزليةٌ بأزليةِ الذاتِ، ولمَّا ثبتَت الأزليةُ لذاتِ الله تعالى ثبتَت الأزليةُ لصفاتِهِ، وورَدَ في غيرِ هذا اللفظِ الدِلالةُ على أزليةِ الله تعالى في القرءانِ الكريمِ في عدةِ مواضِعَ كقوله تعالى: }وكان الله غفورًا رحيمًا{ ونحو ذلك ومعناه إنه غفورٌ رحيمٌ في الأزلِ، كذلك قوله تعالى: }وكان الله عليمًا حكيمًا{ فالأَزليةُ في القرءانِ لو لم يَرِد نصُّها لكِنَّ معناها ثابتٌ في أكثر من موضِعٍ في القرءانِ الكريمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ حديثُ البخاريّ الذي سبَقَ ذِكرُهُ: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ" فإذا عُرِفَ هذا فمن ادَّعى الأزليةَ لشىءٍ غيرِ الله فقال العالمُ أزليٌّ بنوعِهِ أي بجنسِهِ وأشخاصِهِ فهو كافرٌ، ومن قال العالم أزليٌّ بجنسه لا بأفراده المعينة فإنها مخلوقة حادثة فهو كافر أيضا وهو رأيُ الفلاسفَةِ المحدَثينَ و ابن تيمية.

القسمُ الثاني من الموجودِ: أبديٌّ لا أزليٌّ وهو الجنةُ والنارُ.

القسمُ الثالثُ: لا أزليٌّ ولا أبديٌّ وهو ما سوى الجنةِ والنارِ من المخلوقاتِ ويُلحقُ بهما ما في الجنةِ من الحورِ والولدانِ وأشياء أخرى على ما قال بعضُ أهلِ العلم.

وأما أزليٌّ لا أبديٌّ فهذا مستحيلٌ، الأزليُّ لا يكونُ إلا أبديًّا فالله تعالى أزليٌّ أبديٌّ بصفاتِهِ، أي أن صفاته أيضًا أزليةٌ أبديةٌ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله: الصفةُ الثالثةُ: البقاء

البقاءُ معناه لا نهايَةَ لوجودِهِ تعالى لأنَّ ما ثبتَ له القِدَمُ وجبَ له البقاءُ فيمتَنِعُ عليه العدَمُ أي يستحيلُ عليه العدمُ.

والبرهانُ على وجوبِ البقاءِ لله تعالى من المنقولِ قولُ الله تعالى }ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلال

والإكرام{ الوجهُ هنا معناه الذاتُ، وقال البخاريُّ:: "إلا مُلكَهُ، ويقال: إلا ما أريدَ به وجهُ الله".

وأما برهانُ البقاءِ العقليّ فهو أن يقالَ: لو لم يكنِ الله تعالى باقيًا لم يكنِ العالمُ موجودًا لكنَّ العالمَ موجودٌ فثبتَ أن الله تعالى باقٍ. والبقاءُ الذي هو واجبٌ لله هو البقاءُ الذاتيُّ أي ليس بإيجابِ شىءٍ غيرِه له بل هو يستحقُّهُ لذاته لا لشىءٍ ءاخرَ، بقاءُ الله تعالى ذاتيٌّ ولا يكون لشىءٍ سواهُ هذا البقاءُ الذاتيُّ. إنما البقاءُ الذي يكون لبعضِ خَلقِ الله تعالى كالجنةِ والنارِ الثابتُ بالإجماعِ فهو ليس بقاءً ذاتيًّا لأنَّ الجنة والنارَ حادثتانِ والحادِثُ لا يكون باقيًا لذاتِهِ، فبقاءُ الجنةِ والنارِ ليس لذاتهما بل لأن الله تعالى شاء لهما البقاءَ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ الرابعةُ: الوحدانية

ومعناه أنَّ الله تبارك وتعالى ليسَ له ثانٍ وليسَ مركَّبًا مؤلَّفًا كالأجسامِ كالعرشِ والكرسيّ والجنةِ والنارِ والسمواتِ السبعِ والإنسانِ والملائكةِ والجنّ فإنَّ هؤلاء أجسامٌ مؤلفةٌ أي تقبلُ الانقسامَ . العرشُ الكريمُ مؤلَّفٌ من أجزاء فيستحيلُ أن يكون بينه وبين الله مناسبةٌ كما يستحيلُ على الله تعالى أن يكون بينَه وبين شىءٍ من سائر خلقِهِ مناسبةٌ.

والبرهانُ العقليُّ على الوحدانيةِ أنه تبارك وتعالى لو لم يكن واحدًا وكان مُتَعَدّدًا لم يكن العالَمُ منتظمًا لكنَّ العالَمَ منتظِمٌ فوجَبَ أنَّ الله تعالى واحدٌ، وأما البرهانُ النقليُّ على وحدانيتِهِ تعالى فكثير من ذلك قول الله تعالى: }قل هو الله أحد{ ومن الأحاديث ما رواه البخاري أنه صل الله عليه وسلم كان إذا تعارَّ([6]) من الليل قال: "لا إله إلا الله الواحد القهار ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما العزيزُ الغفار".

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله الصفةُ الخامسةُ: القيامُ بنفسه تعالى

أي الاستغناءُ عن كلّ شىءٍ، فالله تبارك وتعالى مستغنٍ عن كل شىءٍ ومحتاجٌ إليه كلُّ شىءٍ سِواهُ، فلا يحتاجُ إلى مخصّصٍ له بالوجودِ لأنَّ الاحتياجَ إلى الغيرِ ينافي قِدَمَهُ، إذْ الاحتياج للغيرِ علامةُ الحدوثِ والله تباركَ وتعالى منزهٌ عن ذلك، وقد ثبتَ وجوبُ قِدَمِهِ وبقائهِ.

فالله تبارك وتعالى لا ينتفعُ بطاعةِ الطَّائعينَ ولا ينضرُّ بعصيانِ العصاةِ، وكلُّ شىءٍ سوى الله محتاجٌ إلى الله لا يستغني عن الله طرفةَ عينٍ، قال تعالى: }والله الغنيُّ وأنتم الفقراء{ [سورة محمد].

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله الصفةُ السادسةُ: مخالفته للحوادث

أي لا يُشبه المخلوقاتِ، والدليلُ العقليُّ على ذلك أنه لو كان يشبِهُ شيئًا من خلقِهِ لجازَ عليه ما يجوزُ على الخلقِ من التغيُّر والتطورِ والفناءِ، ولو جازَ عليهِ ذلك لاحتاج إلى من يُغَيّرُهُ والمحتاجُ إلى غيره لا يكونُ إلها فثبت أنه لا يشبِهُ شيئًا.

وأما البرهانُ النقليُّ لوجوبِ مخالفتِهِ للحوادِثِ فمن ذلك قوله تعالى (ليس كمثله شىء) وهو أوضحُ دليلٍ نقليٍّ في ذلك جاء في القرءانِ لأنَّ هذه الآية تُفهم التّنزيه الكُلّي لأنَّ الله تباركَ وتعالى ذَكَرَ فيها لفظَ شىءٍ في سياق النفي، والنكرة إذا أُورِدَت في سياق النفي فهي للشمولِ، فالله تباركَ وتعالى نفى بهذِه الجملةِ عن نفسِهِ مشابهة الأجرام والأجسام والأعراضِ فهو تباركَ وتعالى كما لا يشبه ذوي الأرواحِ من إنسٍ وجنٍ وملائكةٍ وغيرهِم لا يشبهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلوية والسّفلية لا يُشبِهُ شيئًا من ذلك، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفي الشَّبَهِ عنه بنوعٍ من أنواعِ الحوادثِ بل شمل نفي مشابهتِهِ لكلّ أفرادِ الحادثاتِ. ويشملُ هذا النفيُ تنزيهَهُ تعالى عن الكميةِ والكيفية، فالكميةُ هي مِقدارُ الجرم أي فهو تبارك وتعالى ليس كالجِرمِ الذي يدخُله المقدارُ والمِساحَةُ والحدُّ فهو ليس بمحدودٍ ذا مِقدارٍ ومَسَافَةٍ، ومن قال في الله تعالى إنَّ له حدًّا فقد شَبَّههُ بخلقِهِ لأنَّ ذلك يُنافي الألوهيةَ، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدارٍ لاحتاج إلى من جَعَلَهُ على ذلك الحدّ والمقدارِ كما تحتاجُ الأجرامُ إلى من جَعَلَها بحدودها ومقاديرها لأن الشىءَ لا يخلقُ نفسَه بمقدارِهِ، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدارٍ كالأجرامِ لاحتاجَ إلى من جَعَلَهُ بذلكَ الحدّ لأنه لا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ هو جَعَلَ نفسَه بذلك الحدّ، والمحتاجُ إلى غيرِهِ لا يكونُ إلها لأنَّ من شرطِ الألوهية الاستغناء عن كل شىء.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ السابعةُ: الحياة

الحياةُ في حقّ الله تعالى صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ ليست كحياةِ غيرِهِ بروحٍ ولحمٍ ودمٍ.

والبرهانُ العقلي على كونِهِ تعالى حيًّا أنه لو لم يكن حيًّا لم يتصف بالقدرةِ والإرادةِ والعلمِ، ولو كان الله تعالى غير متصفٍ بهذه الصفاتِ لكانَ متصفًا بالضّدِ وذلك نقصٌ والله منزهٌ عن النقصِ.

ومما يدلُّ على وجوبِ حياتهِ تعالى وجودُ هذا العالم، فلو لم يكن حيًّا لم يُوجد شىءٌ من العالمِ، لكنّ وجودَ العالمِ ثابتٌ بالحِسّ والضرورةِ بلا شك.

والبرهانُ النقليُّ على الحياةِ ءاياتٌ عديدةٌ منها قولُ الله تعالى: }الله لا إله إلا هو الحيُّ{.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفة الثامنةُ: القدرة

وهي صفةٌ أزليّةٌ ثابتةٌ لذاتِ الله تعالى ويصحُّ أن يقال قائمةٌ بذاتِ الله تعالى لأن المعنى واحدٌ لكن لا يقالُ ثابتةٌ في ذاتِ الله، والقدرة يتأتى بها الإيجاد والإعدامُ أي يوجدُ بها المعدومَ من العدمِ ويُعدمُ بها الموجود.

والبرهانُ العقليُّ على وجوبها لله تعالى هو أنه لو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا ولو كان عاجزًا لم يُوجد شىءٌ من المخلوقاتِ، والمخلوقاتُ موجودةٌ بالمشاهدةِ. ثم العجزُ نقصٌ، والنقصُ مستحيلٌ على الله لأن من شرطِ الإلهِ الكمالُ.

وأما البرهانُ النقليُّ فقد وَرَدَ ذكرُ صفةِ القدرةِ لله تعالى في القرءانِ الكريمِ في عدةِ مواضعَ كقولِهِ تعالى: }إنَّ الله هو الرَّزَّاقُ ذُو القوةِ المتين{ القوةُ هي القدرةُ، وقولِه تعالى: }وَهُوَ على كلِّ شىءٍ قديرٌ{.

ثم إن القدرةَ لا تتعلقُ إلا بما يُجَوّزُ العقلُ وجودَهُ وهو الممكناتُ العقليةُ ويقال بعبارةٍ أخرى الجائزاتُ العقليةُ، فلا تتعلقُ القدرةُ بالواجِبِ العقليّ ولا بالمستحيلِ العقليّ أي ما لا يقبلُ الوجودَ، لذلك يمتنعُ أن يقال هل الله قادرٌ على أن يخلقَ مثلَهُ أو على أن يُعدمَ نفسَهُ، ومعَ ذلك لا يقالُ إنه عاجزٌ عن ذلك.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ التاسعةُ: الإرادة

الإرادةُ صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ لذاتِهِ يخصصُ بها الممكن العقليَّ بصفةٍ دونَ صفة، لأنَّ الممكناتِ العقليةَ كانت معدومةً ثم دخلت في الوجودِ بتخصيصِ الله تعالى لوجودِها إذ كانَ في العقلِ جائزًا ألا توجدَ فوجودها بتخصيصِ الله تعالى، فلولا تخصيصُ الله تعالى لَما وجِدَ من الممكناتِ العقليةِ شىءٌ.

فيعلم من ذلكَ أن الله تعالى خصص كل شىءٍ دخلَ في الوجودِ بوجودِهِ بدل أن يبقى في العدمِ وبالصفةِ التي هو عليها دونَ غيرِها، فتخصصُ الإنسانِ بصورتِهِ وشكلِهِ الذي هو قائمٌ حاصلٌ بتخصيصِ الله تعالى لأنه كان في العقلِ جائزًا أن يكونَ الإنسانُ على غير هذه الصفةِ وعلى غيرِ هذا الشكلِ، ثم تخصصُ الإنسانِ بوجودِهِ في الوقتِ الذي وجِدَ فيهِ فهو من الله تعالى لأنه لو شاء لجعلَ الإنسانَ أولَ العالم لكنهُ لم يجعله أول العالم بل جعلَهُ ءاخر العالم، فالفردُ الواحدُ منَّا يعلمُ أنه ما أوجَدَ نفسَهُ على هذا الشكلِ ولا هو أوجدَ نفسَهُ في هذا الزمنِ الذي وُجِدَ فيهِ فوجبَ أن يكونَ ذلك بتخصيص مخصصٍ وهو الموجودُ الأزليُّ المسمى الله.

وأما البرهانُ النقليُّ على وجوبِ الإرادةِ لله فكثيرٌ من ذلك قولُه تعالى: }فَعَّالٌ لما يُرِيدُ{ أي أنه تبارك وتعالى يُوجدُ ويفعلُ المكوناتِ بإرادتهِ الأزليةِ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفة العاشرةُ: العلم

العلم صفةٌ أزليةٌ ثابتةٌ لله تعالى ولا يقالُ في الله تعالى لأن التعبير بفي يوهمُ الظرفيةَ، أي أنَّ ذاتَ الله تعالى ظرفٌ لعلمِهِ وهذا مستحيلٌ. فالله تعالى ليس جوهرًا يحلُّ به العرَضُ، نحنُ عملنا عرضٌ يحلُّ بأجسامنا ويستحيلُ ذلك على الله تعالى فلا يجوزُ لأحدٍ أن يعبر بهذِهِ العبارة فإن ذلكَ زللٌ يؤدي إلى الهلاكِ. وهذا الفنُّ أولى العلومِ بالاحتياطِ في العباراتِ لأنه أشرفُ العلومِ لأنه يتعلقُ بأصلِ الدينِ، ولذلكَ سماهُ أبو حنيفةَ "الفقه الأكبرَ" وهو يعرفُ بعلمِ التوحيدِ وعلم الكلامِ، وهذا الذي يسميهِ أهلُ السنةِ علم الكلامِ هو الكلام الممدوحُ، وأما الكلامُ المذمومُ فهو كلامُ أهلِ الأهواءِ أي أهلِ البدع الاعتقاديةِ كالمعتزلة فهو الذي ذمَّه السلفُ، قال الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: "لأنْ يلقى الله العبدُ بكلِ ذنبٍ ما عدا الشركَ أهونُ من أن يلقاه بكلامِ أهل الأهواءِ". فالفرقُ بينَ هذا وهذا أن علمَ الكلامِ الذي هو لأهلِ السنةِ الذي فيهِ ألَّفوا تآليفهم أنه تقريرُ عقيدةِ السلفِ بالبراهينِ النقليةِ والعقليةِ مقرونًا بردّ شُبهِ الملاحدةِ المبتدعةِ وتشكيكاتِهم. ولأهل الحقِ عناية عظيمة به فقد كان أبو حنيفة يسافر من بغداد الى البصرةِ لإبطالِ شبهِهم وتمويهاتهم فقد تردد لذلك أكثَر من عشرينَ مرةً. وبينَ بغدادَ والبصرة مسافةٌ طويلةٌ، فكانَ يقطعهم بالمناظرة بكشف فسادِ شبههم وتمويهاتِهم، وهذا لا يعيبه إلا جاهلٌ بالحقيقةِ من المشبهةِ ونحوهم فإن المشبهةَ التي تحملُ الآياتِ المتشابهة والأحاديثَ المتشابهة الواردةَ في الصفاتِ على ظواهرها أعداءُ هذا العلمِ، وفي هؤلاءِ قال القائلُ وقد صدقَ فيما قالَ:

عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم وما عليه إذا عابُوهُ من ضَرَرِ

ما ضرَّ شمسَ الضُّحى في الأفقِ طالعةً أن ليسَ يبصرها من ليسَ ذا بصَرِ

أما ما يُروى أنَّ الشافعيَّ قال: "لأن يلقى الله العبدُ بكلّ ذنبٍ ما عدا الشركِ خيرٌ له من أن يلقاهُ بعلمِ الكلام" فلم يثبت عنه.

قالَ أهلُ الحقّ في إثباتِ صفةِ العلمِ لله تعالى استدلالا أنَّه تعالى لو لم يكن عالمًا لكانَ جاهلًا والجهلُ نقصٌ والله منزهٌ عنِ النقصِ، وأيضًا لو كانَ جاهلًا بشىءٍ لَم يوجد هذا العالمُ فوجودُ هذا العالمِ مشاهَدٌ ثابتٌ للعيانِ، فالجهلُ في حقّ الله تعالى يؤدي إلى عدمِ وجودِ العالمِ وذلك محالٌ، وما أدى إلى المحالِ محالٌ.

وأما من حيثُ النقلُ فالدلائل كثيرة كقولِهِ تعالى: }وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَليم{، وقولِهِ: }ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيفُ الخبير{ ففي الآيةِ دلالَةٌ على أنه لو لم يكن عالمًا لما خلق هذا الخلقَ.

--------------------------------------------------------------------------------
....  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:27 pm

....  تابع

ما يجب لله من الأسماء والصفات



صفات الله : الصفةُ الحاديةَ عشرةَ: السمعُ

وهو صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ له تتعلقُ بالمسموعاتِ، وقال بعضُ المتأخرينَ: تتعلقُ بكلِ موجودٍ من الأصواتِ وغيرها، ولا يجوزُ أن يكونَ سمعُهُ تعالى حادثًا كسمع خلقِهِ، ولا يجوزُ أن يكونَ بآلةٍ كسمعنا فهو يسمعُ بلا أُذُنٍ ولا صِماخٍ، وقد زاغ بعضُ من لم يتعلَّم علمَ التنزيهِ ممن اقتصر على حفظِ القرءانِ من دونِ تلقٍّ لِعلم الدينِ تفهُّمًا من أفواهِ أهلِ العلمِ الذين تلقوا ممن قبلَهُم فقالَ: إنَّ الله له ءاذانٌ، فقيلَ له: كيفَ ذلكَ؟ قال: أليسَ قال الرسول "لله أشدُ ءاذانًا" فقيل له: أنت حرَّفتَ الحديثَ فالواردُ "أَذَنًا" وليس ءاذانًا، هو ظنَّ بنفسِه أنهُ عالمٌ فتجرأ على تحريفِ هذا الحديثِ ظنًّا منه أنه الصوابُ، والأَذَنُ في اللغةِ الاستماعُ، وقول هذا الرجل من أفحشِ الكذبِ على الله لم يقل بذلكَ أحدٌ من المشبهةِ. فسمعُ الله تعالى أزليٌّ ومسموعاتُهُ التي هي من قبيلِ الصوتِ حادثةٌ فهو تعالى يسمعُ هذه الأصواتَ الحادثةَ بسمعِهِ الأزليّ الأبديّ أي الذي ليس لوجودِهِ ابتداءٌ ولا انتهاءٌ بل هوَ باقٍ دائمٌ كسائرِ الصفاتِ، وهذا كما قالوا إن قدرة الله متعلقةٌ بالحادثاتِ أي الممكناتِ العقليةِ والقدرةُ أزليةٌ بخلافِ المقدوراتِ فإنها حادثةٌ، ويقال على مذهبِ الماتريديةِ إنه مكوّنُ الخلقِ بتكوينِهِ الأزليّ ومكوناتُهُ حادثةٌ.

ودليلُ وجوبِ السمعِ له عقلًا أنه لو لم يكن متصفًا بالسمعِ لكان متصفًا بالصممِ وهو نقصٌ على الله، والنقصُ عليه محالٌ.

وأما دلائلُهُ النقليةُ فكثيرةٌ منها قولُه تعالى: }وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{، وقولُه تعالى: }قد سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجادلُكَ فِي زوجِها{.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ الثانيةَ عشرةَ: البصرُ

معناهُ الرؤيةُ، والبصرُ صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ متعلقٌ بالمبصراتِ فهو تباركَ وتعالى يرى ذاته الأزليَّ ويرى الحادثاتِ برؤيتِهِ الأزليةِ، وليسَ بصرهُ كبصرِ خلقِهِ لأن بصرَ خلقه بآلة يكون بالعين.

والدليل على ثبوتِ البصر لهُ من حيث العقلُ أنه تبارك وتعالى لو انتفى عنهُ البصرُ لاتصفَ بضدِهِ وهو العَمَى أي عدمُ الرؤية وذلك نقصٌ والنقصُ محالٌ على الله.

وأما برهانُ البصرِ النقليُّ فالآياتُ والأخبارُ الصحيحةُ الكثيرةُ كقولِ الله تعالى: }وَهُوَ السَّمِيعُ

البصير{، وقولِهِ صل الله عليه وسلم في تَعدادِ أسماءِ الله الحسنى: "السميعُ البصيرُ" وهو في حديثٍ أخرجهُ الترمذيُّ وحسَّنهُ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ الثالثةَ عشرةَ: الكلامُ

يجبُ لله تعالى الكلامُ وهو صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ لا يشبهُ كلامَ المخلوقينَ ويُعبرُ عنهُ بالقرءانِ وغيرِهِ من الكتبِ المنزلةِ، وكلامُ المخلوقينَ حادثٌ، فكلامُ الإنسانِ صوتٌ يعتمدُ على مخارجَ ومقاطعَ ومنهُ ما يحصلُ بتصادمِ جسمينِ كصوتِ الحديدِ إذا جُرَّ على الصفا([7]). وليست هذه الكتبُ المنزلةُ عينَ الكلامِ الذاتي بل هي عباراتٌ عنهُ، والدليلُ على ذلكَ من حيثُ العقلُ أنه لو لم يكن متكلمًا لكانَ أبكم، والبَكمُ نقصٌ والنقصُ مستحيلٌ على الله.

وأما دليلُه النقليُّ النصوصُ القرءانيةُ والحديثيةُ من ذلكَ قولُه تعالى: }وَكَلَّمَ الله موسى تكليمًا{ أي أسمعَهُ كلامَهُ الأزليَّ الأبديَّ ففهمَ منه موسى ما فهمَ، فتكليمُ الله تعالى أزليٌّ وموسى وسماعهُ لكلامِ الله حادثٌ. فالقرءانُ يرادُ به الكلامُ الذي هو معنى، أي صفةٌ قائمة بذاتِ الله، ويطلق على اللفظِ المنزلِ على سيدنا محمدٍ، قال الله تعالى: }نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين{، وليسَ الكلام الذي هو معنى قائم بالله المسمى الكلامَ النفسيَّ لكونِهِ قائمًا بذات الله أي بنفسِهِ أي ذاتِهِ. فالقرءانُ بمعنى اللفظِ المنزلِ هو الذي يكتبُ بأشكالِ الحروفِ ويسمَعُ بالآذانِ ويحفظُ في الأذهانِ بالألفاظِ المتخيَّلةِ ويقرأ باللفظِ، أما الكلامُ الذاتيُّ فلا يحلُّ في المصاحف لكنه يُطلقُ على كلا الأمرينِ أنه كلام الله فهو باعتبارِ إطلاقِهِ على الكلامِ النفسيِ حقيقةٌ عقليةٌ شرعيةٌ، أما باعتبارِ إطلاقِهِ على اللفظِ المنزل فهو حقيقةٌ شرعيةٌ لأن اللفظَ المنزلَ ليسَ عينَ الكلامِ الذاتيِ الأزلي الأبديِ، وتقريبُ ذلكَ للفهمِ أنه يصحُّ أن يقالَ تلفظتُ الله أي تلفظتُ بلفظٍ يدُلُّ على ذاتِ الله المقدسِ، ويقال كتبتُ الله أي أشكالَ الحروفِ الدالةِ على الذاتِ القديمِ، ويقال للفظِ الجلالةِ المكتوبِ على لوحٍ ونحوِهِ هذا الله، ويقالُ قرأ فلانٌ قراءة حسنةً صحيحةً ويقالُ قرأ فلانٌ قراءةً غيرَ صحيحةٍ، فلا يصحُّ أن يكونَ قولُ القائلِ تلفظتُ الله وكتبتُ الله أن يكونَ على الحقيقةِ العقليةِ لأن الله تعالى لا يَحلُّ بألسِنتنا وكذلكَ كلامهُ الذي هو ذاتيٌّ لا يَحُلُّ بألسنتنا، إنما العبارةُ هي التي تحلُّ بألسنتنا، فإن قيلَ إذا لم يكن اللفظُ المنزلُ عينَ كلامِ الله الذاتيّ فكيفَ كانَ نُزُولُهُ على سيدِنا محمدٍ؟

فالجوابُ: ما قالَهُ بعضُ العلماء إن جبريل وجَدهُ مكتوبًا في اللوحِ المحفوظِ فأنزلَهُ بأمرِ الله له على سيدنا محمدٍ قراءةً عليهِ لا مكتوبًا في صحفٍ ويدلُ لذلكَ قولُهُ تعالى: (إنه لقولُ رسول كريم) أي مقروء جبريل، فلو كان هذا اللفظُ المنزلُ عين كلامِ الله الذاتي لم يقل الله تعالى: (إنه لقولُ رسول كريم) أي جبريل لأن جبريل هو المراد بالرسولِ الكريمِ. أما المشبهةُ فتقول الله يتكلم بالحروفِ كما نحن نتكلم بالباء ثم السين ثم ما يلي ذلك من الحروف في بسم الله الرحمن الرحيم وغيرِ ذلك من ألفاظ القرءان، وفيما قالوه تشبيهٌ لله بخلقهِ لأنه لو كان يتكلمُ بحروف تخرج من ذات الله تعالى كما تخرج من ألسنتنا لكانَ مثلنا ولا يجوزُ أن يكونَ مثلنا لأنه نفى عن نفسِه مشابهةَ غيره لَهُ بقولِه: (ليس كمثله شىء)، فرضي الله عن أئمةِ أهلِ السنة حيثُ بيَّنوا الصوابَ من الاعتقاد الذي لولا بيانُهُم لخفيَ على كثيرٍ من الخلقِ وَلَوَقَعُوا في تجسيم الله تعالى.

واستدلالنا بقولِ الله تعالى: (إنه لقولُ رسولٍ كريم ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين) من أوضح الدلائل على صحةِ ما يقولُهُ أهلُ السنة المنزهونَ لخالقهم عن شبه المخلوقينَ، وإلى هذا ذهبَ الفريقانِ من أهلِ السنةِ الماتريدية والأشعرية، فقولُ من قال من أهلِ السنةِ القرءان كلامُ الله تعالى بالحقيقةِ ينزل على التبصيرِ الذي قرَّبوه.

ثم الواجبُ معرفتهُ وجوبًا عينيًّا على كلّ مكلفٍ من صفاتِ الله هي هذه الثلاثَ عشرة، وأما التكوينُ وهو التخليقُ للمخلوقاتِ والمقدوراتِ ففهِمَهُ بعضُ أهلِ السنةِ على أنه صفةٌ لله أزليةٌ قائمةٌ بذاتِهِ تعالى فعندهُم تكوينُ الله أزليٌّ والمكوناتُ حادثةٌ مخلوقةٌ. والفريقُ الآخرُ أكثرُ الاشاعرة لا يرونَ التكوينَ صفةً لله تعالى أزليةً، إنما يرونَ التكوين أثرَ القدرة الأزلية فعندَهُم لا حاجةَ إلى عدّ التكوينِ صفةً أزليةً، فعلى حسبِ مذهبِ الماتريديةِ تكونُ الصفاتُ الواجبُ معرفتُها على كلّ مكلفٍ أربعَ عشرةَ صفةً، وبعضُ الماتريديةِ وهو صاحب كتاب بدء الأمالي قال في تقريرِ مذهبِهِم في صفاتِ الذاتِ:

صفاتُ الذاتِ والأفعالِ طُرًّا([8]) قديماتٌ مصوناتُ الزوالِ

الماتريديةُ عندَهُم هكذا يقررونَ أن صفات الذاتِ وهي ثلاثَ عشرةَ، وصفاتُ الأفعالِ أي التخليق الذي هو التكوين والإسعادُ والإشقاءُ والإماتَةُ والإحياءُ قديماتٌ أي أزلياتٌ، وقوله: "مصونات الزوالِ" معناه لا تَنعدمُ ليست شيئًا يوجدُ ثم ينقطعُ.

وأما بعضُ الحنابلةِ قالوا كلامُ الله بصوتٍ لكنَّ متقدميهِم يعنونَ بذلكَ صوتا أزليًّا أبديًّا ليس كأصواتِ المخلوقينَ فإن الذي يعتقدُ أن كلامَ الله صوتٌ حادثٌ فهو شَبَّهَهُ بخلقه وخالف قولَ الله تعالى: (ليس كمثله شىء).

ثم إن الناسَ افترقوا في مسألةِ الصفاتِ فِرقًا، فرقة أثبتتِ الصفاتِ معَ التنزيهِ عن مشابهةِ الخلقِ وهم أهلُ السنة والجماعة، أثبتوا لله ما أثبتَ لنفسِهِ مع تنزيهِهِ تعالى عن أن تكونَ صفاتُهُ من لوازِمِ الجسميةِ كالجلوسِ والانتقالِ والتحيزِ في جهة من الجهاتِ والتغيرِ والتطورِ وسائرِ أماراتِ الحدوث، وفرقة عطلتِ الصفاتِ وهم المعتزلةُ وهمُ القدريةُ أنكروا أن الله متصفٌ بصفات تقومُ بالذات فسمُّوا لذلكَ معطلةً لأنهم عطلوا الصفات أي نفوها، وفرقة جعلوا صفاتِ الله من لوازمِ الجسميةِ أثبتوا للذاتِ المقدسِ الحركةَ والسكونَ والتنقلَ وغيرَ ذلك من أماراتِ الحدوثِ كقولِهِم إن كلامَ الله أصواتٌ وحروفٌ توجدُ ثم تنقضي ثم تعودُ ثم تنقضِي ثم تعودُ ثم تنقضِي وهؤلاءِ يسمَّونَ مشبهةً ومجسمةً، ومن هؤلاءِ قسمٌ يصرحونَ بتسميةِ الله جسما ثم يقولونَ نحن لا نعني بقولنا إنه جسم أَنه جِرمٌ إنما نعني أنه موجودٌ قائمٌ، وقسمٌ يتحاشونَ أن يطلقوا عليه لفظَ الجسم مع اعتقادِ معناه، ومن هؤلاء الكراميَّة وهم مشبهةٌ مجسمةٌ ينتسبونَ إلى رجلٍ يقال له محمد بن كرام ويقالُ لهؤلاءِ حشوية، وأهلُ السنةِ الوسطُ بين ذينِكَ الفريقينِ وهم لقّبوا الأشعريةَ والماتريديةَ لأنهم اتَّبَعُوا إمامي الهدى أبا الحسن الأشعري وأبا منصورٍ الماتريديَّ ويتميزُ هؤلاءِ عن المعطلةِ والمشبهةِ لكونِهِم يثبتونَ لله تعالى الصفاتِ التي مرَّ ذكرُها: العلمُ والقدرةُ والإرادةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ والحياةُ والمخالفةُ للحوادثِ والقيامُ بالنفسِ والوجودُ والوحدانيةُ والقدم والبقاء مع تنزيهِ الله تعالى عن صفاتِ الحدوثِ بقولِهِم في هذه الصفاتِ إنها أزليةٌ أبديةٌ، ولأنهم يؤولونَ ءاياتِ الصفاتِ وأحاديث الصفاتِ من المتشابِه بتركِ حملِها على الظواهر، فمنهم من يؤولُ تأويلا إجماليًّا ومنهم مَن يؤولُ تأويلا تفصيليًّا ويَرونَ كلا الأمرينِ حقًّا وصوابًا. ومثالُ ذلكَ أنهم يحملونَ استواءَ الله على العرشِ المذكورَ في عدةِ ءاياتٍ على معنى يليقُ بهِ تعالى لا على معنَى الجلوسِ والاستقرارِ أو المحاذاةِ أو نحوِ ذلكَ من معاني الاستواءِ في اللغةِ العربيةِ مما هو من استواء المخلوق، ثم منهم من يكتفِي بإمرارِها كما جاءت من غير تعيينِ معنى لائق بالله تعالى كالاستيلاءِ والقهرِ، ومنهم من يعينُ معنى لا يلزمُ منهُ علاماتُ الحدوثِ ولوازمُ الجسميةِ فالفريقُ الأولُ منهُم أَوَّلوا تأويلا إجماليًّا والفريقُ الآخر أَوَّلوا تأويلا تفصيليًّا.

وزاغَ أهل التشبيه عن الحقّ وقالوا إن التأويلَ تعطيل وهو افتراءٌ على أهلِ السنّة، وهؤلاءِ يذمون أهلَ الحقّ لتركهم حملَ تلكَ الآيات والأحاديث المتشابهة كآيةِ الاستواء المذكورةِ على ظواهرِها، فيقول أحدهم للسني الذي لا يحمل تلك الآيات والأحاديث على ظواهرها هذا مؤوّل على وجهِ التعيير وهم معَ ذلك يؤولونَ بعضَ هذه الآياتِ والأحاديثِ، فهم في الحقيقةِ مناقضونَ لأنفسِهِم وإن لم يشعرُوا بذلكَ لأنهم لا يحملونَ الآياتِ التي ظواهرها أن الله في الجهةِ المقابلةِ لجهةِ العلوّ كالأرضِ فإذا جاءوا إلى هذِه الآياتِ كقولِهِ تعالى في حقّ ابراهيمَ: }وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين{ لا يحملونَ هذه الآيةَ على أن الله تعالى أرادَ بذلكَ أنه كانَ في أرضِ الشامِ التي هاجرَ إليها إبراهيمُ، كذلك إذا جاءوا إلى قولِهِ تعالى: }وهو معكم أين ما كنتم{ لا يحملونَ هذهِ الآيةَ على ظاهرها لأنَّ ظاهرها أن الله مخَالطٌ عبادَهُ في أماكِنهم في الأرضِ أينما كانوا وأنه متنقلٌ معهم. ثمَّ إذا قيلَ لَهُم كيفَ تحملونَ بعضَ هذِهِ الآياتِ على ظواهرِها كآيةِ الاستواءِ على العرشِ ولا تحملونَ الآياتِ الأخرى كآيةِ }وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين{ وءاية }ونحن أقرب إليه من حبل الوريد{ وما أشبهَ ذلك لا تحملونَها على الظواهرِ أليس هذا تَحَكُّمًا، قالوا الآياتُ التي ظواهرُها أن الله تعالى في جهةِ العلوّ كالعرشِ والسماءِ إذا حملناها على ظواهرِها أثبتنا لله الكمالَ وأما الآياتُ التي ظواهرُها أنه تعالى في جهةِ تحت لا نحملُها على ظواهرها لأن جهةَ تحتٍ خلافُ الكمالِ وهي نقيصةٌ في حقّ الله تعالى.

وقالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون: }وإنا فوقهم قاهرون{ أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.

والحاصلُ أن هذه الطائفةَ كأنها لا تدري ما تقولُ، أما أهلُ الحقّ الذين لا يحملونَ تلك الآياتِ على الظواهرِ ما أوهمَ منها تحيزَ الله في جهةِ العلوّ وما أوهَمَ منها تحيزَهُ في جهةِ تحت فهم جانبوا التحكمَ أي الدعوى بلا دليلٍ، وأما الفئة التي تحملُ بعضَ تلك الآياتِ والأحاديثِ على ظواهرِها وتترك حملَ بعضٍ على ظاهرها فقد تحكمت ولزمَها التشبيهُ فهم مشبهةٌ في الحقيقةِ وإن كانوا لا يرضونَ هذا الاسمَ لهُم. ومن عادتِهِم أنهم يموهونَ على الناسِ بقولِهِم استوى على العرشِ بلا كيف أو بقولِهم على ما يليق بهِ وهم يعتقدونَ في الله الكيفَ الذي نفاه السلَف فليحذرِ العَاقل تمويهَهُم، تعالى الله عما يقولون.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله : صِفَاتُ الله كُلُّها كَمَالٌ

صِفَاتُ الله أزَلِيَةٌ أَبدِيَةٌ، لأَنَّ الذَّاتَ أزَليٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَم تَكُنْ في الأَزَلِ، أمَّا صِفَاتُ الخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إلى أكْمَلَ فَلا يتجدَّدُ عَلى عِلْمِ الله تَعَالَى شَىءٌ. والله تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ بِعلْمِه الأَزَليّ وقُدْرَتِه الأَزَلِيَّةِ ومَشِيْئَتِه الأَزَلِيَّةِ، فَالمَاضِي والحَاضِرُ والمُسْتَقْبَلُ بِالنّسْبَةِ لله أَحَاطَ بِه بِعِلْمِهِ الأَزَلِيّ. ولما ثَبَتَت الأزليَّةُ لذات الله وَجَبَ أن تكون صفاتُهُ كلُّها أزليَّةً أبديَّةً لا تَقبَلُ التَّغيُّرُ والتَّطوُّرُ لأن التّغيُّرَ والتَّطوُّرَ من حال إلى حال علامةُ الحدوث، فالإنسان يقبل الزّيادةَ والنُّقصانَ والتغيُّرَ من الكمال إلى النَّقصِ والعكس أما الله تعالى لا يزدَادُ ولا ينقصُ، فصفاتُ الله لا تقبلُ التّطوُّرَ من كمالٍ إلى أكملَ وعلمُ الله لا يزدادُ ولا ينقصُ بل علمُهُ كاملٌ كما سائر صفاته يعلمُ به كلَّ شَىءٍ، فلا يتجدّدُ له علمٌ جديدٌ بل هو عالمٌ في الأزلِ بكلّ شىءٍ فالتّغيُّرُ يحصُلُ في المعلومِ الحادِثِ لا في علمِ الله الأزليّ، فالله يعلمُ ما كانَ في الماضي وما يكون في الوقتِ الحاضرِ وما سيكون في المستقبلِ حتى الأشياء التي تتجدَّدُ في الآخرةِ الله عَلِمَ بها في الأزل، حتى أنفاسَ أهل الجنةِ وأهل النار التي تتجدَّدُ بلا انقطاعٍ الله تعالى يعلمُ بتفصيلها.

أما قولُه تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) [سورة الأعراف] معناهُ أن الله تعالى له الأسماءُ التي تدلُّ على الكمالِ، فالله لا يُوصَفُ إلا بصفةِ كمالٍ فما كانَ من الأسماءِ لا يدلُّ على الكمالِ لا يجوزُ أن يكونَ اسمه كما يُسمّيه بعضُ النّاس "روحًا"، وبعضُهم سمّاهُ "ءاه"، فهذا لا يجوزُ لأن كلمةٌ ءاه وَضَعَهَا العربُ لِتَدُلَّ على الشّكايةِ والتّوجُّعِ وقد جاءَ في الحديثِ الذي رواه الترمذي أن رسول الله قال: "إذا تثاءبَ أحدُكم فَليَضَع يدهُ على فِيْهِ، وإذا قالَ ءاه ءاه فإنَّ الشّيطانَ يضحَكُ من جوفِهِ" أي يدخل إلى فمِهِ ويسخرُ منه.

ومن الدّليلِ على أن ءاه ليس من أسماءِ الله أن الفقهاءَ قالوا إن من قالَ ءاه في الصّلاةِ عامدًا بطلَتْ صلاتُهُ، ومعلومٌ أن ذِكرَ الله لا يبطلُ الصلاةَ، فلو كانَ ءاه من أسماءِ الله لما أبطَلَ الصلاةَ.

وأسماءُ الله الحسنى يُطلَقُ عليها صفات الله ويُطلقُ عليها أسماء الله إلا لفظ الجلالةِ لا يطلقُ عليه الصّفة، ثم إن أسماء الله تعالى قسمانِ قسم لا يُسمَّى به غيرُهُ وقسمٌ يُسمَّى به غيرُه، الله والرَّحمنُ والقدُّوسُ والخالقُ والرَّزَّاقُ ومالكُ الملكِ وذو الجلالِ والإكرامِ والمحيي المميت لا يُسمَّى به إلا الله، أما أكثرُ الأسماءِ فيُسمَّى به غيرُ الله أيضًا، فيجوزُ أن يسمّيَ الشَّخصُ ابنَهُ رحيمًا والمَلِك كذلك والسَّلام كذلك.

تم إملاءٍ في غرة رجب لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة في مدينة خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين، وصل الله على خير خلقه.

ملخص لهذا المقال:

صفات الله ثابتة بلا كيف

أهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله بلا تشبيه

صفات الله ثابتة بلا كيف. الله لا يشبه المخلوقات. الله متصف بصفات كمال.

الله متصف بصفة الوجود، الله موجود بلا مكان.

الوحدانية، الله واحد. القدم، الله أزلي لا بداية له ولا نهاية.

والبقاء، الله لا نهاية له. وقيامه بنفسه، لا يحتاج لغيره.

والقدرة، قادر على كل شىء.

الله متصف بصفة الإرادة، كل شىء بمشيئة الله.

والعلم، علم الله أزلي. والسمع والبصر، يسمع كل المسموعات،ويرى كل المرئيات بغير عين أو اذن او جارحة.

والحياة، حياة الله ليست بروحٍ أو لحم أو دم.

الكلام، كلام الله ليس بحرف أو صوت أو لغة.

صفات الله كلها كمال. ليس كمثله شىء








الأربعاء، 21 مارس 2012


[size=30]موسوعة العقيدة - الإلهيات - صفات المعانى : صفة الكلام


[/size]

ثانيا : الإلهيات Hl1-01+-+Copy+-+Copy+(2)+-+Copy
صفة الكلام

        كلام اللـه تعالى القائم بذاته هو صفة أزليّ ليس بحرف ولا صوت ولا يقبل العدم، وما في معناه من السّكوت ولا التبعيض ولا التقديم ولا التأخير. ثمّ هو مع وحدته متعلّق، أي دالّ أزلا وأبدا على جميع معلوماته التي لا نهاية لـها، وهو الذي عبّر عنه بالنّظم المعجز المسمّى أيضا بكلام اللـه تعالى حقيقة لغويّة، لوجود كلامه عزّ وجلّ فيه بحسب الدّلالة لا بالحلول، ويسمّيان قرآنا أيضا.
        وكنه هذه الصّفة وسائر صفاته تعالى محجوب عن العقل كذاته جلّ وعزّ، فليس لأحد أن يخوض في الكنه بعد معرفة ما يجب لذاته تعالى ولصفاته. وما يوجد في كتب علماء الكلام من التمثيل بالكلام النّفسيّ في الشّاهد عند ردّهم على المعتزلة القائلين بانحصار الكلام في الحروف والأصوات، لا يفهم منه تشبيه كلامه جلّ وعزّ بكلامنا النّفسيّ في الكنه تعالى وجلّ عن أن يكون لـه شريك في ذاته أو صفاته أو أفعالـه، وكيف يتوهّم أنّ كلامه تعالى مماثل لكلامنا النّفسيّ، وكلامنا النّفسيّ أعراض حادثة يوجد فيها التقديم والتأخير وطروّ البعض بعد عدم البعض الذي يتقدّمه، ويترتّب وينعدم بحسب وجود جميع ذلك في الكلام اللّفظيّ، فمن توهّم هذا في كلامه تعالى فليس بينه وبين الحشويّة ونحوهم من المبتدعة القائلين بأنّ كلامه تعالى حروف وأصوات، فَرْقٌ.
        وإنّما مقصد العلماء بذكر الكلام النّفسيّ في الشّاهد النّقض على المعتزلة( ) في حصرهم الكلام في الحروف والأصوات، فقيل لـهم: ينتقض حصركم ذلك بكلامنا النّفسيّ فإنّه كلام حقيقة وليس بحرف ولا صوت، فقيل لـهم: ينتقض حصركم ذلك بكلامنا النّفسيّ فإنّه كلام حقيقة وليس بحرف ولا صوت، وإذا صحّ ذلك فكلام مولانا أيضا كلام ليس بحرف ولا صوت، فَلَمْ يَقَعِ الاشتراكُ بينهما إلاّ في هذه الصّفة السّلبيّة، وهي أنّ كلام مولانا جلّ وعزّ ليس بحرف ولا صوت، كما أنّ كلامنا النّفسيّ ليس بحرف ولا صوت. أمّا الحقيقة فمباينة للحقيقة كلّ المباينة. فاعرف هذا فقد زلّت هنا أقدام لم تُؤَيَّدْ بنورٍ من الملك العلاّم.
=============================
الإمام السّنوسيّ في شرحه على عقيدته المسمّاة بأمّ البراهين





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:27 pm

الذات والصفات بين المعتزلة والأشاعرة

المسلمون يقولون بالتوحيد بل إن عنوان دين الإسلام هو لا اله إلا الله ولكن الفلاسفة وعلماء الكلام فلسفوا هذا التوحيد وبحثوه بحثا كلاميا وعمقوه تعميقا جدليا وأضفوا عليه صيغا منطقية ومصطلحات فلسفية وعدد الذين شكوا في وجود الله ووصلوا إلى مرتبة الإلحاد والزندقة يعدون على الأصابع،...

فمعظمهم ينطلق من أن الله صانع العالم ومبدع الكون ويقيم أنساقا معرفية ومناهج فلسفية كلها تبرهن وتثبت وجود الله .

لكن إن اتفق المسلمون أن الله تعالى واحد اختلفوا في علاقة ذاته بصفاته وعدد أسمائه الحسنى و قالوا أن كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تنسب إلى الله العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام، فهل هذه الصفات هي أسماء زائدة أم عين الذات،..

بعبارة أخرى هل الأسماء مجرد صفات أم عين للذات الإلهية، ثم ما الفرق بين التصور الاعتزالي والتصور الأشعري للذات الإلهية، ألم يقع التصور الكلامي برمته في خطأ منهجي هو قياس الغائب الإلهي على الشاهد الإنساني.

1- الله عند المعتزلة:

يقصد المعتزلة بعلم التوحيد العلم بأن الله تعالى واحد لا شريك غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا ، على الحد الذي يستحقه ،والإقرار به .

وهذا الحد الذي يستحقه ، هو عندهم التنزيه المطلق للذات الإلهية ونفي المثلية عنها بأي وجه من الوجوه ،وفي إطار هذا التنزيه المطلق نشأت عندهم مباحث متعددة كمبحث الذات والصفات.

إن معرفة الذات الإلهية عند المعتزلة واجبة لما تؤدي إليه من الالتزام بحدود الشريعة الذي هو غاية وهدف الدين الإسلامي ، ولأن المفهوم الاعتزالي للإيمان والذي أساسه العمل يستوجب معرفة الحقيقة الإلهية والاقتناع بها مما يدفع إلى كمال العقل والتشبث بالطاعات العملية ، ولذلك فان شيوخ الاعتزال وجهوا جهودهم إلى تركيز حقيقة التوحيد في النفوس واستعملوا في ذلك مختلف الأساليب والمعطيات الفلسفية والطبيعية ، هادفين إلى أن يصل التصديق بهذه الحقيقة إلى مرتبة الدفع إلى العمل، وأجمعوا على أن الله واحد ليس كمثله شيء، وأنه ليس بجسم طبيعي أو حيواني ،وأن ذاته ليست مؤلفة من جوهر ذي أعراض تدركها الحواس ،وأنه منزه عن عوارض المادة وخواصها وأنه بسيط يستحيل عليه التجزؤ ولا يحيط به المكان ولا يجري عليه الزمان ولا تحدده الحدود والنهايات ولا تحيط به الكميات.

انه تام الكمال بحيث لا يتصور له شبيها ووجوده أزلي لا شاركه في الأزل أحد، فالله واحد لا شريك له من أي جهة كانت ولا كثرة في ذاته البتة وهو خالق الجسم وليس بجسم ولا في جسم ومحدث الأشياء وليس بمحدث منزه عن كل صفات الحدوث.

لقد امتاز المعتزلة بهذا الأصل عن سائر مذاهب المسلمين لأنهم دافعوا عن وحدة الله دفاعا عقليا وعارضوا فكر سائر المشبهة والمجسمة الحشوية، وصدوا عن ديار الإسلام فكرة القائلين بالتعدد من المجوس والمثنية ،ورأوا في عقيدة التثليث المسيحية ثمرة القول بالتشبيه والحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت..

وقالوا بأن عيسى كلمة الله وهذه الكلمة محدثة ليست قديمة وذلك حتى لا يتعدد القدماء كما يقول بها سائر فرق المسيحية من نساطرة وملكانية.

وقد أضحت فكرة الوحدة التي جاء بها القرآن نظرية متكاملة ومتعددة الجوانب، فوحدة الله تستلزم تجرده من المادة وتقتضي النظر إلى الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة والكلام ،على أنها صفات لا تفيد شيئا آخر غير الذات..

وبالتالي ما ذهب إليه المعتزلة من قول بوحدة الذات والصفات يندرج ضمن جهودهم من أجل تأكيد معنى التوحيد في النفوس ومقاومة ما عسى أن يتسرب للمسلمين من عقائد الشرك والوثنية، لكن إذا كان الله يصف نفسه في القرآن بأنه عالم وقادر ومريد وحي وسميع وبصير ومتكلم فماهي كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات; وما علاقة ذلك بالتوحيد ووحدانية الله.

إن قلنا بأن الله عالم فلدينا هنا ذات وصفة، وان قلنا إن هذه الصفة معنى زائد على ذات الله ،أي ليست هي ذات الله ،وهو ما يؤدي إلى القول بقدم الصفة ،وبالتالي نفينا التوحيد وأثبتنا تعدد القدماء ..

وان قلنا إن هذه الصفات محدثة أصبحت ذات الله محلا للحوادث، وما كان محلا للحوادث فأولى به أن يكون هو نفسه حادثا.

في هذا السياق يقول العلاف:"إن الله عالم بعلم هو هو وقادر بقدرة هي هو وحي بحياة هي هو وكذلك في سائر الصفات...

" ومعنى ذلك أن الله عالم بعلم هو هو أي علمه هو عين ذاته ،وكان أبو الهذيل العلاف يقر أنه إذا قلت إن الله عالم يثبت له علما هو الله ونفيت عنه الجهل ودللت على معلوم كان أو يكون إذن فانه يثبت الصفة ،لكنه يؤكد أنها هي ذات الله.

أما النظام فانه يرى أن" صفات الله هي صفات سلبية لا تقتضي للذات شيئا زائدا عليها ،فإذا قلت انه عالم أثبت لله علما هو ذاته ونفيت عنه الجهل، ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته".

أما أبو علي الجبائي فانه يتصور الله على أنه:" عالم لذاته قادر حي لذاته" ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالما أي يقتضي حال علم أو حال يوجب كونه عالما ، فإذا أمعنا النظر في مختلف الآراء الكلامي، تبين لنا أن الجبائي يختلف عن العلاف بقوله أن الله عالم بعلم وعلمه هو هو وقادر بقدرة وقدرته هي هو ..

أما الجبائي فانه يرى أن الله عالم بلذاته لا بعلم، وبالتالي نفى عن الذات الإلهية الصفة قام بإثبات الذات هي بعينها صفة، وبإثبات الصفة هي بعينها الذات.

يتبين لنا عندئذ أن شيوخ الاعتزال يتحاشون إثبات مجموعة من الصفات كمعان زائدة عن الذات ؛ لأن ذلك يتناقض مع أصل التوحيد الواجب إثباته لله؛ إذ أن ذات الله وحدة وليست كثرة ،وأن صفاته ليست وراء ذاته معاني قائمة بذاته كما يذهب إلى ذلك الأشاعرة بل هي ذاته ..

وترجع هذه الصفات إلى الأسلوب، أي أننا أثبتنا العلم لله وسلبنا عنه الجهل، وأثبتنا له القدرة وسلبنا عنه العجز وأثبتنا له الحياة وسلبنا عنه الموت. ويزيد شيوخ الاعتزال بالتجريد والتنزيه للذات الإلهية إلى حد القول بأن الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في القرآن أحوالا أو أوجها للذات ، ولكي ينزه الله عن صفات الظلم والقبح والسلوب؛ قسم أبو الهذيل العلاف الصفات إلى نوعين:

واحدة يوصف بها الله ولا يوصف بضدها ، وقد سماها صفات الذات ومنها العلم والقدرة والحياة والقهر والعلو والقدم والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبر والسيادة والملك والربوبية والقدوسية.

والثانية يوصف بها الله ولا يوصف بضدها ، وسماها صفات الفعل ومنها السخط والرضا والحب والبغض والمدح والذم والإماتة والإحياء والأمر والنهي والجود والحلم. ويرجع الاختلاف بين الصفات إلى الاختلاف بين المعلوم والمقدور وليس هو بالاختلاف الحقيقي..

فلا نقول أن الله قادر على العجز أو يريد الظلم للعباد أو لا يحب الجمال.

وقد أدى هذا الاعتبار إلى القول بالتماهي بين هذه الصفات إذ يقول العلاف هنا:" معنى أن الله عالم أنه قادر ومعنى أنه قادر أنه عالم ومعنى أنه عالم أنه حي ومعنى أنه حي أنه عالم ومعنى أنه قادر أنه حي ومعنى أنه حي أنه قادر صفاته هي هو وذاته نفس صفاته". فماهي الحجج التي قدمها شيوخ الاعتزال لإثبات أن صفات الله هي عين ذاته.

2- أنماط الحجاج على وحدة الذات والصفات:

- الحجاج العقلي:

لما قال المعتزلة بالتوحيد من جميع الجهات فان حقيقته تعالى أحدية من كل وجه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه إذ لو كانت هذه الصفات غير ذاته لكانت ذاته مركبة ولو كانت مركبة لاحتاج كل جزء إلى الأجزاء الأخرى وأيضا الله ليس بذات مؤلفة من جوهر ذي أعراض وأنه بسيط يستحيل عليه التجزؤ.

لو كانت هناك صفات غير الذات لكانت قديمة قدم الذات لتعددت القدماء وهو عند النصارى ونعلم أن نعلم أن ما يكون قديم يشارك الله في القدم وبالتالي في الألوهية وليس قديما إلا أن يكون إلها فلو كانت الصفات إذن زائدة عن الذات وقديمة لتعددت الآلهة ولأبطلت عقيدة التوحيد التي هي ركيزة الدين الإسلامي وهو ما وقع فيه كل من النصارى في عقيدة التثليث التي ترى أن الذات الإلهية جوهر يتقوم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة والتي تطورت إلى اعتبار الصفات أشخاصا والى تجسد الأقنوم الثاني الخاص بالعلم في الابن.

أخذ المتكلمة عن الفلاسفة فكرة واجب الوجود بذاته وميزوه عن واجب الوجود بغيره وممكن الوجود بذاته وممكن الوجود بغيره لأنها كلها تحتاج إلى من يهبها الوجود أما واجب الوجود فهو علة ذاته وسبب وجوده ولا يحتاج في وجوده إلى غيره. إن واجب الوجود بذاته لن يتصور إلا واحدا فلا صفة ولا حال ولا اعتبار ولا حيث ولا وجه لذات واجب الوجود فإذا كانت الذات متعددة الأوجه يكون أحد الوجهين غير الآخر أو يدل لفظ على شيء هو غير الآخر والصحيح أن واجب الوجود لا يجوز لغير ذاته ولا يشاركه شيء ما صفة كانت أو موصوفا في وجوب الوجود والأزلية.

قالت المعتزلة بأن الله تعالى حي وعالم وقادر بذاته لا بعلم ولا بحياة زائدة على ذلك إذ لو كان عالما بعلم زائد ومتصفا بهذه الصفات كلها لأنها زائدة على ذاته كما هو الحال في الإنسان لكان هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول وهذه صفة الجسمية والله تعالى منزه عن الجسمية.

- الحجاج النقلي:

يوجد في القرآن الكريم بعض الآيات التي يدل ظاهر معناها على التجسيم مثل الاستواء على العرش واثبات الوجه واليد والجنب والساق والمجيء وهو ما يتعارض مع التنزيه والأحدية والصمدية فكيف تعامل علماء الكلام المعتزلة مع هذه الآيات لنفي التشبيه عن الذات الإلهية.

لم يجد شيوخ التوحيد والعدل من بد لنفي التجسيم عن الله سوى تأويل تلك الآيات تأويلا عقلانيا بما يتفق مع أصل التوحيد وقد فهموا الصفات كما يلي:

الاستواء: "الرحمان على العرش استوى" فسروا الاستواء بمعنى الاستيلاء والغلبة على العالم جملة وتجيز اللغة مثل هذا التأويل لكلمة الاستواء إذ قال أحد الشعراء:

فلما علونا واستوينا عليه         تركناهم صرعا لنمر وكاسر

اليد: " يد الله فوق أيديهم" فسروا اليد بمعنى القوة والنعمة نسبة إلى دلالة اللغة التي ترى مثلا أن ما لي على هذا الأمر يد أي قوة ونجد في المعنى الثاني أيادي فلان علي كثيرة والمقصود نعمه.

الجنب: "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله" وقد فسر الجنب بالطاعة لأنه نجد في اللغة العربية اكتسب هذا الحال في جنب فلان أي في طاعته.

الساق: "يوم يكشف عن الساق" فسروا الساق بمعنى الشدة.

العين: "تجري بأعيننا" وفسروا العين بالصنع والعلم ونجد في اللغة جرى هذا بعيني أي حدث بعلمي.

الوجه: "كل شيء هالك إلا وجهه" فسروا الوجه بمعنى ذات الله.

المجيء: "وجاء ربك" فسرت بكونها جاء ميعاد ربك .

كيف رد الأشاعرة على هذه التأويلات ، وماهو تصورهم للعلاقة بين الذات والصفات.

3- الله عند الأشاعرة وأهل السنة والجماعة:

لم يختلف الأشعري عن المعتزلة وعن سائر الفرق الكلامية في أن العقل وليس النقل هو طريق معرفة الذات الإلهية والبرهنة على وجودها وعلى ما تتصف به من صفات.

فهي إذن ملكة العقل الشديدة الشبه ببداهة الفطرة الإنسانية السلمية تلك التي انطلق منها الأشعري ليقول أن لهذا الكون خالقا ..

فكان التصور الفلسفي للإنسان المؤمن أنه يعيش في كون له اله وببداهة الفطرة الإنسانية تقرر في العقل وحدانية هذا الخالق؛ لأن النظام والاتساق والإحكام في الكون إيجادا وتدبيرا يقطع بوحدانية الخالق المدبر؛ لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ولابد أن يلحقهما العجز أو واحد منهما، وهو ما يسميه الجويني إمام الحرمين بدليل التمانع ،والذي أخذه من الكندي..

ويعتمد في ذلك على أهم صفة ثبوتية لله وهي أنه واحد فالواحد الحقيقي هو الشيء الذي لا ينقسم ..

والدليل على وحدانيته أنا لو قدرنا الهين اثنين وفرضنا عرضين ضدين وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين وإرادة للثاني فلا يخلو من أمور ثلاثة :-

إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ إرادتهما وهما باطلان لاستحالة اجتماع الضدين واستحالة عدم تنفيذ إرادتهما حينئذ يتعين الأمر الثالث هو أن تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر فالذين لا تنفذ إرادته فهو المغلوب المستكره أما الآخر الذي نفذت إرادته فهو الإله القادر على تحصيل ما يشاء ويستحيل توافقهما وعدم اختلافهما مطلقا ولهذا فالقول بوجود الهين قول غير مصيب.

هذا الإله الواحد عند الأشعرية هو منزه عن شبه المحدثات مبرئ من التجسيم والتجسيد والحلول والاتحاد على النحو الذي وقع في مستنقعه المجسمة النصوصيين والصوفية الحلولية ومن ثمة فهو منزه عن التحيز في الجهة أو المكان...

ولعل تغليبهم للنقل على العقل انطلاقا من وسطيتهم الخاصة التي تعطي النصوص والمأثورات دورا يتفوق أحيانا على براهين العقل وتأويلاته قالوا أن الخالق في السماء بدافع التعظيم والتنزيه واعتبروا أنه لا يجوز القول بأنه في كل مكان لأنه لا يوجد في الأمكنة الفانية وغير الطيبة والأمكنة المحدثة وقالوا باستواء على العرش واعتبروه فعل أحدثه الله في العرش وسماه استواء. لكن ماهي منزلة الصفات من الذات خصوصا أن الإله وصف بها نفسه في القرآن وأن المعتزلة نفوا كل صفة زائدة عن الذات وقالوا بوحدة الذات والصفات أي هي عين الذات أو أحوالا أو أوجها للذات.

حاولت الأشعرية أن تتخذ لنفسها موقعا وسطا بين المشبهة والمعتزلة..

فالمشبهة ومن نحا نحوهم قالوا بأن الصفات غير الذات الأمر الذي أوهم إلى لحوق الغيرية بالذات الإلهية إلى حد أنهم قالوا أن الله جسم لا ككل الأجسام وله وجه لا ككل الوجوه وله يد لا ككل الأيادي وبين المعتزلة الذين قالوا بوحدة الذات والصفات والذين اعتبروا هذا التنزيه تعطيلا للذات لأنه لا يتصور أن تكون الذات حية دون حياة..

ولهذا قالوا بأن الله عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ومريد بإرادة وكان ذلك أهم ما خالف فيه الأشعري المعتزلة بإثبات سبعة صفات لله فإثبات العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر له تدل على وجود هذه الصفات متميزة لأنه لا معنى لكلمة عالم إلا أنه ذو علم ولا لقادر إلا أنه ذو قدرة فقال الأشعرية بأن الله لا يشبه شيء وقالوا أن هذه الصفات قائمة بذات الله سبحانه أي أنها ليست عين الذات ولكنها ليست غير الذات فهي قائمة بالذات زائدة عليها وهذه الصفات موجودة أزلية وعند الأشاعرة حرة فانه لا فرق بين صفات الذات وصفات الأفعال وقد عد عبد الله بن سعيد الكلابي خمسة عشر صفة لله. فماهي الحجج التي قدمها الأشاعرة لإثبات الصفات الأزلية.

أنماط الحجاج العقلي:

- قالت الأشعرية بأن الله عالم بعلم قادر بقدرة وحي بحياة ومريد بإرادة وذلك لأن من قال انه عالم ولا بعلم كان مناقضا لأنه لا يتصور أن يكون الذات عالما بغير علم لأنه لما ثبت لله هذه الصفات وجب وصفه بها لأن الوصف اقتضى الصفة كاقتضاء الصفة للوصف فإذا وجب وصفه وجب إثبات الصفة له ويورد الأشعري في كتابه في الإبانة عن أصول الديانة ردا على أبي الهذيل العلاف لقوله أن علم الله هو الله :"قيل له: إن قلت إن علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي وارحمني! فأبى ذلك فلزمته المناقضة."

- الدليل على أنه متكلم بكلام قديم ومريد بإرادة قديمة أن الله تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمر وناه وأمره إما أن يكون قديما وإما محدثا فان كان محدثا فإما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في محل. أولا يستحيل أن يحدثه في ذاته لأنه يؤدي إلى أن يكون محلا للحوادث وذلك محال ويستحيل أن يكون في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفا ويستحيل أن يحدثه لا في محل لأن ذلك غير معقول فتعين أنه قديم قائم به صفة له. وكذلك في الإرادة والسمع والبصر...

- إذا قلنا بأن الصفات هي عين الذات وانطلاقا من صفتي العلم والقدرة ينبغي أن نقول انه عالم قادر وان قلنا بهذا أي الله عالم قادر فإما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدا أو مغايرا وان كان شيئا واحدا وجب أن يعلم بقادريته ويقدر بعالميته وليس الأمر كذلك فقوجب أن يكون هناك صفة علم وقدرة مختلفين.

- يزيد الأشاعرة دليلا آخر على تعدد الصفات وهو أنه إن قلنا الله عالم قادر يعني إسناد القدرة والعلم للذات الإلهية إما أن يرجع إلى اللفظ المجرد وإما إلى تغير الصفات والرجوع إلى اللفظ المجرد باطل لأن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين أعني أنه يقضي باختلاف مفهوم قادر عن مفهوم عالم وهو ما يعبر عنه بالحدود أي اختلاف حد قادر وحد عالم فتعين أن تكون هناك صفتان قائمتان بنفسهما غير ذاته¡ هذه الصفات أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى لا هي هو ولا هي غيره.

- لجأ الأشعري في كتاب اللمع إلى برهان عقلي لإثبات أن الله عالم بعلم وخلاصته أن يكون الله عالما بنفسه أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه فان كان عالما بنفسه كانت نفسه علما ويستحيل أن يكون العلم عالما ومن المعلوم أن الله هو العالم لذا يستحيل أن يكون هو نفسه. لكن ألا يمكن أن نقول أن الله عالم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.

يرد الأشعري بقوله:" لو جاز هذا لجاز أن يكون قولنا:عالم لم يرجع به إلى نفسه ولا إلى علم يستحيل أن يكون هو نفسه وإذا لم يجز هذا وبطل ما قالوه..." ويتمثل هذا الدليل في أن الأشعري يعتقد في استحالة أن يكون العلم عالما ومعنى هذا أنه لا يتصور أن تكون العالمية هي العلم نفسه بل يريد أن يفترض ذاتا هي غير صفاتها¡ أي ذات هي شيء وصفاتها شيء آخر ولذا كان عليه أن يبين ماذا عسى أن تكون هذه الماهية التي هي غير الصفات القائمة¡ فهل نظر إلى الذات وحصر لها صفة وهي مجرد الوجود وأن ما عدى ذلك من صفات يعد صفات قائمة الذات.

لقد لخص الأشعري رأيه في الذات والصفات في قوله عن صفتي العلم والقدرة:"وعلمه يتعلق بجميع المعلومات وقدرته تتعلق بجميع المقدورات وإرادته تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص" ويؤكد الجويني في كتابه علم الله أن الله سبحانه مستحيل أن يريد ما لا يعلم ويوجب القول بصانع مختار يريد خلق العالم لأنه أراد ذلك وأن الصانع لم يزل مريدا في أزله لما سيكون فيما لا يزال وكونه مريدا عين إرادته فلا يمكن أن يكون الله لا يزال مريدا وعلمه مقصورا على الكليات دون الجزئيات وبالتالي فانه يربط الإرادة بالعلم.

- أنماط الحجاج النقلية

هناك في كتاب الله حسب الأشعرية عدة آيات تثبت الصفات وتؤكد الصلة الحقيقية بين القدرة والعلم¡
الله عالم بعلم يعني أن أعماله المحكمة لا تتسق في الحكمة إلا من عالم ويمكن أن نذكر الآيتين "وما تحمل من أنثى إلا بعلمه" وقوله تعالى" أنزله بعلمه".

الله قادر بقدرة لأن صنائعه لا يمكن أن تأتي إلا من قادر ويمكن أن نذكر الآية الكريمة التالية:"إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين" والقوة هي الإرادة باتفاق المفسرين.

الله مريد بإرادة وإلا كان موصوفا بواحد من الأضداد مثل السهو والكراهية¡ قال تعالى:"فعال لما يريد".
الله واحد يبرهن عليه الجويني بدليل التمانع المذكور في الآيات التالية:" لو كانت فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وأيضا:" ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من الله إذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض" وقوله عز وجل:"أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم".

الله متكلم وسميع وبصير لأن ما يضاد هذه الصفات يستحيل أن يطلق على من أحكم الخلق ودبر الكون وهندس ما كان ولا يزال وسوف يظل مدهشا للعقول!

4- الصفات أحوال الذات :

إذا كان أبو علي الجبائي يقول باستحقاق الباري للصفات لذاته فان ابنه أبي هاشم يقول إن هذه الصفات هي أحوال ويستعرض الشهرستاني نظريته في نهاية الإقدام في علم الكلام بقوله:" أما بيان الحال وماهو أعلم أنه ليس للحال حد حقيقي يذكر حتى نعرفها بحدها ...

وحقيقتها على وجه يشمل جميع الأحوال فانه يؤدي إلى إثبات الحال للحال بل لها ضابط وحاصر بالقسمة وهي تنقسم إلى ما يعلل والى ما لا يعلل وما يعلل فهو معان قائمة بذوات وما لا يعلل فهو صفات ليس أحكاما للمعان"

ويفسر الشهرستاني هذا القول بأن كون الحي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا لأن كونه حيا عالما يعلل بالحياة والعلم في الشاهد فتقوم الحياة بمحل وتوجب كون المحل حيا وكذلك العلم والقدرة والإرادة وكل ما يشترط في ثبوته الحياة وتسمى هذه الأحكام أحوالا وهي صفات زائدة على المعاني التي أوجبتها.

أما ما لا يعلم فيقول عنه الشهرستاني:" هو كل صفة إثبات لذات من غير علة زائدة على الذات كتحيز الجوهر وكونه موجودا وكون العرض عرضا والضابط أن كل موجود له خاصية يتميز بها عن غيره.

فإنما يتميز بخاصية هي حال وما تتماثل به المتماثلات وتختلف فيه المختلفات فهو حال والأحوال عند المثبتين ليست موجودة ولا معدومة ولاهي أشياء ولا توصف بصفة" فالله عند أبي هاشم عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودة وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالا هي صفات لا معلومة ولا مجهولة أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات.

يشرح ألبير نادر الحال عند أبي هاشم بقوله هو حكم على علاقة بين جوهر وعرض أو بين ماهية وصفة،

وإذا كانت الأحوال ليست أشياء ولا توصف بصفات ولا تعلم مستقلة منفردة وإنما نعلمها مع الذات فليس ذلك إلا لأن الحكم الذي يعبر عن علاقة بين حدين لا يوجد إلا إذا كان هناك حدان فإذا غاب الحدان لم يمكن الحكم.

يتعجب الشهرستاني من قول أبي هاشم عن الأحوال أنها لا موجودة ولا معدومة بأن ما لا يتصور له وجود ولا تعلق العلم به بطل الاستدلال عليه وتناقض الكلام فيه ...

ويرى في الذات رأيا آخر فيرى أنها الحقائق الذاتية في الأجناس والأنواع وعلى ذلك يكون الحال وجها من أوجه الذات وبذلك يمكن القول أن صفات الله هي أحوال والى هذا المعنى كان يهدف أبو هاشم فقوله أن كونه تعالى عالما بكل معلوم حال دون الحال التي لأجلها كان معلوما بالمعلوم الآخر ...

وكذلك كونه قادر على كل مقدور حال لا يقال إنها الحال التي لكونه عليها كان قادرا على المقدور الآخر ورغم أن له في كل معلوم حالا مخصوصا وفي كل مقدور حالا مخصوصة ولما كان أهل السنة ينكرون الأحوال...

فقد ردوا على مثبتها ردا مقنعا بقولهم وقد ورد ذلك على لسان الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام:"الكلام على المذهب ردا وقبولا إنما يصح بعد كون المذهب معقولا ونحن بالبديهية أن لا واسطة بين النفي والإثبات ولا بين الوجود والعدم وأنتم اعتقدتم الحال لا موجودة ولا معلومة وهو متناقض بالبديهية ثم فرقتم بين الوجود والثبوت فأطلقتم لفظ الثبوت على الحال ومنعتم إطلاق لفظ الوجود ...

فنفس المذهب إذا لم يكن معقولا فكيف يسوغ سماع الكلام والدليل عليه".ص134 وشرحا لرده فان أهل السنة والجماعة ينكرون أحوال أبي هاشم لأنه لا وسط بين النفي والإثبات ولا بين الوجود والعدم¡فالشيء إما أن يكون معدوما وإما أن يكون موجودا فإطلاق لفظ الثبوت على الحال وهي غير موجودة أمر مناقض للبديهية ولا معنى للاشتغال برده لخروجه عن حد المعقول.

- مشكلة قياس الغائب على الشاهد:

يرى الشهرستاني أن هناك جوامع أربعة لقياس الغائب على الشاهد فان رأينا واحد منها وهي الحجج العقلية والنقلية فإننا نستنتج أن ثلاثة حجج الأخيرة هي العلة والشرط والحد ...

وقد أراد الشهرستاني بهذا رد اللبس على مقالة الأشعري في الذات وعلاقتها بالصفات والتي يقيس فيها الغائب بالشاهد والله بالإنسان فنبهه إلى وجوب ربط الغائب بالشاهد.

أما العلة فقد ثبت كون العالم عالما شاهدا معللا بالعلم والعلة العقلية مع معلولها يتلازمان ولا يجوز تقدير واحد منهما دون الآخر فلو جاز تقدير العالم عالما دون علم لجاز تقدير العلم من غير أن يتصف محله بكونه عالما فاقتضى الوصف الصفة كاقتضاء الصفة للوصف.

أما الشرط فان كون العالم عالما لما كان مشروطا بكونه حيا في الشاهد وجب طرده في الغائب لأن الشرط وجب طرده شاهدا وغائبا فالإنسان لكي يكون عالما هو مشروط بكونه حيا وكذلك الله.

بقي ما يقوله الشهرستاني عن الحد وهو وجوب اطراده شاهدا وغائبا. فالقول إذن في قياس الغائب على الشاهد لا يستطيع الإنسان أن يتحرر من الاعتبارات الإنسانية لكن الأشعري أراد الرد على الكثير من الفرق التي دخلت الإسلام بغية تقويض دعائمه.

- شبهات ومخاوف:

يرى محمود قاسم أن قول الأشعري بأن الصفات مغايرة للذات وفهمه للمغايرة على نحو خاص " أنها جواز مفارقة أحد الشيئين الآخر على وجه من الوجوه" فيه نوع من الالتباس..

فغيرية الأشعرية لا تدل على زيادة الصفات على الذات إنما هي حل التناقض القائم في قول الأشعري أن الصفات لا هي الذات ولا غير الذات..

ويستخدم محمود قاسم المبدأ المنطقي القائل بعدم التناقض للإقرار بأن الصفات إما أن تكون الذات أو لا تكون ويعترف بعجزه عن فهم قضية الأشعري في الصفات فيقول في مقدمة الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد:" ونعترف من جانبنا أننا لا ندري كيف تكون الصفات لا هي هو ولا هي غيره على حد تعبيره فان العقل الإنساني وغير العادي أيضا يلمح نوعا من التناقض البديهي في هذا التعبير".

لكن الأشعري حسب رأي نقاد آخرين كان مصيبا في قوله وعميقا في تفكيره فيقول إن الموجود معا ذات وصفات لا ذوات متعددة وهذا لا ينافي وحدة الله الواجبة لأن معناها أنه لا يوجد معه اله آخر أو ذات أخرى يشاركه في هذا الوجود فإذا قلنا إن الصفات ليست عين الذات فنحن على صواب لأنها ليست ذوات منفصلة عنها وعلى ذلك فقول الأشعري ليس جمعا بين نقيضين والدليل "أن من يخبر بحضور إنسان واحد فقط يخبر بحضوره مع صفاته فإذا سأل ذلك المخبر عن صفة القادم وذاته هل هما متحدان مفهوما ووجودا فلاشك أنه يجيب نفيا" .

يزيد الشهرستاني في الحجة للقول بأن الصفات قائمة بالذات بتأكيده أنه لا يجوز أن توجد ذات الإنسان إلا إذا كانت لها صفات زائدة عليها مغايرة لها وتختلف كل صفة عن الصفات الأخرى..

فلا يجوز أن توجد الذات الإلهية دون صفات زائدة ومغايرة لها. ولذا نرى أن الأشعري كان فذا في قوله أن الصفات لا هي الذات ولا غير الذات فهو ينفي أن تكون الذات والصفات واحدة فيتعدد القديم لأن الذات قديمة والقديم واحد وينفي كذلك أن تكون الصفات مستقلة بذاتها فتكون ذواتا منفصلة تجري عليها أحكام الذات من القدم والأزلية والوجودية وهذا لا يجوز وبذلك يرى أنها تقوم بالذات وبينها علاقة وليست الواحدة منهما هي الأخرى...

كما نقول أن الجوهر هو المتحيز والقابل للعرض ولكننا لا نستطيع القول أن المتحيز القابل للعرض جوهرا فليست كل صفات الجوهر كما لا يكون كما لا يكون المتحيز وحده والقابل للعرض وحده جوهرا ولكن المتحيز القابل للعرض يقوم بالجوهر ولا يكون جوهرا أو خلافه.

ولعل الاستشهاد بالرأي الذي ذكره أحمد أمين في كتابه ظهر الإسلام حول هذا الخلاف بين المعتزلة والأشعرية والذي بين فيه أن كلا الفرقتين جاوزتا حدهما ودخلا في سفسطات لا طائل منها وليس العقل البشري ..

بمستطيع شيئا من ذلك فأكد أنه يستطيع أن نقول بالنسبة إلى أنفسنا إن كان علمنا غير ذاتنا وقدرتنا غير ذاتنا أو هي هي فكيف نستطيع أن نقول ذلك في الله أن عقولنا ضعيفة ومحاولة الوقوف على هذه الموضوعات ليست في متناول العقل البشري الذي لا يستطيع إلا إدراك بعض صفات الحقيقة فحسب أحمد أمين لا نستطيع أن ندرك ماذا.

ولكنه بإمكاننا أن ندرك بعد جهد كيف، فكيف نريد أن نصل إلى حقيقة أن الذات في وحدة مع الصفات أو الصفات هي زائدة عن الذات.

================================================
المراجع:أحمد أمين ضحى الإسلام ج3 دار النهضة المصرية القاهرة 1964
الشهرستاني نهاية الإقدام في علم الكلام مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع القاهرة 1968
الأشعري أبو الحسن مقالات الإسلاميين تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد القاهرة 1969
فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة الدار التونسية للنشر تحقيق فؤاد السيد 1974
شرح الأصول الخمسة تحقيق عبد الكريم عثمان الطبعة الأولى القاهرة 1965
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:29 pm

[size=30]صفات المعانى مع شرح لكل صفة[/size]


صفات المعانى

1ـ صفة العلم 
ـ
لحظات تأمل : ـ
يبهرنا ما وصلت إليه أوربا وأمريكا هذه الأيام من تقدم علمي هائل في مجال الصناعة والتكنولوجيا ، وفي مجال التسليح وغزو الفضاء ، وفي مجال الطب والتشخيص والعلاج ، وفي مجال الزراعة ، والثروة الحيوانية ، وعالم الغذاء .
وها هي ذي اليابان والصين تدخلان حلبة السباق في مجال الصناعات الدقيقة والثقيلة ، وفي مجال الإلكترونيات ، والسيارات ، والمنسوجات.
وتقفز إلى الساحة كل من : كوريا ، وتايوان ، وماليزيا وغيرها.
والجميع يحاول كشف أسرار الكون في الأنفس والآفاق.
ومن قبل ذلك كانت الحضارة الإسلامية هي الرائدة في كافة المجالات ، وعنها أخذت أوربا في جامعات : قرطبة ، وطليطلة ، وصقلية ، وغيرها من جزر البحر الأبيض المتوسط التي كانت محل الالتقاء.
فأفادت أوربا مما قدمه للبشرية أساتذة العلم المسلمون من أمثال : جابر بن حيان في الكيمياء ، والخازن والحسن بن الهيثم في الفيزياء ، وابن سينا وأبي القاسم الزهراني في الطب ، والبيروني ، واليوزجاني، والخوارزمي ، وعباس بن فرناس في الفلك والرياضيات.
ما أعظم ما وصلت إليه البشرية من علوم خلال تاريخها الطويل ! وما أكثر ما اكتشفه الإنسان من معارف في رحلاته للبحث عن المجهول!
كم هائل من العلوم ! وقدر ضخم من المعارف ! 
فإذا ما انتقل الفكر من التأمل في علم الإنسان إلى التفكر في العلم الإلهي ، نجد الحق سبحانه يقول : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)} [الإسراء] إنه خطاب للبشرية جميعها في كل عصورها . أما علمه هو جل في علاه . فإنه يقول عنه : { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما (98) } [ طه ] ويقول : { إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (5)} [ آل عمران ] .
تعريف صفة العلم : ـ
علم الله تعالى : صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى بها تنكشف له جميع الأمور سواء كانت واجبة ، أو جائزة ، أو مستحيلة ، وسواء كانت ماضية ، أو حاضرة ، أو مستقبلة ، انكشافا تاما ، لا يسبقه خفاء أو جهل .
فالعلم صفة من الصفات الوجودية التي تدل على معنى زائد على ذات الله تعالى هو كمال يجب أن يتصف به أزلا وأبدا.
والله تعالى يعلم الواجبات . فهو يعلم ذاته وصفاته ، ويعلم الجائزات وهي المخلوقات ، بل يعلم المستحيل كما قال سبحانه : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام /28] فهو يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى ، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر.
وقال كذلك : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) } [ الأنفال] .
والله تعالى يعلم ما كان ، وما يكون ، وما لا يكون لو كان كيف يكون.
ولا يتغير علمه سبحانه بتغير الشئ المعلوم.
وهذا العلم الإلهي لا يسبقه جهل أو خفاء ، ولا يعتريه ذهول أو نسيان.
ويطلق ( العلم ) على البشر . كما قال تعالى : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة /11] وقال : { ولوطا ءاتيناه حكما وعلما } [ الأنبياء /74] وقال : { ولقد ءاتينا داود وسليمان علما } [ النمل /15].
وقال للمصطفى صل الله عليه وسلم : { وقل رب زدني علما (114)} [ طه ].
هكذا يطلق العلم على البشر ، ولكن الاشتراك في اللفظ فقط ، وليس المسمى كالمسمى.
فعلمنا نحن حادث مستفاد من الحواس أو من التفكير العقلي ، وعلم الله قديم أزلي.
وعلمنا محدود وقاصر ، وعلم الله كامل محيط إحاطة تامة بالكليات والجزئيات.
وعلمنا يحدث بعد حصول الشئ ، وعلم الله سابق.
وعلمنا يعتريه النسيان والزوال ، وعلم الله ليس كذلك .
وعلمنا بشئ يشغلنا عن علمنا بغيره ، والله لا يشغله علم عن علم.
صفة العلم في القرآن والسنة : ـ
أثبت القرآن الكريم هذه الصفة لله تعالى فقال :
• { ولا يحيطونه بشئ من علمه إلا بما شاء } [ البقرة /255].
• { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } [ النساء/166].
• { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه }[ فاطر /11وفصلت/47]
• { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود /14].
ورد أنه تعالى : { عالم الغيب والشهادة } وأنه : { علام الغيوب } ومن أسمائه الحسنى : (العليم ) قال تعالى : { ذلك تقدير العزيز العليم (38)} [ يس ] وهو الذي لا يخفى عليه خافية ؛ ولا يعزب عن علمه قاسية ولا دانية .
ولم يرد وصفه تعالى بـ ( العلامة ) في الكتاب أو السنة ، فلا يجوز إطلاقه عليه ، فهذه اللفظة تستعمل لمن ترقى في العلم من القلة والنقصان إلى الكثرة والكمال البشري ببذل غاية الجهد في طلب العلم .
ولم يكتف القرآن الكريم بإثبات ( العلم ) لله تعالى بهذه الصيغ ، بل نفى عن الله تعالى أضداد العلم :
• فنفى عنه النسيان فقال : { وما كان ربك نسيا } وقال:{ فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى(52)} [ طه ] .
• ونفى عنه الجهل فقال : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبا / 3 ]
• ونفى عنه النوم فقال : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة /255].
ومن أسمائه الحسنى التي لها صلة بالعلم : ـ
1ـ اسمه ( الحفيظ ) وللحفظ معنيان :
( أ ) أحدهما ضد التضييع . فهو حافظ السموات والأرض { ولا يؤده حفظهما } [ البقرة /255].
( ب) والآخر ضد السهو والنسيان . وهذا يرجع معناه إلى صفة العلم .
2ـ اسمه ( الخبير ) ومن معانيه : العالم بكنه الشئ المطلع على حقيقته . قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14) [الملك].
3ـ اسمه ( الشهيد ) ومن معانيه : العالم . فهو عالم الغيب والشهادة ، والغيب عبارة عن بطن ، والشهادة عبارة عما ظهر . فإذا اعتبر العلم مطلقا ، فهو العليم ، وإذا أضيف إلى الغيبة والأمور الباطنة ، فهو الخبير ، وإذا أضيف إلى الأمور الحاضرة ، فهو الشهيد . قال تعالى : {وكفى بالله شهيدا (79) } [ النساء ] .
وتدبر هذه المواضع القرآنية الأربعة التي تعرض لنا نماذج من علمه تعالى : ـ
الموضع الأول ـ قال تعالى : { الم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7) } [ المجادلة ] .
الموضع الثاني ـ قال سبحانه : { وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59) } [الأنعام].
الموضع الثالث ـ قال عز وجل : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار (Cool عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار(10) [ الرعد] .
الموضع الرابع : قال تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)} [ لقمان].
أما السنة المطهرة ، فيقول صل الله عليه وسلم : ـ
• ( اللهم بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق ، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ).
• ( اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ).
• وجاء في حديثه صل الله عليه وسلم عن موسى والخضر قوله : (وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ، ثم نقر في البحر . فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر ) !! 
الأدلة العقلية على اتصافه تعالى بصفة العلم : ـ
1ـ إن الله تعالى خالق للعالم خلقا متقنا محكما . يدل على كمال علمه جل في علاه.
وتأمل في نفسك ، وفيما حولك لترى العجب العجاب من الإبداع ، والنظام ، والإتقان ، والإحكام . وهو دليل العلم ، ويستحيل أن يكون المخلوق أكمل من الخالق.
وإذا ما رأيت مملكة النحل ، أو بيت العنكبوت ، فاعلم أن الذي ألهمها ذلك الصنع هو العليم الخبير { الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى (3) } [ الأعلى ] .
2ـ كما أنه ثبت أن الله خلق العالم باختياره ، وقصده ، وإرادته ، وهذا يدل على أنه عالم ، إذ يستحيل أن يتوجه اختياره ، وقصده ، وإرادته إلى شئ ليس معلوما له .

2ـ صفة الإرادة
ـ
لحظات تأمل : ـ
جلس في الاستراحة المجاورة لحجرة الولادة ، ينتظر البشرى السارة بميلاد أول أبنائه ، فقد كان في علمه تعالى أن يهبه الذرية. وتحقق ما علمه الله ، فحملت زوجه ، واقترب موعد الوضع.
ولكن : أيكون ذكرا أم أنثى ؟ أيشبه أباه وأعمامه ، أم أمه وأخواله؟ أيكون صالحا تقيا بارا بوالديه . أم غير ذلك ؟ وهل حان موعد وصوله إلى الدنيا ؟ وفي هذا المكان من أرض الله ؟ .
احتمالات كثيرة ، وافتراضات عديدة .
وقطع أفكاره صوت يخبره بأن الولادة ليست قبل ساعة من الزمان . فنزل إلى حديقة المستشفى يتجول ويتأمل.
أزهار وأشجار،ورود وثمار. جميلة المنظر ، طيبة الرائحة، متباينة الأنواع ، متعددة الألوان ، مختلفة الأحجام ، متفاضلة في الأكل !
سبحان الله ! الحديقة واحدة ، والتربة واحدة ، والجو واحد ، وكلها يسقى بماء واحد !
وصعد إلى هناك مرة أخرى ، ليجد الخبر السار ، وليسجد شكرا لله.
ما أعظم إرادة الله !!
تعريف صفة الإرادة الإلهية : ـ
هي صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى يخصص بها الممكنات ببعض ما يجوز عليها من الأمور المتقابلة . والإرادة والمشيئة بمعنى واحد.
فهي من نوع الصفات الوجودية الذاتية القديمة التي تقوم بذات الحق سبحانه ، وتدل على معنى زائد على معنى ذاته تعالى .
وإذا كان علم الله تعالى صفة انكشاف ، فإن إرادته صفة تخصيص ، فهي تخصص الممكن ـ وهذا مجال عملها ـ بالوجود أو العدم ، وبالصفات المعينة الخاصة به،وبالزمن المحدد له. وبالمكان المخصص له ، وبالجهة المحددة له ، وبالمقدار المعين الذي سيوجد عليه.
وهكذا كل ما وجد في العالم من مخلوقات ،وما يوجد الآن ، وما سيوجد بعد ذلك .
فالإرادة الإلهية هي التي ترجح الاحتمال الذي سيوجد عليه المخلوق من بين سائر الاحتمالات الأخرى التي يتصور أن يوجد عليها من الأمور المتقابلة التي جمعها أحدهم في قوله : 
الممكنات المتقابلات وجودنا والعدم والصفات
أزمنة أمكنة جهات كذا المقادير روى الثقات 
ولا شأن للإرادة بالأمر الواجب ، أو الأمر الممتنع . وبيان ذلك :
1ـ لو تعلقت بالأمر الواجب عقلا ، فإما لترجيح وجوده ، أو لترجيح عدمه ، أما ترجيح وجوده ، فهو محال ؛ لأنه موجود بالفعل ، فكيف ترجح وجوده ؟ إنه تحصيل حاصل . وأما ترجيح عدمه ، فالواجب العقلي غير قابل للعدم.
2ـ كذلك لا تتعلق إرادته تعالى بالأمر الممتنع عقلا ؛ لأنها لو تعلقت به، فإما لترجيح وجوده ، وهو غير قابل للوجود ، وإما لترجيح عدمه ، وعدمه حاصل.
إذن لا تتعلق الإرادة بالواجب ، ولا بالمستحيل ، بل بالأمر الممكن الوجود فقط .
ومعنى الإرادة الإلهية يختلف عن معنى الإرادة البشرية ، فإن معنى إرادتنا للشئ : القصد ، والعزم ، والتصميم على فعله ، وهذا المعنى حادث لا يتناسب مع الله جل في علاه.
كما أن إرادته تعالى وفعله متلازمان . بمعنى أنه تعالى إذا أراد أن يفعل فعل ، وما فعله فقد أراده ، بخلاف العبد ، فإنه يريد ما لا يفعل ، وقد يفعل ما لا يريده ، فلا يوجد فعال لما يريد إلا الله وحده .
إرادته تعالى تشمل الخير والشر : ـ
أولا : مذهب أهل السنة : إن إرادة الله عامة تشمل الخير والشر ، والطاعة والمعصية .
واستدلوا على ذلك بما يلي : ـ
1ـ الآيات القرآنية تصرح بذلك . ومنها : 
• { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء /35].
• { إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21) } [ المعارج ].
• { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير (17) } [ الأنعام].
• { قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا} [ الفتح /11].
2ـ إننا نرى الشر موجودا في العالم ، فإذا لم يكن الله هو الذي أراد وقوعه ، فمن الذي أراد وقوعه ؟ هل هناك إله غير الله ؟ .
3ـ يلزم أن يكون وجود الشر في العالم بطريق القصر والإكراه بالنسبة لله تعالى ، وأنه عاجز عن دفعه وإزالته ، وهذا محال.
ومن أدب المسلم أن ينسب الخير إلى الله ، والشر إلى نفسه . ولنتأمل قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) } [ النساء ] .
{ كل من عند الله } هذا هو الحق . ولكن من حيث الأدب الذي ينبغي مع الله ، فإننا ننسب الخير إلى الله ، والشر إلى النفس . ولذلك جاءت الآية التي بعدها لبيان هذا : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء /79].
والشر نوعان : ـ
1ـ شر محض لا خير فيه بوجه من الوجوه : وهذا النوع لا يخلقه الله تعالى ؛ لأنه عبث ، وهو منزه عنه . وهو المذكور في قوله صل الله عليه وسلم : " لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك . أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك"(1).
أي الشر الكلي المطلق ليس إلى الله .
2ـ شر جزئي أو إضافي : وهذا يخلقه الله لحكمة يعلمها ، فإن كان في الشئ شر من وجه ، ففيه خير من وجوه . كنزول الأمطار التي ربما هدمت بعض البيوت ، لكن فيها حياة للناس ، وللحيوان ، وللنبات، وكحرارة الشمس التي ربما آذت إنسانا ، لكنها ضرورية للوجود (2).
وهذا النوع من الشر إذا أردنا نسبته إلى الله تعالى . فإما أن : 
1ـ ندخله في عموم المخلوقات : كقوله تعالى:{ الله خالق كل شئ} ولا نقول : الله خالق القردة ، والكلاب ، والخنازير.
2ـ أو ننسبه إلى سببه المباشر : كما في قوله تعالى : { من شر ما خلق }.
3ـ أو نحذف الفاعل ، ونبني الفعل للمجهول : كما في قوله سبحانه : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [الجن] فمع الشر قال : ( أريد ) ومع الخير والرشد ذكر الفاعل فقال : { أراد بهم ربهم رشدا } .
ثانيا : مذهب المعتزلة : يرون أن الله لا يريد الشر : ولا الكفر ، ولا المعاصي، واستدلوا على ذلك بما يلي : ـ 
1ـ الشرور والمعاصي غير مأمور بها،فلا تكون مرادة لله ، فالإرادة والأمر شئ واحد.
2ـ لو كانت الشرور مرادة ، لكان الكافر مطيعا بكفره ، والعاصي مطيعا بمعصيته . لأن الطاعة تحصيل مراد المطاع.
3ـ لو كانت الشرور مرادة . لوجب الرضا بها ، والرضا بالكفر كفر.
رد أهل السنة على هذه الأدلة : ـ
1ـ هذا الدليل مبني على أن الإرادة والأمر شئ واحد . وهو غير صحيح ، كما سنذكره في فقرة قادمة .
2ـ الطاعة هي تحصيل ما أمر به المطاع ، لا تحصيل ما أراده .
3ـ لا يلزم من وجود الشرور وجوب الرضا بها . فنحن مأمورون بأن نرضى بما يحب الله ، ونسخط ما يسخطه . وهناك فرق بين الإرادة والرضا كما سنذكره إن شاء الله .
وفيما يلي مواقف تدل على فساد رأي المعتزلة : ـ
1ـ حكة أن القاضي عبد الجبار المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد ، وعنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وهو أحد علماء أهل السنة . فلما رأى الأستاذ قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء .
فقال الأستاذ : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء .
فقال عبد الجبار : أفيريد ربنا أن يعصى ؟
فقال الأستاذ : أفيعصى ربنا كرها ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن منعني الهدى ، وقضى على بالردى . أحسن إلى أم أساء ؟
فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك ، فقد أساء ، وإن منعك ما هو له . فهو يخص برحمته من يشاء .
2ـ وقف أعرابي على حلقة فيها ( عمرو بن عبيد ) أحد كبار المعتزلة. فقال : يا هؤلاء ، إن ناقتي سرقت ، فادعو الله أن يردها على.
فقال عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت ، فارددها عليه .
فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك .
قال : ولم ؟
قال : أخاف ـ كما أراد أن لا تسرق فسرقت ـ أن يريد ردها فلا ترد
3ـ تناظر ( عمرو بن عبيد ) مع مجوسي على سفينة فقال له عمرو : لم لا تسلم ؟
قال : لأن الله لم يرد إسلامي . فإذا أراد الله إسلامي أسلمت.
قال عمرو : إن الله يريد إسلامك ، ولكن الشياطين لا يتركونك.
فقال المجوسي : فأنا أكون مع الشريك الأغلب
الأدلة السمعية والعقلية على صفة الإرادة : ـ
أولا : الأدلة السمعية : ـ
1ـ من القرآن الكريم : يقول الله تعالى :
• { وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد(16) } [ البروج ]
• { وربك يخلق ما يشاء ويختار } [ القصص /68].
• { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير(50)} [ الشورى ] .
• { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } [ آل عمران /26].
2ـ ومن السنة المطهرة : ـ
عن أبي هريرة عن النبي صل الله عليه وسلم قال : " لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، ارجمني إن شئت ، ارزقني إن شئت ، ليعزم مسألته ، إنه يفعل ما يشاء ، لا مكره له " (3).
وعن ابن عباس أن النبي صل الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال : " اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السموات وملء الأرض ، وما بينهما ، وملء ما شئت من شئ بعد . أهل الثناء والمجد ، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت،ولا ينفع ذا الجد منك الجد"(4).
ثانيا : الأدلة العقلية : ـ
1ـ إذا نظرنا إلى مخلوقات الله ، نجد أن بعضها متقدم ، وبعضها متأخر ، ويجوز عقلا تقدم ما هو متأخر . وتأخر ما هو متقدم . فاختصاص بعضها بالتقدم ، وبعضها بالتأخر لابد أن يكون بتخصيص مخصص ، وإرادة فاعل مختار.
2ـ وإذا تأملنا هذه الكائنات ، رأينا مظاهر التنوع بادية فيها ، والتنوع مظهر الإرادة الحرة .
تدبر هذه المواضع القرآنية التي تشير إلى ظاهرة التنوع : ـ
• { والله خالق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير (45)} [ النور].
• { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون (4) } [ الرعد].
• { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود(27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماؤا إن الله عزيز غفور (29) [فاطر].
تعلقات الإرادة : لها تعلقان : ـ
1ـ تعلق صلوحي قديم : وهو صلاحيتها في الأزل لتخصيص كل ممكن بأي أمر من الأمور.
2ـ تعلق تنجيزي قديم : وهو تخصيصها في الأزل الممكن الذي سيوجد بأحد الأمور بعينه .
أنواع الإرادة : ـ
إرادته سبحانه وتعالى نوعان : 
1ـ إرادة قدرية كونية خلقية : وهي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات كما في قوله تعالى :
• { ولكن الله يفعل ما يريد (253) } [ البقرة ].
• { ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا } [ يونس/91].
• { إنما قولنا لشئ ءاذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)} [النحل].
2ـ إرادة دينية أمرية شرعية : وهي المتضمنة للمحبة والرضا . كقوله تعالى : 
• { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة /185].
• { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28) [ النساء] .
• { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } [ المائدة /6].
والفرق بين الإرادتين : أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ، ولا يلزم أن يكون محبوبا لله ، وأما الشرعية ، فيلزم أن يكون المراد فيها محبوبا لله ، ولا يلزم وقوعه .
الإرادة والأمر : ـ
يختلف معنى الإرادة عن معنى الأمر ، فإذا كانت الإرادة هي الصفة التي تختار للمخلوق أوصافه التي سيكون عليها ، فإن الأمر طلب حصول الفعل. فهما متغايران :
1ـ فقد يريد الله شيئا ، ويأمر به ، كإيمان أبي بكر الصديق ، فإيمانه أمر الله به ، وأراده بدليل وقوعه ، فإنه لا يقع في ملك الله إلا ما أراده . وهنا اجتمعت الإرادة الكونية والشرعية .
2 وقد يريد الله شيئا ، ولا يأمر به . مثل كفر أبي لهب ، فقد أراده الله بدليل وقوعه ، ولكنه تعالى لم يأمر أبا لهب بالكفر ، وهنا وجدت الإرادة الكونية ، وانتفت الشرعية .
3ـ وقد يأمر الله بشئ ، ولا يريده ، كإيمان أبي جهل ، فإيمانه أمر الله به ، ولم يرده منه بدليل عدم وقوعه ، وهنا وجدت الإرادة الشرعية ، وانتفت الكونية.
4ـ وقد لا يأمر الله بشئ ، ولا يريده ، مثل كفر الأنبياء ، عليهم السلام ، فانتفت الإرادتان .
وهناك فرق بين إرادة المريد أن يفعل ، وبين إرادته من غيره أن يفعل ، فإذا أراد الفاعل أن يفعل شيئا ، فهذه الإرادة تتعلق بفعله هو ، أما إذا أراد من غيره أن يفعل شيئا . فهذه الإرادة تتعلق بفعل غيره . والإرادة الأولى لا تحتاج إلى الأمر ، بينما تحتاج الإرادة الثانية إلى الأمر.
والله تعالى إذا أمر العباد بأمر ، فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به ، وقد لا يريد إعانته ، وإن كان مريدا منه الفعل.
فالله قد أمر الخلق بطاعته ، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله ، ومنهم من لم يرد ، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد غير جهة أمره ، فهو قد أمر فرعون وأبا لهب بالإيمان ولكن لا يلزم من أمره أن يعينهم على تحقيق الفعل ، فهو يخلق ما يخلق لحكمة .
ومثال ذلك الذي جاء من أقصى المدينة يسعى . وقال لموسى عليه السلام : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20)} [ القصص ]
فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج ، لا في أن يعينه على ذلك ، إذ لو أعانه لضره قومه . فلا يلزم من أن يكون في الأمر حكمة أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة ، بل قد تكون الحكمة في عدم الإعانة .
الإرادة والرضا : ـ
الرضا معناه : قبول الشئ ، واستحسانه ، ومحبته ، وترك الاعتراض عليه ، فمعناه مختلف عن معنى الإرادة .
1ـ فقد يريد الله شيئا ، ويرضى عنه : كإيمان المؤمنين ، وتوبة التائبين.
2ـ وقد يريد الله شيئا ، ولا يرضى عنه ، ولا يحبه : كمعاصي المؤمنين ، وكفر الكافرين . فهي بإرادته تعالى ، ومع ذلك لا يحبها ، ولا يرضى عنها .
كما قال : { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر/7] وإن كان الكفر واقعا بمشيئته تعالى .
وكما قال : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } [النساء/148]
وقال : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } [ النساء /108] أي البهتان ، وشهادة الزور، وبراءة الجاني، ورمي البرئ.
وأخبر في كتابه أنه لا يحب المعتدين ، ولا الظالمين . ولا الكافرين ، ولا المفسدين ، ولا المسرفين ، ولا الخائنين ، ولا المستكبرين ، ولا من كان مختالا فخورا .
فإن قيل : كيف يريد الله أمرا ، ولا يرضاه ، ولا يحبه ؟ وكيف تجتمع إرادته لشئ وبغضه وكراهيته له ؟
فالجواب : أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، وراد لغيره .
1ـ فالمراد لنفسه : محبوب لذاته ، ولما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
2ـ والمراد لغيره : قد لا يكون مقصودا للمريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث إيصاله إلى مراده ، فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.
وذلك مثل الدواء الكريه إذا علم المريض أن فيه شفاءه ، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، إذا علم أنها توصل إلى محبوبه .
فهو سبحانه يكره الشئ ، ومع ذلك يريده ، لأنه سبب إلى أمر أحب إليه .
فقد أراد الله خلق إبليس وهو أصل الشر والفساد ، ومع ذلك هو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب ، ترتبت على خلقه ، ووجودها أ؛ب إليه من عدمها . من ذلك :
1ـ أن يظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابلات : فقد خلق شر الخلق إبليس ، كما خلق خير الخلق سيدنا محمدا صل الله عليه وسلم ، كما خلق الليل والنهار ، والداء والدواء ، والحياة والموت ، والحر والبرد ، والذكر والإنثى . فهذا من أدل الدلائل على كمال قدرته عز وجل.
2ـ ظهور آثار أسمائه القهرية : كالقهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، والشديد العقاب ، والخافض ، والمذل . فهذه الأسماء كمال لله ، ولابد من وجود متعلقها ، ولو كان الخلق جميعا في طبيعة الملائكة ، لم تظهر آثار هذه الأسماء .
3ـ ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ، ومغفرته وستره ، وتجاوزه عن حقه ، وعتقه لمن شاء من عبيده . فلولا خلق ما يكرهه ، ما ظهرت آثار هذه الأسماء المباركة . وقد أشار النبي صل الله عليه وسلم إلى هذا بقوله : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، فيستغفرون الله ، فيغفر لهم " (5).
4ـ ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الحرمان والمنع مكان العطاء والفضل ، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع ، ولا الثواب موضع العقاب ، ولا العقاب موضع الثواب، ولا العز مكان الذل ، ولا الذل مكان العز .
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الخير الذي في تلك الأسباب . وهذا كالشمس ، والمطر ، والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل من الشر . كما سبق أن أشرنا .
5ـ حصول أنواع مختلفة من العبودية لله ، لولا خلق إبليس لما حصلت . مثل عبودية الجهاد ، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ، لتعطلت هذه العبودية ، وتوابعها من الموالاة لله ، والمعاداة فيه .
ومثل عبودية الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
وعبودية الصبر ، ومخالفة الهوى ، وإيثار محاب الله على محاب النفس.
وعبودية التوبة ، والاستغفار ، والاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ، ويعصمه من كيده وآذاه . إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها .
فإن قيل : هل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب ؟
فهذا سؤال فاسد ، وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه ، كفرض وجود الابن بدون الأب ، والحركة بدون المتحرك ، والتوبة بدون التائب .
فإن قيل : كيف يرضى لعبده شيئا ، ولا يعينه عليه ؟
قلنا : لأن إعانته عليه تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له ، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة .
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47)} [ التوبة ] .
فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم وخروجهم إلى الغزو مع رسوله ـ وهو طاعة ـ فلما كرهه منهم ، ثبطهم عنه ، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } أي فسادا وشرا { ولأوضعوا خلالكم} أي سعوا بينكم بالفساد والشر { يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي قابلون منهم ، مستجيبون لهم ، فيتولد من سعى هؤلاء ، وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم . فهذا مثال يقاس عليه (6).

....  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:30 pm

...  تابع
صفات المعانى




2ـ صفة القدرة
لحظات تأمل : ـ
سافرت فوق سلسلة جبال ( السروات ) ساعات طويلة ، وهالني منظر الوديان الخضر ، والجبال الشم المختلفة في ارتفاعها ، وأشكالها ، وألوانها : بيض ، وحمر ، وغرابيب سود . سبحان الله !! 
ونزلنا لنستريح ، واستلقيت على ظهري ، وعيناي تجول في السماء ، وقد دخل الليل ، وبدت النجوم ، ترى ما عدد نجوم السماء ؟ تذكرت ما أجاب به أحد علماء الفلك عن هذا السؤال : عددها عدد حبات الرمال الموجودة على شواطئ بحار العالم !! سبحان الله !!
وداعبني النوم . وما أحلى النوم بعد التعب ! إنه آية عظيمة، ونعمة جليلة.
وانتبهت على صوت رفيقي : هيا لنتعشى . أتأكل من السمك أم من الدجاج؟ 
قلت : سمك ودجاج وسط الصحراء ؟
سبحان الله !! ما أعظم قدرة الله !!
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذي الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزدانا. سل الزهر والندا سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شئ تسمع الحمد ساريا
فلو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
تعريف صفة القدرة : ـ
هي صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى ، يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق علمه تعالى وإرادته.
فإذا كان علم الله صفة انكشاف ، وإرادته صفة تخصيص ، فإن قدرته صفة تأثير وتنفيذ لما علمه وأراده من الممكنات. فإذا علم الله تعالى أن سيكون لك غلام واختارت الإرادة الإلهية ، ورجحت الصفات التي سيكون عليها الغلام ، فإن القدرة الإلهية هي التي ستبرز هذا الغلام إلى الوجود.
فبالقدرة يكون الإيجاد ، وبالقدرة يكون الإعدام ، وبالقدرة يكون الخلق، وبالقدرة يكون الرزق ، وبالقدرة كانت الأرض مهادا، والجبال أوتادا ، وبالقدرة كان النوم سباتا ، والليل لباسا ، والنهار معاشا ، وبالقدرة يكون إرسال الرياح ، وإنزال مياه الأمطار، وإنبات الزروع والثمار والأشجار
والقدرة كالإرادة لا تتعلق بالأمر الواجب ؛ لأنها لو تعلقت به لإيجاده يكون تحصيل حاصل ، ولو تعلقت به لإعدامه ، كان قلبا للحقائق . لأنه لا يقبل العدم.
كذلك لا تتعلق القدرة بالأمر المستحيل . لأنها لو تعلقت به لإيجاد ، كان قلبا للحقائق ، لأنه غير قابل للوجود ، ولو تعلقت به لإعدامه ، كان تحصيل حاصل.
فقوله تعالى : { والله على كل شئ قدير } أي كل شئ ممكن قابل للوجود والعدم . أما المحال لذاته مثل كون الشئ موجودا معدوما في حال واحدة ، فلا تتعلق به القدرة .
وعموم لفظ ( كل ) في كل موضع بحسبه . ويعرف ذلك بالقرائن:
فقوله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد : { تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } [ الأحقاف/25] أي تدمر كل شئ يقبل التدمير ويستحقه . فمساكنهم ـ وإن كانت شيئا ـ لم تدخل في عموم : (كل). 
وقوله تعالى عن بلقيس : { وأوتيت من كل شئ } [ النمل/23] أي من كل شئ يحتاج إليه الملوك . وهكذا.
وقدرة الله تختلف عن قدرة العبد . لأن قدرة العبد حادثة ومحدودة ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة ، وإذا قلنا : فلان من الخلق قادر ، فعلى سبيل التقييد . أي قادر على كذا . ولا يقال : قادر مطلقا .
ولذلك فإنه لا يوصف أحد غير الله بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه آخر ، بل من وجوه أخرى . والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل الوجوه.
وقدرته تعالى تعمل وفق النواميس الطبيعية التي أودعها في هذا الكون ، وحسب قانون الأسباب والمسببات الذي بنى عليه هذا الوجود. فقد جرت العادة أن توجد القدرة الإلهية الشئ عقب حدوث سببه . ومع ذلك قد يخرق الله هذه العادة إذا شاء فلا يأتي بالمسبب عقب السبب. كتخلف الإحراق عن النار ، كما فعله مع خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . أو يأتي بالمسببات بدون هذه الأسباب المعتادة . كما خلق عيسى بن مريم من غير أن يمسها بشر ليبين طلاقة قدرته تعالى، وأنها تفعل بسبب وبدون سبب ، ولعل في قوله تعالى { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده (52)} [ المائدة/52] إشارة إلى ذلك ، فالفتح يكون بالأخذ بالأسباب ، وأما الأمر الذي من عنده ، فيكون بكن فيكون.
وفعل الله تعالى نوعان : 
1ـ نوع أبدعه كاملا ، لا يزيد ولا ينقص ، إلى أن يشاء فناءه أو تبديله كالسموات .
2ـ ونوع جعل أصوله موجودة بالفعل ، وأجزاءه موجودة بالقوة. وقدره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه . كتقديره في بذور القمح أن ينبت منها القمح دون غيره من النباتات ، وتقديره لمني الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات .
نسبة الفعل بين الرب والعبد :
نلاحظ أن الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، قد تنسب بعض الأفعال التي نعلم يقينا أنها من فعل الله تعالى ، ومن مظاهر قدرته عز وجل . تنسبها إلى العبد. وذلك باعتبار أنه كان سببا فيها ، وباشر إيجادها . من أمثلة ذلك :
1ـ نعلم أن الذي يهب الذرية هو الله تعالى . قال سبحانه : { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور(49)أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير(50) } [ الشورى] .
ونرى أن القرآن الكريم ينسب ذلك إلى جبريل عليه السلام . قال سبحانه : 
{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا(17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18* قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) } [ مريم ] .
2ـ نعلم أن الذي يدبر الأمر هو الله جل في علاه .
ونرى القرآن الكريم ينسب ذلك إلى بعض الملائكة . قال سبحانه : {والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا(2) والسابحات سبحا(3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) } [ النازعات ] .
3ـ نعلم أن الله تعالى هو الذي يرزق عباده .
ومع ذلك نراه ينسب الرزق إلى الخلق . قال سبحانه : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) } [ النساء ].
وقال عز وجل : { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (Cool } [النساء].
4ـ نعلم أن الله تعالى هو المغني . ومع ذلك يسند هذا إلى رسوله ويشركه معه بواو العطف في الإغناء . قال تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } [ التوبة /74].
5ـ والذي يفرج الكرب هو الله تعالى ، والذي ييسر الأمور هو الله تعالى ، والذي يستر العباد هو الله تعالى .
ومع ذلك نجد الرسول صل الله عليه وسلم ينسب ذلك إلى العباد . فيقول في الحديث الصحيح : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة" (7).
6ـ والذي يغيث الملهوف هو الله تعالى .
ونجد الرسول صل الله عليه وسلم يقول : " من أغاث ملهوفا ، كتب الله له ثلاثا وسبعين مغفرة " (Cool.
7ـ والذي يفزع إليه في الحوائج هو الله تعالى .
ونجد رسول الله صل الله عليه وسلم يقول : " إن لله تعالى عبادا اختصهم بحوائج الناس ، يفزع الناس إليهم في حوائجهم . أولئك الآمنون من عذاب الله " (9).
وهكذا ينسب الفعل إلى الله نسبة حقيقية .
وينسب إلى العبد نسبة سببية .
صفة القدرة في القرآن الكريم : ـ
لم ترد لفظة (القدرة) كما جاءت صفة (العلم) ولكن ورد وصفه تعالى بأنه : (قدير) قال سبحانه : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير(1) } [ الملك ] .
والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة بلا زيادة ولا نقصان .
ومن أسمائه الحسنى : ( القادر) قال تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)} [ الأنعام].
وقال سبحانه : { فقدرنا فنعم القادرون (23) } [ المرسلات ].
وورد أنه تعالى ( المقتدر) قال سبحانه : { وكان الله على كل شئ مقتدرا (45) } [ الكهف ].
وقال : { إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر(55) } [ القمر ].
وورد أنه { ذو القوة المتين (58)} [ الذاريات ] .
فالقوة كمال القدرة ، والمتانة كمال القوة ، وكون الشئ يؤثر في غيره يسمى قوة ، وكونه لا يتأثر بغيره يسمى أيضا قوة.
فالإنسان الذي يقوى على أن يصرع الناس يسمى قويا ، والإنسان الذي لا ينصرع من أحد يسمى أيضا قويا .
وبهذا التفسير يسمى الحجر والحديد قويا شديدا.
إذا تأملنا هذا ، علمنا أن القوي على الحقيقة ليس إلا الله جل في علاه .
ولم يكتف القرآن الكريم بإثبات صفة القدرة لله تعالى فقط ، بل أكد ذلك بأمور :
1ـ إنه منزه عن التعب والنصب : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق ] .
2ـ إن قدرته لا تحتاج إلى آلات ، أو أدوات ، أو مواد : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) } [ يس ].
3ـ إنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير (77)} [النحل].
ومن حديث القرآن الكريم عن مظاهر قدرته تعالى نختار موضعين:
الموضع الأول ـ قال الله تعالى ك 
{ ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم موجة ورحمة إن في ذلك لأيات لقوم يتفكرون (21) ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لأيات للعالمين (22) ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لأيات لقوم يسمعون (23) ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون(24) ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السموات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم (27) } [ الروم ].
الموضع الثاني ـ قال سبحانه :
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } [ الزمر /21].
فبقدرة الله تبخر الشمس مياه البحار والمحيطات ، فتصعد إلى السماء ماء عذبا ، لأن التبخير يخلصه من الأملاح التي تضر الإنسان ، والحيوان ، والنبات.
قال تعالى : { أفرءيتم الماء الذي تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون(69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون(70)}
[ الواقعة ].
لكن لو ظل هذا الماء يرتفع في الفضاء لتبدد،ولم ينتفع به، فاقتضت حكمته وقدرته أن يتكثف بالبرودة ، ولكن كيف ذلك ؟
كان الظاهر أن تزداد الحرارة كلما ارتفعنا إلى أعلى ، لأننا نقترب بالارتفاع من الشمس، وهي مصدر الحرارة ، ومعنى هذا أن يزداد بخار الماء حرارة ، كلما ارتفع إلى أعلى، فيخف وزنه،فيرتفع أكثر في السماء، فلا ينزل أبدا إلى الأرض.
هذا هو الظاهر لنا ، لكن الله قضى بعكس ما نظن لأول وهلة . فقد قضى سبحانه أن تنخفض الحرارة كلما ارتفعنا إلى أعلى حتى نصل إلى مسافة ثمانية أميال فوق سطح البحر ، وهذه هي منطقة تكون السحاب ، وهي فوق أعلى الجبال .
وبعد هذه المنطقة نجد منطقة ثانية ، تثبت فيها درجة الحرارة ولا تتغير ، حتى ارتفاع ثلاثين ميلا فوق سطح الأرض ، بعدها تبدأ منطقة ثالثة تبدأ درجة الحرارة فيها في الارتفاع الشديد ، تليها منطقة أخرى فيها تنخفض درجة الحرارة ! 
تأمل مظهر القدرة الإلهية في التصميم المحكم لطبقات الجو مما يضمن ارتفاع ماء البحر العذب فوق مستوى الجبال ، ثم وقوه وتكثفه بالبرودة الموجودة في الطبقة الأولى ، حتى لا يغادر الأرض . قال تعالى: 
{ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18) [ المؤمنون]
ولما كان بخار الماء خفيفا لا يرى ، فقد اقتضت حكمته تعالى وقدرته أن يرسل الرياح محملة بذرات الدخان ، والأتربة ، وحبوب اللقاح ، فتتلقح جزئيات بخار الماء بها ، فتثيرها وتحركها ، وتتجمع حتى تصير سحابا ثقيلا . لا يغادر غلاف الأرض.
تدبر قوله تعالى : { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) } [ الروم ].
كسفا : قطعا . الودق : المطر.
ويأمر الله الرياح بنقل هذا الماء من البحار إلى أعماق القارات . قال تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } [الأعراف/57].
وتأمل توزيع الماء العذب في عروق الأرض ، وكيف أن الأرض تحفظه من التعفن ، وكيف تحفظه قريبا من سطحها ، حتى يمكن الانتفاع به في شكل عيون وآبار ، تحتها صخور المياه الجوفية ، حتى لا تغور في أعماق الأرض.
اقرأ قوله تعالى : { قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30) } [ الملك].
صفة القدرة في السنة المطهرة :
1ـ قال صل الله عليه وسلم : " اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب " (10).
2ـ وقال صل الله عليه وسلم للمريض : " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : باسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " (11).
3ـ وقال صل الله عليه وسلم : " إذا أراد الله خلق شئ ، لم يمنعه شئ " (12).
4ـ وعن أنس بن مالك أن رجلا قال : يا رسول الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال : " أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " قال قتادة : بلى وعزة ربنا (13).
5ـ وكان صل الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " (14).
6ـ وعن أبي الدرداء عن النبي صل الله عليه وسلم في قوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } قال : " من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويخفض آخرين " (15).
الدليل العقلي على صفة القدرة : ـ
لو لم يكن الله تعالى قادرا ، لكان عاجزا ، ولو كان عاجزا ما وجد شئ من هذه الموجودات ، وعدم وجودها باطل بالمشاهدة ، فبطل ما أدى إليه ، وهو اتصافه بالعجز ، ووجب اتصافه بالقدرة.
تعلقات صفة القدرة : ـ
لهذه الصفة المباركة تعلقان إجمالا وهما : ـ
1ـ تعلق صلوحي قديم : وهو صلاحيتها في الأزل للإيجاد والإعدام فيما لا يزال.
2ـ تعلق تنجيزي حادث : وهو تأثيرها وإيجادها للأشياء بالفعل.
وأما تفصيلا ، فيمكن أن تتصور تعلقات القدرة هكذا : 
أولا : التعلق الصلوحي القديم المذكور.
ثانيا : كون الممكن فيما لا يزال قبل وجوده في قبضة القدرة : إن شاء أبقاه الله على عدمه ، وإن شاء أوجده بها .
ثالثا : إيجاد الله تعالى المخلوق بها فيما لا يزال.
رابعا : كون الممكن حال وجوده في قبضة القدرة : إن شاء أبقاه الله على وجوده ، وإن شاء أعدمه بها .
خامسا : إعدام الله الشئ بالفعل عندما يحين وقت عدمه.
سادسا : كون الممكو حالة عدمه في قبضتها : إن شاء أبقاه على عدمه ، وإن شاء أوجده بها .
سابعا : إيجاد الله تعالى بها المخلوقات يوم البعث.

4 ـ صفة الحياة
ـ
صفة الحياة : صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى ، تصحح اتصافه بالعلم ، والإرادة والقدرة ، ونحو ذلك من الصفات التي تستلزم حياة المتصف بها .
وحياة الله تعالى تختلف عن معنى حياة مخلوقاته ، وليس في إمكان البشر أن يصلوا إلى حقيقة معنى حياته تعالى . بل إن البشر يقفون عاجزين عن فهم معنى الحياة بالنسبة للمخلوقات.
إننا لا نفهم من معنى حياة النباتات إلا النمو .
ولا نفهم من معنى حياة الحيوانات إلا النمو ، والإحساس ، والحركة الإرادية .
ولا نفهم من معنى حياة الإنسان إلا النمو والإحساس . والحركة، والتفكير.
أما حقيقة معنى الحياة ، فهذا شئ صعب المنال . فما بالك بإدراك حقيقة حياته عز وجل !!
وقد وردت الأدلة النقلية تثبت تلك الصفة :
• { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة /255].
• { وعنت الوجوه للحي القيوم } [ طه/111].
• { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان /58].
فحياته تعالى لا يلحقها فناء ، ولا عدم ، ولا موت .
حكى أنه مات ابن لرجل : فبكى حتى عمى ، فقيل له : الذنب لك ، حيث أحببت حيا يموت ، هلا أحببت الحي الذي لا يموت.
وكما أنه تعالى (حي) فهو ( محيي) فيحيي الإنسان والحيوان بخلق الروح في الجسد ، ويحيي الأرض بإنزال الغيث عليها.
وكما أنه المحيي ، فهو ( المميت ) قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك /2].
وإنما تمدح بالإماتة ؛ ليعلم الخلق أنه قادر على التصرف في الأشياء كيف شاء.
والفرق بين صفة ( الحياة ) و ( المحيي ) أن الصفة الأولى ذاتية ، والثانية فعلية ، وكان رسول الله صل الله عليه وسلم يقول في دعائه : " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث " (16).
أما الدليل العقلي على اتصافه تعالى بصفة الحياة فهو : أنه تعالى ثبت أنه متصف بالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل من اتصف بهذه الصفات فهو حي . فمن المسلم عقلا أن الميت لا يكون عالما قادرا.
ومن أين هذه الحياة التي نراها في العالم إن لم تكن هبة من الحي الذي لا يموت ؟ 

5ـ صفة السمع
ـ
سمع الله صفة من صفاته الوجودية الأزلية القائمة بذاته تعالى ، تنكشف بها له جميع الأصوات الموجودة ، ليست بأذن أو ألة ، كسمع المخلوقات تعالى الله عن ذلك .
إنه يسمع كل شئ في هذا الوجود.
إنه يسمع دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الملساء ، في الليلة الظلماء.
إنه يسمع دعوات عباده ، وتضرعهم إليه ، ولا يشغله نداء عن نداء ، ولا تمنعه إجابة دعاء عن دعاء ، وتأمل ما يكون يوم عرفة قبيل الغروب من ضيوف الرحمن ، وما يكون حول بيت الله الحرام .
وصفة السمع غير صفة العلم . قال تعالى : { وهو السميع العليم} فلو كان السمع هو العلم ، لكان تكرارا ، لا فائدة فيه .
وعندما أرسل الله موسى وهارون قال لهما : { إنني معكما أسمع وأرى (46)} [ طه ].
وقال عن المشركين الذين يكيدون لحبيبه المصطفى صل الله عليه وسلم : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [ الزخرف] .
وعندما جاءت (خولة بنت ثعلبة ) تجادل رسول الله صل الله عليه وسلم في شأنها نزل قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير(1)} [المجادلة].
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات . لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صل الله عليه وسلم في جانب البيت تحدثه ، ما أسمع ما تقول " ولكن الله سمع قولها.
ولما رأى الرسول صل الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير ، أشفق عليهم ،ودنا منهم وقال : " أربعوا على أنفسكم . إنكم ليس تدعون أصم ، ولا غائبا . إنكم تدعون سميعا قريبا " (17).
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
والدليل العقلي على اتصافه بالسمع : أنه لو لم يتصف بالسمع ، اتصف بضده، وهو الصمم ، والصمم نقص ، وهو على الإله محال.
كما أن في المخلوقات نعمة السمع ، وهي هبة من الله تعالى ، ولا يعقل أن يكون واهبها فاقدا لها . فلو لم يكن سميعا ، لكان في المخلوقات ما هو أكمل من خالقها . وهذا محال.



6ـ صفة البصر
ـ
هي صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى تنكشف بها له جميع المشاهدات الموجودة . وهي ليست بجارحة وحاسة ، كبصر المخلوقات ؛ لأن الله منزه عن ذلك .
وهي صفة تعم جميع الموجودات ، ولذلك قيل : إذا عصيت مولاك ، فاعصه في موضع لا يراك.
ومن أسمائه الحسنى : ( البصير) وهو الذي يشاهد ويرى ، حتى لا يغيب عنه ما تحت الثرى.
قال تعالى : { إن الله سميع بصير } .
وقال سبحانه : { أرءيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرءيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرءيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) } [ العلق].
وقال صل الله عليه وسلم : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه . فإنه يراك " .
وقد عاب خليل الله إبراهيم على الأصنام أنها لا تسمع ولا تبصر، فلا تصلح للعبادة ، ولا للألوهية . فقال لأبيه : { يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) } [ مريم] ، وقال لقومه عباد الأصنام : { هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) } [ الشعراء].
الدليل العقلي : أنه تعالى لو لم يتصف بالبصر ، لاتصف بضده ، وهو العمى ، وهو نقص على الله محال . والبصر كمال ، وكل كمال الله أولى أن يتصف به ، ولا يعقل أن يكون واهب البصر للمخلوقات فاقدا له ، وإلا كان المخلوق أكمل من الخالق وهو محال.
وأجمعت الأمة على اتصافه تعالى بصفتي السمع والبصر.
يا من يرى مد البعوض جناحه في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نباط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل
ويرى ويسمع ما يرى ما دونها في قاع بحر زاخر متجندل





7ـ صفة الكلام
ـ
لحظات تأمل : ـ
إن الله تعالى خلق الأرض { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)} [ فصلت].
وعهد إلى ملائكته المدبرات أمرا بالقيام على شئون خلقه من : إحياء ، وإماتة ، وخلق ، ورزق ، وغيث ، وخسف ، ورفع ، وخفض ، وغير ذلك .
وعهد إلى رسله من البشر بتبليغ رسالاته إلى خلقه .
كل ذلك كان . ويكون بهذه الصفة المباركة : صفة الكلام .
إن الإنسان منا كم يستخدم من الكلمات والألفاظ أثناء حديثه ، وكتابته وقراءته !!
بل كم لغة تتكلم بها مخلوقات الله !!
فما ظنك بكلام الله تعالى الخالق لهذه الكائنات ، العالم بكلماتها وألفاظها . والمدبر لشئونها !!
ألا يكون كلامه من الكثرة والعظمة على النحو الذي يشير إليه قوله : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [ لقمان /27].
ويشير إليه قوله : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109)} [ الكهف] .
تعريف صفة الكلام والمذاهب فيها : ـ
صفة الكلام صفة يكون بها الدلالة والإفهام .
وأجمعت الأمة على أنه تعالى متكلم . هذا ليس محل خلاف . لكنهم عندما فكروا في المسألة عقليا ، وجدوا دليلين متعارضين :
الأول ـ أن كلامه تعالى صفة له ، وكل صفاته قديمة ، فكلامه قديم.
الثاني ـ أن كلامه مكون من أجزاء متعاقبة في الوجود حسب القراءة أو الكتابة ، وكل ما كان كذلك فهو حادث مخلوق ، فكلامه حادث مخلوق.
فافترقت الأمة إلى أربع فرق :
ذهبت فرقتان إلى صحة الدليل الأول . وهما : الحنابلة والأشعرية.
وذهبت فرقتان إلى صحة الدليل الثاني. وهما : الكرامية والمعتزلة.
(1) فالحنابلة : قالوا : كلامه تعالى حروف وأصوات . تقوم بذاته . وهو قديم . ولكن .. كيف يكون قديما قائما بذاته،وكل حرف يحصل بعد انقضاء سابقه ؟
(2) والأشعرية : قالوا : كلامه نوعان : نفسي ولفظي .
أ ـ فالكلام النفسي : هو المعاني التي تكون في النفس . وهو غير العلم ؛ لأن العلم صفة انكشاف ، وغير الإرادة ؛ لأنها صفة تخصيص . وهذا الكلام النفسي هو القديم.
ب ـ والكلام اللفظي : وهو العبارات التي تدل على ما في النفس ، وهذا النوع حادث.
(3) والكرامية : قالوا : كلامه حروف وأصوات حادثة تقوم بذاته.
ولكن .. كيف يكون الله محلا للحوادث ؟
(4) والمعتزلة : قالوا : كلامه حروف وأصوات ، لكنها ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها في غير ذاته . كاللوح المحفوظ ، أو جبريل، أو النبي مثلا.
ولكن .. كيف يكون الله متكلما بكلام لا يقوم بذاته ؟ وهل تعتبر أنت متكلما إذا قام الكلام بزميلك ؟ 
ثم قامت المعارك الحامية بين الفرق ، وتصارعت الأدلة ، وازدادت الهجمات ضراوة على كل فريق ، مما سودت به الصفحات الضخمة ، وضيع فيه وقت المسلمين في محاولة التعرف على حقيقة وكنه (كلام الله) حتى سمى علم التوحيد بـ ( علم الكلام ) كما سبق .
ولا أريد أن أعرض لمذهب كل فرقة وأدلتها ، فهذا أمر يطول جدا ، ويرهق إلى أقصى درجة ؛ لكني أريد أن أنبه إلى أمر هام بعد أن أيقنا بثبوت هذه الصفة لله ، وهو ضرورة التفرقة بين ما يقوم بذاته تعالى من هذه الصفة ، وبين ما يقوم بذواتنا نحن .
إننا عندما نقرأ أو نكتب أو نسمع كلام الله لابد أن نفرق بين هذين الأمرين .
وقد أشرنا في المقدمة إلى دور أعداء الإسلام في ظهور مشكلة خلق القرآن في البيئة الإسلامية . وقد تورط فيها بعض الخلفاء ، وما كان ينبغي لهم أن يفرضوا رأيا فكريا على جميع العلماء والمفكرين ، ولا أن يمتحنوهم للتأكد من موقفهم من هذه القضية التي ما أثارها رسول الله صل الله عليه وسلم ولا أصحابه رضى الله عنهم .
وبسبب هذا البلاء خرج الإمام البخاري فارا . وقال : اللهم اقبضني إليك غير مفتون . فمات بعد أربعة أيام .
وسجن ( عيسى بن دينار) ت 212 هـ فقيه الأندلس في عصره عشرين سنة.
وسئل الإمام ( الشعبي) ت 103هـ فقال : أما التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، فهذه الأربعة حادثة . وأشار إلى أصابعه ، فكانت سبب نجاته.
واشتهر هذا الجواب عن الإمام الشافعي رضى الله عنه.
وحبس الإمام ( أحمد بن حنبل ) وضرب بالسياط حتى غشى عليه .
ويذكر أن النبي صل الله عليه وسلم قال للإمام الشافعي في المنام بشر أحمد بالجنة على بلوى تصيبه في خلق القرآن ، فأرسل له كتابا ببغداد . فلما قرأه بكى . ودفع للرسول قميصه الذي يلي جسده ، وكان عليه قميصان ، فلما وصل إلى الشافعي غسله ، وادهن بمائه . تبركا به ، وطلبا للشفاء من الله .
وقد قال الإمام البيضاوي ـ وهو من هو ـ عن صفة الكلام : "والإطناب في ذلك قليل الجدوى ؛ فإن كنه ذاته وصفاته محجوب عن نظر العقول" (18).
ويكفينا أن نثبت لله تعالى هذه الصفة المباركة صفة الكلام ؛ لأنها صفة كمال. لا يمكن أن يخلو عنها الإله الحق ، ألا ترى أنه رد على عباد العجل بأنه لا يتكلم ، وهذا نقص . فلا يصلح أن يكون إلها . قال تعالى : 
{ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } [ الأعراف/148] وقال : {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89)} [طه] .

المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه مسلم في صلاة المسافرين 1/535
2ـ انظر تفصيل ذلك عند ابن القيم في ( شفاء العليل ) الباب الحادي والعشرين والخامس والعشرين .
3ـ رواه البخاري في ك التوحيد ب في المشيئة والإرادة ـ الفتح13/456.
4ـ رواه مسلم في ك الصلاة ب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع 1/347
5ـ رواه مسلم في ك التوبة ب سقوط الذنوب بالاستغفار 4/2106
6ـ انظر تفصيل ذلك عند ابن القيم في ( مدارك السالكين ) 1/251 ـ 256 ، 2/192 ـ 198.
7ـ رواه مسلم في ك الذكر والدعاء . ب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/2074
8ـ رواه البخاري في التاريخ ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس ـ جامع الأحاديث 6/109
9ـ رواه الطبراني عن ابن عمر ـ جامع الأحاديث 2/448
10ـ رواه البخاري في ك التوحيد ب قول الله تعالى:{ قل هو القادر} الفتح 13/387.
11ـ رواه مسلم في ك السلام ت استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء 4/1728
12ـ رواه مسلم في ك النكاح ب حكم العزل 2/1064
13ـ رواه مسلم في ك صفات المنافقين ب يحشر الكافر على وجهه 4/2161.
14ـ رواه البخاري في ك القدر ب لا مانع لما أعطى الله ـ الفتح 11/521.
15ـ رواه ابن ماجه في المقدمة 1/73.
16ـ الترغيب والترهيب 1/457.
17ـ رواه مسلم في الذكر والدعاء 4/2076
18ـ متن الطوالع ص 79
***

من كتاب : الدكتور / محمد ربيع الجوهرى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:32 pm

[size=30] صفات المعانى : أسماء الله الحسنى[/size]


أسماء الله الحسنى

وصف الله تعالى لأسمائه
وصف الله أسماءه (1) بالحسنى في أربع آيات من القرآن الكريم :ـ
        • { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180) } [ الأعراف ]
        • { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [ الإسراء / 110].
        • { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (Cool } [ طه ].
        • { هو الله الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى} [الحشر/24]
وقد ورد في سبب نزول الآية الأولى أن أحد الصحابة كان يصلي ، ويقول في صلاته : يا رحمن ، يا رحيم . فسمعه رجل من مشركي مكة فقال : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو اثنين ! فأنزل الله سبحانه : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } (2).
        فبينت الآية أن لله تعالى عدة أسماء ، على المسلم أن يدعو الله بها ويسميه بها ، ويثني عليه بها ، ويناديه بها إذا أراد شيئا منه جل في علاه وهذه الأسماء كلها حسنى ؛ لأنها تدل على أحسن المعاني ، وعلى أكمل الصفات ، ونطلب بكل اسم منها ما يليق به فنقول : يا رحمن ارحمني ، يا هادي اهدني ، يا تواب تب علي ، يا رزاق ارزقني ، وإذا أردت اسما متضمنا جميع صفات الكمال فقل : يا الله .
        وقد ذكر الله تعالى بعض الأسماء في أواخر سورة الحشر حيث قال : {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23) هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم (24) } [ الحشر ].
معنى الإلحاد في أسمائه تعالى : ـ
الإلحاد هو الانحراف والميل عن القصد ، ويكون في أسمائه على النحو التالي :
        1ـ أن يوصف الله بما لا يجوز أن يوصف به ، كوصفه بالأب عند النصارى ، وبالجسمية عند الكرامية ، حيث قالوا : إن الله جسم كالأجسام .
        2ـ أن ينفي عن الله بعض أسمائه التي ثبتت له ، كما يفعله الشيعة الباطنية الغلاة.
        3ـ أن يشتق من أسمائه صفة ، وتطلق على غيره كالأصنام ، كتسمية الصنم باللات من لفظ الجلالة (الله) ، والعزى من اسمه (العزيز) أو مناة من اسمه (المنان).
المراجع والهوامش
ـ
        1ـ الاسم هو اللفظ الموضوع لمعنى المتجرد عن الزمان ، والمسمى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه ، والتسمية وضع الاسم للمعنى ، فهي أمور ثلاثة متغايرة ـ انظر شرح المقاصد 2/124 ـ وتفسير الرازي1/108
        2ـ تفسير القرطبي ص 2761 ط الشعب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدد الأسماء الحسنى
عدد أسمائه الحسنى : ـ
روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال : "إن لله تسعة وتسعن اسما ـ مائة إلا واحدا ـ من أحصاها دخل الجنة"(1).
وقد انقسم العلماء تجاه هذا الحديث إلى فريقين : ـ
الفريق الأول : يرى أنه ليس لله تعالى أسماء إلا هذه التسعة والتسعين اسما ، والغرض من الحديث تحديد عدد أسماء الله ، وحصرها في هذا العدد ومن هذا الفريق الإمام ابن حزم .
وهذه الأسماء حسب رواية الترمذي عن أبي هريرة هي :
( هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي، المبدئ ، المعيد ، المحي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور ) (2).
الفريق الثاني : يرى أن لله تعالى أسماء أكثر من هذا العدد المذكور في الحديث ،وليس المراد من الحديث الإخبار بعدد الأسماء ، وحصرها في هذا العدد ، إنما المراد من الحديث الإخبار بأن من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة .
ولا يجوز أن نسمى الله إلا بما ورد في القرآن الكريم ، أو السنة المطهرة (3) ، أو أجمع العلماء على جواز إطلاقه ، حتى ولو كان معناه صحيحا وهذا معنى قول العلماء : " أسماء الله توقيفية ".
فلا يقال : من أسمائه (الموجد) لأنه لم يرد في الشرع ، وإن كان معناه صحيحا . وإنما يقال : هو (الخالق) لوروده في الشرع ، ولا يقال (الله سخي ) بل يقال : ( جواد كريم ) ولا يقال : ( الله شفيق ) بل يقال: (رحيم) وهكذا.
هذا بالنسبة للأسماء ، وقد يتسامح في الصفات ما لا يتسامح في الأسماء فتقول من صفاته تعالى : أنه صانع العالم ، وموجده ، ومدبره . وهكذا . طالما أن الوصف يدل على الكمال.
والدليل على أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين ما يلي :
أولا : أنه لم يثبت في حديث صحيح سرد وعد هذه الأسماء : فالحديث الذي ورد فيه ذكر الأسماء بروايتيه ضعيف . مع وجود اختلاف بين الروايتين بالزيادة والنقصان (4) . وقد رجح الإمام ابن حجر أن سرد الأسماء ليس مرفوعا إلى النبي صل الله عليه وسلم وإنما هو من جمع بعض الرواة (5).
ثانيا ـ وردت أسماء لله تعالى في القرآن والسنة لم ترد في هاتين الروايتين منها : ـ
أ ـ اسم ( الرب ) وأغلب الدعاء بهذا الاسم
ب ـ اسم ( الوتر ) ففي الحديث : " وهو وتر يحب الوتر" (6)
ج ـ اسم ( المنان ) عن أنس أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، ورجل يصلي ، ثم دعا : " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ـ لا إله إلا أنت المنان . بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام . يا حي يا قيوم " فقال النبي صل الله عليه وسلم : "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى" (7).
د ـ اسم ( السبوح ) فقد كان رسول الله صل الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده : " سبوح قدوس . رب الملائكة والروح"(Cool.
هـ ـ اسم ( مقلوب القلوب ) عن ابن عمر قال : كانت يمين النبي صل الله عليه وسلم : " لا ومقلب القلوب" (9).
و ـ اسم ( الشافي ) عن عائشة قالت : كان رسول الله صل الله عليه وسلم إن اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه . ثم قال : " اذهب الباس . رب الناس ، واشف أنت الشافي" (10).
ثالثا ـ بل إن الرسول صل الله عليه وسلم يصرح بأن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ، وله أسماء قد يكشف عنها لبعض أوليائه وأحبابه :
فعن عبد الله قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " ما أصاحب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك . عدل في قضاؤك . أسألك بكل اسم هو لك . سميت به نفسك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي . إلا أذهب الله همه وحزنه ، وأبدله مكانه فرجا . قال : فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها ؟ فقال : بلى . ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " (11).
فهذا الحديث واضح في أن أسماء الله تعالى أكثر من تسعة وتسعين.
المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه البخاري في التوحيد ـ الفتح 13/377 ومسلم في الذكر والدعاء 4/2062
2ـ رواه الترمذي في الدعوات 5/530 ـ المقيت : أي خالق الأقوات ، الحسيب : أي المحاسب عباده ، الواسع : الذي لا حدود لمعاني أسمائه وصفاته . المجيد : أي جميل الأفعال كثير الأفضال ، الحق : أي الثابت الذي لا يزول ، الولي : المتولي أمور خلقه ، الواجد : أي الغني ، الصمد : أي المقصود في الحاجات ، المقسط:العادل في حكمه ، النور: الظاهر وجوده المظهر لوجود غيره. الرشيد : المرشد لعباده . الصبور
الذي لا يعجل العقوبة .
3ـ من العلماء من اشترط ورود (الاسم) في السنة ( المتواترة / لأن هذا الأمر يرجع إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى . وبعضهم اكتفى بخبر ( الآحاد ) لأن اطلاق الاسم مسألة عملية يكفي في ثبوتها حديث الآحاد.
4ـ سنن ابن ماجه ك الدعاء 2/1269
5ـ فتح الباري 11/215
6ـ رواه البخاري في الدعوات ـ الفتح 11/214
7ـ رواه أبو داود في الصلاة 2/167
8ـ رواه مسلم في الصلاة 1/353
9ـ رواه البخاري في الأيمان والنذور ـ الفتح 11/522
10ـ رواه مسلم في السلام 4/1721
11ـ أخرجه أحمد في المسند 1/391 والحاكم في المسند ك1/509
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنى إحصاء الأسماء : ـ
ذكر العلماء لقوله صل الله عليه وسلم " من أحصاها دخل الجنة " عدة معاني : ـ
1ـ المراد من الإحصاء العد والحفظ : أي من عدها وحفظها ، ودعا الله بها كلها ، ولم يقتصر على الدعاء ببعضها استحق الثواب الموعود به ، وذلك بشرط إيمانه . قال البخاري : ( أحصيناه حفظناه )(1).
2ـ المراد بالإحصاء الإطاقة : كما في قوله تعالى : { علم أن لن تحصوه } أي لن تطيقوه ، فمن أحصاها أي من أطاق القيام بحق هذه الأسماء ، فإذا قال : (الحكيم) سلم جميع أوامره ، لأنها على مقتضى حكمته ، وإذا قال (القدوس) نزه الحق عن جميع النقائص والمعايب ، وإذا قال : ( الرازق ) وثق بالرزق ، وهكذا ..
3ـ المراد بالإحصاء الإحاطة : من قول العرب : فلان ذو حصاة أي عقل ومعرفة ، فعلى المسلم أن يبذل غاية جهده بأسمائه تعالى من الكتاب والسنة.
4ـ المراد بالإحصاء العمل بمقتضى الأسماء : فما يسوغ الاقتداء بمعناه اقتدى به ، كالرحيم والكريم والعفو ، وما يختص منها به تعالى، يقر العبد به ويخضع له ، كالجبار والمتكبر والأحد ، وما كان فيه معنى الوعد ، رغب العبد فيه ، وتطلع إليه ، كالوهاب والولي واللطيف ، وما فيه معنى الوعيد ، خشى منه وخاف ، كالمنتقم والمذل والقهار.
المرجع والهوامش
ـ
1ـ الفتح 13/377
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمور مهمة تتعلق بأسمائه الحسنى : ـ
الأمر الأول : ـ
ثبوت الأسماء الحسنى يدل على ثبوت صفاته العليا دون العكس ، فلا يلزم من ثبوت الصفة أن له اسما من جنسها .
فثبوت اسمه ( العليم ) يدل على ثبوت صفة العلم . قال تعالى : {والله بكل شئ عليم (282) } [ البقرة ] وقال : { ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء } [ البقرة /255] فالآية الأولى أثبتت الاسم ، والثانية الصفة.
وقال تعالى : { وهو الغفور الرحيم (107)} [ يونس ] وقال : {وربك الغفور ذو الرحمة} [ الكهف /58] فدلت الآية الثانية على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة . وأجمع أهل اللغة على أنه لا يقال عليم إلا لمن له علم . ولا رحيم إلا لمن له رحمة .
لكن إذا وردت الصفة . فلا يلزم أن يكون له اسم من جنسها . قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [ التوبة /6] فالآية دلت على ثبوت صفة الكلام ، لكن لم يرد ضمن أسمائه الحسنى : المتكلم .
الأمر الثاني : ـ
سمى الله نفسه بأسماء ، وسمى بها بعض خلقه ، وسمى صفاته بأسماء ، وسمى ببعضها صفات خلقه ، وليس المسمى كالمسمى :
1ـ فسمى نفسه : حيا ، عليما ، حليما ، رءوفا ، رحيما ، سميعا ، بصيرا ، عزيزا ، ملكا ، مؤمنا ، جبارا ، متكبرا .
وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال:{ يخرج الحي من الميت} [ الأنعام /95 والروم /19] ، { وبشروه بغلام عليم (28)} [الذاريات] ، { فبشرناه بغلام حليم (101)} [ الصافات ] ، { بالمؤمنين رءوف رحيم (128) } [ التوبة ] { فجعلناه سميعا بصيرا (2)} [الإنسان] ، {قالت امرأت العزيز } [ يوسف/ 51] ، { وكان وراءهم ملك } [الكهف/79] ، { أفمن كان مؤمنا } [ السجدة /18] ، { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35) } [ غافر].
ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي ، ولا العليم العليم ، ولا العزيز العزيز ، وكذلك سائر الأسماء.
2ـ وسمى بعض صفاته علما وقوة . فقال : { أنزله بعلمه } [النساء /166] ، وقال : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [فصلت /15] ، وقال : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)} [الذاريات ].
وأطلق هذه الصفات على خلقه . فقال عن يعقوب عليه السلام : {وإنه لذو علم لما علمناه } [ يوسف / 68] وقال تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } [ هود/52] وقال : { إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20)} [ التكوير]
ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم ، ولا القوة كالقوة .
الأمر الثالث : ـ
الاسم إذا كان جامدا ، لا يتضمن معنى حسنا ، فليس من أسمائه الحسنى مثل ( الدهر) . فهو اسم جامد للوقت والزمن . قال تعالى عن منكري البعث : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية /24] يريدون مرور الليالي والأيام .
وأما قوله صل الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : { يؤذيني ابن آدم . يسب الدهر . وأنا الدهر . بيدي الأمر،أقلب الليل والنهار}(1) فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى . وذلك أن الذين يسبون الدهر ، إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث : لا يريدون الله تعالى . فيكون معنى قوله : ( وأنا الدهر) ما فسره بقوله : ( بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار) فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه ، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار ، وهما الدهر ، ولا يمكن أن يكون المقلب ـ بكسر اللام ـ هو المقلب ـ بفتحها ـ وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادا به الله تعالى ؛ لأن في الحديث مجازا بالحذف.
الأمر الرابع : ـ
من أسمائه تعالى ما هو مخصوص به ، لا يجوز إطلاقه على غيره ، كالرازق ، والمحي ، والمميت ، والقدوس ، والرحمن ، ومالك الملك، وذي الجلال والإكرام .
ومنها ما يجوز إطلاقه على غيره مع اختلاف المعنى ـ كما سبق ـ مثل : الحي ، الرحيم ، الحليم .
ومن أسمائه ما يوصف به مطلقا ، ويوصف به غيره مقيدا ، كالرب ، والقابض ، والباسط ، والخافض ، والرافع .
ومن أسمائه ما يوصف الله به مدحا ، ويوصف به غيره ذما ، كالجبار ، والمتكبر.
ومن أسمائه ما لا يطلق عليه إلا مقترنا بمقابله ؛ لأنه إن أطلق وحده أوهم نقصا ، فلا نقول : ( الضار) وحده . بل نقول : الضار النافع ، ولا نقول : ( المانع ) وحده ، بل المعطي المانع ، ولا نقول : (المذل ) وحده بل : المعز المذل ، ولا نقول : ( الخافض ) وحده ، بل : الخافض الرافع .
وأسماؤه المضافة لا تطلق عليه بدون الإضافة . مثلم : { أرحم الراحمين (64) } [ يوسف ] ، { خير الغافرين (155)} [الأعراف] ، { أحسن الخالقين (14) } [ المؤمنون ] ، { مــلك يوم الدين (4) } [الفاتحة ] ، { بديع السموات والأرض } [ البقرة /117] ، { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } [ غافر /3] ، { جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران /9] ، "مقلب القلوب"(2).
الأمر الخامس : ـ
اختلف العلماء في موضوع ( اسم الله الأعظم ) الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى . وإليك بعض ما قالوه :
1ـ أنكر بعضهم تخصيص أحد أسمائه تعالى بأنه الاسم الأعظم . وقالوا : إن كل اسم من أسمائه ، يذكره العبد مستغرقا فيه . فذلك الاسم هو الاسم الأعظم ، وحملوا ما ورد من ذكر الاسم الأعظم في السنة على أن المراد به العظيم ، وقالوا : لا يجوز تفضيل بعض أسمائه على بعض ، وممن ذهب هذا المذهب : الطبري ، والأشعري ، وابن حبان ، والباقلاني.
2ـ وذهب بعض العلماء إلى وجود الاسم الأعظم ، وانقسموا إلى فريقين :
أ ـ فريق يرى أنه غير محدد ، ولا معلوم للخلق ، مع الاعتراف بوجوده وقد استأثر الله بعلمه .
ب ـ وفريق يرى أنه معلوم للخلق ، وهؤلاء اختلفوا في تحديده على نحو أربعين قولا ، لاختلافهم في ترجيح بعض الأحاديث النبوية على بعض .
فمن قائل أنه : ( الله ) أو (الحي القيوم ) أو ( ذو الجلال والإكرام) أو ( الحنان المنان).
والذي يظهر لي أن الله قد أخفاه ضمن الأسماء الحسنى ، كي يجتهد العبد بالذكر بها كلها ، وقد يكون مركبا من أكثر من اسم من أسمائه ، فالمهم حضور القلب عند الذكر ، واستكمال شروط الدعاء، وذلك كما أخفى ليلة القدر، ليجتهد العبد في إحياء ليالي رمضان ، وكما أخفى الصلاة الوسطى ، وساعة الإجابة يوم الجمعة ، والله أعلم .

المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه البخاري في التوحيد ـ الفتح 13/472 رقم 7491
2ـ حديث " يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " رواه الترمذي في الدعوات 5/538
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض الأحاديث النبوية التي وردت في اسم الله الأعظم
1ـ عن بريدة رضى الله عنه قال : سمع النبي صل الله عليه وسلم رجلا يدعو ، وهو يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله ، لا إله إلا أنت ، الأحد ، الصمد ، الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.
قال : فقال : ( والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم ، الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ) (1) .
قال الحافظ ابن حجر : هذا الحديث أرجح ما ورد في هذا الباب من حيث السند.
2ـ عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : دخل النبي صل الله عليه وسلم المسجد ، ورجل قد صلى ، وهو يدعو ، ويقول في دعائه : اللهم لا إله إلا الله ، أنت المنان ، بديع السموات والأرض ، ذو الجلال والإكرام.
فقال النبي صل الله عليه وسلم : " أتدرون بما دعا الله ؟ دعا الله باسمه الأعظم ، الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى " (2)
3ـ عن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها ، أن النبي صل الله عليه وسلم قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين :
• { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) } [البقرة]
• { ألم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) } (3) [ آل عمران]
4ـ عن سعد بن مالك رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول : " هل أدلكم على اسم الله الأعظم ، الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؟ الدعوة التي دعا بها يونس : حيث نادى في الظلمات الثلاث :
* { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87) } [الأنبياء]
فقال رجل : يا رسول الله ، هل كانت ليونس خاصة ، أم للمؤمنين عامة ؟
فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : ألا تسمع قول الله عز وجل:
• { ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88) } (4) [الأنبياء]


المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .
2ـ روه كذلك أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .
3ـ رواه أبو داود والترمذي . وقال عنه : حديث حسن صحيح.
4ـ رواه الحاكم في المستدرك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:33 pm

قائمة بأسماء الله الحسنى ومعانيها




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:37 pm

 اعتقاد السلف فى الصفات الخبرية


        تمهيد فِي شَرْحِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ فِي الصفات الخبرية أو المتشابهات
يقول الإمام الغزالى
اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ ، أَعْنِي مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهَا أَنَا أُورِدُ بَيَانَهُ وَبَيَانَ بُرْهَانِهِ         (فَأَقُولُ) : حَقِيقَةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ - وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَنَا - أَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ عَوَامِّ الْخَلْقِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ سَبْعَةُ أُمُورٍ : التَّقْدِيسُ . ثُمَّ التَّصْدِيقُ ، ثُمَّ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ . ثُمَّ السُّكُوتُ . ثُمَّ الْإِمْسَاكُ . ثُمَّ الْكَفُّ ؟ ثُمَّ التَّسْلِيمُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، (أَمَّا التَّقْدِيسُ) فَأَعْنِي بِهِ تَنْزِيهَ الرَّبِّ - تَعَالَى - عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَتَوَابِعِهَا . (وَأَمَّا التَّصْدِيقُ) فَهُوَ الْإِيمَانُ بِمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَقٌّ ، وَهُوَ فِيمَا قَالَهُ صَادِقٌ ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ وَأَرَادَهُ . (وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ) فَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ مُرَادِهِ لَيْسَتْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَحِرْفَتِهِ .
        (وَأَمَّا السُّكُوتُ) فَأَلَّا يَسْأَلَ عَنْ مَعْنَاهُ وَلَا يَخُوضَ فِيهِ وَيَعْلَمَ أَنَّ سُؤَالَهُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ، وَأَنَّهُ فِي خَوْضِهِ فِيهِ مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ . وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْفُرَ لَوْ خَاضَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ . (وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ) فَأَلَّا يَتَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ بِالتَّصْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ بِلُغَةٍ أُخْرَى . وَالزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ وَالْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ ، بَلْ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَعَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنَ الْإِيرَادِ وَالْإِعْرَابِ وَالتَّصْرِيفِ وَالصِّيغَةِ . (وَأَمَّا الْكَفُّ) فَأَنْ يَكُفَّ بَاطِنَهُ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ . (وَأَمَّا التَّسْلِيمُ لِأَهْلِهِ) فَأَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ فَقَدْ خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ عَلَى الصِّدِّيقِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ ، فَهَذِهِ سَبْعُ وَظَائِفَ اعْتَقَدَ كَافَّةُ السَّلَفِ وَجُوبَهَا عَلَى كُلِّ الْعَوَامِّ ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ بِالسَّلَفِ الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ،
فَلْنَشْرَحْهَا وَظِيفَةً وَظِيفَةً إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الْوَظِيفَةُ الْأُولَى التَّقْدِيسُ)

        وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الْيَدَ وَالْإِصْبَعَ ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللهَ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِهِ وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ لِمَعْنَيَيْنِ ; أَحَدُهُمَا : هُوَ الْوَضْعُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَعَصَبٍ ، وَاللَّحْمُ وَالْعَظْمُ وَالْعَصَبُ جِسْمٌ مَخْصُوصٌ وَصِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ ، أَعْنِي بِالْجِسْمِ عِبَارَةً عَنْ مِقْدَارٍ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِحَيْثُ هُوَ إِلَّا بِأَنْ يَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ هَذَا اللَّفْظُ أَعْنِي الْيَدَ لِمَعْنًى آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِجِسْمٍ أَصْلًا ، كَمَا يُقَالُ : الْبَلْدَةُ فِي يَدِ الْأَمِيرِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ مَقْطُوعَ الْيَدِ مَثَلًا ، فَعَلَى الْعَامِّيِّ وَغَيْرِ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَحَقَّقَ قَطْعًا وَيَقِينًا أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ جِسْمًا هُوَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَعَظْمٍ ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ وَهُوَ عَنْهُ مُقَدَّسٌ ، فَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ اللهَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْضَاءٍ فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ . فَإِنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَعِبَادَةُ الْمَخْلُوقِ كُفْرٌ ، وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ كَانَتْ كُفْرًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ مَخْلُوقًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ ، فَمَنْ عَبَدَ جِسْمًا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَالْخَلْفِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَثِيفًا كَالْجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلَابِ ، أَوْ لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُظْلِمًا كَالْأَرْضِ أَوْ مُشْرِقًا كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ ، أَوْ مُشِفًّا لَا لَوْنَ لَهُ كَالْهَوَاءِ ، أَوْ عَظِيمًا كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَاءِ ، أَوْ صَغِيرًا كَالذَّرَّةِ وَالْهَبَاءِ أَوْ جَمَادًا كَالْحِجَارَةِ ، أَوْ حَيَوَانًا كَالْإِنْسَانِ . فَالْجِسْمُ صَنَمٌ ، فَبِأَنْ يُقَدَّرَ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ أَوْ عِظَمُهُ أَوْ صِغَرُهُ أَوْ صَلَابَتُهُ وَبَقَاؤُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ صَنَمًا ، وَمَنْ نَفَى الْجِسْمِيَّةَ عَنْهُ وَعَنْ يَدِهِ وَأُصْبُعِهِ فَقَدْ نَفَى الْعُضْوِيَّةَ وَاللَّحْمَ وَالْعَصَبَ ، وَقَدَّسَ الرَّبَّ - جَلَّ جَلَالُهُ - عَمَّا يُوجِبُ الْحُدُوثَ لِيَعْتَقِدَ بَعْدَهُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فِي جِسْمٍ يَلِيقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِاللهِ - تَعَالَى - ، فَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا يَفْهَمُ كُنْهَ حَقِيقَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ تَكْلِيفٌ أَصْلًا ، فَمَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَلَّا يَخُوضَ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي .
        مِثَالٌ آخَرُ : إِذَا سَمِعَ الصُّورَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَ إِنِّي رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الصُّورَةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ فِي أَجْسَامٍ مُؤَلَّفَةٍ مُوَلَّدَةٍ مُرَتَّبَةٍ تَرْتِيبًا مَخْصُوصًا مِثْلَ الْأَنْفِ وَالْعَيْنِ وَالْفَمِ وَالْخَدِّ الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ وَهِيَ لُحُومٌ وَعِظَامٌ ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هَيْئَةٍ فِي جِسْمٍ ، وَلَا هُوَ تَرْتِيبٌ فِي أَجْسَامٍ ، كَقَوْلِكَ عَرَفَ صُورَتَهُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، فَلْيَتَحَقَّقْ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ الصُّورَةَ فِي حَقِّ اللهِ لَمْ تُطْلَقْ لِإِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ جِسْمٌ لَحْمِيٌّ وَعَظْمِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ أَنْفٍ وَفَمٍ وَخَدٍّ ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ أَجْسَامٌ وَهَيْئَاتٌ فِي أَجْسَامٍ ، وَخَالِقُ الْأَجْسَامِ وَالْهَيْئَاتِ كُلِّهَا مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَتِهَا أَوْ صِفَاتِهَا ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا يَقِينًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بَلْ أُمِرَ بِأَلَّا يَخُوضَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ مِمَّا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فِي جِسْمٍ .
        مِثَالٌ آخَرُ : إِذَا قَرَعَ سَمْعَهُ النُّزُولُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النُّزُولَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ ، قَدْ يُطْلَقُ إِطْلَاقًا يَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْسَامٍ : جِسْمٌ عَالٍ هُوَ مَكَانٌ لِسَاكِنِهِ ، وَجِسْمٌ سَافِلٌ كَذَلِكَ ، وَجِسْمٌ مُنْتَقِلٌ مِنَ السَّافِلِ إِلَى الْعَالِي وَمِنَ الْعَالِي إِلَى السَّافِلِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى عُلُوٍّ سُمِّيَ صُعُودًا وَعُرُوجًا وَرُقِيًّا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ سُمِّيَ نُزُولًا وَهُبُوطًا ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ انْتِقَالٍ وَحَرَكَةٍ فِي جِسْمٍ ، كَمَا قَالَ اللهُ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 : 6] وَمَا رُؤِيَ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ بِالِانْتِقَالِ ، بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ فِي الْأَرْحَامِ ، وَلِإِنْزَالِهَا مَعْنًى لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - : " دَخَلْتُ مِصْرَ فَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامِي ، فَنَزَلْتُ ثُمَّ نَزَلْتُ ثُمَّ نَزَلْتُ " . فَلَمْ يُرِدْ بِهِ انْتِقَالَ جَسَدِهِ إِلَى أَسْفَلَ ، فَتَحَقَّقَ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّ النُّزُولَ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ انْتِقَالُ شَخْصٍ وَجَسَدٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ
        فَإِنَّ الشَّخْصَ وَالْجَسَدَ أَجْسَامٌ ، وَالرَّبَّ - جَلَّ جَلَالُهُ - لَيْسَ بِجِسْمٍ ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْ هَذَا فَمَا الَّذِي أَرَادَ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : أَنْتَ إِذَا عَجَزْتَ عَنْ فَهْمِ نُزُولِ الْبَعِيرِ مِنَ السَّمَاءِ فَأَنْتَ عَنْ فَهْمِ نُزُولِ اللهِ - تَعَالَى - أَعْجَزُ ، فَلَيْسَ هَذَا بِوُسْعِكَ فَاتْرُكْهُ ، وَاشْتَغِلْ بِعِبَادَتِكَ أَوْ حِرْفَتِكَ وَاسْكُتْ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تُرَادَ بِالنُّزُولِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَيَلِيقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَظَمَتِهِ ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ .
        مِثَالٌ آخَرُ : إِذَا سَمِعَ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6 : 18] وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [16 : 5] فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْفَوْقَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ لِمَعْنَيَيْنِ ; أَحَدُهُمَا : نِسْبَةُ جِسْمٍ إِلَى جِسْمٍ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى وَالْآخَرُ أَسْفَلَ ، يَعْنِي : أَنَّ الْأَعْلَى مِنْ جَانِبِ رَأْسِ الْأَسْفَلِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ لِفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ : الْخَلِيفَةُ فَوْقَ السُّلْطَانِ وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ ، وَكَمَا يُقَالُ الْعِلْمُ فَوْقَ الْعِلْمِ ، وَالْأَوَّلُ : يَسْتَدْعِي جِسْمًا يُنْسَبُ إِلَى جِسْمٍ .
        وَالثَّانِي : لَا يَسْتَدْعِيهِ ، فَلْيَعْتَقِدِ الْمُؤْمِنُ قَطْعًا أَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرَ مُرَادٍ ، وَأَنَّهُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ ، فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَجْسَامِ أَوْ لَوَازِمِ أَعْرَاضِ الْأَجْسَامِ ، وَإِذَا عَرَفَ نَفْيَ هَذَا الْمُحَالِ فَلَا عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ لِمَاذَا أُطْلِقَ وَمَاذَا أُرِيدَ ؟ فَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ ."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الْوَظِيفَةُ الثَّانِيَةُ - الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ)
        وَهُوَ أَنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أُرِيدَ بِهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقٌ فِي وَصْفِ اللهِ - تَعَالَى - بِهِ ، فَلْيُؤْمِنْ بِذَلِكَ وَلْيُوقِنْ بِأَنَّ مَا قَالَهُ صِدْقٌ وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ ، وَلْيَقُلْ آمَنَّا وَصَدَّقْنَا ، وَأَنَّ مَا وَصَفَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَهُوَ كَمَا وَصَفَهُ ، وَحَقٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، فَإِنْ قُلْتَ : التَّصْدِيقُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّصَوُّرِ ، وَالْإِيمَانُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّفَهُّمِ ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِذَا لَمْ يَفْهَمِ الْعَبْدُ مَعَانِيَهَا كَيْفَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ قَائِلِهَا فِيهَا ؟ فَجَوَابُكَ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْأُمُورِ الْجُمْلِيَّةِ لَيْسَ بِمُحَالٍ ، وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَانٍ ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ فَلَهُ مُسَمًّى إِذَا نَطَقَ بِهِ مَنْ أَرَادَ مُخَاطَبَةَ قَوْمٍ قَصَدَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ صَادِقًا مُخْبِرًا عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ، فَهَذَا مَعْقُولٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ جُمْلِيَّةٌ غَيْرُ مُفَصَّلَةٍ وَيُمْكِنُ التَّصْدِيقُ ، كَمَا إِذَا قَالَ فِي الْبَيْتِ حَيَوَانٌ أَمْكَنَ أَنْ يُصَدَّقَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ غَيْرُهُ ، بَلْ لَوْ قَالَ فِيهِ شَيْءٌ أَمْكَنَ تَصْدِيقَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ ، فَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فَهِمَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ إِلَى الْعَرْشِ فَيُمْكِنُهُ التَّصْدِيقُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تِلْكَ النِّسْبَةَ هِيَ نِسْبَةُ الِاسْتِقْرَارِ عَلَيْهِ أَوِ الْإِقْبَالِ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي النِّسْبَةِ فَأَمْكَنَ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَإِنْ قُلْتَ : فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي مُخَاطَبَةِ الْخَلْقِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ ؟ فَجَوَابُكَ : أَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا الْخِطَابِ تَفْهِيمَ مَنْ هُوَ أَهْلُهُ ، وَهُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَدْ فَهِمُوا ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَنْ خَاطَبَ الْعُقَلَاءَ بِكَلَامٍ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُ الصِّبْيَانُ وَالْعَوَامُّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَارِفِينَ كَالصِّبْيَانِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبَالِغِينَ ، وَلَكِنْ عَلَى الصِّبْيَانِ أَنْ يَسْأَلُوا الْبَالِغِينَ عَمَّا لَا يَفْهَمُونَهُ ، وَعَلَى الْبَالِغِينَ أَنْ يُجِيبُوا الصِّبْيَانَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكُمْ وَلَسْتُمْ مَنْ أَهْلِهِ فَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فَقَدْ قِيلَ لِلْجَاهِلِينَ : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [21 : 7] فَإِنْ كَانُوا يُطِيقُونَ فَهْمَهُ فَهِمُوهُمْ وَإِلَّا قَالُوا لَهُمْ : وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [17 : 85] فَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، مَا لَكُمْ وَلِهَذَا السُّؤَالِ ؟ هَذِهِ مَعَانٍ الْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ أَيْ مَجْهُولَةٌ لَكُمْ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ كَمَا قَالَ مَالِكٌ : " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ " .
        فَإِذَنِ الْإِيمَانُ بِالْجُمْلِيَّاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُفَصَّلَةً فِي الذِّهْنِ مُمْكِنٌ ، وَلَكِنْ تَقْدِيسُهُ الَّذِي هُوَ نَفْيٌ لِلْمُحَالِ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُفَصَّلًا فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ هِيَ الْجِسْمِيَّةُ وَلَوَازِمُهَا وَنَعْنِي بِالْجِسْمِ هَاهُنَا الشَّخْصَ الْمُقَدَّرَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ الْعَمِيقَ الَّذِي يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ بِحَيْثُ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ مَا يَطْلُبُ مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا ، وَيَنْدَفِعُ وَيَتَنَحَّى عَنْ مَكَانِهِ بِقُوَّةٍ دَافِعَةٍ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، وَإِنَّمَا شَرَحْنَا هَذَا اللَّفْظَ مَعَ ظُهُورِهِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ رُبَّمَا لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ بِهِ ."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الْوَظِيفَةُ الثَّالِثَةُ - الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ)
        وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَحَقِيقَتِهَا وَلَمْ يَعْرِفْ تَأْوِيلَهَا وَالْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يُقِرَّ بِالْعَجْزِ ، فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَاجِبٌ وَهُوَ عَنْ دَرْكِهِ عَاجِزٌ ، فَإِنِ ادَّعَى الْمَعْرِفَةَ فَقَدْ كَذَبَ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ : الْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ ; يَعْنِي : تَفْصِيلُ الْمُرَادِ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، بَلِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَارِفُونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِنْ جَاوَزُوا فِي الْمَعْرِفَةِ حُدُودَ الْعَوَامِّ وَجَالُوا فِي مَيْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَقَطَعُوا مِنْ بَوَادِيهَا أَمْيَالًا كَثِيرَةً ، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ مِمَّا لَمْ يَبْلُغُوهُ - وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ - أَكْثَرُ ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا طُوِيَ عَنْهُمْ إِلَى مَا كُشِفَ لَهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطْوِيِّ وَقِلَّةِ الْمَكْشُوفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَطْوِيِّ الْمَسْتُورِ .
        قَالَ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - : لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَكْشُوفِ قَالَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - : أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ أَخْوَفُكُمْ لِلَّهِ ، وَأَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللهِ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ ضَرُورِيًّا فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُنْتَهَى الْحَالِ ، قَالَ سَيِّدُ الصِّدِّيقِينَ : " الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ " فَأَوَائِلُ حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ كَأَوَاخِرِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى خَوَاصِّ الْخَلْقِ فَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الْوَظِيفَةُ الرَّابِعَةُ - السُّكُوتُ عَنِ السُّؤَالِ)      
  وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَوَامِّ لِأَنَّهُ بِالسُّؤَالِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا لَا يُطِيقُهُ وَخَائِضٌ فِيمَا لَيْسَ أَهْلًا لَهُ ، فَإِنْ سَأَلَ جَاهِلًا زَادَهُ جَوَابُهُ جَهْلًا ، وَرُبَّمَا وَرَّطَهُ فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ ، وَإِنْ سَأَلَ عَارِفًا عَجَزَ الْعَارِفُ عَنْ تَفْهِيمِهِ ، بَلْ عَجَزَ عَنْ تَفْهِيمِ وَلَدِهِ مَصْلَحَتَهُ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْمَكْتَبِ ، بَلْ عَجَزَ الصَّائِغُ عَنْ تَفْهِيمِ النَّجَّارِ صِنَاعَتَهُ ، فَإِنَّ النَّجَّارَ - وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِصِنَاعَتِهِ -فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَقَائِقِ الصِّيَاغَةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْلَمُ دَقَائِقَ النَّجْرِ لِاسْتِغْرَاقِهِ الْعُمْرَ فِي تَعَلُّمِهِ وَمُمَارَسَتِهِ ، فَكَذَلِكَ يَفْهَمُ الصَّائِغُ أَيْضًا لِصَرْفِ الْعُمْرِ إِلَى تَعَلُّمِهِ وَمُمَارَسَتِهِ ، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَا يَفْهَمُهُ ، فَالْمَشْغُولُونَ بِالدُّنْيَا وَبِالْعُلُومِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ مَعْرِفَةِ اللهِ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ عَجْزَ كَافَّةِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الصِّنَاعَاتِ عَنْ فَهْمِهَا ، بَلْ عَجْزُ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ عَنْ الِاغْتِذَاءِ بِالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لِقُصُورٍ فِي فِطْرَتِهِ لَا لِعَدَمِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ ، وَلَا لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى تَغْذِيَةِ الْأَقْوِيَاءِ ، لَكِنَّ طَبْعَ الضُّعَفَاءِ قَاصِرٌ عَنِ التَّغَذِّي بِهِ ، فَمَنْ أَطْعَمَ الصَّبِيَّ الضَّعِيفَ اللَّحْمَ وَالْخُبْزَ أَوْ مَكَّنَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ فَقَدْ أَهْلَكَهُ ، وَكَذَلِكَ الْعَامَّةُ إِذَا طَلَبُوا بِالسُّؤَالِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ يَجِبُ زَجْرُهُمْ وَمَنْعُهُمْ وَضَرْبُهُمْ بِالدِّرَّةِ ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِكُلِّ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَكَمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمٍ رَآهُمْ خَاضُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَسَأَلُوا عَنْهُ : فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَفَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ وَقَالَ : إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ كَمَا اشْتُهِرَ فِي الْخَبَرِ . وَلِهَذَا أَقُولُ : يَحْرُمُ عَلَى الْوُعَّاظِ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ الْجَوَابُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْخَوْضِ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّفْصِيلِ ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَهُ السَّلَفُ ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْدِيسِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا ، وَلَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي هَذَا بِمَا أَرَادَ حَتَّى يَقُولَ : كُلُّ مَا خَطَرَ بِبَالِكُمْ وَهَجَسَ فِي ضَمِيرِكُمْ وَتُصُوِّرَ فِي خَاطِرِكُمْ ، فَاللهُ - تَعَالَى - خَالِقُهَا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا وَعَنْ مُشَابَهَتِهَا ، وَأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِخْبَارِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمُرَادِ فَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَتِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا فَاشْتَغِلُوا بِالتَّقْوَى ، فَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَهَذَا قَدْ نُهِيتُمْ عَنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ ، وَمَهْمَا سَمِعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاسْكُتُوا ، وَقُولُوا آمَنَّا وَصَدَّقْنَا وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوتِينَا ."


.... يتبع


عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:48 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:40 pm

... تابع

 اعتقاد السلف فى الصفات الخبرية


(الْوَظِيفَةُ الْخَامِسَةُ - الْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَلْفَاظٍ وَارِدَةٍ)

        وَيَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْخَلْقِ الْجُمُودُ عَلَى أَلْفَاظِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ : التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَالتَّصْرِيفُ وَالتَّفْرِيعُ . . . إِلَخْ .

        (الْأَوَّلُ التَّفْسِيرُ) وَأَعْنِي بِهِ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ بِلُغَةٍ أُخْرَى يَقُومُ مَقَامَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَوِ التُّرْكِيَّةِ ، بَلْ لَا يَجُوزُ النُّطْقُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ ; لِأَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا ، وَمِنْهَا مَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفَرَسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا مِنْهَا ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَكُونُ فِي الْعَجَمِيَّةِ كَذَلِكَ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَمِثَالُهُ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ لَفْظٌ مُطَابِقٌ يُؤَدِّي بَيْنَ الْفُرْسِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يُؤَدِّيهِ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْعَرَبِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَزِيدِ إِبْهَامٍ إِذْ فَارِسِيَّتُهُ أَنْ يُقَالَ : راست بايستاد ، وَهَذَانَ لَفْظَانِ : (الْأَوَّلُ) يُنْبِئُ عَنِ انْتِصَابٍ وَاسْتِقَامَةٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْحَنِيَ وَيَعْوَجَّ

        (وَالثَّانِي) يُنْبِئُ عَنْ سُكُونٍ وَثَبَاتٍ فِيمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَحَرَّكَ وَيَضْطَرِبَ ، وَإِشْعَارُهُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِشَارَتُهُ إِلَيْهَا فِي الْعَجَمِيَّةِ أَظْهَرُ مِنْ إِشْعَارِ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهَا ، فَإِذَا تَفَاوَتَ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِشْعَارِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِثْلَ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ الْمُرَادِفِ لَهُ الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِمَا لَا يُبَايِنُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَأَدَقِّهِ وَأَخْفَاهُ (مِثَالُ الثَّانِي) أَنَّ الْإِصْبَعَ يُسْتَعَارُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلنِّعْمَةِ ، يُقَالُ : لِفُلَانٍ عِنْدِي إِصْبَعٌ : أَيْ نِعْمَةٌ ، وَمَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ انكشت ، وَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَجَمِ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ ، وَتَوَسُّعُ الْعَرَبِ فِي التَّجَوُّزِ وَالِاسْتِعَارَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَوَسُّعِ الْعَجَمِ ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ إِلَى جُمُودِ الْعَجَمِ ، فَإِذَا حَسُنَ إِيرَادُ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي الْعَرَبِ وَسَمِجَ ذَلِكَ فِي الْعَجَمِ نَفَرَ الْقَلْبُ عَمَّا سَمَجَ وَمَجَّهُ السَّمْعُ وَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِ ، فَإِذَا تَفَاوَتَا لَمْ يَكُنِ التَّفْسِيرُ تَبْدِيلًا بِالْمِثْلِ بَلْ بِالْخِلَافِ ، وَلَا يَجُوزُ التَّبْدِيلُ إِلَّا بِالْمِثْلِ (مِثَالُ الثَّالِثِ) الْعَيْنُ ، فَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ فَإِنَّمَا يُفَسِّرُهُ بِأَظْهَرِ مَعَانِيهِ فَيَقُولُ : هُوَ جِسْمٌ - وَهُوَ مُشْتَرَكٌ - فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بَيْنَ الْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَبَيْنَ الْمَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَيْسَ لِلَفْظِ جِسْمٌ - وَهُوَ مُشْتَرَكٌ - هَذَا الِاشْتِرَاكُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْجَنْبِ وَالْوَجْهِ يَقْرُبُ مِنْهُ ، فَلِأَجْلِ هَذَا نَرَى الْمَنْعَ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا التَّفَاوُتُ إِنِ ادَّعَيْتُمُوهُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ خُبْزٌ وَنَانٌ ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ لَحْمٌ وَ كوشت ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ فَامْنَعْ مِنَ التَّبْدِيلِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ لَا عِنْدَ التَّمَاثُلِ ، فَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَعْضِ لَا فِي الْكُلِّ ، فَلَعَلَّ لَفْظَ الْيَدِ وَلَفْظَ دست يَتَسَاوَيَانِ فِي اللُّغَتَيْنِ وَفِي الِاشْتِرَاكِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَسَمَ إِلَى مَا يَجُوزُ وَإِلَى مَا لَا يَجُوزُ - وَلَيْسَ إِدْرَاكُ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا وَالْوُقُوفُ عَلَى دَقَائِقِ التَّفَاوُتِ جَلِيًّا سَهْلًا يَسِيرًا عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِ الْإِشْكَالُ وَلَا يَتَمَيَّزُ مَحَلُّ التَّفَاوُتِ عَنْ مَحَلِّ التَّعَادُلِ - فَنَحْنُ بَيْنَ أَنْ نَحْسِمَ الْبَابَ احْتِيَاطًا إِذْ لَا حَاجَةَ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّبْدِيلِ وَبَيْنَ أَنْ نَفْتَحَ الْبَابَ وَنُقْحِمَ عُمُومَ الْخَلْقَ وَرْطَةَ الْخَطَرِ ، فَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحْزَمُ وَأَحْوَطُ ، وَالْمَنْظُورُ فِيهِ ذَاتُ الْإِلَهِ وَصِفَاتُهُ ؟ وَمَا عِنْدِي أَنَّ عَاقِلًا مُتَدَيِّنًا لَا يُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُخْطِرٌ ، فَإِنَّ الْخَطَرَ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ ، كَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ الْعِدَّةَ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَلِلْحَذَرِ مِنْ خَلْطِ الْأَنْسَابِ احْتِيَاطًا لِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّسَبِ ، فَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْعَقِيمِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَعِنْدَ الْعَزْلِ ; لِأَنَّ بَاطِنَ الْأَرْحَامِ إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ، فَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ النَّظَرِ إِلَى التَّفْصِيلِ كُنَّا رَاكِبِينَ مَتْنَ الْخَطَرِ ، فَإِيجَابُ الْعِدَّةِ حَيْثُ لَا عُلُوقَ أَهْوَنُ مِنْ رُكُوبِ هَذَا الْخَطَرِ ، فَكَمَا أَنَّ إِيجَابَ الْعِدَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَتَحْرِيمُ تَبْدِيلِ الْعَرَبِيَّةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ وَتَرْجِيحِ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْخَبَرِ عَنِ اللهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ وَعَمَّا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَهَمُّ وَأَوْلَى مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِدَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا احْتَاطَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

        (أَمَّا التَّصَرُّفُ الثَّانِي بِالتَّأْوِيلِ) وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَاهُ بَعْدَ إِزَالَةِ ظَاهِرِهِ ، وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنَ الْعَامِّيِّ نَفْسِهِ ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ الْعَامِّيِّ ، أَوْ مِنَ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ (الْأَوْلُ) تَأْوِيلُ الْعَامِّيِّ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِغَالِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ يُشْبِهُ خَوْضَ الْبَحْرِ الْمُغْرِقِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ السِّبَاحَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ ، وَبَحْرُ مَعْرِفَةِ اللهِ أَبْعَدُ غَوْرًا وَأَكْثَرُ مَعَاطِبَ وَمَهَالِكَ مِنْ بَحْرِ الْمَاءِ ; لِأَنَّ هَلَاكَ هَذَا الْبَحْرِ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ ، وَهَلَاكُ بَحْرِ الدُّنْيَا لَا يُزِيلُ إِلَّا الْحَيَاةَ الْفَانِيَةَ وَذَلِكَ يُزِيلُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ فَشَتَّانَ بَيْنَ الْخَطَرَيْنِ .

        (الْمَوْضِعُ الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعَالِمِ مَعَ الْعَامِّيِّ وَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ . وَمِثَالُهُ أَنْ يَجُرَّ السَّبَّاحُ الْغَوَّاصُ فِي الْبَحْرِ مَعَ نَفْسِهِ آخَرَ عَاجِزًا عَنِ السِّبَاحَةِ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ . وَذَلِكَ حَرَامٌ " لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ ; فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى حِفْظِهِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْقُرْبِ مِنَ السَّاحِلِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْوُقُوفِ بِقُرْبِ السَّاحِلِ لَا يُطِيعُهُ ، وَإِنْ أَمْرَهُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ الْتِطَامِ الْأَمْوَاجِ وَإِقْبَالِ التَّمَاسِيحِ وَقَدْ فَغَرَتْ فَاهًا لِلِانْتِقَامِ ، اضْطَرَبَ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ وَلَمْ يَسْكُنْ عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ لِقُصُورِ طَاقَتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الْحَقُّ لِلْعَالِمِ إِذَا فَتَحَ لِلْعَامِّيِّ بَابَ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خِلَافِ الظَّوَاهِرِ . وَفِي مَعْنَى الْعَوَامِّ الْأَدِيبُ وَالنَّحْوِيُّ وَالْمُحَدِّثُ وَالْمُفَسِّرُ وَالْفَقِيهُ وَالْمُتَكَلِّمُ ، بَلْ كُلُّ عَالِمٍ سِوَى الْمُتَجَرِّدِينَ لِتَعَلُّمِ السِّبَاحَةِ فِي بِحَارِ الْمَعْرِفَةِ ، الْقَاصِرِينَ أَعْمَارَهُمْ عَلَيْهِ ، الصَّارِفِينَ وُجُوهَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْخَلْقِ وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ ، وَالْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْعَامِلِينَ بِجَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا فِي الْقِيَامِ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ

الْمُفْرِغِينَ قُلُوبَهُمْ بِالْجُمْلَةِ عَنْ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لِلَّهِ ، الْمُسْتَحْقِرِينَ لِلدُّنْيَا بَلِ الْآخِرَةِ وَالْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فِي جَنْبِ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْغَوْصِ فِي بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ ، يَهْلَكُ مِنَ الْعَشْرَةِ تِسْعَةٌ إِلَى أَنْ يَسْعَدَ وَاحِدٌ بِالدُّرِّ الْمَكْنُونِ وَالسِّرِّ الْمَخْزُونِ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى فَهُمُ الْفَائِزُونَ ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ) تَأْوِيلُ الْعَارِفِ مَعَ نَفْسِهِ فِي سِرِّ قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ . وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجَهٍ ، فَإِنَّ الَّذِي انْقَدَحَ فِي سِرِّهِ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ مَثَلًا ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مَظْنُونًا ظَنًّا غَالِبًا ، فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فَلْيَعْتَقِدْهُ وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فَلْيَجْتَنِبْهُ ، وَلَا يَحْكُمَنْ عَلَى مُرَادِ اللهِ - تَعَالَى - وَمُرَادِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِهِ بِاحْتِمَالٍ يُعَارِضُهُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى الشَّاكِّ التَّوَقُّفُ . وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَاعْلَمْ أَنَّ لِلظَّنِّ مُتَعَلَّقَيْنِ : (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي انْقَدَحَ عِنْدَهُ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ هُوَ مُحَالٌ ؟ .

        (وَالثَّانِي) أَنْ يَعْلَمَ قَطْعًا جَوَازَهُ لَكِنْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرَادٌ أَمْ لَا (مِثَالُ الْأَوَّلِ) تَأْوِيلُ لَفْظِ الْفَوْقِ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا السُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ ، فَإِنَّا لَا نَشُكُّ فِي ثُبُوتِ مَعْنَاهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - ، لَكِنَّا رُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قَوْلِهِ : يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [16 : 50] هَلْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ أَمْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ صِفَةٌ فِي جِسْمٍ (وَمِثَالُ الثَّانِي) تَأْوِيلُ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ النِّسْبَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لِلْعَرْشِ ، وَنِسْبَتُهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَتَصَرَّفُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لَا يُحْدِثُ فِي الْعَالَمِ صُورَةً مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الْعَرْشِ ، كَمَا لَا يُحْدِثُ النَّقَّاشُ وَالْكَاتِبُ صُورَةً وَكَلِمَةً عَلَى الْبَيَاضِ مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الدِّمَاغِ ، بَلْ لَا يُحْدِثُ الْبَنَّاءُ صُورَةَ الْأَبْنِيَةِ مَا لَمْ يُحْدِثْ صُورَتَهَا فِي الدِّمَاغِ ; فَبِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ يُدَبِّرُ الْقَلْبُ أَمْرَ عَالَمِهِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ فَرُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - هَلْ هُوَ جَائِزٌ إِمَّا لِوُجُوبِهِ فِي نَفْسِهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ وَعَادَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ مُحَالًا كَمَا أَجْرَى عَادَتَهُ فِي حَقِّ قَلْبِ الْإِنْسَانِ بِأَلَّا يُمْكِنُهُ التَّدْبِيرُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ ، وَإِنْ كَانَ فِي قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - تَمْكِينُهُ مِنْهُ دُونَ الدِّمَاغِ لَوْ سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ ، وَحَقَّتْ بِهِ الْكَلِمَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ ، فَصَارَ خِلَافُهُ مُمْتَنِعًا لَا الْقُصُورُ فِي ذَاتِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ مَا يُخَالِفُ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ وَالْعِلْمَ السَّابِقَ الْأَزَلِيَّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ : وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [33 : 62] وَإِنَّمَا لَا تَتَبَدَّلُ لِوُجُوبِهَا وَإِنَّمَا وُجُوبُهَا لِصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَاجِبَةٍ ، وَنَتِيجَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ وَنَقِيضُهَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا ، وَيَمْتَنِعَ نُفُوذُ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ ، فَإِذَنْ إِثْبَاتُ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَعَ الْعَرْشِ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ إِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا فَهَلْ هُوَ وَاقِعٌ وُجُودًا ؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّاظِرُ ، وَرُبَّمَا يُظَنُّ وُجُودُ هَذَا مِثَالُ الظَّنِّ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى وَالْأَوَّلُ مِثَالُ الظَّنِّ فِي كَوْنِ الْمَعْنَى مُرَادًا بِاللَّفْظِ ، مَعَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا جَائِزًا وَبَيْنَهُمَا فَرْقَانِ ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّنَّيْنِ إِذَا انْقَدَحَ فِي النَّفْسِ وَحَاكَ فِي الصَّدْرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ دَفْعُهُ عَنِ النَّفْسِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَلَّا يَظُنَّ ; فَإِنَّ لِلظَّنِّ أَسْبَابًا ضَرُورِيَّةً لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَكِنْ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ :

        (إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَعَ نَفْسَهُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِإِمْكَانِ الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ مَعَ نَفْسِهِ بِمُوجِبِ ظَنِّهِ حُكْمًا جَازِمًا .

        (وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُطْلَقِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ كَذَا أَوِ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ كَذَا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 : 36] لَكِنْ يَقُولُ : أَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ كَذَا فَيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ ضَمِيرِهِ وَلَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى صِفَةِ اللهِ وَلَا عَلَى مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ ، بَلْ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَبَأً عَنْ ضَمِيرِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : وَهَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ هَذَا الظَّنِّ مَعَ كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّحَدُّثُ بِهِ كَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ضَمِيرُهُ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَاطِعًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ ؟ قُلْنَا : تَحَدُّثُهُ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ نَفْسِهِ أَوْ مَعَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِبْصَارِ ، أَوْ مَعَ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلِاسْتِبْصَارِ بِذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ وَتَجَرُّدِهِ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مَعَ الْعَامِّيِّ ، فَإِنْ كَانَ قَاطِعًا فَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِهِ وَيُحَدِّثَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِبْصَارِ أَوْ مَنْ هُوَ مُتَجَرِّدٌ لِطَلَبِ الْمَعْرِفَةِ مُسْتَعِدٌّ لَهُ خَالٍ عَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالتَّعَصُّبَاتِ لِلْمَذَاهِبِ وَطَلَبِ الْمُبَاهَاةِ بِالْمَعَارِفِ وَالتَّظَاهُرِ بِذِكْرِهَا مَعَ الْعَوَامِّ ، فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ مَعَهُ ; لِأَنَّ الْفَطِنَ الْمُتَعَطِّشَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لِلْمَعْرِفَةِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ يَحِيكُ فِي صَدْرِهِ إِشْكَالُ الظَّوَاهِرِ وَرُبَّمَا يُلْقِيهِ فِي تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ لِشِدَّةِ شَرَهِهِ عَلَى الْفِرَارِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ ، وَمَنْعُ الْعِلْمِ أَهْلَهُ ظُلْمٌ كَبَثِّهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ .

        وَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ ، وَفِي مَعْنَى الْعَامِّيِّ كُلُّ مَنْ لَا يَتَّصِفُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، بَلْ مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِطْعَامِ الرَّضِيعِ الْأَطْعِمَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا ، وَأَمَّا الْمَظْنُونُ فَتَحَدُّثُهُ مَعَ نَفْسِهِ اضْطِرَارٌ ، فَإِنَّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ ظَنٍّ وَشَكٍّ وَقَطْعٍ لَا تَزَالُ النَّفْسُ تَتَحَدَّثُ بِهِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ ، فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ مَعَ الْعَوَامِّ ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَقْطُوعِ ، أَمَّا تَحَدُّثُهُ مَعَ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ دَرَجَتِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ أَوْ مَعَ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ جَائِزٌ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ : أَظُنُّ كَذَا ، وَهُوَ صَادِقٌ ، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ بِذِكْرِهِ مُتَصَرِّفٌ بِالظَّنِّ فِي صِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ فِي مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِيهِ خَطَرٌ ، وَإِبَاحَتُهُ تُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ وَرَدَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 : 36] فَإِنْ قِيلَ : يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ :

        (الْأَوَّلُ) الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الصِّدْقِ وَهُوَ صَادِقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يُخْبِرُ إِلَّا عَنْ ظَنِّهِ وَهُوَ ظَانٌّ         (وَالثَّانِي) أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْقُرْآنِ بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ ، إِذْ كَلُّ مَا قَالُوهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، بَلْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ بِالِاجْتِهَادِ ; وَلِذَلِكَ كَثُرَتِ الْأَقَاوِيلُ وَتَعَارَضَتْ

        (وَالثَّالِثُ) إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ عَلَى نَقْلِ الْأَخْبَارِ الْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي نَقَلَهَا آحَادُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تَتَوَاتَرْ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ الَّذِي نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنِ الْعَدْلِ ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا رِوَايَتَهُ وَلَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْعَدْلِ إِلَّا الظَّنُّ . (وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ) أَنَّ الْمُبَاحَ صِدْقٌ لَا يُخْشَى مِنْهُ ضَرَرٌ ، وَبَثُّ هَذِهِ الظُّنُونِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرَرٍ ، فَقَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَعْتَقِدُهُ جَزْمًا فَيَحْكُمُ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ خَطَرٌ ، وَالنُّفُوسُ نَافِرَةٌ عَنْ إِشْكَالِ الظَّوَاهِرِ ، فَإِذَا وُجِدَ مُسْتَرْوَحًا مِنَ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ مَظْنُونًا سَكَنَ إِلَيْهِ وَاعْتَقَدَهُ جَزْمًا ، وَرُبَّمَا يَكُونُ غَلَطًا ، فَيَكُونُ قَدِ اعْتَقَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ الْبَاطِلُ أَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ بِالظَّنِّ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - كَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِ وَغَيْرِهِ ، بَلْ لَعَلَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ أَوْ فِي حِكَايَاتِ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُفَّارِ وَالْمَوَاعِظِ

وَالْأَمْثَالِ وَمَا لَا يَعْظُمُ خَطَرُ الْخَطَأِ فِيهِ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ تَوَاتَرَ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاتُرًا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، فَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلَا بِرِوَايَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمَظْنُونِ وَاعْتِمَادٌ عَلَيْهِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مِنَ الْعُدُولِ وَرَوَوْهَا وَصَحَّحُوهَا . فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

        (أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَجُوزَ اتِّهَامُ الْعَدْلِ بِالْكَذِبِ لَا سِيَّمَا فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - ، فَإِذَا رَوَى الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - خَبَرًا وَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا ، فَرَدُّ رِوَايَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَنِسْبَةٌ لَهُ إِلَى الْوَضْعِ أَوْ إِلَى السَّهْوِ ، فَقَبِلُوهُ وَقَالُوا : قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَالَ أَنَسٌ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَكَذَا فِي التَّابِعِينَ ، فَالْآنَ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّهَامِ الْعَدْلِ الْتَّقِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَلَّا يَتَّهِمَ ظُنُونَ الْآحَادِ ، وَأَنْ يُنْزِلَ الظَّنَّ مَنْزِلَةَ نَقْلِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ؟ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ : مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ الْعَدْلُ فَصَدِّقُوهُ وَاقْبَلُوهُ وَانْقُلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ : مَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ ظُنُونِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ ، وَارْوُوا عَنْ ظُنُونِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ مَا قَالَتْهُ ، فَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ; وَلِهَذَا نَقُولُ : مَا رَوَاهُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ وَلَا يُرْوَى ، وَيُحْتَاطَ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا .

        (وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ رَوَتْهَا الصَّحَابَةُ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا يَقِينًا ، فَمَا نَقَلُوا إِلَّا مَا تَيَقَّنُوهُ ، وَالتَّابِعُونَ قَبِلُوهُ وَرَوَوْهُ ، وَمَا قَالُوا : قَالَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا ، بَلْ قَالُوا : قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولَ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا وَكَانُوا صَادِقِينَ ، وَمَا أَهْمَلُوا رِوَايَتَهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى فَوَائِدَ سِوَى اللَّفْظِ الْمُوهِمِ عِنْدَ الْعَارِفِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا يَفْهَمُهُ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا فِي حَقِّهِ : مِثَالُهُ رِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ : يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ ؟ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْحَدِيثُ سِيقَ لِنِهَايَةِ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ ،

وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي لِلتَّهَجُّدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ ، فَلَوْ تُرِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْهَامُ لَفْظِ النُّزُولِ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَامِّيِّ الْجَارِي مَجْرَى الصَّبِيِّ ، وَمَا أَهْوَنَ عَلَى الْبَصِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِي قَلْبِ الْعَامِّيِّ التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ عَنْ صُورَةِ النُّزُولِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : إِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيُسْمِعَنَا نِدَاءَهُ وَقَوْلَهُ فَمَا أَسْمَعَنَا ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُزُولِهِ ؟ وَلَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَادِيَنَا كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا ، فَهَذَا الْقَدْرُ يَعْرِفُ الْعَامِّيُّ أَنَّ ظَاهِرَ النُّزُولِ بَاطِلٌ ، بَلْ مِثَالُهُ أَنْ يُرِيدَ مَنْ فِي الْمَشْرِقِ إِسْمَاعَ شَخْصٍ فِي الْمَغْرِبِ وَمُنَادَاتَهُ فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَغْرِبِ بِأَقْدَامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَخَذَ يُنَادِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا يَسْمَعَ فَيَكُونُ نَقْلُهُ الْأَقْدَامَ عَمَلًا بَاطِلًا وَفِعْلًا كَفِعْلِ الْمَجَانِينِ ، فَكَيْفَ يَسْتَقِرُّ مِثْلُ هَذَا فِي قَلْبِ عَاقِلٍ ؟ بَلْ يَضْطَرُّ بِهَذَا الْقَدْرِ كُلُّ عَامِّيٍّ إِلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ نَفْيَ صُورَةِ النُّزُولِ ، وَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ اسْتِحَالَةَ الْجِسْمِيَّةِ عَلَيْهِ ، وَاسْتِحَالَةُ الِانْتِقَالِ عَلَى غَيْرِ الْأَجْسَامِ كَاسْتِحَالَةِ النُّزُولِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ ، فَإِذَنِ الْفَائِدَةُ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَظِيمَةٌ ، وَالضَّرَرُ يَسِيرٌ ، فَأَنَّى يُسَاوِي هَذَا حِكَايَةَ الظُّنُونِ الْمُنْقَدِحَةِ فِي الْأَنْفُسِ ؟

        فَهَذِهِ سُبُلُ تَجَاذُبِ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ فِي إِبَاحَةِ ذِكْرِ التَّأْوِيلِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَنْعِ ، وَلَا يَبْعُدُ ذِكْرُ وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَرَائِنِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَمِعِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ ذَكَرَهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرَ تَرَكَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ ظَنُّهُ كَالْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ الذِّكْرِ ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ لَا تَتَحَرَّكُ دَاعِيَتُهُ بَاطِنًا إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَلَا يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالٌ مِنْ ظَوَاهِرِهَا ، فَذِكْرُ التَّأْوِيلِ مَعَهُ مُشَوِّشٌ ، وَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يَحِيكُ فِي نَفْسِهِ إِشْكَالُ الظَّاهِرِ حَتَّى يَكَادَ أَنْ يَسُوءَ اعْتِقَادُهُ فِي الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُنْكِرَ قَوْلَهُ الْمُوهِمَ ، فَمِثْلُ هَذَا لَوْ ذُكِرَ مَعَهُ الِاحْتِمَالُ الْمَظْنُونُ ، بَلْ مُجَرَّدُ الِاحْتِمَالِ الَّذِي يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ انْتَفَعَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهِ مَعَهُ ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ لِدَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ دَاءً فِي غَيْرِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ الدَّوَاعِيَ السَّاكِنَةَ مِنْ أَكْثَرِ الْمُسْتَمِعِينَ ، وَقَدْ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ وَعَنْ إِشْكَالِهِ مُنْفَكِّينَ ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ السَّلَفِ الْأَوَّلِ زَمَانَ سُكُونِ الْقَلْبِ بَالَغُوا فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ خِيفَةً مِنْ تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي وَتَشْوِيشِ الْقُلُوبِ ، فَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْفِتْنَةَ ، وَأَلْقَى هَذِهِ الشُّكُوكَ فِي الْقُلُوبِ

مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فَبَاءَ بِالْإِثْمِ ، أَمَّا الْآنَ وَقَدْ فَشَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ، فَالْعُذْرُ فِي إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ رَجَاءً لِإِمَاطَةِ الْأَوْهَامِ الْبَاطِلَةِ عَنِ الْقُلُوبِ أَظْهَرُ ، وَاللَّوْمُ عَنْ قَائِلِهِ أَقَلُّ .

        فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الْمَقْطُوعِ وَالْمَظْنُونِ ، فَبِمَاذَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ التَّأْوِيلِ ؟ قُلْنَا بِأَمْرَيْنِ : (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَقْطُوعًا ثُبُوتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ (وَالثَّانِي) أَلَّا يَكُونَ اللَّفْظُ إِلَّا مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ ، وَقَدْ بَطَلَ أَحَدُهُمَا وَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6 : 18] فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ أَنَّ الْفَوْقَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ أَوْ فَوْقِيَّةَ الرُّتْبَةِ ، وَلَمَّا بَطَلَ فَوْقِيَّةُ الْمَكَانِ لِمَعْرِفَةِ التَّقْدِيسِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةُ ، كَمَا يُقَالُ : السَّيِّدُ فَوْقَ الْعَبْدِ وَالزَّوْجُ فَوْقَ الزَّوْجَةِ ، وَالسُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ ، فَاللهُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا كَالْمَقْطُوعِ بِهِ فِي لَفْظِ الْفَوْقِ ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ .

أَمَّا لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ رُبَّمَا لَا يَنْحَصِرُ مَفْهُومُهُ فِي اللُّغَةِ هَذَا الِانْحِصَارَ ، وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : مَعْنَيَانِ جَائِزَانِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - ، وَمَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْبَاطِلُ ، فَتَنْزِيلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ الْجَائِزَيْنِ أَنْ يَكُونَ بِالظَّنِّ وَبِالِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ ، وَهَذَا تَمَامُ النَّظَرِ فِي الْكَفِّ عَنِ التَّأْوِيلِ .

        (التَّصَرُّفُ الثَّالِثُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ : التَّصْرِيفُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [13 : 2] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مُسْتَوٍ وَيَسْتَوِي ; لِأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ : رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الْآيَةَ ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [2 : 29] فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ قَدِ انْقَضَى مِنْ إِقْبَالٍ عَلَى خَلْقِهِ أَوْ عَلَى تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ ، فَفِي تَغْيِيرِ التَّصَارِيفِ مَا يُوثِقُ فِي تَغْيِيرِ الدَّلَالَاتِ وَالِاحْتِمَالَاتِ ، فَلْيَجْتَنِبِ التَّصْرِيفَ كَمَا يَجْتَنِبُ الزِّيَادَةَ ، فَإِنَّ تَحْتَ التَّصْرِيفِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ .

(التَّصْرِيفُ الرَّابِعُ الَّذِي يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ : الْقِيَاسُ وَالتَّفْرِيعُ) مِثْلَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْكَفِّ مُصَيِّرًا إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْيَدِ ، وَإِذَا وَرَدَ الْأُصْبُعُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَإِنْ كَانَتِ الْيَدُ الْمَشْهُورَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ . وَأَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ الرِّجْلِ عِنْدَ وُرُودِ الْيَدِ ، وَإِثْبَاتُ الْفَمِ عِنْدَ وُرُودِ الْعَيْنِ أَوْ عِنْدَ وُرُودِ الضَّحِكِ ، وَإِثْبَاتُ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ وُرُودِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَكَذِبٌ وَزِيَادَةٌ ، وَقَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَمْقَى مِنَ الْمُشَبِّهَةِ الْحَشْوِيَّةِ ; فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ .

        (التَّصَرُّفُ الْخَامِسُ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ) وَلَقَدْ بَعُدَ عَنِ التَّوْفِيقِ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي جَمْعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَرَسَمَ فِي كُلِّ عُضْوٍ بَابًا ، فَقَالَ : بَابٌ فِي إِثْبَاتِ الرَّأْسِ وَبَابٌ فِي الْيَدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَسَمَّاهُ كِتَابَ الصِّفَاتِ ، فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ صَدَرَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى قَرَائِنَ مُخْتَلِفَةٍ تُفْهِمُ السَّامِعِينَ مَعَانِيَ صَحِيحَةً ، فَإِذَا ذُكِرَتْ مَجْمُوعَةً عَلَى مِثَالِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ صَارَ جَمْعُ تِلْكَ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِي السَّمْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَرِينَةً عَظِيمَةً فِي تَأْكِيدِ الظَّاهِرِ وَإِيهَامِ التَّشْبِيهِ ، وَصَارَ الْإِشْكَالُ فِي أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَطَقَ بِمَا يُوهِمُ خِلَافَ الْحَقِّ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ وَأَوْقَعُ ، بَلِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ صَارَ مُتَوَالِيًا بِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ ; وَلِذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الظَّنِّ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِينَ الثَّلَاثَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، بَلْ يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ ، وَيَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِاجْتِمَاعِ التَّوَاتُرِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآحَادِ . وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةَ الِاجْتِمَاعِ إِذْ يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إِلَى قَوْلِ كُلِّ عَدْلٍ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَرَائِنِ ، فَإِذَا انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ أَوْ ضَعُفَ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ .

        (التَّصَرُّفُ السَّادِسُ : الِتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَاتِ) فَكَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعَةٍ ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ أَوْ لَاحِقَةٍ لَهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَفْهِيمِ مَعْنَاهُ مُطْلَقًا وَمُرَجِّحَةٌ الِاحْتِمَالَ الضَّعِيفَ فِيهِ ، فَإِذَا فُرِّقَتْ سَقَطَتْ دَلَالَتُهَا ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [6 : 18] لَا تُسَلَّطُ عَلَى أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : هُوَ فَوْقَ ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الْقَاهِرُ قَبْلَهُ ظَهَرَتْ دَلَالَةُ الْفَوْقِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي لِقَاهِرٍ مَعَ الْمَقْهُورِ ، وَهِيَ فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةِ ، وَلَفْظُ (الْقَاهِرِ) يَدُلُّ عَلَيْهِ ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ غَيْرِهِ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَوْقَ عِبَادِهِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعُبُودِيَّةِ فِي وَصْفِهِ فِي اللهِ فَوْقَهُ يُؤَكِّدُ احْتِمَالَ فَوْقِيَّةِ السِّيَادَةِ ، إِذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ تَفَاوُتُهُمَا فِي مَعْنَى السِّيَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ غَلَبَةِ الْقَهْرِ أَوْ نُفُوذِ الْأَمْرِ بِالسُّلْطَةِ أَوْ بِالْأُبُوَّةِ أَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَغْفُلُ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ ، فَكَيْفَ يُسَلَّطُ الْعَوَامُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّغْيِيرِ ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ بَالَغَ السَّلَفُ فِي الْجُمُودِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَارِدِ التَّوْقِيفِ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ ، وَالْحَقُّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابُ مَا رَأَوْهُ ، فَأَهَمُّ الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِيَاطِ مَا هُوَ تَصَرُّفُهُ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحَقُّ الْمَوَاضِعِ بِإِلْجَامِ اللِّسَانِ وَتَقْيِيدِهِ عَنِ الْجَرَيَانِ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ ، وَأَيُّ خَطَرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ ؟



....يتبع


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:51 pm

... تابع

 اعتقاد السلف فى الصفات الخبرية


(الْوَظِيفَةُ السَّادِسَةُ فِي الْكَفِّ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ)

        وَأَعْنِي بِالْكَفِّ كَفَّ الْبَاطِنِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَهَذَا أَثْقَلُ الْوَظَائِفِ وَأَشَدُّهَا ، وَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ الزَّمِنِ أَلَّا يَخُوضَ غَمْرَةَ الْبِحَارِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاضَاهُ طَبْعُهُ أَنْ يَغُوصَ فِي الْبِحَارِ وَيُخْرِجَ دُرَرَهَا وَجَوَاهِرَهَا ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّهُ نَفَاسَةُ جَوَاهِرِهَا مَعَ عَجْزِهِ عَنْ نَيْلِهَا ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَجْزِهِ وَكَثْرَةِ مَعَاطِبِهَا وَمَهَالِكِهَا وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ نَفَائِسُ الْبِحَارِ فَمَا فَاتَهُ إِلَّا زِيَادَاتٌ وَتَوَسُّعَاتٌ فِي الْمَعِيشَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا ، فَإِنْ غَرِقَ أَوِ الْتَقَمَهُ تَمْسَاحٌ فَاتَهُ أَصْلُ الْحَيَاةِ ، فَإِنْ قُلْتَ : إِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ قَلْبُهُ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْبَحْثِ فَمَا طَرِيقُهُ ؟ قُلْتُ : طَرِيقُهُ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِعِلْمٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ لُغَةٍ أَوْ نَحْوٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ طِبٍّ أَوْ فِقْهٍ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِحِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَلَوِ الْحِرَاثَةَ وَالْحِيَاكَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلَعِبٍ وَلَهْوٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْبَعِيدِ غَوْرُهُ وَعُمْقُهُ ، الْعَظِيمُ خَطَرُهُ وَضَرَرُهُ ، بَلْ لَوِ اشْتَغَلَ الْعَامِّيُّ بِالْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ رُبَّمَا كَانَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُ الْفِسْقُ ، وَهَذَا عَاقِبَتُهُ الشِّرْكُ . وَ إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [4 : 48] فَإِنْ قُلْتَ : الْعَامِّيُّ إِذَا لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ الدَّلِيلُ ، فَإِنْ جَوَّزْتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصْتَ لَهُ فِي التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؟ الْجَوَابُ : أَنِّي أُجَوِّزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الدَّلِيلَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَعَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ : (أَحَدُهُمَا) أَلَّا يُزَادَ مَعَهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ (وَالْآخَرُ) أَلَّا يُمَارِيَ فِيهِ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا يَتَفَكَّرَ

فِيهِ إِلَّا تَفْكِيرًا سَهْلًا جَلِيًّا وَلَا يُمْعِنَ فِي التَّفَكُّرِ ، وَلَا يُوغِلَ غَايَةَ الْإِيغَالِ فِي الْبَحْثِ .

        وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ [10 : 31] وَقَوْلِهِ : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [50 : 6 - 10] وَكَقَوْلِهِ : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [80 : 24 - 31] وَقَوْلِهِ : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا إِلَى قَوْلِهِ : وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [78 : 6 - 16] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ ، بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَلْقُ جَلَالَ اللهِ الْخَالِقِ وَعَظَمَتَهُ لَا بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ : إِنَّ الْأَغْرَاضَ حَادِثَةٌ ، وَإِنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَخْلُو عَنِ الْأَغْرَاضِ الْحَادِثَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ ، ثُمَّ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّقْسِيمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَإِثْبَاتَهَا بِأَدِلَّتِهَا الرَّسْمِيَّةِ يُشَوِّشُ قُلُوبَ الْعَوَامِّ ، وَالدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْأَفْهَامِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ تَنْفَعُهُمْ وَتُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَتَغْرِسُ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتِ الْجَازِمَةِ ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُقْنَعُ فِيهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا [21 : 22] فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الْمُدَبِّرِينَ سَبَبُ إِفْسَادِ التَّدْبِيرِ ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [17 : 42] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [23 : 91] وَأَمَّا صِدْقُ الرَّسُولِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [17 : 88] وَبِقَوْلِهِ : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [2 : 23] وَقَوْلِهِ : قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [11 : 13] وَأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 : 78 ، 79] وَبِقَوْلِهِ : أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إِلَى قَوْلِهِ : أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 : 36 - 40] وَبِقَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ إِلَى قَوْلِهِ : فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [22 : 5] وَقَوْلِهِ : فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 : 39] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَقَرَّرُوا وَجْهَ دَلَالَتِهَا فَمَا بَالُهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يَمْنَعُونَ عَنْهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَتَأَمُّلِهِ ؟ فَإِنْ فُتِحَ لِلْعَامِّيِّ بَابُ النَّظَرِ فَلْيُفْتَحْ مُطْلَقًا أَوْ لِيُسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ النَّظَرِ رَأْسًا وَلْيُكَلَّفِ التَّقْلِيدَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ .

        (الْجَوَابُ) أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَتَدْقِيقٍ خَارِجٍ عَنْ طَاقَةِ الْعَامِّيِّ وَقُدْرَتِهِ ، وَإِلَى مَا هُوَ جَلِيٌّ سَابِقٌ إِلَى الْأَفْهَامِ بِبَادِي الرَّأْيِ مِنْ أَوَّلِ النَّظَرِ مِمَّا يُدْرِكُهُ كَافَّةُ النَّاسِ بِسُهُولَةٍ ، فَهَذَا لَا خَطَرَ فِيهِ ، وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّدْقِيقِ فَلَيْسَ عَلَى حَدِّ وُسْعِهِ ; فَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْغِذَاءِ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ ، وَأَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ الدَّوَاءِ يَنْتَفِعْ بِهِ آحَادُ النَّاسِ ، وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْأَكْثَرُونَ ، بَلْ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ كَالْمَاءِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الصَّبِيُّ الرَّضِيعُ وَالرَّجُلُ الْقَوِيُّ ، وَسَائِرُ الْأَدِلَّةِ كَالْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْأَقْوِيَاءُ مَرَّةً وَيَمْرَضُونَ بِهَا أُخْرَى وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الصِّبْيَانُ أَصْلًا ; وَلِهَذَا قُلْنَا : أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهَا إِصْغَاءَهُ إِلَى كَلَامٍ جَلِيٍّ ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ إِلَا مِرَاءً ظَاهِرًا ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ تَدْقِيقَ الْفِكْرِ وَتَحْقِيقَ النَّظَرِ ، فَمِنَ الْجَلِيِّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَهُوَ عَلَى الْإِعَادَةِ أَقْدَرُ كَمَا قَالَ : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 : 27] وَأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَنْتَظِمُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِمُدَبِّرَيْنِ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ فِي كُلِّ الْعَالَمِ ؟ وَأَنَّ مَنْ خَلَقَ عَلِمَ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [67 : 14] فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَجْرِي لِلْعَوَامِّ مَجْرَى الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، وَمَا أَخَذَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ تَنْقِيرٍ وَسُؤَالٍ وَتَوْجِيهِ إِشْكَالٍ ثُمَّ اشْتِغَالٍ بِحَلِّهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَرَرُهُ فِي حَقِّ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ظَاهِرٌ ، فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّى ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَضَرُّرِ الْخَلْقِ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعَيَانُ وَالتَّجْرِبَةُ ، وَمَا ثَارَ مِنَ الشَّرِّ مُنْذُ نَبَغَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَفَشَتْ صِنَاعَةُ الْكَلَامِ مَعَ سَلَامَةِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ بِأَجْمَعِهِمْ مَا سَلَكُوا فِي الْمُحَاجَّةِ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْسِيمَاتِهِمْ وَتَدْقِيقَاتِهِمْ لَا لِعَجْزٍ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَأَطْنَبُوا فِيهِ ، وَلَخَاضُوا فِي تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ خَوْضًا يَزِيدُ عَلَى خَوْضِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَمْسَكُوا عَنْهُ لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْبِدَعَ إِنَّمَا نَبَعَتْ بَعْدَهُمْ فَعَظُمَ حَاجَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعِلْمُ الْكَلَامِ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِالْبِدَعِ ، فَلَمَّا قَلَّتْ فِي زَمَانِهِمْ أَمْرَاضُ الْبِدَعِ قَلَّتْ عِنَايَتُهُمْ بِجَمِيعِ طُرُقِ الْمُعَالَجَةِ ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

        (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْوَقَائِعِ ، بَلْ وَضَعُوا الْمَسَائِلَ وَفَوَّضُوا فِيهَا مَا تَنْقَضِي الدُّهُورُ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ وُقُوعُهُ فَصَنَّفُوا عِلْمَهُ وَرَتَّبُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْخَوْضِ فِيهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا ، وَالْعِنَايَةُ بِإِزَالَةِ الْبِدَعِ وَنَزْعِهَا عَنِ النُّفُوسِ أَهَمُّ ، فَلَمْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ صِنَاعَةً لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الِاسْتِضْرَارَ بِالْخَوْضِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ حَذَّرُوا مِنْ ذَلِكَ وَفَهِمُوا تَحْرِيمَ الْخَوْضِ لَخَاضُوا فِيهِ .

        (وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ مُنْكِرِيهِ ، ثُمَّ مَا زَادُوا فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْعَقَائِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ ، فَمَنْ أَقْنَعَهُ ذَلِكَ قَبِلُوهُ وَمَنْ لَمْ يُقْنَعْ قَتَلُوهُ ، وَعَدَلُوا إِلَى السَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ إِفْشَاءِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمَا رَكِبُوا ظَهْرَ اللَّجَاجِ فِي وَضْعِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَتَحْرِيرِ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ ، وَتَذْلِيلِ طُرُقِهَا وَمِنْهَاجِهَا ، كُلُّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَثَارُ الْفِتَنِ وَمَنْبَعُ التَّشْوِيشِ ، وَمَنْ لَا يُقْنِعْهُ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ لَا يَقْمَعُهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ ، فَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ بَيَانٌ ، عَلَى أَنَّنَا نُنْصِفُ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَاجَةَ الْمُعَالَجَةِ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ ، وَأَنَّ لِطُولِ الزَّمَانِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ الْإِشْكَالَاتِ ، وَأَنَّ لِلْعِلَاجِ طَرِيقَيْنِ :

        (أَحَدُهُمَا) : الْخَوْضُ فِي الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى أَنْ يَصْلُحَ وَاحِدٌ يَفْسُدُ بِهِ اثْنَانِ ، فَإِنَّ صَلَاحَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَكْيَاسِ وَفَسَادَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبُلْهِ ، وَمَا أَقَلَّ الْأَكْيَاسَ وَمَا أَكْثَرَ الْبُلْهَ وَالْعِنَايَةُ بِالْأَكْثَرِينَ أَوْلَى .

        (وَالطَّرِيقُ الثَّانِي) : طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْكَفِّ وَالسُّكُوتِ وَالْعُدُولِ إِلَى الدِّرَّةِ وَالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقْنِعُ الْأَكْثَرِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْنِعُ الْأَقَلِّينَ ، وَآيَةُ إِقْنَاعِهِ أَنَّ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَرَاهُمْ يُسْلِمُونَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ طَوْعًا مَا كَانَ فِي الْبِدَايَةِ كُرْهًا ، وَيَصِيرَ اعْتِقَادُهُ جَزْمًا مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مِرَاءً وَشَكًّا ، وَذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُؤَانَسَةِ بِهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ وَرُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ وَخَبَرِهِمْ وَقَرَائِنَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُنَاسِبُ طِبَاعَهُمْ مُنَاسَبَةً أَشَدَّ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْجَدَلِ وَالدَّلِيلِ ; فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِلَاجَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْأَنْفَعِ فِي الْأَكْثَرِ ، فَالْمُعَاصِرُونَ لِلطَّبِيبِ الْأَوَّلِ الْمُؤَيَّدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمُكَاشَفِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ بِأَسْرَارِ عِبَادِهِ وَبَوَاطِنِهِمْ أَعْرَفُ بِالْأَصْوَبِ وَالْأَصْلَحِ قَطْعًا ، فَسُلُوكُ سَبِيلِهِمْ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الْوَظِيفَةُ السَّابِعَةُ التَّسْلِيمُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ)

        : وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا انْطَوَى عَنْهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَأَسْرَارِهَا لَيْسَ مُنْطَوِيًا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنِ الصِّدِّيقِ وَعَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَعَنِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا انْطَوَى عَنْهُ لِعَجْزِهِ وَقُصُورِ مَعْرِفَتِهِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ بِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَا تُقَاسُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحَدَّادِينَ ، وَلَيْسَ مَا تَخْلُو عَنْهُ مَخَادِعُ الْعَجَائِزِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَخْلُوَ عَنْهُ خَزَائِنُ الْمُلُوكِ ، فَقَدْ خُلِقَ النَّاسُ أَشْتَاتًا وَمُتَفَاوِتِينَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ فَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِهَا وَتُبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا صُورَةً وَلَوْنًا وَخَاصِّيَّةً وَنَفَاسَةً ، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ مَعَادِنُ لِسَائِرِ جَوَاهِرِ الْمَعَارِفِ فَبَعْضُهَا مَعْدِنٌ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعِلْمِ وَمَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - ، وَبَعْضُهَا مَعْدِنٌ لِلشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّيْطَانِيَّةِ ، بَلْ تَرَى النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ ، فَقَدْ يَقْدِرُ الْوَاحِدُ بِخِفَّةِ يَدِهِ ، وَحَذَاقَةِ صِنَاعَتِهِ عَلَى أُمُورٍ لَا يَطْمَعُ الْآخَرُ فِي بُلُوغِ أَوَائِلِهَا فَضْلًا عَنْ غَايَتِهَا ، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِتَعَلُّمِهَا جَمِيعَ عُمْرِهِ فَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللهِ - تَعَالَى - ، بَلْ كَمَا يَنْقَسِمُ النَّاسُ إِلَى جَبَانٍ عَاجِزٍ لَا يُطِيقُ النَّظَرَ إِلَى الْتِطَامِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى سَاحِلِهِ ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخَوْضُ فِي أَطْرَافِهِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي الْمَاءِ عَلَى رِجْلِهِ ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُطِيقُ رَفْعَ الرِّجْلِ عَنِ الْأَرْضِ اعْتِمَادًا عَلَى السِّبَاحَةِ ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ السِّبَاحَةَ إِلَى حَدٍّ قَرِيبٍ مِنَ الشَّطِّ لَكِنْ لَا يُطِيقُ خَوْضَ الْبَحْرِ إِلَى لُجَّتِهِ وَالْمَوَاضِعِ الْمُغْرِقَةِ الْمُخْطِرَةِ ، وَإِلَى مَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يُطِيقُ الْغَوْصَ فِي عُمْقِ الْبَحْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّهِ الَّذِي فِيهِ نَفَائِسُهُ وَجَوَاهِرُهُ ، فَهَكَذَا مِثَالُ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِيهِ مِثْلُهُ (حَذْوَ الْقُّذَّةِ بِالْقُذَّةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ) (فَإِنْ قِيلَ) فَالْعَارِفُونَ مُحِيطُونَ بِكَمَالِ مَعْرِفَةِ اللهِ - سُبْحَانَهُ - حَتَّى لَا يَنْطَوِي عَنْهُمْ شَيْءٌ قُلْنَا : هَيْهَاتَ ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ فِي كِتَابِ (الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى فِي مَعَانِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى) أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللهَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ الْخَلَائِقَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُمْ وَغَزُرَ عِلْمُهُمْ - فَإِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللهِ - سُبْحَانَهُ - فَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ مُحِيطَةٌ بِكُلِّ مَا فِي الْوُجُودِ ، إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللهُ وَأَفْعَالُهُ ، فَالْكُلُّ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَنَّ جَمِيعَ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ فِي الْمُعَسْكَرِ حَتَّى الْحُرَّاسُ هُمْ مِنَ الْمُعَسْكَرِ ، فَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ ، وَأَنْتَ لَا تَفْهَمُ الْحَضْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا بِالتَّمْثِيلِ إِلَى الْحَضْرَةِ السُّلْطَانِيَّةِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ دَاخِلٌ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ فِي مَمْلَكَتِهِ قَصْرٌ خَاصٌّ وَفِي فِنَاءِ قَصْرِهِ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ ، وَلِذَلِكَ الْمَيْدَانِ عَتَبَةٌ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا جَمِيعُ الرَّعَايَا وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَلَا إِلَى طَرَفِ الْمَيْدَانِ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِخَوَاصِّ الْمَمْلَكَةِ فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ ، وَدُخُولِ الْمَيْدَانِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِحَسْبِ مَنَاصِبِهِمْ ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطْرُقْ إِلَى الْقَصْرِ الْخَاصِّ إِلَّا الْوَزِيرُ وَحْدَهُ ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ يُطْلِعُ الْوَزِيرَ مِنْ أَسْرَارِ مُلْكِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ ، وَيَسْتَأْثِرُ عَنْهُ بِأُمُورٍ لَا يُطْلِعُهُ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ فَافْهَمْ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَفَاوُتَ الْخَلْقِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَالْعَتَبَةُ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَيْدَانِ مَوْقِفُ جَمِيعِ الْعَوَامِّ وَمَرَدُّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مُجَاوَزَتِهَا ، فَإِنْ جَاوَزُوا حَدَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الزَّجْرَ وَالتَّنْكِيلَ ، وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَقَدْ جَاوَزُوا الْعَتَبَةَ وَانْسَرَحُوا فِي الْمَيْدَانِ ، وَلَهُمْ فِيهِ جَوَلَانٌ عَلَى حُدُودٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمْ

كَثِيرٌ ، وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي مُجَاوَزَةِ الْعَتَبَةِ وَتَقَدَّمُوا عَلَى الْعَوَامِّ الْمُفْتَرِشِينَ ، وَأَمَّا حَظِيرَةُ الْقُدْسِ فِي صَدْرِ الْمَيْدَانِ فَهِيَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تَطَأَهَا أَقْدَامُ الْعَارِفِينَ ، وَأَرْفَعُ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ ، بَلْ لَا يَلْمَحُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الرَّفِيعَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ إِلَّا غَضَّ مِنَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ طَرْفَهُ فَانْقَلَبَ إِلَيْهِ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ; فَهَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِهِ تَفْصِيلًا ، فَهَذِهِ هِيَ الْوَظَائِفُ السَّبْعُ الْوَاجِبَةُ عَلَى عَوَامِّ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا . وَهِيَ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ ، اهـ


المصدر : إلجام العوام عن علم الكلام










الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:51 pm

الخلاف فى الصفات الخبرية

نشأة الخلاف في الصفات الخبرية
        لقد دفع المسلمين إلى القول : في الصفات وغيرها تغير المجتمع بعد عصر الفتح وازدواج الثقافات المختلفة ودخول الأفكار الأجنبية عن الإسلام إلى الساحة الإسلامية طفرة وبغير هوادة.
        ولقد كان المسلمون في عصر المبعث لا يهتمون بهذه الفلسفات في نفس الوقت الذي كان المسلمون الأوائل فيه يفهمون القرآن وأقوال النبي الكريم فهماً يليق بعقولهم ومكانتهم الدينية، فكانت الصفات تذكر في القرآن أو السنة، وكانت الأسماء ترد أمامهم في النصوص الشرعية فيفهمونها فهماً على وجهها الصحيح اللائق بجلال الله عز وجل.
        ولا يعقل بحال من الأحوال أن يقال : إن الصحابة لم يكونوا يفهمون عن الله قولاً ولا يفقهون للنبي حديثاً فهذا أمر غير مقبول.
        والمقبول الوحيد هو أن هؤلاء كانوا يفهمون ويفقهون لكنهم لم يتورطوا في الجدل أو المراء.
أولاً : لأنهم لم يكونوا يستجيزون الجدل أو المراء ولا يستحبون ذلك شرعياً.
ثانياً : أنه لم تكن هناك حاجة ملحة للدخول في جدل أو مراء ولم تكن هناك شبهة عارضة يثيرها فكر مغرض أو إنسان ينطوي على سوء الطوية للإسلام وأهله، من أجل ذلك كله وجدنا السلف الصالح من الصحابة وأوائل التابعين كانوا يفهمون الآيات والأحاديث التي تتحدث عن أسماء الله وصفاته ويمرونها كما هي من غير نقاش ولا جدل ولا مراء.
        ولكن الفتنة حين أطلت برأسها وكان بعض الصحابة ما يزال حياً لم يمسك عن الحديث، بل إنما أفتى بما يراه الحق والصواب.
        يتبين من هذا العرض السريع أن النبي صل الله عليه وسلم والصحابة وسابقي الأمة لم يكونوا على جهل بدلالات ألفاظ القرآن.
وتلك قضية ينبغي أن تكون واضحة غاية الوضوح في الأذهان ـ غير أن الصحابة على الجملة أو واحداً منهم بذاته لم يدعوا أنهم قد وقفوا على حقيقة الذات الإلهية وتصورها على ما هي عليه في الحقيقة ونفس الأمر فهذه مسألة أكبر من إمكانات العقول وأعز من أن تدركها العقول، وهذا القول نفسه ينطبق على حقيقة الصفات الإلهية، فالوقوف على حقيقة كل صفة والإحاطة بها إحاطة تامة أمر فوق العقول وأعلى من طاقة الإنسان.
        وهذا لا يتنافى مع قولنا السابق من أن الصحابة يفهمون مدلول اللفظ الواصف لله عز وجل أو اللفظ الذي يذكر اسماً من أسماء الله سبحانه.
ولباب القول في هذه المرحلة الفكرية : أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن والحديث فيما يتعلق بموضوع الأسماء والصفات ولكنهم نظراً لما قلناه سلفاً كانوا يمرون النص من غير محاولة التفريع عليه أو الاستنباط منه إلى غير ذلك. مما يشبه ذلك من محاولات وكان هذا أمراً طبيعياً اقتضاه العصر واقتضته الظروف.
        ثم جاء عصر احتكاك الأذهان وتزاوج الثقافات فأدى علم الكلام دوره المرسوم له من رد الشبه عن الإسلام ومحاولة فهم العقيدة من القرآن فهماً صحيحاً.
        وإذا كان العلم البشري والتفكير الإنساني لا يكون كاملاً غاية الكمال فإن هذا النقص الذي يعتري التفكير الإنساني قد ظهر في بعض نواحي علم الكلام على يد المتورطين في بعض قضاياه بدافع رد الفعل أو كان هذا النقص الذي اعترى بعض جوانب علم الكلام بسبب الدخلاء الذين دخلوا على المتكلمين لا يريدون تحقيق غاياتهم المرسومة بقدر ما يريدون التشويش على الإسلام وأهله.
        ولو أننا أسقطنا مثل هذه النقائص من الحساب لوجدنا علم الكلام قد انطوى أهله على نية حسنة وأشخصوا أمامهم هدفاً يريدون تحقيقه وسلكوا إلى هذا الهدف سبلاً إن كان بعضهم كبا وهو يقطعها بعض الكبوات إلا أنها في النهاية تبقى سبلاً معبدة لتحقيق غايتها المرسومة.
        وفي ظروف طرأت على الجو الإسلامي وعكرت صفو الأفكار الإسلامية ظهرت رغبات صادقة من بعض علماء الأمة في محاولة إصلاح المسار الفكري وتنحية كل خطأ أو زلة وقع فيها بعض المفكرين الإسلاميين والأخذ بيد من كبا على الطريق حتى تنتصب قامته كي تسلك الجماعة الإسلامية إلى هدفها سبيلاً صحيحة تبرأ من الزلات والكبوات.
ـ غير أن هذه الرغبة على نبل مقصدها قد وقعت تحت تأثير انفعال رهيب جعلها لا تتأتى في عرض رغبتها النبيلة الراقية، فأثارت ضدها القاصي والداني فتوجهت الأسئلة وطلبات الاستفتاء من كل صوب كلها تبتغي تحديداً واضحاً لبعض معالم العقيدة الإسلامية.
ـ وظهر في الساحة الإسلامية أدعياء السلف المحدثون الذين يريدون العودة من جديد إلى طريق السلف وانتهاج منهج أوائل الأمة.
ـ غير أن هذه الدعوة قد فسرت طريقة السلف وأوائل الأمة حسبما يلائم فكرها ويتناسب مع وجهتها.
ـ الأمر الذي يجد استحساناً عند الكثيرين فكثر الخلاف وانتشر الشغب وأصبح كل يدعي أن الحق عنده، وكل حزب يريد أن تطير الأفئدة والقلوب إلى ما يراه، وما زالت الأمة إلى الآن تعاني هذا الأثر السئ وينوء بأعناق الأمة هذه الأحمال الثقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناهج المختلفين في الصفات الخبرية
        المتأمل في مناهج هذه الفرق المختلفة والمقارنة بينها وبين ما ذهب إليه سلف الأمة وانتهجه المسلمون في عصر المبعث يجد نفسه أمام طرائق ثلاث من المناهج والأساليب التي انتهجها علماء الأمة إلى الآن في فهمهم لآيات الأسماء والصفات والآثار الواردة فيهما.
        الطريقة الأولى : طريقة السلف الأوائل الذين شاهدوا عصر المبعث وعاصروا نزول القرآن.
وهؤلاء القوم ـ كما ذكرنا ـ كانوا يفهمون النص ولكنهم لم يفرعوا عليه بل أمروه بغير جهل بمدلول الألفاظ التي تعبر عنه.
ـ ولو أن أحداً منهم قد سئل في عصر المبعث أو بعده بقليل عن نص من النصوص التي يوهم ظاهرها التشبيه، كاليد والأصبع والجنب والعين والوجه والقدم والساعد ... إلخ، لما قال واحد منهم : أن مدلول هذه الألفاظ مقصود لذاته، ولو أنهم سمعوا ما سمعنا أن لله يداً على الحقيقة المادية أو إصبعاً أو جنباً، لتبرموا بهذا السماع غاية التبرم ولكان لهم موقف مأثور يتناقله من بعدهم جيل بعد جيل.
ـ هذه مسألة نسبتها إلى عصر المبعث وأهله لا تتجاوز حد البداهة العقلية.
ـ وكان ينبغي على من جاءوا بعد هؤلاء أن يسلموا بنحو ما ذكرناه تسليماً لا يقل جدلاً ولا مراء.
ـ غير أنه لم يؤثر عن الصحابة أنهم وقفوا عند هذه النصوص وقالوا فيها أو تحدثوا عنها لأسباب سبق ذكرها.
ـ أما الموقف الثاني : فهو موقف لعلماء الكلام وغيرهم ممن قرأوا هذه النصوص ورأوا أن هناك ضرورة ملحة للإبانة عن المقصد من ورائها وتحديد المراد منها فحددوا مفهوم هذه الألفاظ محتكمين إلى قانون التأويل العام بحيث لم يتخذ واحد منهم موقفاً في نص من النصوص متأثراً بهواه، بل إن جميعهم كانوا يؤولون النصوص الشرعية التي تحتاج إلى تأويل وهو محكوم بمسألة حمل النص على بعض ما يحتمله اللفظ بحيث يكون لائقاً أن ينسب إلى الله عز وجل ولا يتعارض مع قضية الألوهية.
ـ ولم نر واحداً من هؤلاء المؤولين للنصوص حمل النص على معنى لا يحتمله النص أو صرف اللفظ إلى معنى لم يكن ضمن المعاني التي وضعه الواضع من أجلها أو ضمنه الشرع إياها.
ـ وهذا موقف في غاية السلامة بحيث لم يكن يستوجب هذه الضجة الكبرى التي أثيرت ضده حتى وصلت إلى حد فاقت معه كل خلق يرضاه الذوق العام.
ـ الموقف الثالث وقد تحمس له بعض المتأخرين ونسبوه إلى السلف.
وخلاصة هذا الموقف : أن النصوص الشرعية التي يوهم ظاهرها التشبيه يجب أن تقف عند حدود دلالتها الوضعية من غير تصرف فيها أو محاولة تأويلها، بل يجب علينا أن نمرها كما جاءت عليه.
        وإلى هنا يعد هذا الموقف نقطة اشتراك بين جميع القائلين بالوقوف عند حدود النص.
إلا أن أدعياء هذا الموقف والمتحمسين له انقسموا إلى طرائق متعددة :
1ـ فبعضهم التزم هذا الموقف زهداً في الحديث ورفض أن يتصرف في النصوص خوفاً على نفسه وصيانة لعقيدته، فهم يستسلمون للنص استسلاماً ويؤمنون به على نحو ما أراده الله عز وجل من غير أن يحاول الدخول في محاولة تحديد المراد من هذا النص أو ذاك.
وهذا الفريق انتسب إليه كثرة كاثرة من الأتقياء الذين يخشون على عقيدتهم ويرون أن الحديث في مثل هذه الأمور من قبيل الجدل المنهي عنه، وهم يعتقدون بصدق أن العقل البشري قاصر عن إدراك ما يتعلق بالله وصفاته ويحيط به إحاطة تامة.
وبعض الذين ينتمون إلى هذا الفريق لديهم قدرة على التأويل وهم يعتقدون ويميلون إليه على وجهه الصحيح، ولكنهم يخشون آثاره ورد الفعل العنيف من أولئك الذين لا يدركون حقائق الأمور ولا يرغبون في نفس الوقت عن تجنب الخوض فيها (**).
2ـ وهناك فرقة أخرى ممن يعتقدون هذا الاتجاه ( اتجاه الوقوف عند حدود النص) رأوا أن حدود النص معناها حمل كل لفظ على المعنى الأول الذي يتبادر منه وينطبع في الأذهان عند إطلاقه.
        وعليه فقد حمل اليد على ما يتبادر منها لأول وهلة وكذا الوجه والإصبع والقدم إلى آخره.
ولهذا المعنى نفسه حملوا النصوص الواردة في النزول والاستواء على حقيقتها وفرعوا على ذلك تفريعات شنيعة (**).
وهذه الطائفة من الناس فتحت مجالاً واسعاً لتسلل الأفكار الغريبة عن الإسلام ودخولها إلى الجو الإسلامي فأحدثت جدلاً عظيماً وأساءت إلى بعض طوائف الإسلام إساءة بالغة وجرحت شعور الموحدين المؤمنين بالله إيماناً ينسب إليه كل كمال على وجه الوجوب ويرفع عنه كل نقص على وجه الوجوب كذلك.
        وما زالت الأمة إلى الآن تعاني آثار هذا التيار وتجني ثماره المرة.
3ـ وهناك طائفة ثالثة تؤمن بالوقوف عند حدود النص وتعلن أنه لا يجوز التصرف فيه وتصرح بأنه ينبغي حمل كل نص على أول معنى يتبادر من الألفاظ وترفع شعار عدم جواز التأويل بحال من الأحوال.
فإذا وقع هؤلاء أن بدر منهم ما يشبه الله بخلقه أو يوهم التجسيم اعتذروا عن ذلك وقالوا ( بلا كيف ).
ومسألة ( بلا كيف ) هذه قد حيرت العقول وأخذت بألباب المفكرين.
إذ إن المرء لا يفهم ( إن أراد أن يفهم ) الموقف الحقيقي لهذه الطائفة حين تقول: إن لله يداً ووجهاً وعيناً ... إلخ ، على المعنى الحقيقي للفظ ولكن بلا كيف.
        وإن الله عز وجل قد استوى على العرش وهو ينزل عنه نزولاً حقيقياً إلى السماء الدنيا كل ليلة ولكن بلا كيف.
        والله عز وجل في السماء وهو في جهة هي جهة العلو على المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ ولكن بلا كيف.
        إنها مسألة محيرة حقاً فصدر هذه الجمل كلها ينص على التشبيه صراحة وأواخر هذه الجمل كلها يقول بلا كيف.
        فإن أرادوا أوائل الجمل كانوا مشبهة وإن أرادوا أواخر هذه الجمل كانوا من المتأولين والجمع بين الطرفين تناقض.
        هذه هي المناهج الثلاثة التي انتهجتها الأمة على اختلاف طوائفها فيما يتعلق بأمر الصفات.
        كل منهج منها يخالف الآخر مخالفة تامة حتى لو ادعى متأخروا السلفية أن منهجهم هو منهج السلف الأوائل وأن ما يقولون به قد قال به المسلمون في عصر المبعث.
        والحق أقول : إنه لو كان هناك محاولة انتساب إلى السلف الأوائل فإن المؤولين بهذا الانتساب أولى لأنهم أقرب الفريقين إلى منهج السلف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:52 pm

[size=30] الصفات الخبرية : بين الإسم والمسمى[/size]



بين الإسم والمسمى

بين الاسم والمسمى
هذا بحث تحتاج إليه تلك القضية التي نحن بصددها احتياجاً شديداً لكثرة ما وقع من الخلط بين الاسم والمسمى أثناء بحث جوانب         هذه القضية من بعض المفكرين فناسب من أجل ذلك أن نحدد المفاهيم ليتحدد الهدف من البحث كله في النهاية .
        يتساءل الكثيرون : هل هناك فرق بين الاسم والمسمى والتسمية أو أن هذه التعبيرات الثلاثة لها مدلول واحد ؟
في الإجابة عن هذا التساؤل وقع خلاف بين العلماء والمفكرين .
ونحن نظن أن هذه المسألة برمتها ما كانت تحتاج إلى هذا الخلاف لو أننا تدبرناها في جو بعيد عن الانفعال ومناخ خلو من العصبية.
وتفصيل ذلك أن نقول : إن الشئ الواحد قد يكون له وجود في الذهن.
فوجوده الخارجي هو وجوده المتميز المتشخص وهو بهذا الوجود يشار إليه بالبنان ويقال عنه : هذا طويل أو قصير كما يقال : إنه أبيض أو أسود، ويقال عنه : إنه حار أو بارد كما يقال عنه : إنه في جهة كذا أو كيت ... إلى غير ذلك من الأمور التي تصف بها الأشياء المتشخصة.
وأما وجود الشئ في الذهن فهو صورته التي تنطبع في الذهن البشري محاكية لوجوده الخارجي ، تماماً كالمرآة تنطبع فيها صورة الأشياء المقابلة ويكون للأشياء المقابلة للمرآة وجودان : أحدهما : وجود الأشياء في ذاتها، وثانيهما : صورة هذه الأشياء في المرآة.
وإذا انتقل الحديث مرة أخرى إلى وجود الأشياء في الذهن بعد تدبر هذا المثال للعارض لوجدنا أن وجود الأشياء في الذهن يشبه تماماً وجود صورة الأشياء في المرآة ، وهذا الوجود في الذهن هو ما نطلق عليه اسم ( العلم ) فعلمنا بالأشياء هو صورة تلك الأشياء الحاصلة في الذهن سواء كانت هذه الصورة صورة أشخاص معينين أو كانت صورة أحداث ومشاهد، فالعلم البشري ليس إلا حصول صور الأشياء في ذهن الإنسان.
ولعله قد اتضح الآن أن لكل شئ وجودين : وجود الشئ خارج الذهن ووجوده منطبعاً في ذهن الإنسان، غير أننا معشر البشر لا تنتهي وظيفتنا العلمية عند حد انطباع صورة المعلوم في الذهن، ولكن هناك مهمة أخرى ترتبط بهذه المرحلة ارتباطاً وثيقاً وهي : أن الإنسان حين يعلم شيئاً وترتسم صورته في ذهنه يحتاج في بعض الأحيان إلى نقل صورة هذا المعلوم إلى إنسان آخر من غير أن يكون شخص هذا المعوم موجوداً أمامهما عند إرادة العالم به نقل صورته إلى غيره.
        من أجل هذا فإن الإنسان يحتاج إلى وسيلة يستطيع من خلالها أن ينقل صورة ما في ذهنه إلى ذهن غيره في حال عدم وجود الشئ في ذاته حالة إرادة نقل هذه الصورة إلى غيره.
كانت الوسيلة الوحيدة لتحقيق تلك الرغبة وتلبية آمال الإنسان وأشواقه هي اللغة.
واللغة عبارة عن جمل والجمل مكونة من مفردات.
وبعض هذه المفردات يكون تعبيراً عن الأشياء الذاتية الموجودة في الخارج.
        وعليه فإن الإنسان يستطيع أن يعبر بلسانه عن صورة موجودة في ذهنه مطابقة لموجود في الخارج بالفعل . ولسائل أن يسأل عن حقيقة العلاقة بين اللفظ اللغوي والمعنى الذي يدل عليه اللفظ ، أو بعبارة أخرى : ما العلاقة الحقيقية بين اللفظ اللغوي وصورة الأشياء في الذهن ؟
سبق أن وضحنا حقيقة العلاقة بين الصورة في الذهن والأشياء في الواقع، وبقى أن نوضح حقيقة الصلة بين اللفظ اللغوي والمعنى الذي يدل عليه اللفظ .
وتصوير المسألة أن نقول : إن الإنسان منا يسمع لفظاً معيناً بلغة قومه، التي يفهمها فيثير اللفظ عند السامع شيئاً ما في داخله يجعله يتصور تلقائياً معنى معيناً يرتبط بهذا اللفظ.
وهذه العملية ـ عملية الارتباط بين اللفظ ومعناه ـ قد استوقفت الكثيرين من العلماء لبحثها والوقوف على حقيقة هذه العلاقة وتفسيرها.
وفي محاولة إيضاح هذه العلاقة وتفسيرها رأينا بعضهم يذهب إلى القول : بأن هذه العلاقة كائنة منذ الوضع اللغوي للكلمة. فالواضع اللغوي للألفاظ اللغة يضع لكل لفظ معناه بإزائه ولا شئ غير ذلك
وهناك بعض الأبحاث المتقدمة نسبياً تنتهي إلى أن ارتباط اللفظ بمعناه ارتباط شرطي على أساس أن اللفظ يعرض على الذهن البشري مقترناً بمعنى ثم يتكرر هذا العرض مراراً حتى إذا ما تعود الذهن هذا الاقتران كان من الطبيعي أن أحد الطرفين ـ اللفظ ومعناه ـ إذا عرض على الذهن وحده كان كافياً بواسطة الارتباط الشرطي أن يجعل الذهن يستحضر صورة الطرف الآخر.
وهناك اتجاهات كثيرة لمحاولة تفسير تلك العلاقة بين اللفظ ومعناه غير ما ذكرنا.
غير أن الرأي المختار عندنا هو الجمع بين هذين الاتجاهين السابقين الذين تحمس لكل واحد منهما فريق من العلماء على استقلاله، والجمع بينهما يعطي المشكلة نوعاً من التفسير لا يعطيه الواحد منهما على انفراده.
فنحن نقول في الجمع بينهما : إن الواضع اللغوي قد ربط بين اللفظ ومعناه الذي اختاره للدلالة عليه، ثم عرض على الذهن مراراً اللفظ مرتبطاً بمعناه فتعوده الذهن بعد طول مران.
        وإذا كنا قد اخترنا الجمع بين هذين الرأيين فإن هذا الاختيار نفسه يعني أن لكل واحد منهما نوع مساهمة في حل المشكلة الأم على انفراده غير أن واحداً منهما بالاستقلال لا يقوى وحده أن يضع الحل الحاسم والشامل للمشكلة ككل.
        ويبعد عن الواقع بمقدار قربه من الخيال الرأي القائل : بأن طبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى يمكن أن تفسر على أساس اللفظ في ذاته بمعنى أن اللفظ بذاته يستطيع أن يثير في الذهن تصوراً كاملاً لمعناه من غير احتياج إلى مؤثر خارجي.
ولعله قد تبين من العرض السابق على إيجازه حقيقة هامة وهي أن :
هناك فرقاً واضحاً ومتميزاً بين الاسم والمسمى .
فالاسم هو اللفظ اللغوي ووظيفته الدلالة على ما في الذهن من الأشياء وما في الذهن مطابق لما في الواقع باعتباره صورة له .
وهذا أمر يعد بدهياً الآن بعد هذا التصور الذي أدى إليه الإيضاح السابق.
ونعود إلى القول : بأننا كنا نظن أن هذه المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى بذل المجهود في التفريق أو التمييز بين الاسم والمسمى.
غير أنه قد يؤدي عدم تصور الأشياء في الذهن والوقوف على حقيقتها إلى خطأ في التصديق، فرأينا أن نميز بين الاسم والمسمى من حيث حقيقة كل منهما حتى يتمكن القارئ من تصورهما على نحو صحيح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاسم والمسمى في جانب الله عز وجل
        إذا كان الاسم قد تميز عند المسمى فيما يتعلق بالحادثات على نحو ما سبق. فإن الاسم والمسمى في جانب ما يتعلق بالله عز وجل متمايزان أيضاً تمايزاً واضحاً بحيث لا يقال مع هذا التمايز إن الاسم هو المسمى.
بيد أن هناك فرقاً واضحاً بين ما يحدثه الاسم من إثارة في ذهن السامع إذا كان الاسم اسماً لبعض الحادثات أو كان اسماً لله عز وجل.
        فإذا كان الاسم اسماً لبعض الحادثات فإنه يكشف في ذهن السامع عن معناه الذي يدل عليه دلالة واضحة وهذا المعنى ـ كما سبق أن بينا ـ هو صورة مدلول الاسم المنتزعة من الواقع.
وهذا أمر معقول ومفهوم.
أما إذا كان الاسم من أسماء الله عز وجل فإنه لا يحدث في الذهن مثل ذلك الأثر الذي أحدثه صاحبه، ذلك أن أحداً ما لا يستطيع القول : إن في ذهنه صورة لديه تنطبق عليه غاية الانطباق قد انتزعها من الوجود الفعلي لله عز وجل.
وعلى هذا فإن الاسم الذي أبيح لنا أن نطلقه على الله عز وجل لا يكون القصد منه بالدرجة الأولى الدلالة على صورة في الذهن مطابقة لوجود الله الفعلي، وإنما القصد من إطلاق اسم من أسماء الله عز وجل أن هذا الاسم يدل على صورة تقريبية في ذهن السامع يستطيع من خلالها أن يتصور شيئاً من التصور يتعلق بذات الله أو بصفة من صفاته.
ويدل على هذا الذي ذهبنا إليه أمران :
أحدهما : أن جميع فرق المسلمين ـ إلا من شذ منهم ـ متفقون على أن ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من أسماء الله عز وجل لا يجوز أن نقول في واحد منها: إنه يدل على شئ في ذات الله مماثلة لذلك الشئ الذي يدل عليه نفس الاسم لو أطلق على بعض الحوادث.
وعلى سبيل المثال : فإننا قد نطلق على الله وصف القادر ونطلق على بعض أفراد النوع الإنساني نفس الوصف ـ ولم تر واحداً من العلماء قال : إن القادر يثير في الذهن معنى واحداً إذا نسب إلى الله ونسب إلى البشر أو غيرهم من الكائنات وإنما رأيناهم يقولون : إن الله قادر وله قدرة ولكن لا كقدرتنا .
وإذا قيل : إن لله يداً وللإنسان يداً فإن واحداً من العلماء المعتبرين لم يقل: بأن لفظ اليد لها نفس المفهوم وعين الدلالة إذا نسبت إلى الله ونسبت إلى البشر.
ونحن لم نر خلافاً بين العلماء المعتبرين في الفكر الإسلامي حول هذه الجزئية وإنما هم جميعاً متفقون على أنه لا يجوز أن يكون لله يد بمعنى الجارحة.
وقل مثل هذا في نحو الوجه ، والجنب والعين والرجل والساق .... إلخ وقصارى ما وقع بين العلماء من خلاف يرجع إلى نقطة محددة وهي : هل يجوز لنا أن نضع لفظاً مكان لفظ بحيث يحدد مفهوم اللفظ الأصلي ويصرفه عن ما كان يشتمل عليه من احتمال المشابهة أو لا يجوز ؟
وبرغم أن العلماء متفقون فيما بينهم على أنه لا يجوز أن نفهم من لفظ يحتمل التشبيه المشابهة بين الله وبين خلقه حيث إن مثل هذا الفهم مرفوض شرعاً بنحو قوله تعالى : (ليس كمثله شئ) برغم أنهم متفقون على هذا الحد إلا أنهم انقسموا إلى فريقين في الإجابة عن هذا التساؤل، فبينما يرى البعض منهم أنه من الجائز أن تؤول اللفظ الذي يحتمل التشبيه بلفظ آخر لا يحتمل ذلك التشبيه ويكون معنى اللفظ الذي وقع عليه الاختيار مشمول ضمناً في مدلول اللفظ الأصلي وعلى سبيل المثال فإنه إذا ورد في النص الشرعي لفظ ـ اليد ـ مضافاً إلى الله عز وجل يمكن أن نحمل هذا اللفظ ـ اليد على القدرة على اعتبار أن القدرة داخلة ضمناً في معنى اليد ومفهومة.
بينما يرى بعض العلماء جواز ذلك، يرى فريق آخر أنه لا يجوز أن نؤول في ألفاظ القرآن أو النصوص الشرعية المعتبرة التي تحدد صفات الله عز وجل بل نؤمن بها على ما جاءت عليه على وجه لا يوقعنا في التشبيه أو المماثلة بين الله وخلقه.
وعليه فإن الأسماء الموهمة تتحول عند الفريقين إلى صفات لائقة بالله عز وجل وليس واحد منها يدل على جارحة محسوسة لأن ذلك يتنافى مع كمال الله عز وجل.
ومن هنا فإننا نستطيع القول : إن ما يبدو لنا من خلاف مستمر بين الفريقين هو في الحقيقة خلاف يشبه أن يكون لفظياً غير أن العصبيات المذهبية من جهة وحب الذات والتكابس بالعلم والتفاخر بالمعرفة من جهة أخرى مضافاً إليهما جهل بعض الجاهلين من أتباع هذا الفريق أو ذاك.
كل هذا وكثير غيره، مما يماثله، أو يقرب منه ، قد وسع شقة الخلاف حتى بدى لبعض الناظرين أن ما بين الفريقين صدع لا يرأب وشعث لا يلم وإذا قلت لبعضهم إن ما بين الفريقين من خلاف سهل ميسور اتكأ على أريكته ثم قال إن الخرق قد اتسع على الراقع وإن ما بين الفريقين إنما هو كفر وإيمان.
والأمر أيسر من ذلك " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:53 pm

[size=30]الصفات الخبرية : بين الإسم والصفة[/size]


بين الإسم والصفة

إن دلالات الألفاظ تنقسم إلى أقسام باعتبارات مختلفة ويجب على الباحث أن يكون ذا بصيرة بالألفاظ التي يتعامل معها والدلالة النوعية لكل لفظ منها، فقد يؤدي الخلط في الدلالات إلى الخلط في المفاهيم.
فاللفظ الواحد قد يكون له دلالة وضعية وقد يكون له دلالة اصطلاحية ، وقد يكون له دلالة عرفية ولو لم تحدد الدلالة المقصودة في استعمال اللفظ في الموضوع الواحد بحيث لا يستعمل اللفظ في موضوع واحد بنوعين من الدلالة لأدى ذلك إلى خلط ونزاع لا يرفعهما إلا الرجوع إلى تحديد مفهوم اللفظ الواحد في ذات الموضوع.
وهذه التوطئة ضرورية لعلاج الموضوع الذي نحن بصدده فالاسم مثلاً له مفهوم بالمعنى الوضعي للكلمة وله مفهوم اصطلاحي عند النحاة وله مفهوم اصطلاحي عند علماء الكلام والصفة لها مفهوم بحكم الوضع ولها مفهوم اصطلاحي عند علماء النحو ولها مفهوم اصطلاحي عند علماء الكلام.
ويجب قبل الخوض في موضوع الصفات والأسماء التي نتحدث عنها بالنسبة لله عز وجل أن نحدد مفهوم كل من الصفة والاسم الذي نختاره لكي يكون الأساس الذي ننطلق منه ونلتزم به في معالجتنا لهذه القضية.
فالاسم من أجل الوضع إما أن يكون مأخوذاً من السمو وهو الرفعة والعلو أو مأخوذاً من السمة وهي العلاقة المميمة فإن كان مأخوذاً من السمو ( وجب أن يكون كل لفظ دل على معنى من المعاني اسماً وذلك لأن اللفظ لما كان دالاً على المعنى فهو من حيث إنه دليل يكون متقدماً على المدلول فكان معنى السمو حاصلاً فيه " .
وإن كان من السمة فكل لفظ دل على معنى كان سمة على ذلك المعنى وعلامة عليه.
والمتأمل في هذه الدلالة الوضعية للاسم يجده صالحاً بحكم دلالته لكي يكون شاملاً لمفهوم الاسم والصفة فلما جاء عصر التأليف في النحو والكتابة فيه وضع المشتغلون به للاسم مصطلحاً خاصاً يخالف من بعض الوجوه في دلالته الدلالة الوضعية للاسم التي سبق الإشارة إليها وبيان ذلك أن النحاة قسموا الكلمة إلى أقسام فمنها ما يدل بذاته على معناه ومنها ما لا يدل على معناه، إلا إذا اقترن بغيره.
فالذي لا يدل على معناه ، بنفسه ، هو الحرف.
والذي يعين معناه بنفسه نوعان :
أحدهما : ما يدخل الزمن في دلالته وهو الفعل.
وثانيهما : ما لا يدخل الزمن في دلالته ، وهو الاسم .
        ويتبين من ذلك أن للنحاة مفهوماً اصطلاحياً يحددون به ما يستعملونه من ألفاظ.
ولما نشأ علم الكلام ونشطت الفرق للكتابة فيه والحديث في مسائله، كان لمعنى الصفة عندهم مفهوم اصطلاحي يخالف ما تعارفوا عليه من مفهوم الاسم.
        فالاسم عندهم ما يدل على الماهية المجردة من غير اعتبار آخر يضاف إلى تلك الماهية.
أما الصفة فهي ما يدل على شئ آخر يضاف إلى الماهية زائداً على حقيقتها المجردة.
        إذا تبين هذا فنقول : إننا نختار أن يكون استعمالنا للاسم والصفة مضافين إلى الله عز وجل على معناهما اللغوي بحسب الوضع.
        والذي يؤيد ذلك الاتجاه عندنا أن القرآن الكريم والأحاديث النبوية إنما تستعمل اللغة العربية غالباً بحسب وضعها وفي غير الغالب تستعمل الألفاظ العربية بعد تعديل معناها ولكن لا لتتحول دلالتها من الوضع إلى الاصطلاح لكي يوافق فئة أو فرقة من الفرق ولكن الشرع يترك اعتبار الدلالة الوضعية ليضع هو للفظ دلالة أخرى معتبرة عنده نسميها بالدلالة الشرعية إذا كان الأمر كذلك فإنه ليس من المعقول أن نشرح لفظاً ورد في القرآن أو السنة آخذين في الاعتبار مفهوماً آخر غير الدلالة اللفظية أو الشرعية.
        أما أولاً : فلأن هذين النوعين من الدلالات هما المعتبران في لغة القرآن والسنة.
وأما ثانياً : فإن الدلالات الاصطلاحية للألفاظ المشهورة في العقيدة ومن بينها الأسماء والصفات نشأت في فترة متأخرة نسبياً عن عصر المبعث وتأخرها هذا يجعلها لا تؤخذ في الاعتبار بدرجة ملزمة عندما نريد شرح مواقف الإسلام من جزئيات العقيدة أو كلياتها.
        وهذا الذي ذكرناه من وجوب اعتبار الدلالة اللغوية عندما نريد شرح موقف الإسلام من العقيدة، أو نتناول العقيدة من منظور إسلامي يفيد الباحثين فائدة عظيمة في الوصول إلى نتائجهم من أسهل الطرق، ويجعلهم يتخففون من كثير من المشاكل والمسائل المفتعلة.
        فهم لا يحتاجون إن كانوا من الأشاعرة ـ مثلاً ـ أن يدرسوا مسألة رجوع الأسماء الواردة في الشرع إلى الصفات الإلهية المعتبرة عندهم ، وهم لا يحتاجون إن كانوا من علماء الكلام على العموم أن يجهدوا أنفسهم في التفريق بين الاسم والصفة، وأيهما يجوز إطلاقه على الله ، وأيهما لا يجوز ... إلى غير ذلك من المسائل والقضايا التي بإمكاننا أن نتخفف منها إذا وقفنا عند حدود اللغة المستعملة في الشرع الحكيم بدلالاتها الوضعية أو الشرعية.
وهذا اقتراح نقدمه للقراء والباحثين كي يحاول القادر منهم تطويره، ثم الاستفادة منه في مجال الإسلاميات على العموم .
* * * * * * * * * *
واجتمع من هذا كله ركام من الأفكار، وانسابت أنهار الأوزار الثقال التي توارثها الخلف عن السلف، فناءت بحملها أكتافهم، وأصبحوا يشكون مر الشكوى من هذا الميراث الثقيل الذي تضاربت فيه الآراء ، واختلطت فيه الأقاويل.
فأصحاب الديانات لهم طريق.
والفلاسفة المثبتون لهم طرائق.
والفلاسفة المنكرون لهم شبه وأساليب.
وكل حزب يدعي الحق عنده، وأن ما عداه من البشر قد غرقوا في الضلال إلى أذقانهم.
وبالله من حيرة على حيرة.
ومن حقنا هنا أن نتساءل عن السبب الحقيقي وراء هذا الاختلاف، وعن المحور الحقيقي الذي يدور حوله هذا الخلاف.
هل بإمكاننا أن نعود بهذا الخلاف إلى صعوبة الموضوع المراد بحثه ؟
أم هل باستطاعتنا أن نعود بالخلاف كله إلى وعورة الطريق الذي يصل بالمرء إلى نتيجة حاسمة في الموضوع الذي يدور الخلاف حوله ؟
أم أن سبب الخلاف كله يرجع إلى شئ آخر لا يتصل بالموضوع، ولا يتصل بالسبل المؤدية إلى نتائج صحيحة في الموضوع موضع البحث والدراسة ؟
والحقيقة الموضوع واضح، والقضية محددة المعالم.
والحقيقة أيضاً أن هذا الطريق الذي يوصل إلى نتائج قاطعة واضح كذلك ومستقيم لا اعوجاج فيه ولا وعورة.
غير أن هذا الطريق نفسه محاط بطرق ومسالك ، وتكتنفه أدرب لا استقامة فيها ولا اعتدال، وهي برغم ذلك وعرة غير ممهدة لا يهتدي من سلكها إلى قصد، ولا يصل من سار فيها إلى غاية.
ويشير القرآن الكريم إلى الصراط المستقيم في أكثر من آية كما يومئ إلى المعوج من السبل بما فيه من ضلال القصد، وما يحتويه من غواية الهوى فيقول : " قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " سورة البقرة : آية 142.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:54 pm

[size=30]أفعال العباد وهل الإنسان مخير أم مسير ؟[/size]


أفعال العباد

حقيقة نسبة الأفعال للعباد
        ومن هذا يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها . وأفعال العباد نسبتها إليهم على طريق الكسب لا الاختراع لأن الله تعالى هو المخترع لها ، والمقدر لها ، والمريد لها ، ولا يرد أنه كيف يريد ما نهى عنه ، لأن الأمر يغاير الإرادة بدليل أمره جميع الناس بالإيمان ، ولم يرده من أكثرهم لقوله تعالى :{  وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ  }يوسف:103، فنسبة الأفعال إلى العباد من نسبة المسبب إلى السبب أو الواسطة ، وهذا لا منافاة فيه ، لأن مسبب الأسباب هو الذي خلق الواسطة وخلق فيها معنى الوساطة ولولا ذلك الذي أودع الله تعالى فيها لم تصلح أن تكون واسطة وسواء كانت مما لم يودع العقل كالجماد والأفلاك والمطر والنار ، أو كانت عاقلة نم ملك أو إنسي أو جني .
اختلاف المعنى باختلاف النسبة اللفظية
        ولعلك تقول : لا تعقل نسبة الفعل الواحد إلى فاعلين لاستحالة اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، فنقول : نعم ، هو كما قلتم لكن محله إذا لم يكن الفاعل إلا معنى واحد في الاستعمال .
        أما إذا كان له معنيان فيكون الاسم مجملاً متردداً بينهما في الاستعمال ، وحينئذ لا يمتنع إطلاقه على كل منهما كما هو المعلوم من الاستعمال في الأسماء المشتركة أو في الحقيقة والمجاز كما يقال : قتل الأمير فلاناً ، ويقال : قتله السياف ، فإطلاق القتل على الأمير بمعنى غير المعنى الذي أطلق به على السياف ، فقولنا : إن الله تعالى فاعل بمعنى أنه المخترع الموجد ، وقولنا : إن المخلوق فاعل فمعناه أنه المحل الذي خلق الله تعالى فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم ، فارتباط القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع هذا إذا كان المحل عاقلاً وإلا فهو من ترتيب المسببات على أسبابها ، فصح أن يسمى كل ما له ارتباط بقدرة فاعلاً كيفما كان الارتباط ، كما يسمى السياف قاتلاً باعتبار ، والأمير قاتلاً باعتبار ، لأن القتل ارتبط بكليهما ، وإن كان ارتباطه على وجهين مختلفين ساغ تسمية كل منهما فاعلاً ، فمثل ذلك اعتبار المقدورات بالقدرتين ، والدليل على جواز هذه النسبة وتطابقها نسبة الله تعالى الأفعال إلى الملائكة تارة وتارة إلى غيرهم من العباد ، ومرة أخرى نسبها بعينها إلى نفسه ، فقال تعالى :{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }السجدة :11وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا  }الزمر:42، وقال تعالى :{  أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ  }الواقعة 36 بالإضافة إلينا ، ثم قال تعالى :{  أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً *فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً  }الآيات 25- 27 من سورة عبس، وقال تعالى :{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }مريم 17 ، ثم قال تعالى :{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا}الأنبياء 91  ، والنافخ جبريل عليه السلام ، وقال تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }القيامة:17، والقارئ الذي يسمع النبي قراءته جبريل ، وقال تعالى :{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ  } الأنفال17.. { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى } الأنفال17 ، فنفى عنهم القتل وأثبته لنفسه ، ونفى عنه الرمي وأثبته لنفسه ، وليس المراد نفي الحس من قتلهم الكفار ورميه لهم عليه السلام بالحصباء ولكن المعنى أنهم ما قتلوهم ولا رموهم بالمعنى الذي يكون الرب به قتلهم ورماهم وهو الاختراع والتقدير إذ هما معنيان مختلفان ، وتارة ينسب الفعل إليهما معاً كقوله تعالى :{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}التوبة60.
        وروت عائشة – رضي الله عنها - : أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق الجنين يبعث ملكاً فيدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده ثم يصورها جسداً ، فيقول :يا رب ! أذكر أم أنثى ؟ أسوي أم معوج ؟ فيقول تعالى ما شاء ، ويخلق الملك ، وفي لفظ آخر : فيصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة .
        فإذا فهمت هذا اتضح لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة ولا تناقض بينهما ، ولذلك الفعل ينسب تارة للجماد كما في قوله تعالى :{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا }إبراهيم 25، فالشجرة لا يتأتى منها الإتيان بثمرها ، وكما في قوله صل الله عليه وسلم للذي ناوله تمرة : خذها لو لم تأتها لأتتك .. كما في الطبراني وابن حبان ، فإضافة الإتيان تختلف إلى الرجل وإلى التمرة ، فمعنى إتيان التمرة غير معنى إتيان الرجل ، فالإتيان منهما مجازان مختلفان في الاعتبار ، فمجاز إطلاق الإتيان على الرجل بمعنى أن الله خلق فيه القدرة والإرادة للإتيان بها .
        وإتيان التمرة بمعنى أن الله يسبب من يأتي بها ، والحقيقة إنما هي إضافة الإتيان إلى الله تعالى في كل منهما ، ولأجل اختلاف الاعتبار في الوسائط تارة تكون ملاحظة الوسائط في الأفعال كفراً كما في جواب قارون لموسى عليه السلام بقوله :{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}القصص:78 ، وكما في حديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وهذا الكفر باعتبار أن الواسطة مؤثرة ومخترعة ، قال النووي : اختلف العلماء في كفر من قال : مطرنا بنوء كذا على قولين :
        أحدهماهو كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج من ملة الإسلام ، قالوا : وهذا فيمن قال ذلك معتقداً أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم ، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره ، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء ، والشافعي منهم وهو ظاهر في الحديث ، قالوا : وعلى هذا لو قال : مطرنا بنوء كذا معتقداً أنه من الله تعالى وبرحمته وأن النوء ميقات لـه وعلامة اعتباراً بالعادة ، فكأنه قال : مطرنا في وقت كذا ، فهذا لا يكفر .
واختلفوا في كراهته لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها ، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره ، فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ، ومن سلك مسلكهم .
        والقول الثاني :في أصل تأويل الحديث : أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب ، وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب : أصبح من الناس شاكر وكافر ، وفي الرواية الأخرى : ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين . فقوله : بها يدل على أنه كفر النعمة ، والله أعلم اهـ .
        فأنت تراه قال باتفاق العلماء على أن من نسب الفعل إلى الواسطة لا يكفر إلا إذا اعتقد أنها هي الفاعلة المدبرة المخترعة ، وإذا لم تكن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار بحيث أن الواسطة علامة أو ظرف الخلق المقدور فيها فلا كفر ، بل تارة يندب الشرع إلى ملاحظتها كقول النبي صلى الله عليه وسلم Sad( من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه )) .وقوله صل الله عليه وسلم Sad(من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ..
        وذلك لأن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار لا ينافي رؤية المنة لله سبحانه وتعالى ، وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم بل وأثابهم عليها وهو الباعث لإرادتهم لها . والخالق لقدرتهم عليها كقوله تعالى :{ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص:44، وقوله تعالى :{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }يونس:26، وقـال تعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }الشمس 9.
وإذا ظهر لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت الفهم الصحيح السليم .
        فالمعاني أوسع من العبارات، والصدور أوسع من الكتب المؤلفات ، ولو وقفنا مع حقيقة اللفظ دون المجاز ، لم نجد إلى الجمع بين النصوص أو التفرقة من جواز ، ألا ترى إلى ما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله :{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ }إبرهيم :36 ، أترى أن إبراهيم يشرك مع الله تعالى الجماد وهو القائل :{ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }الصافات 95- 96 ، والأمر الجامع في ذلك أن من أشرك مع الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير فهو مشرك سواء كان الملحوظ معه جماداً أو آدمياً نبياً أو غيره ، ومن اعتقد السببية في شيء من ذلك اطردت أو لم تطرد ، فجعل الله تعالى لها سبباً لحصول مسبباتها ، وأن الفاعل هو الله وحده لا شريك له فهو مؤمن ، ولو أخطأ في ظنه ما ليس بسبب سبباً لأن خطأه في السبب لا في المسبب الخالق المدبر جل جلاله وعظم شأنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل الإنسان مخير أم مسير ؟
كان رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ يكره المراء في الدين ، والجدال بين المسلمين ، خاصة في المسائل العويصة التي تضيع الوقت ، وتبدد الجهد ، وتفرق الجمع ، ولا يتسنى للعقل البشري أن يقول فيها القول الفصل ، والرأي الذي لا ينقضه رأي ؛ لأنها فوق مستواه ، وأعلى من مداه.
        ومن هذه المسائل القدر، أو الإنسان مخير أم مسير ، مجبر أو مختار؟
        وقد جاءت أحاديثه الشريفة تبين ذلك :
        • عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : خرج رسول الله صل الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم ، وهم يتراجعون في القدر ، فخرج مغضبا حتى وقف عليهم فقال : " ياقوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضا ، ما عرفتم منه ، فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به " رواه الإمام أحمد.
        • وعن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله صل الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه ، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال : " أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" رواه الترمذي.
        • وقال عليه الصلاة والسلام : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل. ثم قرأ:"ما ضربوه لك إلا جدلا، بل هم قوم خصمون" رواه الترمذي.
        هكذا كانت توجيهاته صل الله عليه وسلم ؛ لأن هذه المسألة من المسائل التي تحير العقول ، وقد تحيرت العقول فعلا ، فتعددت فيها المذاهب، وتباينت فيها الآراء ، وهي في جملتها تكاد ترجع إلى رأيين :

        أولا ـ رأي الجبريين :

        وهم يرون أن الإنسان مجبر في أفعاله ، لا إرادة له ولا اختيار ، ولا قدرة ، إنه أشبه بالريشة المعلقة في الهواء ، تحركها الرياح كيف تشاء .
        واستدلوا على رأيهم بالعقل قالوا : لو كان للإنسان قدرة واختيار في خلق أفعاله ، لكان شريكا لله في الخلق ، وهذا مستحيل.
        واستعانوا ببعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى : { ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل (102) } [ الأنعام].
        وقوله سبحانه:{من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم(39)} [ الأنعام].

        ثانيا ـ رأي الاختيارين :

        وهم يرون أن الإنسان مختار في أفعاله الاختيارية بخلاف الاضطرارية التي لا دخل له فيها ، وله القدرة على تنفيذ ما اختاره وأراده .
        واستدلوا على رأيهم بالعقل فقالوا : لو لم يكن العبد مختارا ، وله قدرة على الفعل والترك ، لكان تكليفه بالشرع عبثا من الله ، والله منزه عن العبث، ولما استحق الإنسان المدح أو الذم على أفعاله ، والثواب أو العقاب عليها .
        واستعانوا ببعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف/29].
        وقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (Cool } [الزلزلة].
        وعرض المشكلة بهذه الصورة لا يمكن أن يوصل إلى الرأي الذي يطمئن إليه القلب ، ويقنع به العقل.

        وتأمل ما يقوله الدكتور/ عبد الحليم محمود رحمه الله :
        " لقد شغلت مسألة القدر ، أو الجبر والاختيار ، أو أفعال العباد عقول الإنسانية منذ أن كان الدين ، أي منذ ابتداء تاريخ الإنسان على ظهر الكرة الأرضية.
        وإذا أثيرت مسألة القدر في أي وسط كان ـ مهما كان قليل العدد ـ فإنها تقسمه إلى قسمين : يقول أحدهما بالجبر ، والآخر يقول بالاختيار.
        لقد آثارها اليهود في دينهم ، ففرقت بينهم ، وقال بعضهم بالجبر ، وقال الآخرون بالاختيار.
        وأثيرت في الديانة النصرانية على مجرى التاريخ ، فكان النزاع ، وكان الجدل ، وكان التحيز لرأي والتعصب له ، وانقسم رجال المسيحية إلى فريقين يختصمان.
        وأراد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يتلاقى انشقاق الأمة بسبب إثارة هذه المشكلة ، فكان ينهى دائما عن إثارتها ، وعن الجدال فيها.
        ومضى رسول الله صل الله عليه وسلم راضيا مرضيا ، وهو لا يسمح حتى النفس الأخير من حياته الشريفة بأن تثار هذه المسألة .
        ولم تثر هذه المسألة في عهد سيدنا أبي بكر لانشغال المسلمين بتوطيد دعائم الأمة الإسلامية منصرفين بذلك عن العبث في دين اله .
        وكانت درة سيدنا عمر كفيلة برد كل من تحدثه نفسه بإثارة هذه المشكلة إلى جادة الصواب.
        ومسألة القدر إذن من المتشابه ، إنها من أهم مسائل المتشابه.
        وهي فضلا عن ذلك عصية على الحل ، إنها ليست قابلة للحل، وهي ليست قابلة للحل سواء أثيرت في الشرق أو الغرب ، وسواء أثيرت في القديم أو الحديث ، أو أثيرت في البادية أو في الحضر ، إنها مفرقة بين الباحثين فيها، ومهما طال الجدل ، فسوف لا ينتهون إلى نتيجة ، ومن أجل ذلك كانت الروح الإسلامية العامة تحرم الخوض فيها .
        ومع ذلك فقد بدأت هذه المشكلة تتسلل شيئا فشيئا إلى المجتمع الإسلامي، حتى لقد احتلت يوما ما مركز الصدارة في الفكر الإسلامي النظري.
        ولقد مهدت السياسة أولا لهذا التسلل ، وكانت السياسة أول عامل من عوامل إفساد التفكير النظري الديني في المجتمع الإسلامي السليم ".

        هكذا وضح لنا أن هذه المسألة من الناحية العقلية :
        • عصية على الحل
        • مضيعة للوقت
        • مبددة للجهد
        • مفرقة للجمع
        ما الآيات القرآنية فيجب أن تفهم على ضوء أن الإنسان يحيا بين جبر واختيار وأن الخالق قد منحه إرادة بها كان التكليف ، وعليها يكون الجزاء، ولا يعني أن الله يعين الإنسان على اختياره عدم مسئوليته عما يفعل.
        ويحدث الخطأ في فهم الآيات القرآنية عندما تؤخذ آية ، وتغفل أخرى ، أو يستدل بجزء من آية ، ولا يلتفت إلى باقيها ، ومن المعلوم أن القرآن يفسر بعضه بعضا .
        فإذا أردنا أن نفهم مثلا قوله تعالى : { من يضلل الله فما له من هاد(36)ومن يهد الله فما له من مضل } [الزمر/36ـ37] . فلابد أن يكون فهمنا لهذه الآية في ضوء الآيات الأخرى .
        فنفهم قوله تعالى : { من يضلل الله فما له من هاد } في ضوء قوله تعالى :
        • { ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)} [ابراهيم]
        • { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب(34)} [غافر]
        • { كذلك يضل الله الكافرين (74)} [غافر]
        ونفهم قوله تعالى : { ومن يهد الله فما له من مضل } في ضوء قوله تعالى :
        • { والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم (17)} [محمد]
        • { إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } [يونس/9].
        وإذا أردنا أن نفهم قوله تعالى :{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} [الأنعام/125] فعلينا أن نتنبه إلى نهاية هذه الآية ، وهي قوله تعالى : {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)} فعدم إيمانهم ، ورفضهم الإسلام باختيارهم ، كان السبب في جعل الرجس عليهم ، فكان الضيق والحرج في الصدور نتيجة لذلك.
        بهذا القدر يجب أن تبحث مسألة الجبر والاختيار ، أو الإنسان مخير أم مسير، ولا داعي للتنطع ، والتقعر طالما أن هذه المسألة عصية على الحل العقلي المجرد .
        ولذلك لما جاء رجل إلى سيدنا على بن أبي طالب يقول : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر . قال : طريق دقيق. لا تمش فيه . قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر. قال : بحر عميق . لا تخض فيه . قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر. قال : سر خفى لله لا تفشه . ويقول الإمام علي رضى الله عنه : " إن الله أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا، وكلف تيسيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السموات والأرض باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار" .
        وقال الإمام أبو حنيفة عن القدر : " هذه مسألة قد استعصت على الناس، فأنى يطيقونها . هذه مسألة مقفلة ، قد ضل مفتاحها " .
        ويقول الإمام جعفر الصادق رحمه الله : "إن الله تعالى أراد بنا شيئا ، وأراد منا شيئا ، فما أراده بنا طواه عنا ، وما أراده منا أظهره لنا ، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا " .
        ويقول:" الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس ، كلما ازداد نظرا ازداد حيرة " .
        وعن وهب بن منبه أنه قال :" نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به".
        ونختم هذا البحث بحديث لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول فيه :
        " إذا ذكر القدر فأمسكوا " رواه الطبراني ، ورمز له السيوطي بالحسن .
        هذا التوجيه النبوي الشريف هو الفصل ـ فيما نرى ـ في مسألة (الإنسان مخير أم مسير ) والله أعلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:55 pm

المجاز العقلي واستعمـاله


        لا شك أن المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة ، فمن ذلك قوله تعالى:{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً  }الأنفال :2، فإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقلي لأنها سبب في الزيادة ، والذي يزيد حقيقة هو الله تعالى وحده .وقوله تعالى :{  يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}المزمل:17  ، فإسناد الجعل إلى اليوم مجاز عقلي ، لأن اليوم محل جعلهم شيباً فالجعل المذكور واقع في اليوم ، والجاعل حقيقة هو الله تعالى ، وقوله تعالى :{وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً}نوح:23  ، فإن إسناد الإضلال إلى الأصنام مجاز عقلي لأنها سبب في حدوث الإضلال ، والهادي والمضل هو الله تعالى وحده . وقوله تعالى حكاية عن فرعون :{ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً } غافر:26، فإسناد البناء إلى هامان مجاز عقلي لأنه سبب فهو آمر يأمر ولا يبني بنفسه ، والباني إنما هم الفعلة ((من العمال)) .
وأما الأحاديث ففيها شيء كثير يعرفه من وقف عليها ، وكان ممن يعرف الفرق بين الإسناد الحقيقي والمجازي فلا حاجة إلى الإطالة بنقلها ، وقال العلماء : إن صدور ذلك الإسناد من موحد كاف في جعله إسناداً مجازياً لأن الاعتقاد الصحيح هو اعتقاد أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده فهو الخالق للعباد وأفعالهم لا تأثير لأحد سواه لا لحي ولا لميت فهذا الاعتقاد هو التوحيد المحض ، بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك .
ضرورة ملاحظة النسبة المجازية في مقياس الكفر والإيمان        وقد تمسكت طوائف من أهل الضلالات بذيل شبهة ظواهر الألفاظ دون نظر إلى القرائن والمقاصد وبدون نظر إلى الجمع بما لا يؤدي إلى التعارض بين الوارد كالقائلين بخلق القرآن تمسكوا بنحو قوله تعالى:{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} الزخرف:3 ، والقائلين بالقدر تمسكوا بنحو قوله تعالى :{ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }... إلى غير ذلك ، والقائلين بالجبر تمسكوا بنحو قوله تعالى :{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }الصافات 96، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى }الأنفال17 وكشف الغطاء عن ذلك أن جميع الأمة غير القدرية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ، وقوله تعالى :{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى }، وإن كان يجوز أن يوصف بها العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب كما في قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }البقرة:286 ، وقوله تعالى : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }الشورى:30 إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بإضافة الكسب إلى العبد ، وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط لأن قدرة الله تعالى في الأزل كانت متعلقة بالعالم قبل اختراعه تعالى لوجوده ، وهي عند اختراعه متعلقة به بنوع آخر من التعلق






القضاء والقدر

تعريف القضاء والقدر
القضاء : إرادة الله تعالى للأشياء في الأزل حسب علمه ، وكتابه ذلك في اللوح المحفوظ.

        والقدر : إيجاده تعالى للأشياء طبقا لما علمه أزلا وأراده .

        فالقضاء في الأزل ، والقدر فيما لا يزال ؛ لأن القضاء وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ مجتمعة ، والقدر وجودها في أوقاتها التي حددها الحق لها بأوصافها ومقاديرها وشروطها .

        والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن الأمور التالية :ـ
        1- الإيمان بعلمه تعالى بما سيكون قبل أن يكون .
        2- الإيمان بمشيئته العامة ، وإرادته الشاملة لكل الموجودات.
        3- الإيمان بكتابته كل شئ في اللوح المحفوظ.
        4- الإيمان بإيجاد تعالى لكل المخلوقات حسب علمه ، وإرادته ، وكتابته

القضاء في القرآن الكريم
        وردت مادة ( القضاء ) في القرآن في (63) موضعا تدور حول عدة معان منها :

        1ـ جاءت بمعنى الإرداة .قال تعالى:{ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون(47)} [ آل عرمان] أي إذا أراد أمرا .

        2ـوجاءت بمعنى الحكم . قال تعالى : { والله يقضي بالحق }[غافر/20] أي : يحكم .
        وقال سبحانه : { فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط } [ يونس/47] أي : حكم.

        3ـ وجاءت بمعنى الخلق . قال تعالى : { فقضاهن سبع سموات في يومين } [فصلت/12] أي : خلقهن.

        4ـ وجاءت بمعنى الأداء. قال تعالى : { فإذا قضيتم الصلاوة } [النساء/103]
        وقال تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة /200] أي : أديتم .

        5ـ وجاءت بمعنى الإخبار . قال تعالى : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } [ القصص/44] أي أخبرناه .

        6ـ وجاءت بمعنى الإتمام والإكمال . قال تعالى : { فلما قضى موسى الأجل } [القصص/29]أي أتمه .
        وقال تعالى :{ ليقضي الله أمرا كان مفعولا }الأنفال/42] أي : يتمه .

        7ـ وجاءت بمعنى الموت أو القتل . قال تعالى : { فوكزه موسى فقضى عليه } [القصص/15] أي : قتله .
        وقال تعالى : { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } [الزخرف/77] أي : يميتنا .

        8ـ وجاءت بمعنى التقدير والتحديد . قال تعالى : { ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)} [مريم] أي أمرا مقدرا محددا.
        وقال تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) } [مريم]
        وقال : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا } [ الأنعام/2].
القدر فى القرآن الكريم
        وردت مادة ( القدر) في القرآن في (131) موضعا . تدور حول عدة معان .. منها :

        1ـ وردت بمعنى العظمة والشرف .
        قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر (1)} [القدر]
        وقال سبحانه { وما قدروا الله حق قدره } [ الأنعام/91] أي : وما عظموه.

        2ـ ووردت بمعنى التضييق .
        قال تعالى : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } [الأنبياء/87] أي لن نضيق عليه .
        وقال { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}[الرعد/26]
        وقال:{وأما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه}[الفجر/16]أي:ضيق.

        3ـ ووردت بمعنى العلم . قال تعالى : { إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين (60)} [الحجر] أي : علمنا.

        4ـ ووردت بمعنى القدرة . قال تعالى : { فقدرنا فنعم القادرون (23)} [المرسلات] .
        وقال تعالى : { أيحسب أن لن نقدر عليه (5) } [البلد].

        5ـ ووردت بمعنى المقدار . قال تعالى : { قد جعل الله لكل شئ قدرا (2)} [الطلاق] .
        وقال : { إنا كل شئ خلقناه بقدر (49) } [القمر] .
        وقال : { وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21) } [الحجر] .

        6ـ وجاءت بمعنى القضاء والكتابة في اللوح المحفوظ . قال تعالى : { وكان أمر الله قدرا مقدورا (38)} [الأحزاب] .
        وقال : { فالتقى الماء على أمر قد قدر(12)}[القمر] .
        وقال : { نحن قدرنا بينكم الموت } [الواقعة/60] .
        وقال : { ثم جئت على قدر يا موسى (40)} [طه].

حكم الإيمان بالقضاء والقدر
        الإيمان بالقضاء والقدر واجب ؛ لأنه الركن السادس من أركان الإيمان التي حددها الرسول صل الله عليه وسلم ـ عندما أجاب جبريل عن معنى الإيمان . ومن الآيات القرآنية التي تشير إلى القضاء والقدر وكتابته في اللوح المحفوظ :
        • { وكل شئ أحصيناه في إمام مبين (12) } [يس]
        • { إنه لقرءان كريم (77) في كتاب مكنون (78) } [ الواقعة ].
        • { بل هو قرءان مجيد (21) في لوح محفوظ (22) } [البروج].
        • { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } [ التوبة /51].
        • { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } [الحديد/22].

        ومن الأحاديث النبوية التي تبين ضرورة الإيمان بالقضاء والقدر :ـ

        1ـ قال عبادة بن الصامت لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب. قال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شئ حتى تقوم الساعة " يا بنيى إني سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول : " من مات على غير هذا فليس مني" رواه أبو داود.

        2ـ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ : " كل شئ بقدر حتى العجز والكيس " رواه مسلم العجز : الضعف ، والكيس : النشاط.

        3ـ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : حدثنا رسول الله صل الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بكتب أربع كلمات : يكتب رزقه ، وأجله ، وعلمه ، وشقي أو سعيد . فوالله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها " متفق عليه .

        4ـ وعن أبي العباس عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال : كنت خلف النبي صل الله عليه وسلم فقال : يا غلام ، أعلمك كلمات . احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشئ . لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك . وإن اجتمعت على أن يضروك بشئ . لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك . رفعت الأقلام ، وجفت الصحف" رواه الترمذي.

هل يجوز الاحتجاج بالقدر ؟
        الاحتجاج بالقدر منه ما هو جائز شرعا ، ومنه ما هو ممنوع :

        أولا ـ الاحتجاج الجائز : ـ
        يجوز الاحتجاج بالقدر في الحالات التي لا يكون فيها إبطال للشرع ، ولا معارضة له . وذلك بأن يكون الاحتجاج بالقدر بعد وقوع الذنب ، وبعد التوبة منه ، فيكون في ذكر القدر عندئذ اعتراف به ، وتثبيت للإيمان به ، فيكون من باب الإخبار بالواقع فقط .
        ومن هذا النوع ما روى في الصحيح : " عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حاج آدم موسى فقال : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة وأشقيتهم ؟ قال : فقال آدم لموسى : أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني ؟ أو قدر على قبل أن يخلقني ؟ قال رسول الله صل الله عليه وسلم : فحج آدم موسى " .
        هنا أقر سيدنا محمد احتجاج آدم بالقدر، وحكم له بمحاجة موسى ؛لأن احتجاج آدم بالقدر كان بعد وقوع المعصية ، وبعد التوبة منها . قال تعالى : { وعصى ءادم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) } [طه].
        وليس في احتجاج آدم بالقدر معارضة للشرع.
        ومن هذا النوع أيضا احتجاج علي بن أبي طالب بالقدر في ترك قيام الليل ، عندما طرقه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وفاطمة ليلا ، فقال : ألا تصلون فقال على : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله . فإن شاء أن يبعثها بعثها ، فانصرف رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ ولم يرجع إليه شيئا ، وأخذ يضرب فخذه ويقول : "وكان الإنسان أكثر شئ جدلا".
        فعلي رضي الله عنه لم يحتج بالقدر على ترك الواجب ، ولا فعل محرم . إنما قال : إن نفسه ونفس فاطمة بيد الله ، فإذا شاء أن يوقظهما ويبعث انفسهما بعثهما . وهذا موافق لقول رسول الله صل الله عليه وسلم ليلة ناموا في الوادي : "إن الله قبض أرواحنا حيث شاء ، وردها حيث شاء " وهذا احتجاج صحيح . صاحبه يعذر فيه ، فالنائم غير مفرط ، واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح.
        وقد أرشد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع الاحتجاج به . فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شئ ، فلا تقل : لو أني فعلت . لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله . وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان".

        ثانيا ـ الاحتجاج الممنوع : ـ
        هو الاحتجاج بالقدر في حال ارتكاب الذنب ، والإصرار عليه ، أو في حال العزم على فعله في المستقبل ، أو في حال ترك الأمر الواجب ، أو العزم على تركه.
        ومن هذا النوع احتجاج المشركين والكفار بالقدر تبريرا لشركهم وكفرهم ، وقد ذكر القرآن زعمهم ، واستنكر صنيعهم . قال تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)} [الأنعام].
        وقال تعالى : { وقالوا لو شاء الله ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20)} [الزخرف].
        هكذا أنكر الله عليهم احتجاجهم بالقدر ، وزعمهم أن مشيئة الله الشرك دليل على رضاه منهم ، فعارضوا الشرع بذكر القضاء والقدر ، ولم يذكروه على جهة الإقرار به ، والإذعان له .
        وقد احتج سارق على عمر رضى الله عنه بالقضاء والقدر . وقال : أنا سرقت بقضاء الله وقدره . فقال عمر : وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره .


فوائد الإيمان بالقضاء والقدر
        1ـ لقد كان إيمان المسلمين بعقيدة القضاء والقدر سببا في تقدمهم في جميع مجالات الحياة، حتى سادوا الدنيا كلها في مدة وجيزة أشبه ما تكون بالأحلام، ويوم أن ضعف الإيمان بعقيدة القضاء والقدر تأخر المسلمون ، وأصبح حالهم على ما نراه الآن.
        هذه حقيقة لابد من الإلمام بها ، والانتباه إليها ، والوقوف لدراستها.
        إن إيمان المسلم بأن ما شاء الله كان ، وما قدر فعل ، وإيمانه بتحديد الآجال ، وضمان الأرزاق ، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، إن إيمانه بذلك دفعه إلى الإقدام والشجاعة ، والجرأة والبسالة ، فكان المسلمون رهبانا في الليل ، فرسانا بالنهار، لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها !!
        قيل لقتيبة بن مسلم : إنك توغلت في أرض الترك ، والأيام على جناح طائر، فقال : بثقتي بالله تقدمت ، وإذا انتهت المدة ، لم تنفع العدة !!
        إن إيمان خالد بن الوليد بالقضاء والقدر هو الذي جعله يحقق هذه البطولات العظيمة ، وهذه الانتصارات الضخمة في مدة قصيرة ، تشبه المعجزات ، فلا مجال للخوف أو الجبن ، أو الفزع أو الحزن . فقول الحق : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، هو مولانا ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون } كان شعاره .
        ورغم هذه الجسارة الفريدة من ابن الوليد لم يمت وسط المعارك ، إنما مات على فراشه وهو يردد قولته المشهورة : " لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبع إلا وفيه ضربة بسيف ، أو رمية بسهم ، أو طعنة برمح ، وهآنذا أموت على فراشي حتف أنفي ، فلا نامت أعين الجبناء " (1).

        2ـ وكان لعقيدة القضاء والقدر الأثر الواضح في نبوغ علماء المسلمين في فروع العلم المختلفة ، فماذا يمنع المسلم من أن يغامر ويلاحظ ، وأن يجرب ويختبر، ويقضي الساعات الطويلة في المعامل ، ووسط الأجهزة والمخابر، ليكتشف سنن الله في كونه بعزيمة قوية ، لا تعرف التردد ، لإيمانه بأن أمر المؤمن كله خير ؛ كما قال صل الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له " (2).
        وكان نتيجة ذلك أن ظهر أمثال : (جابر بن حيان) في مجال الكيمياء ، فهو أول من استحضر حامض الكبريتيك ، واكتشف حامض النيتريك ، والصودا الكاوية، واستخدم ثاني أوكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج.
        وأمثال (الحسن بن الهيثم ) أستاذ البصريات الذي ألف في الرياضة خمسة وعشرين كتابا ، وفي الطبيعة أربعة وأربعين كتابا .
        وأمثال ( البييروني) الذي يقول عنه المستشرق الألماني سخاو : "البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ ، فقد كان أديبا متعمقا في الرياضيات ، والفلك ، والتاريخ".
        وأمثال : ابن سينا في الطب ، وابن البيطار في الصيدلة ، والخازن في الضوء ، واليوزجاني وابن يونس وعباس بن فرناس في الفلك ، والخوارزمي وابن فضلان والمسعودي والمقدسي في الجغرافيا والطيران.
        وأمثال : موسى بن نصير أول من اخترع الدبابة ، وابن خلدون المؤرخ الذي أسس علم الاجتماع ، وعلم الاقتصاد.

        3ـ وكانت هذه العقيدة سببا في الهدوء النفسي ، والطمأنينة القلبية ، فلم يظهر ما يسمى بالعقد النفسية ، أو الأمراض العصبية ، أو حوادث الانتحار ، وقارن ذلك بما تقرأه عن الدول الأوربية والأمريكية التي تدعي الحضارة والعصرية.
        إن المسلم بإيمانه بهذه العقيدة نراه متفائلا دائما ، راضيا بما قسم ، لا يعرف التشاؤم سبيلا إلى قلبه ، ولا اليأس طريقا إلى نفسه ، ولا يملك التحسر على ما فاته من أمور الدنيا عليه كيانه ، فيشل حركته ، ويميت نشاطه ؛ لأنه يضع نصب عينيه قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)} [ البقرة ]

        4ـ والإيمان بعقيدة القضاء والقدر يدفع المسلم لأن يكون كريما سخيا جوادا ودودا، ولهذا أثره في تكافل المجتمع وتمساك كيانه .

================

        المراجع والهوامش
1ـ السيرة النبوية للشيخ عبد المقصود نصار ، والشيخ الطيب النجار 4/70.
2ـ رواه مسلم في الزهد 4/2295


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول الإمام محمد عبده
        قضت سنة الله فى خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانًا على الأعمال البدنية , فما يكون فى الأعمال من صلاح أو فساد ، فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها , على ما بينا فى بعض الأعداد الماضية , ورُب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها عقائد ومدركات أخرى , ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها فى النفس , ورُب أصل من أصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس فى تعليم أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباه على فهم السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها , وتصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد شيء مما تصادفه , وفى كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرها , وربما تتبعها عقائد فاسدة مبنية على الخطأ فى الفهم أو على خبث الاستعداد فتنشأ عنها أعمال غير صالحة , وذلك على غير علم من المعتقِد كيف اعتقد ، ولا كيف يصرفه اعتقاده , والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن الاعتقاد بذلك الأصل وتلك القاعدة .
        ومن مثل هذا الانحراف فى الفهم وقع التحريف والتبديل فى بعض أصول الأديان غالبًا , بل هو علة البدع فى كل دين على الأغلب , وكثيرًا ما كان هذا الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال حتى أفضى بمن ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير , وهذا ما يحمل بعض من لا خبرة لهم على الطعن فى دين من الأديان أو عقيدة من العقائد الحقة استنادًا إلى أعمال بعض السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة .
        من ذلك عقيدة القضاء والقدر التى تعد من أصول العقائد فى الديانة الإسلامية الحقة , كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون , وزعموا أنها ما تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة , وحكَّمت فيهم الضعف والضعة , ورموا المسلمين بصفات , ونسبوا إليهم أطوارًا , ثم حصروا علتها فى الاعتقاد بالقدر .
        قالوا : إن المسلمين فى فقر وفاقة وتأخر فى القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم , وقد نشأ فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة , وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم , وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون , ثم لا ينافسون غيرهم فى فضيلة , ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر فى إلحاق الضرر به , فجعلوا بأسهم بينهم , والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى .
        رضوا بكل عارض , واستعدوا لقبول كل حادث وركنوا إلى السكون فى كسور بيوتهم يسرحون فى مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم . الأمراءُ فيهم يقطعون أزمنتهم فى اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات وعليهم حقوق وواجبات تستغرق فى أدائها أعمارهم ولا يؤدون شيئًا منها . يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافًا وتبذيرًا , نفقاتهم واسعة ولكن لا يدخل فى حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة .
        يتخاذلون ويتنافرون وينيطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية , فرب تنافر بين أميرين يضيع أمة كاملة , كل منهما يخذل صاحبه ويستعدي عليه جاره فيجد الأجنبى فيهما قوة فانية وضعفًا قاتلاً ، فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددًا ولا عُدة . شملهم الخوف وعمهم الجبن والخور , يفزعون من الهمس ويألمون من اللمس . قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم فى العزة والشوكة , وخالفوا فى ذلك أوامر دينهم مع رؤيتهم لجيرانهم ، بل الذين تحت سلطتهم يتقدمون ويباهونهم بما يكسبون , وإذا أصاب قومًا من إخوانهم مصيبة أو عَدَت عليهم عادية لا يسعون فى تخفيف مصابهم , ولا ينبعثون لمناصرتهم , ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا جهرية ولا سرية يكون من مقاصدها إحياء الغيرة وتنبيه الحمية ومساعدة الضعفاء وحفظ الحق من بغى الأقوياء وتسلط الغرباء .
        هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار , وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية , وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة ولن ينالوا عزًّا ولن يعيدوا مجدًا , ولا يأخذون حقًّا ولا يدفعون تعديًا , ولا ينهضون بتقوية سلطان أو تأييد ملك , ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم ويركس من طباعهم حتى يؤدي بهم إلى الفناء والزوال ( والعياذ بالله ) يفني بعضهم بعضًا بالمنازعات الخاصة , وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب .
        واعتقد أولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله , وتوهموا أن المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما تميل , ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا سكون - وإنما جميع ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة - فلا ريب تتعطل قواهم , ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى , وتمحى من خواطرهم داعية السعي والكسب , وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم .
        هكذا ظنت طائفة من الإفرنج , وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في المشرق , ولست أخشى أن أقول كذب الظان وأخطأ الواهم وأبطل الزاعم وافتروا على الله والمسلمين كذبًا . لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي وزيدي ووهابي وخارجي يرى مذهب الجبر المحض , ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة , بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاءً اختياريًّا في أعمالهم , ويسمى بالكسب وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم , وأنهم محاسبون
بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري , ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية والنواهي الربانية الداعية إلى كل خير الهادية إلى كل فلاح , وأن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي , وبه تتم الحكمة والعدل .
        نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارًا لا يشوبه اختيار , وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته , ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة , وقد انقرض أرباب هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر . وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر هو عين الاعتقاد بالجبر ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد كما ظنه أولئك الواهمون .
        الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع , بل ترشد إليه الفطرة , ويسهل على كل من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان , وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه , ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها , وأن لكل منها مدخلاً ظاهرًا فيما بعده بتقدير العزيز العليم . وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة , وليست الإرادة إلا أثرًا من آثار الإدراك , والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس , وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات , فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله فضلاً عن عاقل , وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهر مؤثرة إنما هي بيد مدبر الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته , وجعل كل حادث تابعًا لشبهه كأنه جزء له ، خصوصًا في العالم الإنساني .
        ولو فرضنا أن جاهلاً ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم فليس في إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والتأثيرات الدهرية في الإرادات البشرية , فهل يستطيع إنسان أن يخرج بنفسه عن هذه السنة التي سنها الله في خلقه ؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلاً عن الواصلين , وإن بعضًا من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجأوا إلى الخضوع لسلطة القضاء وأطالوا البيان في إثباتها , ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم .
        إن للتاريخ علمًا فوق الرواية عني بالبحث فيه العلماء من كل أمة , وهو العلم الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار , بل في خصائص الإحساس الباطن والوجدان , وما يتبع ذلك كله من نشأة الأمم وتكوُّن الدول أو فناء بعضها واندراس أثره .
هذا الفن الذي عدوه من أجلِّ الفنون الأدبية وأجزلها فائدة ، بناء البحث فيه على الاعتقاد بالقضاء والقدر والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مدبر للكائنات ومصرف للحادثات , ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع ولا ضعف قوي , ولا انهدم مجد ولا تقوض سلطان .
        الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفات الجراءة والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة , ويبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب الأُسود , وتنشق منها مرائر النمور . هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال , ويحليها بحلي الجود والسخاء , ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها , بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة ، كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة . الذي يعتقد بأن الأجل محدود , والرزق مكفول , والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء ؛ كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته أو ملته , والقيام بما فرض الله عليه من ذلك ؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد على حسب الأوامر الإلهية وأصول الاجتماعات البشرية ؟ .
        امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته في قوله الحق : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } ( آل عمران : 173-174 ) اندفع المسلمون في أوائل نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلطون عليها فأدهشوا العقول وحيروا الألباب بما دوخوا الدول وقهروا الأمم , وامتدت سلطتهم من بلاد بيريني الفاصلة بين أسبانيا و فرنسا إلى جدار الصين مع قلة عددهم وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة وطبائع الأقطار المتنوعة . أرغموا الملوك وأذلوا القياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة .
        إن هذا ليُعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات . دمروا بلادًا ودكدكوا أطوادًا , ورفعوا فوق الأرض أرضًا ثانية من القسطل وطبقة أخرى من النقع , وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم وأقاموا بدلها جبالاً وتلالاً من رؤوس النابذين لسلطانهم , وأرجفوا كل قلب وأرعدوا كل فريصة , وما كان قائدهم وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر .
هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء ويضيق بها بسيط الغبراء ، فكشفوهم عن مواقعهم وردوهم على أعقابهم .
        بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق , وانقضت شهبها على الحيارى في هبوات الحروب من أهل المغرب , وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم لا يخشون فقرًا ولا يخافون فاقة . هذا الاعتقاد هو الذي سهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى ساحات القتال في أقصى بلاد العالم كأنما يسيرون إلى الحدائق والرياض , وكأنهم أخذوا لأنفسهم بالتوكل على الله أمانًا من كل غادرة وأحاطوها من الاعتماد عليه بحصن يصونهم من كل طارقة , وكان نساؤهم وأولادهم يتولون سقاية جيوشهم وخدمتها فيما تحتاج إليه ، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال والكهول إلا بحمل السلاح , ولا تأخذ النساء رهبة وتغشى الأولاد مهابة . هذا الاعتقاد هو الذي ارتفع بهم إلى حد كان ذكر اسمهم يذيب القلوب , ويبدد أفلاذ الأكباد حتى كانوا يُنصرون بالرعب يُقذف به في قلوب أعدائهم فينهزمون بجيش من الرهبة قبل أن يشيموا بروق سيوفهم ولمعان أسنتهم ، بل قبل أن تصل إلى تخومهم أطراف جحافلهم ( بكائي على السالفين , ونحيبى على السابقين .
        أين أنتم يا عصبة الرحمة وأولياء الشفقة . أين أنتم يا أعلام المروءة وشوامخ القوة . أين أنتم يا آل النجدة وغوث المضيم يوم الشدة . أين أنتم يا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر . أين أنتم أيها الأمجاد الأنجاد القوَّامون بالقسط الآخذين بالعدل الناطقون بالحكمة المؤسسون لبناء الأمة . ألا تنظرون من خلال قبوركم إلى ما أتاه خَلَفكم من بعدكم , وما أصاب أبناءكم ومن ينتحل نحلتكم . انحرفوا عن سُنتكم , وجاروا عن طريقكم فَضَلُّوا عن سبيلكم , وتفرقوا فرقًا وأشياعًا حتى أصبحوا من الضعف على حال تذوب لها القلوب أسفًا . وتحترق الأكباد حزنًا . أضحوا فريسة للأمم الأجنبية لا يستطيعون ذودًا عن حوضهم , ولا دفعًا عن حوزتهم .
        ألا يصيح من برازخكم صائح منكم ينبه الغافل ويوقظ النائم , ويهدي الضال إلى سواء السبيل . إنا لله وإنا إليه راجعون ) .
        أقول - وربما لا أخشى واهمًا ينازعني فيما أقول - : إنه من بداية تاريخ الاجتماع البشري إلى اليوم ما وجد فاتح عظيم ولا محارب شهير نبت في أواسط الطبقات ثم رقي بهمته في أعلى الدرجات فذللت له الصعاب وخضعت الرقاب , وبلغ من بسطة الملك ما يدعو إلى العجب ويبعث الفكر على طلب السبب - إلا كان معتقدًا بالقضاء والقدر . سبحان الله ! الإنسان حريص على حياته شحيح بوجوده على مقتضى الفطرة والجِبِلة , فما الذي يهوّن عليه اقتحام المخاطر وخوض المهالك ومصارعة المنايا ، إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر , وركون قلبه إلى أن القدر كائن ولا أثر لهول المظاهر .
        أثبتت لنا التواريخ أن كورش الفارسي ( كيخسرو ) وهو أول فاتح يعرف في تاريخ الأقدمين ما تسنى له الظفر في فتوحاته الواسعة إلا لأنه كان معتقدًا بالقضاء والقدر , فكان لهذا الاعتقاد لا يهوله هول , ولا توهن عزيمته شدة , وأن إسكندر الأكبر اليوناني كان ممن رسخ في نفوسهم هذه العقيدة الجليلة , و جنكيز خان التتري صاحب الفتوحات المشهورة كان من أرباب هذا الاعتقاد , بل كان نابليون الأول بونابرت الفرنساوي من أشد الناس تمسكًا بعقيدة القضاء , وهي التي كانت تدفعه بعساكره القليلة على الجماهير الكثيرة , فيتهيأ له الظفر وينال بغيته من النصر .
        فنعم الاعتقاد الذي يطهِّر النفوس الإنسانية من رذيلة الجبن وهو عائق للمتدنس به عن بلوغ كماله في طبقته أيًّا كانت . نعم إننا لا ننكر أن هذه العقيدة قد خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائب من عقيدة الجبر , وربما كان هذا سببًا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتهم بها في الأعصر الأخيرة , ورجاؤنا في الراسخين من علماء العصر أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع , ويذكِّروا العامة بسنن السلف الصالح وما كانوا يعملون , وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا - رضي الله عنهم - كالشيخ الغزالي وأمثاله من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في العمل لا في البطالة والكسل , وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا وننبذ ما أوجب علينا بحجة التوكل عليه , فتلك حجة المارقين عن الدين الحائدين عن الصراط المستقيم .
        ولا يرتاب أحد من أهل الدين الإسلامي في أن الدفاع عن الملة في هذه الأوقات صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلف , وليس بين المسلمين وبين الالتفات إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم وترد إليهم عزيمتهم وتنهض غيرتهم لاسترداد شأنهم الأول - إلا دعوة خيرٍ مِن علمائهم وأن جميع ذلك موكول إلى ذمتهم .
        أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة ( ولا غيرها من العقائد الإسلامية ) ونسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه , بل أشبه ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار .
        نعم حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر وثمل من العز والغلب ,وفاجأهم وهم على تلك الحال صدمتان قويتان : صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده , وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوربية بأسرها على ديارهم , وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة , وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله وولي على أمورهم من لا يحسن سياستها , وكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم , وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم ؛ فتمكن الضعف من نفوسهم , وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذته الآنيَّة , وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر , ويلتمس له السوء من كل باب لا لعلة صحيحة ولا داعٍ قوي , وجعلوا هذا ثمرة الحياة ؛ فآل الأمر بهم إلى الضعف والقنوط وأدى إلى ما صاروا إليه .
        ولكني أقول - وحق ما أقول - : إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم , ورسومها تلوح في أذهانهم , وحقائقها متداولة بين العلماء الراسخين منهم , وكل ما عرض عليها من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي فلابد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ , وينشطوا من عقالهم , ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم وإرهاب الأمم الطامعة فيهم وإيقافها عند حدها , وما ذلك ببعيد , والحوادث التاريخية تؤيده , فانظر إلى العثمانيين الذين نهضوا بعد تلك الصدمات القوية ( حروب التتر , والحروب الصليبية ) وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم , واتسعت لهم ميادين الفتوحات , ودوخوا البلاد وأرغموا أنوف الملوك , ودانت لسلطانهم الدول الإفرنجية حتى كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر .
        ثم ارجع البصر , تجد هزةً في نفوسهم , وحركةً في طباعهم أحدثها فيهم ما توعدتهم به الحوادث الأخيرة من رداءة العاقبة وسوء المنقلب . حركة سرت في أفكار ذوي البصيرة منهم أغلب الأنحاء شرقًا وغربًا , وتألفت من خيارهم عصبات للحق كتبت على نفسها نصرة العدل والشرع والسعي بغاية الجهد لبث أفكارهم , وجمع الكلمة المتفرقة وضم الأشتات المتبددة , وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر جريدة عربية لتصل بما يكتب فيها بين المتباعدين منهم , وتنقل إليهم بعض ما يضمره الأجانب لهم , وإنا نرى عدد الجمعية الصالحة يزداد يومًا بعد يوم .
        نسأل الله تعالى نجاح أعمالها وتأييد مقصدها الحق , ورجاؤنا من كرمه أن يترتب على
حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين عمومًا وللمسلمين خصوصًا .
====================================================
... ... ... ... ... ... ... ... ... ( العروة الوثقى ) نقلا عن مجلة المنار 3/265

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 9:56 pm

شبهات الملاحدة فى إنكارهم وجود الله

شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى

1- دليل الجاذبية     
    من شبههم على نفي وجود الإله الخالق الحافظ لهذا الكون ما زعموه بعد اكتشاف نظام الجاذبية في علم الفلك من أن هذا الكون محفوظ بقانون الجاذبية ومتماسك بسببها لا بقدرة إله خالق ولا شك أن هذا الفهم تافه سخيف إذ يقال لهم هل نظام الجاذبية ينفي وجود إله خالق قادر، أم أنه على العكس يدل على وجود الإله سبحانه وتعالى الذي خلق الجاذبية ذاتها لتعمل وفق ما أراد وقدر لا وفق ما تريد هي، إذ لا إرادة لها ولا وجود لها من نفسها فهي قد وجدت بعد أن لم تكن، وهذا الترتيب العجيب في الكون يفوق كل قدرة ويفوق كل تدبير لقد حير العقول وتضاءلت دون إدراكه الأفهام، فكيف ينسب هذا كله إلى الجاذبية المحدثة المخلوقة؟ كما أن كثيرا من الملاحدة – كما تقدم – يعترفون بعجزهم عن الوصول عن طريق الأبحاث والتجارب إلى معرفة أسرار كثير من الحقائق المشاهدة في هذا الكون وهذا الإقرار يلزمهم أن يقروا أيضا بحقيقة الإله، بل وحقيقة الدين لأنه يشتمل على كثير من الحقائق التي لا يصل العقل إلى معرفتها لا عن طريق البحث ولا عن طريق التجارب فكيف ساغ لهم الإيمان بأن لبعض الحقائق المشاهدة حقائق باطنية عجز العلم عن معرفتها بينما ينفون وجود الإله وحقيقة الدين بحجة أن الدين قائم على أمور لا تدرك حقيقتها الباطنية عن طريق البحث والتجربة، هذا تناقض واضح وتفريق بلا مستند.

2- دليل الارتقاء
        من شبههم التي استندوا عليها في إلحادهم في الله تعالى قضية الارتقاء. أي ارتقاء المخلوقات وتطورها في خلقها تلقائيا وهذه القضية رغم وضوحها في الدلالة على وجود الله تعالى وقدرته ومشيئته ورحمته بخلقه إلا أنهم نظروا لها من جانب آخر بعيد عن الفهم السليم والعقل المستقيم فزعموا أن أنواع الحياة قد وجدت نتيجة لعمل الارتقاء لافتراضهم أنه على فرض وجود خالق لهذه الحياة بزعمهم فلا يمكن أن يخلقهم على هذا الترتيب من الصغر إلى الكبر في الإنسان والنبات بل يخلقه دفعة واحدة كل صنف في كمال شكله بدون ترتيب يخضعها لعمل تطوري طويل الأمد حسب زعمهم وأن المخلوقات تطورت بنفسها بفعل المادة وأنها تولدت عن بعضها للتشابه بينها وأن بقاءها يعود إلى قدرتها على التكيف مع الظروف التي تحيط بها. والواقع أنه ما من مؤمن بالله عز وجل إلا وهو يعلم أن وجود الخلق على هذه الحالة إنما يعود إلى مشيئة الله وقدرته ولتنظيم الحياة على سنة واحدة ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وأن ما يزعمونه من تطور المخلوقات بنفسها بفعل المادة إن هو إلا خرافات سخيفة ولو كان ذلك صحيحا لأدى التطور إلى أن تصبح الذرة جملا أو فيلا ضخما فما الذي يمنعها وقانون التطور يجيز ذلك لها؟
        وقد مرت ملايين السنين ولا تزال الذرة هي الذرة والجمل هو الجمل والإنسان هو الإنسان لم يتطور من قرد إلى إنسان إلا عند " داروين " الملحد الذي أصبحت نظرياته محل سخرية العقلاء من الناس وضحكهم منها وإذا كان الارتقاء بمعنى أن الإنسان والحيوان يكون في أوله صغيرا ثم يكبر شيئا فشيئا إلى أن يكتمل فهذا أمر حقيقي مشاهد وهو يدل على قدرة قوية تربيه إلى أن يصل إلى درجة الاكتمال ولا يدل هذا على أنه ليس له إله رحيم مدبر.
        و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على التطور والارتقاء في حياة الإنسان والحيوان والنبات ولو كان للطفل المولود أسنانا حادة من أول يوم لما أرضعته أمه ولو ولد شابا لما وجد ذلك الحنان بينه وبين أمه وأبيه وأهله ولو كانت الشمس تسطع حرارة منذ بزوغها لما وجد لها هذا الحب في استقبالها و في غروبها كل يوم ولكن الملاحدة قلبوا الأمر فجعلوا ما كان دليلا واضحا على قدرة الله تعالى ووجوده جعلوه دليلا على إنكار وجوده لأن قلوبهم غلف وقد طبع الله عليها.
        وأما ما زعموه من أن الكائنات الحية نشأت عن التولد وأن تكيفها مع الظروف هو الذي أبقاها فإنه يقال لهم إن هناك حقائق مسلمة لا يعارضها عقل ولا دين بحال، بل يؤكدها الدين والعقل بدلالتها على الخالق العظيم ولا يصح أن يقال أنها دليل على صحة نظرية التطور التي يثبتها الملاحدة وهي:
1- الكائنات الأدنى كالنبات وجدت قبل الكائنات الأرقى كما يذكر الباحثون فالإنسان هو أرقى الكائنات الحية وجد متأخرا بينما النباتات وجدت أولا فإن الله عز وجل خلق السموات والأرض وخلق الأرض وقدر فيها أقواتها وما يحتاج إليه البشر حين يوجدون عليها.
2        - يوجد كثير من أوجه الشبه بين الكائنات الحية كالإنسان والقرد ومع ذلك بقي كل كائن كما هو على طول المدى لم يتحول القرد إلى إنسان ولا الإنسان إلى قرد. 3- الكائنات الحية تملك قدرة على التكيف مع الظروف "ظهور المناعة لمقاومة الأمراض، تغير لون الجلد لمقاومة الحرارة وأشعة الشمس.. الخ .
        ويقال لهم في توجيه ذلك: إن كل هذه الثوابت لا يعارضها الدين أو العقل وهي من أوضح الأمور على قدرة الله تعالى الذي منحها هذه الصفات فإن ترتيب وجود الكائنات يعود لمشيئة الله تعالى كذلك ولا يلزم من وجود الكائن الأول أن الكائن الذي يليه تولد عنه، فإن الإنسان مع وجوده متأخرا لا يصح أن يقال أنه تولد عن النبات الذي سبقه في الوجود، وإلاّ لزم التسلسل فإنه يقال لمن يريد إثبات ذلك والنبات أيضا عن أي شيء تولد؟ فلو قال من اجتماع أجزاء المادة يقال له وأجزاء المادة أيضا من أي شيء تولدت؟ وهكذا فلا يجد جوابا في النهاية إلا التسليم رغم أنفه شاء أم أبى.
        وأما وجود التشابه بين الكائنات الحية فلا يعني هذا أيضا أن كل كائن تولد عن شبهه فلا يصح أن يقال أن القرد تولد عن الإنسان أو الإنسان تولد عن القرد لما بينهما من تشابه لا يمكن هذا إلا في نظرية "دارون" وقد عرفت سخافتها، بل إن العلم والدين كلاهما يثبتان أن التشابه بين الكائنات الحية مع بعضها البعض أو مع بعضها وأخرى ليست من جنسها إنما هو دليل قاطع على أن مصدر الإيجاد واحد وهو الله تعالى ولو أن الكائنات كلها تولد بعضها عن بعض لما كان هناك فرق، في مفاهيم العقلاء بين أن تقول لإنسان أنت قرد أو كلب أو شجرة وبين أن تقول له أنت إنسان أو قمر أو وردة لحصول التولد الذي زعمه الملاحدة بنظرياتهم السخيفة إذ ما دامت الكائنات كلها تولدت عن بعضها البعض فلا يبقى بينهم أي فارق حقيقي.
        وأما وجود القدرة للكائنات الحية على التكيف مع الظروف التي تحيط بها فإن العلم والدين يثبتان ذلك ويرجعان السبب إلى قوة مدبرة رحيمة هي قوة الله تعالى وقدرته ورحمته فإن تلك القدرة على التكيف إنما هي رحمة من الله تعالى لبقاء ذلك الكائن حيا منتفعا بذلك التكيف على مقاومة انقراضه إلى الوقت الذي يشاء له موجد تلك القدرة فأي دليل للملاحدة في هذا على عدم وجود الله تعالى الخالق لهذه الكائنات والموجد لها هذه القدرة على التكيف في معيشتها {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحـج: 46].

3        - قانون العلة أو المعلول أو التفسير الميكانيكي للكون من المسلم به عند العقلاء وكل المؤمنين بالله تعالى أن الله تعالى يوجد الأشياء عند وجود أسبابها في أغلب الأمور إلا إذا أراد عدم وجود تلك الأسباب وحينما اكتشف علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن الكون يسيره قانون العلة والمعلول طار الفرح بمفكري الملاحدة وظنوا أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في التدليل على عدم وجود الله تعالى لأن كل الأشياء ناتجة عن علة ومعلول فلا ضرورة حينئذ إلى القول بوجود إله موجد لأن جميع ما يجري في هذا الكون إنما يحدث بسبب علل مادية دون تدخل خارجي غير وجود العلة والمعلول التي تغني عن القول بوجود الله عز وجل وهو ما يسميه بعض الباحثين " التفسير الميكانيكي للكون " ومن الطريف أن العلماء الذين اكتشفوا هذا القانون لم يزعموا أنه بديل عن الله تعالى بل صرحوا بأنه سنة الله في الخلق أن تجري الأمور بواسطة أسباب وعلل فقد قال "نيوتن" "هذا هو أسلوب الله في العمل، فالله يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل" .
        ولكن الملاحدة وهم في نشوة فرحهم ببناء مذهبهم الإلحادي جعلوا هذا ضمن أدلتهم على تقوية إلحادهم ونظريتهم إلى الدين بعين البغضاء وأنه بزعمهم ينافي العلم، وأنى لهم أن يكون هذا الاكتشاف دليلا على عدم وجود الإله الخالق الذي قدر الأسباب وضرب الآجال وفق سننه في هذا الكون التي هي أجلى من الشمس لولا عناد الملاحدة واستكبارهم وقد أشار الله تعالى إلى هذا في القرآن الكريم حينما أمرت مريم بأن تهز النخلة وهي في حالة تمام الإعياء والتعب في وقت الولادة ليفهم الناس أن الله تعالى يجري الأمور بأسبابها. وقد وجد الفلاسفة الملاحدة صفعة أبطلت نشوتهم بهذا الاكتشاف الميكانيكي وذلك حينما عجز العلماء عن الإتيان بتفسير للأسباب الكامنة في بعض القضايا مع وضوح آثارها دون أن يعرفوا وجه العلة والمعلول فيها و على سبيل المثال فإن الراديوم عنصر مشع وإليكتروناته تتحول إلى حطام تلقائيا بعمل الطبيعة وقد أجرى العلماء تجارب لا حصر لها لكي يصلوا إلى سبب إشعاع الراديوم ولكن كل التجارب انتهت إلى الإخفاق. ونحن نجهل حتى اليوم سبب تحطم إلكترون ما وخروجه عن نظامه النووي في الراديوم وأيضا فنحن نشاهد المغناطيس وهو يشد نحوه الحديد. وقد أقام العلماء نظريات كثيرة لشرح هذه الظاهرة ولكن أحدهم كتب يعلق على هذه النظريات قائلا: " إننا لا نعرف لماذا يشد المغناطيس الحديد نحوه ربما لأن الله أصدر إلى المغناطيس أمرا بذلك " .
        ولقد علل العلماء في الماضي لبعض القضايا بتعليل ظنوا أنه صواب فإذا به عند التحقيق تعليل سطحي، بل لا يعرف الإنسان إلى الآن لماذا ينام حين يستلقي في الليل على سريره ما هو السبب لذلك.
        ولقد اعترف الملاحدة بعد طول جدل بأن قانون التعليل ليس حقيقة مطلقة بالمفهوم الذي افترضوه في القرن التاسع عشر، بل لقد قرروا أخيرا " أن نظام العالم لا يخضع لقانون العلة والمعلول الناتج عن الصدفة المحضة، وإنما هناك عقل ذو وعي يدبر شؤون العالم بالإرادة ".
وكان سائدا عند الجهال في القرون الأولى أن هناك آلهة مشتركة في تدبير هذا الكون وهي تخضع في النهاية لإله واحد هو أكبرها فقد تغيرت هذه النظرة الشركية إلى ما هو أقبح منها وهو الإلحاد المادي الحديث القائم على القول بالصدفة وطبيعة أجزاء المادة وانتظامها وانفجارها مما لم يقل به المشركون قديما.

4- دليل المادة
        ومن أدلتهم على نفي الإله واعتبار الدين خطرا يضاد العلم قولهم أن أساس هذا الكون كان مادة شبه غبار منتشر ثم حدث أن تحرك حركة لم تنته إلا بتكوين هذا الكون وما فيه في انفجار هائل، ولكن يقال لهم إن هذا التفسير مضحك سخيف فهل تستطيعون أن تثبتوا من الذي كون ذلك الغبار ومن الذي جمعه ومن كان السبب في تلك الحركة التي جعلت الكون كله يتفجر ويتكون على نحو ما هو عليه؟ إنهم لا يجدون لهم جوابا غير أن الصدفة هي التي فعلت ذلك وهو افتراض بدون أساس ناتج عن خيال كاذب وفهم قاصر، ويقال لهم: إذا كان وجود هذا الكون عن طريق الصدفة أليس من الممكن والحال هكذا أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل إذ الشمس تجري لمستقر لها والنجوم زينة للسماء والقمر ضياء والرياح لواقح والسحب تحمل المطر والليل في وقته والنهار في وقته، كلها تجري لصالح الإنسان ولبقاء الحياة هذه الدهور التي لا يعرف لها وقت إلا الله تعالى، بل والإنسان نفسه أعظم آية، كيف أوجدته الصدفة من العدم وكيف وجد الإنسان الحي من مادة ليس لها حياة. " إن التفسير الميكانيكي يعجز هنا عن إقرار أن سببا واحدا خلق الكون. وأن هذا السبب نفسه يقوم بتدبير شؤونه في نفس الوقت، إن هذا التفسير نقيض وجود إلهين اثنين. فمن ناحية يقدم لنا هذا التفسير نكتة قانون الصدفة لشرح الحركة الأولى التي وقعت في المادة الراكدة، ولكن هذا التفسير من ناحية أخرى يعجز عن تقديم تفسير مقنع لتسلسل الحركة بواسطة تلك الصدفة نفسها التي وقعت "صدفة " للمرة الأولى لذلك وجب البحث عن إله آخر لشرح هذا الجزء الأخير من التفسير الميكانيكي" .
        وقد وجدوه بزعمهم في مبدأ التعليل الذي زعموا فيه أن الكون ابتدأ في الوجود إثر حكة المادة وانفجارها الذي سبق ذكره وعرفت سخافته وبطلانه. وحينما قام الإلحاد ونكران الإله على أساس أن الكون خاضع لتلك القوانين المعنية وأن كل حدث له سبب وأن قوانين الارتقاء قد تكفلت بإتمام كل موجود وأن الكون كله تكون من مادة حسب سخافاتهم فلا حاجة إلى القول بوجود إله خالق مدبر لهذا الكون، وبالتالي أخذ عظماء الكفر والإلحاد يتبجحون بما توصلوا إليه في اكتشافاتهم من تلك القوانين الطبيعية فراحوا يتفنون في إطلاق كلمات الإلحاد وأنه بإمكانهم أن يخلقوا الإنسان والكون لو توفرت لهم المواد والتي زعموا أن الكون خلق منها فقال الفيلسوف الألماني " كانت " : " ائتوني بالمادة وسوف أعلمكم كيف يخلق الكون منها " .وقال "هيجل": "إنني أستطيع خلق الإنسان لو توفر لي الماء والمواد الكيماوية والوقت " .وقال "نيتشه" : "لقد مات الإله الآن" .
        وهكذا زعموا أن العلم أوصلهم إلى أن الكون إنما وجد من مادة وأنه لا أثر للخالق فيه، وبالتالي فلا حاجة مع وجود هذه العلوم والاكتشافات إلى القول بالخالق وسبحان العليم الحليم. وقالوا متعالين: لقد كان الإنسان القديم يعتقد أن خروج الكتكوت من البيضة إنما كان بقدرة إلهية أما اليوم فقد علمنا أن الكتكوت بعد 21 يوما يظهر على منقاره قرن صغير يستعمله في تكسير قشرة البيضة فيخرج منها ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة .
        إنهم حين يقفون عند هذا الحد في خلق الكتكوت تفوتهم أمور كثيرة لا يستطيعون الجواب عنها هي أشد من تكسير البيضة، إذ يقال لهم: كيف يظهر هذا القرن؟ ! !، ومن الذي منحه هذا القرن الضروري لخلاصه من البيضة؟ ! !، فإذا قالوا: إنها الطبيعة، فيمكننا أن نقول لهم: إن هذه الطبيعة التي تقولون بها هي سنة الله تعالى في تكوين خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وأنها هي الله تعالى الخالق المدبر، فيصبح الخلاف في وجود الله بين المؤمنين والملحدين خلافا لفظيا.
        ومهما اكتشف العلماء من اكتشافات، فإنها تبقى في حاجة إلى بيان القوة المؤثرة الخفية فيها الذي حاد عنها الملاحدة {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].
        وكلام الله هو الدليل القاطع، فقد أثبت الله تعالى أن الإنسان مهما كابر عقله، فإنه يعلم في قرارة نفسه أن الشيء لا يوجد نفسه، وأن العدم لا يوجد الموجودات المشاهدة المنتظمة في أكمل وأدق نظام، والمادة التي جعلت إلها في نظرهم هي نفسها مخلوقة مربوبة حتى وإن وصفوها بصفة الإله.
        ومن الملفت للنظر أن هذا الإله المختلق – المادة – لا يصفونه بالحكمة ولا القصد ولا التدبير وهذا ما أكده " دارون "، و " أنجلز " و " ماركس " ومن سار على منهجهم في زعمهم فوضوية المادة على أن هذا الإلحاد الذي قرره " دارون "، و " ماركس " و " أنجلز " لم يكن وليد أفكارهم وإنما أنشأته ظروف كثيرة قبلهم ومنها الحياة الدينية في أوروبا حينما انفصلت عن كل شيء يشير إلى الدين الصحيح وحل محله طغيان رجال الدين الكنسي الذي نتج عنه بغض الدين وبغض مصدره وهو ذلك الإله المنحاز إلى الطبقات الثرية وإلى رجال الدين والحكام ولا شأن له بالفقراء والمغلوبين على أمرهم.
ومما لا ريب فيه أن هذا المفهوم الباطل للدين والإله أمر لابد أن يولد عنه الإلحاد متى اقتنع الشخص بصحته، كما أن استغلال الطبقات القوية للفقيرة وإذلالهم باسم ذلك الإله الذي صوروه قوة عاتية إلى جانبهم فقط يعذب من أغضبهم ويرضى عن من أرضاهم من شأنه أن يساعد على نشأة الإلحاد أيضا.
        ومن هنا شعر الجميع بوجوب الهرب من وجه هذا الإله المتصف بتلك الصفات إلى إله آخر له كل صفات الإله الأول إلا أنه لا يعترف بالكنيسة ولا يبارك ظلم طغاتها ولا يلزم الناس تجاهه بأي التزام وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم لا سلطان لأحد عليهم إلا الهوى والشهوات لقد استراح من أراد الهرب من إله الكنيسة إلى الإله الجديد المسمى " الطبيعة " مادام بينهما هذا الفارق الكبير في السلوك وتفنن بعد ذلك هؤلاء الهاربون في إضفاء الصفات على هذا الإله الذي تخيلوه وأحبوه وسموه الطبيعة.
ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه إله وهمي متخيل لا حقيقة له إلا من خلال أنه ملاذ وجداني أرحم من إله الكنيسة حتى وإن كان غيبيا وكانوا كلما وقفوا على شيء يدل على الإله العظيم رب العالمين سارعوا إلى تفسيره لصالح هذا الإله المتخيل مخافة أن يقعوا مرة أخرى في قبضة رجال الكنيسة وصدق عليهم قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]. أو قول الشاعر:
"كالمستجير من الرمضاء بالنار"
        إن الملاحدة هربوا عن اسم الله والإعتراف به إلى اسم آخر أعطوه نفس القدرة ونفس صفات الإله الحقيقي دون أي مبرر إلا الهرب من إله الكنيسة دون أن يرجعوا إلى عقولهم وإلى سؤال أنفسهم بصراحة وصدق هل هذا الإله الذي جعلته الكنيسة ستارا لطغيانها هو فعلا الإله الحقيقي أم أنه إله مخترع وورقة رابحة في أيدي الطغاة. إنهم لو طلبوا الحقيقة سيجدونها واضحة صريحة وسيجدونها في مكان لا يقل كراهتهم له عن كراهيتهم للكنيسة إنه الإسلام الذي سيبين لهم، لو أرادوا، الحق الصحيح الإله الحقيقي الرحيم العادل بين عباده.

المذاهب الفكرية المعاصرة لغالب عواجي 2/1166
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إبطال شبهات الملاحدة الماديين في إنكار الخالق العليم


بواسطة: غالية نوام,

        يقول بعض الكتّاب: "إن الإيمان بالله لم يأت نتيجةً لبحثٍ علمي، أو تحليل منطقي، وإنما جاء عن طريق أن إنساناً ما وهو النبي قال للناس: إن هناك إلهاً وهذه هي صفاته، وهذه هي أحكامه وتشريعاته، فالمؤمن لم يتوصل إلى ذاك "الله" بمحض عقله، بل إن إيمانه جاء عن طريق تصديق النبي فيما قاله. إذاً الإيمان ما هو إلا نوع من تصديق شخص ما وليس أكثر من ذلك.." ا.هـ ، بهذا التبسيط الساذج، يقرر الملاحدة قضية الإيمان بالله، ليس هناك من دليل على وجوده، سوى شخص جاء وأخبر عنه، وأمر الناس بطاعته، فالإيمان لا يعدو أن يكون تصديق شخص ما، لا أقل ولا أكثر، فهل رأى أحدٌ سخرية من العقل والمنطق كهذه السخرية!!

        إن الإيمان بالله عز وجل خالق الوجود ومسيّره، أعظم وأجل من أن يقال فيه هذا، ووجوده أعظم من أن يقتصر في الاستدلال عليه على خبر النبي رغم أهميته وعظم دلالته، بل أدلة وجوده أوسع وأعمق، فهي تتسع لتشمل كل ذرات الكون من فرشه إلى عرشه، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وهو ينادي بالدلالة على خالقه، وهي دلالة لا تقتصر على إثبات الوجود فقط، بل تتسع لتدل على صفات هذا الخالق العظيم، من العلم والحكمة والإرادة والقدرة وغيرها.

        ورغم سعة هذه الدلالات وعظمتها، فقد وجد من شواذ البشر، من زعم أنه لا إله، وأن الحياة مادة صماء لا تعقل ولا تنطق، وهي مع ذلك قد أوجدت نفسها بنفسها عن طريق التلقائية والمصادفة !! وهي ذاتها تسيَّر نفسها عن طريق نظام الطبيعة وقوانينها، دون أن يتدخل أحد لا في إيجادها ولا في تسييرها، في منطق يعجز العقل عن تصوره، إذ كيف لمادة صماء أن توجد نفسها، فضلا على أن تهب الحياة لغيرها ؟!! كيف ؟! والعقل قاضٍ بأن الموجود لابد له من موجد، وأن المخلوق لا بد له من خالق، كما نطق بذلك لسان الفطرة عند أعرابي، عندما سئل عن دليل وجود الله ؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد 
        ومع وضوح دلائل وجود الخالق سبحانه، إلا أننا نرى أن لا بد من الإتيان على ما يتشبث به الملاحدة من شبه بالنقض والإبطال، ليعلموا أن ليس معهم من العلم شيءٌ يستندون إليه في إنكار خالقهم ورازقهم، فمن شبهات الملاحدة:
الشبهة الأولى،

        قولهم: إن العقول عاجزة عن تصور كنه هذا الإله وحقيقته، وما عجزت العقول عن إدراكه وتصوره فهذا دليل على عدم وجوده.

        ونحن نجيب على هذه الشبهة بقولنا: إن المقدمة الأولى من هذه القضية صحيحة بلا شك، فالعباد قاطبة عاجزون عن معرفة حقيقة هذا الإله العظيم، ومن مأثور كلام أهل العلم في ذلك، قولهم: "كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، وعجزك عن درك الإدراك إدراك، والبحث في كنه ذات الله إشراك "، لكن المقدمة الثانية غير صحيحة، إذ ليس كل ما عجزت العقول عن معرفة حقيقته وكنهه عدم، وإلا للزم أن تنكر العقول كثيرا من أسرار هذا الكون لعجزها عن معرفة حقيقتها وكنهها، فقد وقف العلماء عاجزين عن معرفة حقيقة المادة التي بين أيديهم، وهم يرونها بأعينهم، ويذوقونها بألسنتهم، ويشمونها بأنوفهم، ويصرفونها في طرق الحياة والعيش . فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يصل بعقله إلى معرفة حقيقة الله تعالى؟ وهل يطمع الإنسان الذي لا يعرف كيف يعرف ؟ ولا يدرك كيف يدرك ؟ ولا يعقل كيف يعقل ؟ أن يعقل حقيقة الله تعالى !!.

        إن العلم لا يزال عاجزاً عن معرفة الطريقة التي يتم بها الإدراك، والوسيلة التي يتم بها الاتصال بين المادة والعقل، والكيفية التي يتلقى بها العقل الروحاني الإحساس بالشيء المادي فيدركه، فهل يطمع بعد ذلك أن يعرف كنه ذات الله تعالى ؟.

        إن عدم اقتداركم – أيها الملاحدة - على تصور حقيقة الله لا يعني استحالة وجوده، ويكفي العقول أن تستدل على وجود الله بآثاره من نظام وإتقان وإحكام في هذا العالم، أما التطلع إلى إدراك حقيقة ذاته، فهذا ما لا سبيل للإنسان إليه، وفي هذا يقول أحد الفلاسفة الكبار، "روجر باكون": "إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلا عن أن يعرف كنه ذات الله".
الشبهة الثانية
        قولهم: إن عقولنا لا يمكن أن تتصور حصول شيء من لا شيء، أي استحالة خلق المادة من العدم، فكيف يخلق الإله من العدم ؟ وجوابنا عن هذه الشبهة من وجهين:

        الوجه الأول: أن قولهم لا يمكننا أن نتصور حصول شيء من لا شيء، مبني على قولهم بقدم المادة وأزليتها، وهذا عين المحال، إذ كيف للمادة الصماء أن توجد نفسها!! وإذا كنتم ادعيتم عجز العقول عن تصور خلق شيء من لا شيء، فإن العقول أعجز عن تصور قدم المادة وأزليتها، ذلك أن المادة لا يعقل أن تخلو من صورة تقوم بها، والعقل السليم يقطع بأن كل صورة تقوم في المادة هي حادثة لأنها تزول وتتغير، ولا يخفى أن كل ما يطرأ عليه العدم يستحيل عليه القدم .

        الوجه الثاني: أن عجز العقول عن تصور حصول شيء من لا شيء، لا يعني امتناعه في نفسه، فقد تعجز العقول عن تصور أمور كثيرة وهي ثابتة، كعجزها عن تصور حقيقة المادة رغم أنها ملامسة مشاهدة، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يخضع بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم.!!

        إن منشأ هذه الشبهة – إنكار الخلق من العدم - هو قياس التمثيل، فعندما رأوا أن المخلوق لا يمكن أن يصنع شيئا إلا من شيء آخر، نفوا أن يكون شيء مصنوعا من لا شيء، وإبطال هذا القياس بإيضاح الفرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء، أما الخالق فقدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير، { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) .
الشبهة الثالثة:
        قولهم لو كان نظام الكائنات مخلوقا من إله حكيم، لكان موضوعا بقصد وحكمة، ولكانت علامات القصد والحكمة تامة في كل شيء، إلا أننا نرى في العالم أشياء لا تنطبق على القصد والحكمة.

        والجواب على هذه الشبهة: أن جهلنا بحكمة مخلوق أو نظام ما في هذا الكون، ليس مبررا على الإطلاق أن ننكر خالقه سبحانه، ذلك أننا نشاهد من أسرار الله في مصنوعاته الحكم الباهرة ولم تزل تظهر لنا يوما بعد يوم حكمة بعد أخرى، مما كان خافيا علينا دهورا طويلة، فليس عدم إدراكنا للحكمة يعني انتفاءها وعدم وجودها، فقد تظهر لنا في يوم من الأيام ، كما ظهر سواها .

        وإذا تأملتم – أيها الملاحدة - قصور العقل البشري وعجزه عن إدراك كثير من الأمور المادية المشاهدة لنا، وقارنتم بين هذا العجز وبين قدرة الله العظمى وحكمته، لم تستغربوا اختفاء حكمة بعض الأشياء عن عقولنا، ورأيتم أن من الأولى قياس القليل النادر، مما لم تظهر حكمته، على الكثير المستفيض الذي لا يعد ولا يحصى من شواهد حكم الله الظاهرة في مخلوقاته، لا أن تتخذوا من هذا القليل النادر الذي خفيت حكمته دليلا على إنكار وجود الله الخالق.
الشبهة الرابعة،

        قولهم: إذا كان لكل موجود موجد، ولكل مخلوق خالق فمن خلق الله ؟ والجواب على هذه الشبهة من وجهين:

        الوجه الأول: أن إيراد هذا السؤال خطأ بين، ذلك أن قدرة الله جل جلاله تتعلق بالممكنات لا المستحيلات، وأن يخلق الله إلها من المستحيلات بلا شك، فلا تتعلق به القدرة، ذلك أن هذا الإله الذي سيخلقه الله سبحانه سيكون مخلوقا، وإذا كان مخلوقا فبالضرورة لن يكون خالقا وبالتالي لا يصلح أن يكون إلها.

        الوجه الثاني: أننا لو تنزلنا وقلنا بصحة السؤال، لأفضى ذلك إلى التسلسل، وهو محال عقلا، بيانه أننا إذا أجبنا على سؤال من خلق الله؟ بالقول: إنه خالق آخر، فسوف يرد نفس السؤال على الخالق الآخر، فيقال من خلق الخالق الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، وفي المحصلة سنكون قد ارتكبنا محالين عقليين: الأول نفي الخالق، والثاني: القول بتسلسل علل لا نهاية لها.

الإيمان والعلم والفلسفة:


        كثيرا ما يستند الملاحدة في إنكارهم للخالق إلى الفلسفة والمنطق، ويحاولون أن يظهروا بمظهر الباحثين والمفكرين، ولكنهم في حقيقة الأمر من أجهل المخلوقات على الإطلاق، ذلك أن الدين والعلم والفلسفة كلها قد اتفقت على الإيمان بالله سبحانه، وأنه موجد الكون ومدبره، ولكن كما قال بعض الفلاسفة: القليل من الفلسفة يبعد عن الله، لكن الكثير منها يرد إلى الله، وقد اخترنا في خاتمة هذا المقال بعض مقولات لعظماء من الفلاسفة الذين نصوا على وجود الله سبحانه، والإيمان به:

        يقول "أفلاطون": "إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع عاقل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة"

        ويقول "ديكارت": "إنِّي مع شعوري بنقصٍ في ذاتي، أُحسُّ في الوقت نفسه بوجود ذاتٍ كاملة، وأراني مضطرًّا إلى اعتقادي؛ لأنَّ الشعور قد غَرَسَتْه في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحليَّة بجميع صفات الكمال؛ وهي الله".

        ويقول "أناكساغورس" أحد فلاسفة اليونان الأوائل: " من المستحيل على قوة عمياء، أن تبدع هذا الجمال، وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد، بصير حكيم "

        ويقول ديكارت أيضاً: " أنا موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟ إنني لم أخلق نفسي، فلا بد لي من خالق. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود، وغير مفتقر إلى من يوجده، أو يحفظ له وجوده، ولا بد أن يكون متصفا بكل صفات الجمال. وهذا الخالق هو الله بارئ كل شيء "

        ويقول باسكال: " إن إدراكنا لوجود الله، هو من الإدراكات الأولية، التي لا تحتاج إلى جدل البراهين العقلية، فإنه كان يمكن أن لا أكون، لو كانت أمي ماتت قبل أن أولد حيا، فلست إذا كائنا واجب الوجود، ولست دائما ولا نهائيا، فلا بد من كائن واجب الوجود، دائم لا نهائي، يعتمد عليه وجودي، وهو الله الذي ندرك وجوده إدراكا أوليا، بدون أن نتورط في جدل البراهين العقلية، ولكن على الذين لم يقدر لهم هذا الإيمان القلبي أن يسعوا للوصول إليه بعقولهم.."

        وبهذه الثلة من أقوال هؤلاء الفلاسفة وبما سبق من أدلة عقلية جلية، يتبين أن الإيمان بوجود الخالق قضية ضرورية بديهية، مركزة في النفس والعقل، لا يخالطها ريب ولا شك، ولا تحتاج لبرهان إلا لمن فسدت فطرته، والله الموفق والهادي إلى سواء لسبيل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 10:05 pm

الإسلام وشبهة تعدد الآلهة


ردا علي شبهة التعدد في قوله تعالي: قل هو الله احد
مقدمة
        منذ بزوغ فجر الإسلام - ببعثة خاتم المرسلين محمد صلي الله عليه وسلم - وهو يتلقى الضربات واحدة تلو الأخرى من أعداء الحق بغية القضاء عليه..ولأنه دين الله الحق .. ولا شائبة تشوبه..فلم يجد أعدائه بد سوي إلقاء التهم الباطلة من اجل صد الناس عنه مستغلين جهل العامة به خاصة من الذين لا يدينون له ..مستعينين بكل ما يملكون من الأسباب آملين أن ينالوا بغيتهم بما يعدهم الشيطان ويمنيهم بنشوة الانتصار..
        قال تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً)[سورة: النساء - الآية: 120]
        وفي هذا البحث البسيط سنري سويا واحدة من هذه الشبهات التي يتغنى بها أعداء الحق واهمين أنهم أصابوا الإسلام في مقتل وان لن يكن له قائمة وسط ديانات التوحيد علي حد زعمهم
!! الإسلام يقر بتعدد الآلهة !!
        تشرق الشمس كل يوم معلنة بدأ جولة جديدة من جولات أعداء الإيمان ضد الحق الصراح ، وتراهم يتفضلون علينا بما انعم عليهم شياطينهم من الأكاذيب والحيل، واليوم نراهم يتحفوننا بأحد هذه الشبهات التي - إن أردنا الإنصاف - ليس لها أي صدي ولا يتحرك لها ساكنا.. بل هي من نوع الضربات المكتومة التي تسقط زراع صاحبها قبل حتى أن تصل إلي العدو وهذا النوع من الشبهات هو من شاكلة " لا تستحق عناء الرد عليها " ،ونحن وان آثرنا الرد عن الصمت فهو ليس من اجل شيء سوي إحقاقا للحق نصرة لدين الله عز وجل...
        فهم يقولون أن الإسلام ليس ديانة توحيد..وان لديهم الدليل الصارخ من القران الكريم وهو قوله تعالي : قل هو الله احد !!!!! – وهو من اكبر أدلة التوحيد في الإسلام أصلا ولكن أين العقول؟؟ -
فيقولون إن لفظة "احد" نكرة تحتاج لتمييز حتى يتضح المعني..ويطرحون السؤال مع زهوة الانتصار الكاذبة ما هو تمييز "احد"..وهل اله المسلمين احد الآلهة أم احد الشياطين أم احد ماذا !!!
        وكأنهم غير ناطقين بلسان الضاد..فوالله قد لا تحتاج كلمة احد حتى لأبسط معاجم اللغة العربية لمعرفة معناها..وهم علي ثقة من هذا ولكنهم يشهدون للباطل وهم يعلمون..
كلمة ومعني
        يشهد العالم منذ اندلاع ثورة الاتصالات - وتحوله إلي هذه القرية الصغيرة التي تشاركها بني البشر - جوا أعطي مزيدا من السلاسة والسهولة في تقصي الأمور من اجل الوصول إلي النتائج المرجوة..فاليوم يمكنك وبكل سهولة وأنت جالس في بيتك تحتسي كوبا من الشاي أن تتصفح شبكة الانترنت وان تتعرف علي كل ما يدور في العالم من أحداث .. بل يمكنك أيضا أن تتحدث شخصيا مع أفراد لا يشاركوك نفس البلد بل وقد لا يشاركوك نفس القارة أيضا..وعليه أصبح من السهولة بمكان الحصول علي معاني الكلمات ومترادفاتها في لغاتها الأصلية..وتضيق الدائرة مع مزيد من السهولة عندما تبحث عن معني كلمة في لغتك أنت الأصلية ، فبضغطة زر علي احد المعاجم الالكترونية المنتشرة علي شبكة الانترنت تستطيع بكل سهولة أن تحصل علي معني الكلمة التي تريد..
        والسؤال هنا هل بحث أصحاب وهم الانتصار عن معني كلمة "احد" في اللغة العربية حتى يعرفوا هل هو لفظ يدل علي التعدد أم علي الوحدانية ؟؟؟
        أم أن أذهانهم المتقدة بالذكاء قد تفتقت لتدر علينا هذا المعني الفريد من نوعه لتزيل الظلام أمام أعيننا فتتفتح بعد أكثر من 1400 عام فندرك أن الله تعالي احد الآلهة وان الإسلام يدعو إلي تعدد الآلهة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
        وسوف ندع الإجابة عن ما إن كانوا قاموا بالبحث عن المعني أم لا للقارئ المنصف.. وأما عن ماهية معني الكلمة فسوف نوضحه بعون الله تعالي في الأسطر التالية....

أولا المعني اللغوي:

        معني كلمة "احد" في اللغة نقلا عن معجم اللغة العربية " مختار الصحاح ":أحد أَحَدٌ بمعنى الواحد، وهو أول العدد. وأما قوله تعالى: " قل هوَ اللهُ أحَدٌ " ، فهو بدلٌ من الله، لأنَّ النكرة قد تبدل من المعرفة. وتقول: لا أحد في الدار ولا تقول فيها أحد ويوم الأحد يجمع على آحاد وأما قولهم ما في الدار أحدٌ، فهو اسمٌ لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث. وقال تعالى: " لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ من النِساء " وقال: " فما مِنكم من أحدٍ عنه حاجِزينَ " . واستأحد الرجل: انفرد. وجاءوا آحاد أحادَ غير مصروفَين، لأنهما معدولان في اللفظ والمعنى جميعاً.
        فكما نري أن كلمة "احد" في اللغة العربية تعني الواحد..وقد ذُكر في المعجم اللغوي في قوله تعالي" قل هو الله احد" من الناحية اللغوية - أي بعيدا عن التفسير الديني للآية – أن "احد" بدل من الله .. وهنا لا تحتاج إلي تمييز – احد ماذا ؟ - من اجل تبيان المعني فالمعني هنا مكتمل لغويا ..أي انه مادام المعني مكتمل لغويا فلا يسوغ السؤال ما هو تمييز كلمة "احد"..فالسؤال أصبح لا معني له حيث انه مبني علي فهم خاطئ لقواعد النحو والصرف للغة العربية ..

        وبهذا يكون قوله تعالي "قل هو الله احد" بمعني قل هو الله واحد لا غيره أي لا شريك له .. وهو بهذا يوافق – بالطبع – التفسير الديني للآية الكريمة فضلا عن موافقته لكل ذي لب بصير.
        ثانيا المعني الديني والمقصود به التفسير المعتمد للآية الكريمة :
        بداية يجدر بنا الإشارة إلي أن التفسير لم يخالف الرأي الحيادي الموافق لقواعد اللغة المعروفة سلفا لذلك كان موافقا للعقل والمنطق أيضا ، وسوف نقوم بعون الله تعالي بذكر نبذة من التفاسير التي تناولت هذه الآية الكريمة حتى يظهر الحق لكل باحث عنه ...
        ا – جامع البيان في تفسير القرآن للإمام الطبري :
        واختلف أهل العربية في الرافع { أحَدٌ } فقال بعضهم: الرافع له «الله»، و «هو» عماد، بمنزلة الهاء في قوله:
{ إنَّهُ أنا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
        وقال آخر منهم: بل «هو» مرفوع، وإن كان نكرة بالاستئناف، كقوله: هذا بعلي شيخ، وقال: هو الله جواب لكلام قوم قالوا له: ما الذي تعبد؟ فقال: هو الله، ثم قيل له: فما هو؟ قال: هو أحد.
        وقال آخرون { أحَدٌ } بمعنى: واحد، وأنكر أن يكون العماد مستأنفاً به، حتى يكون قبله حرف من حروف الشكّ، كظنّ وأخواتها، وكان وذواتها، أو إنّ وما أشبهها، وهذا القول الثاني هو أشبه بمذاهب العربية.
        أوضح الطبري رحمه الله تعالي أن معني "احد" واحد ، وهو المعني الأشبه بمذاهب اللغة العربية .. أي أن المعني لم يخالف اللغة وبهذا هو معني تام لا يحتاج لتمييز.
ب-الكشاف للزمخشري:
        }هُوَ } ضمير الشأن، و { ٱللَّهُ أَحَدٌ } هو الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، كأنه قيل: الشأن هذا، وهو أن الله واحد لا ثاني له. فإن قلت: ما محل هو؟ قلت: الرفع على الابتداء والخبر الجملة. فإن قلت: فالجملة الواقعة خبراً لا بد فيها من راجع إلى المبتدأ، فأين الراجع؟ قلت: حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك: «زيد غلامك» في أنه هو المبتدأ في المعنى، وذلك أن قوله: { ٱللَّهُ أَحَدٌ } هو الشأن الذي هو عبارة عنه، وليس كذلك «زيد أبوه منطلق» فإن زيداً والجملة يدلان على معنيين مختلفين، فلا بد مما يصل بينهما. وعن ابن عباس: قالت قريش: يا محمد، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت: يعني: الذي سألتموني وصفه هو الله، وأحد: بدل من قوله، «الله». أو على: هو أحد، وهو بمعنى واحد، وأصله وحد.
ج- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي:

        قوله تعالى: { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } أي الواحد الوِتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك. وأصل «أَحَدٌ»: وَحَدٌ؛ قُلِبت الواو همزة. ومنه قول النابغة:
بذِي الجَلِيلِ عَلى مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ

        وقد تقدّم في سورة «البقرة» الفرق بين واحِد وأَحَدٍ، وفي كتاب «الأَسْنَى، في شرح أسماء الله الحسنى» أيضاً مُسْتَوفًى. والحمدُ لله. و { أَحَدٌ } مرفوع، على معنى: هو أَحدٌ. وقيل: المعنى: قل: الأمرُ والشأن: اللَّهُ أَحَد. وقيل: «أَحَد» بدل من قوله: «الله».

د- تفسير القران الكريم لابن كثير :         } قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } يعني: هو الواحد الأحد، الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.

هـ - فتح القدير للشوكاني :        قوله: { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول، وأن المشركين قالوا: يا محمد انسب لنا ربك. فيكون مبتدأ، والله مبتدأ ثان. و { أحد } خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ويجوز أن يكون { الله } بدلاً من { هو } ، والخبر { أحد }. ويجوز أن يكون الله خبراً أوّلاً، و { أحد } خبراً ثانياً، ويجوز أن يكون { أحد } خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو أحد. ويجوز أن يكون { هو } ضمير شأن؛ لأنه موضع تعظيم، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه، والأوّل أولى. قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله، والمعنى: إن سألتم تبيين نسبته { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }. قيل: وهمزة { أحد } بدل من الواو، وأصله واحد. وقال أبو البقاء: همزة { أحد } أصل بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد. ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري: أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد؛ كما يقال رجل واحد، ودرهم واحد، قيل: والواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد. وفرّق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد وأحد لا يدخل فيه. وردّ عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون، ونحوه، فقد دخله العدد، وهذا كما ترى، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل.

و- زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي :        فأما «الأحد» فقال ابن عباس، وأبو عبيدة: هو الواحد. وفرَّق قوم بينهما. وقال أبو سليمان الخطابي: [الواحد]: هو المنفرد بالذات، فلا يضاهيه أحد.والأحد: هو المنفرد بالمعنى، فلا يشاركه فيه أحد. وأصل «الأحد» عند النحويين: الوحد، ثم أبدلوا من الواو الهمزة

        وعليه باقي التفسيرات التي تحدثت عن هذه الآية الكريمة حيث تتضمن نفس المعني بان كلمة احد تعني واحد .. وبهذا أصبح الادعاء القائل بان الآية الكريمة تقر أو تدعو إلي تعدد الآلهة لا وجود له وسط كل هذه الحقائق..

        فكما رأينا أن التفسير اعتمد بشكل كبير في بيان معني "احد" علي قواعد النحو ومفردات اللغة العربية، وهي القواعد التي لابد من أخذها في الحسبان عند التصدي لتفسير آية من آيات القران الكريم لكونه قرانا عربيا بلسان عربي مبين ، فلم يقم بسرد خيالي لمعاني ليس لها وجود في الحقيقة ، الأمر الذي يقوم به كثير من الناس في عهدنا هذا مضللين به عامتهم .
شهادة القران الكريم بالتوحيد
        بُعث محمد صلي الله عليه وسلم في قوم يعبدون الأصنام يؤمنون بمبدأ تعدد الآلهة ، فطفق يدعو بعبادة الله تبارك وتعالي لا شريك له ودحض كل اله معبود سوي الله عز وجل مما أثار غضب قومه وطلبوا منه أن يتنحى عن هذه الدعوة الجديدة -التي لم تكن معهودة بينهم- في مقابل إمداده بالمال فيكون أغناهم أو أن يسيّدوه عليهم فيكون ملكهم، فلما رفض موضحا انه لا يريد جاها ولا مال وان هذا هو الحق من ربهم فبدأوا بإعلان العداء له ولكل إتباعه وأذاقوهم في سبيل هذا الأمرين ،
وقد حكي عنهم رب العزة تعالي في كتابه ..
        قال تعالى: (وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ * أَجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلَـَهاً وَاحِداً إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىَ آلِهَتِكُمْ إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِى الْمِلّةِ الاَخِرَةِ إِنْ هَـَذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ * أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ) [سورة: ص – الآية 4: 8]
        فلو كان محمدا صلي الله عليه وسلم يدعو لتعدد الآلهة أو حتى يقر بقبوله لما كان عداء قومه بسبب تسفيهه لآلهتهم والدعوة إلي اله واحد منطقيا، فان هذا في حد ذاته دليلا أن محمدا صلي الله عليه وسلم دعي إلي توحيد الألوهية لله تبارك وتعالي دون سائر المعبودات ..
        بل وانه معلوم من الدين بالضرورة أن باب دخول كل مسلم إلي الإيمان هو أن يشهد أن لا اله إلا الله أي لا معبود بحق سوي الله تبارك وتعالي وان يشهد أن محمدا رسول الله أي أن الله الذي لا اله غيره أرسل محمدا صلي الله عليه وسلم بدين الحق ليظهره علي الدين كله .. وبهذا يكون اكتمل في ذهن المسلم في مبتدئ إيمانه أن الله تعالي واحد لا شريك له ولا معبود بحق سواه..
        وقد تردد ذلك علي مسامع المسلمين منذ بعثته الشريفة إلي يومنا هذا ومن له أذنان للسمع فليسمع :
        قال تعالى: (وَإِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمَـَنُ الرّحِيمُ)[سورة: البقرة - الآية: 163]
قال تعالى: (هَـَذَا بَلاَغٌ لّلنّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوَاْ أَنّمَا هُوَ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذّكّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ) [سورة: إبراهيم - الآية: 52]قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ) [سورة: فصلت - الآية: 6]
        وهناك الكثير والكثير من الآيات التي تدعو إلي توحيد الله تبارك وتعالي تملأ صفحات القران الكريم لتسكت أفواه المتكلمين بالكذب ولتدعو المؤمنين إلي طريق الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال...

الخاتمة
        الإسلام دين دعي إلي توحيد الله تبارك وتعالي في مفهوم بسيط يستطيع أي عقل أن يعيه ،، فأنت عندما تقول الله أحد .. أو لا اله إلا الله .. تقر بالوحدانية لله تبارك وتعالي وهذا أمرا مفهوما يوافق العقل والمنطق فلا تحتاج إلي نظريات موضوعة وأبحاث ملفقة لتثبت وجهة نظرك فاللغة التي تنطق بها تقر هذا التوحيد بشكل واضح..وأما غيرنا من أصحاب التهم الباطلة الذين يعانون منذ نعومة أظفارهم من الانفصام الإلهي الذي أصاب عقولهم والذين لا يستطيعون بسببه التفرقة بين الواحد والثلاثة..فأعلونها بلا خجل ولا وجل
        1يو 5:7 فان الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد.
        هم الذين في حاجة ماسة إلي النظريات والأبحاث بل والي المعادلات الرياضية إن لزم الأمر لإثبات أن الثلاثة = واحد ... وان التوحيد والتثليث وجهان لعملة واحدة،
فنقول لهم إن استطعتم أن تبتغوا نفقا في الأرض أو سلما في السماء لتأتونا بآية علي صدق ادعاءاتكم فنحن في الانتظار،،
        قال تعالى: (فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [سورة: البقرة - الآية: 24]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

ثانيا : الإلهيات Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثانيا : الإلهيات   ثانيا : الإلهيات Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 10:05 pm

أسئلة مهمة

        كيف نستطيع معرفة الله ؟

        وماهي الأدلة العقلية لوجوده سبحانه وتعالى ؟

        وماهو أفضل كتاب يفضل قرائته في هذا المجال ؟

        وكيف نؤمن برب لانراه ؟ 
    وكيف وجد الله ومن أين
الإجابة
. إن وجود الله تعالى أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقف على برهان , حيث أدركه كل ذي عقل , وأحسّ به كل ذي شعور , وفهمته كل فطرة .

        حتى الذي ينكره بلسانه لا محالة يتوجه إليه عند الاضطرار بقلبه وجَنانه , بل يمكن القول بأن وجوده تعالى فطري لا يحتاج في الحقيقة إلى دليل , ولكن نذكر لكم بعض الأدلة العقلية على وجوده تعالى حسبما طلبتموه :

الأول : برهان النظم         أوضح الأدلة على إثبات الله تعالى الذي يحكم به العقل , هو دليل النظم والتدبير .

فالكل يرى العالم بسماواته وأراضيه , وما بينهما من مخلوقاته ورواسيه من المجرة إلى النملة . فنرى أجزاءها وجزئياتها مخلوقة بأحسن النظم , وأتقن تدبير وأحسن صنع , وأبدع تصوير , فيحكم العقل بالصراحة أنه لابد لهذا التدبير من مدبر , ولهذا التنظيم من منظم , ولهذا السير الحكيم من محكم , وذلك هو الله تعالى .
الثاني : امتناع الصدفة

        فإنا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم , فلابد وأن نقول : بأن الصدفة هي التي أوجدته أو أن الطبيعة هي التي أوجدته . لكن من الواضح أنه لا يقبل حتى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وجدت بنفسها بالصدفة العمياء أو بالطبيعة الصماء .

الثالث : برهان الاستقصاء

        فان كلاً منا إذا راجع نفسه يدرك ببداهة أنه لم يكن موجوداً أزلياً , بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم , وقد وجد في زمان خاص , إذن فلنفحص ونبحث : هل أننا خلقنا أنفسنا ؟ أم خلقنا أحد مثلنا ؟ أم خلقنا القادر الله تعالى ؟

        ولاشك أننا لم نخلق أنفسنا , لعدم قدرتنا على ذلك , ولاشك أيضاً أن أمثالنا لم يخلقونا لنفس السبب , إذن لا يبقى بعد التفحص والاستقصاء إلا أن الذي خلقنا هو الله تعالى , لأنه القادر على خلق كل شيء .

الرابع : برهان الحركة

        إنا نرى العالم بجميع ما فيه متحركاً , ومعلوم أن الحركة تحتاج إلى محرك , لأن الحركة قوة والقوة لا توجد بغير علة . إذن لابد لهذه الحركات والتحولات والتغيرات من محرك حكيم قدير , وهو الله تعالى .

الخامس : برهان القاهرية
        إن الطبيعة تنمو عادة نحو البقاء لو لا إرادة من يفرض عليها الفناء . فالانسان الذي يعيش والاشجار التي تنمو لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال إلا بعلة فاعلة قاهرة .
فمن هو المميت ومن هو المزيل ؟ ذلك الذي له القدرة على فناء مخلوقاته وهو الله تعالى .
        هذه أدلة خمسة من بين الأدلة العقلية الكثيرة التي تبرز الايمان الفطري بوجود الله تعالى .وأما كيف وجد واين وجد فذلك ممنوع شرعاً عن التحدث عنه , بل ولا يمكن للعقل أن يدركه .
        والكتاب المفضل لمعرفة هذه الأمور هو كتاب الالهيات للشيخ السبحاني وكتاب العقائد الحقة للسيد علي الحسيني الصدر


الوسوسة في قضايا العقيدة
        أنا فتاة التزمت بدين الله، وبسنة الرسول الكريم، وعندما بدأت الالتزام راودتني أفكار وهى الشك في وجود الله سبحانه وتعالى، ولكني ظللت أقاوم هذه الأفكار وأرهقتني، وإني مازلت على طاعتي بالله ولكن تراودني هذه الأفكار، وإنها تؤثر في عبادتي مع الله، ما هو علاج هذه الأفكار، والسلام عليكم.

الإجابة
هذه الأفكار من الوساوس لا تؤثر على إيمانك وهى ليست شكاً، فقد قال النبي صلي الله عليه وسلم للصحابة لما قالوا له إنا لنجد في أنفسنا ما أن نخر من السماء أهون علينا من أن نتكلم به، فقال: "ذاك صريح الإيمان" أي كراهية هذه الأفكار ومجاهدتها دليل على صحة الإيمان، فإن استمر الأمر رغم المجاهدة فننصح بالعلاج الطبي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
ثانيا : الإلهيات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة العلوم والمعارف :: الموسوعة الإسلامية الشاملة :: موسوعة العقيدة الشاملة-
انتقل الى: