... تابع
اليوم الآخر
برهان القدرة
لمّا كانت قدرة الخالق العظيم غير متناهية ، جاز تعلّقها بكلّ شيءٍ مقدور ، وكانت نسبتها إلى ما هو سهل في نفسه أو صعب على حدّ سواء ، وهو المستفاد من قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، وقد أشارت الآيات القرآنية إلى صورتين من الاستدلال على المعاد ، بذكر عموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها الصورة الأُولى : بيّن تعالى قدرته على المعاد في الآخرة مرتباً على ذكر المبدأ في الاُولى في آيات كثيرة ، إشارة إلى أن القادر على الإيجاد من العدم ابتداءً ، فهو على إعادة الموجود أقدر ، قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) سورة العنكبوت:19-20
فالآيتان تحثّان الإنسان على النظر في أمر الخلق الأول ، ليصل باستقلال عقله إلى معرفة خالقه ومدبّره ، وليكون ذلك مقدّمة للاحتجاج على المعاد بعموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها ، وأكدّ الكتاب الكريم على تلك المقدّمة في آيات أخرى كثيرة ؛ فقال تعالى : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )الملك 14، وقال سبحانه : ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ )الواقعة 57. ، إلى أن قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ )الواقعة 62.
ولا يخفى أن الإنسان قد علم النشأة الأولى ، وعرف من خلالها أن الذي أوجده ، وقدّر له خصوصيات خلقه ، ودبّر له أمره ، هو الله خالق كلّ شيء ، وليس ثمّة أحد غيره ، قال تعالى : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ )يونس 34. وقال تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )البقرة 28.
وممّا تقدم تبيّن أن نسبة قدرة الله تعالى غير المتناهية إلى الإحياء الأول والثاني على حدّ سواء ، فلا يخالطها عيّ أو عجز ، ولا يطرأ عليها نصب أو تعب ، قال تعالى : ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ق 15 ، وقد بيّن تعالى أن قدرته على الخلق الأول والخلق الجديد ، من حيث الإمكان والتأتّي ، كخلق نفسٍ واحدةٍ ، فقال تعالى : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ )لقمان 28 فلا يوجد بالنسبة إلى الخالق جلّ وعلا شيء أسهل أو أصعب من شيء ، وفي ذلك برهان متين يقود الإنسان إلى الإيمان باليوم الآخر والتصديق بأمر المعاد.
الصورة الثانية : بيّن تعالى قدرته على المعاد في الآخرة مرتّباً على ذكر خلق السماوات والأرض ، فقال سبحانه : ( وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَم يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) الإسراء 98- 99 ، وقال تعالى : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن
فَيَكُون )يس 81- 82 . وقال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الأحقاف 33.
فالتأمل في خلق السماوات والأرض يقودنا إلى الإيمان بعالم الآخرة ، ذلك لأنّ الذي خلق عوالم السماوات والأرض ـ بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام المتضمّن لما لا يُحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول والمحيرة للألباب ، والعالم الإنساني جزء يسير منها ـ كيف لا يقدر أن يخلق الناس خلقاً جديداً في يوم القيامة ؟ وخلق الإنسان في نفسه أسهل وأهون من خلق السماوات والأرض ، قال تعالى : ( لَخَلْقُ السَّماوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )غافر 57 وقال تعالى : ( ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا*وأغطش ليلها وأخرج ضحاها* وَالأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا )النازعات 27- 30.
وفي هذا السياق يأتي إبطال القرآن الكريم ما تمسك به أهل الجاهلية في استبعادهم المعاد : ( وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) فردّهم سبحانه بتذكيرهم بالقدرة المطلقة ( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) الإسراء 49- 51فأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديداً أو شيئاً ممّا يتصورّون أن تبديله إلى إنسانٍ أبعد وأصعب من تبديل الرفات أو التراب إليه ، فليكونوا ماشاءوا ، فإنّ الله تعالى سيعيد إليهم خلقهم الأول بعد بعثهم ، وفي ذلك إشارة إلى أن القدرة الإلهية المطلقة لا يشقّها شيء تريد تجديد خلقه ، سواء أكان عظاماً أو رفاتاً أو حجارةً أو حديداً أو غير ذلك
==============================
برهان الحكمة
إن الله تعالى حكيم في أفعاله ، وكلّ ما يصدر منه جلَّ وعلا في عالمي التكوين والتشريع يخضع لمبدأ الحكمة والهادفية ، فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل جزئياتها وفق حركة هادفة ، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام ، وكذلك تخضع المفردات التشريعية في وجودها وحركتها وتفاعلها إلى مبدأ الحكمة الإلهية والغاية الحكيمة التي تتجافى عن العبث واللغو والباطل ، قال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )المؤمنون 115 ، وقال تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ )ص 27 وقال تعالى ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدىً ) القيامة 36.
ويمكن صياغة صورة هذا البرهان على شكل قياس ، يتركب من مقدمتين :
الأولى : إن الله حكيم. الثانية : الحكيم لا يفعل العبث ، إذن فالله تعالى لا يفعل العبث ، ولو لم يكن للإنسان معاد لكان خلقه عبثاً ، ومقتضى الحكمة الالهية أن الله تعالى لا يفعل العبث ، إذن فلابدّ للإنسان من معادٍ يوم القيامة تتجلّى فيه الحكمة الإلهية.
فلو كان الإنسان ينعدم بالموت ، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو شقاء ، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً ، لأن الفعل لا يخرج عن العبثية إلاّ إذا ترتّب عليه فائدة أو غاية عقلانية ، وترتب الفائدة أو الغاية موقوف على وجود المعاد ، لأنّه إذا انعدم الإنسان بالموت ، فذلك يعني أنه ليس ثمّة غاية من خلقه غير هذه الحياة المحدودة التي تعجّ بالمتضادات ، والمحفوفة بأنواع المصائب والبلايا والفتن والفجائع ، ويعني أيضاً أن الله تعالى قد اقتصر في خلقه على الإيجاد ثم الإعدام ، ثم الإيجاد ثم الإعدام ، وهكذا دون أي هدفٍ غائي في أفعاله سبحانه ، وذلك ما لا نقبله على الإنسان العاقل ، فكيف نقبله على فعل الخالق ، جلّت حكمته ، الذي لا يعتريه الباطل ولا يتجافى عن الحكمة ؟! تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً.
وعليه فلا بد من وجود عالم آخر يتّضح فيه هدف الخلقة ، وذلك هو عالم البقاء الأبدي المعبّر عنه بالحيوان ، قال تعالى : ( وَمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )العنكبوت 64.
ومن هنا أكدت الآيات القرآنية على أن وجود عالم الآخرة يقتضيه خلق العالم بحكمة ، قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللهُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ )الروم 8. وقال تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّماوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ )الدخان 38- 40
برهان العدالة
1 ـ
وجود التكليف يقتضي وجود المعاد
من المعلوم أن الله تعالى جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان ، ووهبه النوازع الخيّرة إلى جنب النوازع الشريرة ، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء ، وأعطاه العقل الذي يميّز بين الخير والشر ، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق الخير وطريق الشرّ ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق ، وتجنّب سبيل الشرّ والباطل ، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب ، قال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )الملك 2 ، وقال سبحانه : ( وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ )الأعراف 168 ، وقال تعالى : ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )الأنبياء 35.
وعليه فإن واقع الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات الراحة والعناء ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والإقبال على الأشرار والإدبار عن الأخيار ، هو امتحان وابتلاء ، وليس فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء ، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة ، لذا يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وإلاّ لبطلت فائدة التكليف ، ولكان عبثاً ولغواً.
وفي بيان ذلك يقول الفاضل المقداد : لو لم يكن المعاد حقاً لقبح التكليف ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، ذلك أن التكليف مشّقة مستلزمة للتعويض عنها ، فإن المشّقة من غير عوض ظلم ، وذلك العوض ليس بحاصل في زمان التكليف ، فلا بدّ حينئذٍ من دار أُخرى يحصل فيها الجزاء على الأعمال ، وإلاّ لكان التكليف ظلماً ، وهو قبيح ، تعالى الله عنه.
2 ـ العدل الإلهي يستلزم وجود اليوم الآخر
يقول النصير الطوسي في إثبات وجوب المعاد : وجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث. وذكرالعلاّمة الحلي في شرحه : إن الله تعالى وعد بالثواب ، وتوعّد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين ، فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده ووعيده
إذ لا ريب أن الناس لا يصلون إلى الثواب أو العقاب الملائم لأعمالهم في هذا الزمان المحدود ؛ فالمحسنون الذين قضوا أعمارهم في العبادة ونشر الفضائل والإصلاح في الأرض ، وتحمّلوا الكوارث والمحن والأرزاء في هذا السبيل ، لايمكن لأي سلطة في الأرض أن تعطيهم مرادهم ، وتوصلهم إلى ثوابهم ، والمجرمون الذين ارتكبوا الجرائم الفظيعة بحقّ الإنسانية ، وتوفّروا على النعم والملذّات والحياة الرغيدة أكثر من غيرهم ، قد لا يقعون في قبضة القانون ، وإذا وقعوا فإن عقابهم لا يتناسب مع الجرائم التي ارتكبوها ، فقد يقتص منهم مرة واحدة ، وتبقى أكثر الجرائم التي ارتكبوها تمرّ بلا عقاب ، وعليه فليس ثمّة قوة في هذه النشأة المحدودة تستطيع استرداد جميع الحقوق المهضومة للناس.
وإذا كان الإنسان ينعدم بالموت ، ويفد الظالمون والمظلومون والمصلحون والمفسدون إلى مقابر الفناء دون محكمة عادلة تثيب المحسنين وتضع المجرمين في أشدّ العذاب ، فإن ذلك خلاف العهد الإلهي الذي يقتضي التفريق بين الفريقين من حيث المصير والثواب والعقاب ، وبما أن ذلك غير متحقق في النشأة الأولى ، فيجب أن يكون المعاد لتجسيد العدالة الإلهية تجسيداً عملياً ، وتحقيق الوعد الرباني الصادق في الوفاء للأنبياء والأولياء والشهداء والأبرار من عباد الله الصالحين والانتقام من الظالمين والمفسدين.
وقد صرحت الآيات الكريمة بهذا الدليل على مستويين :
الأول : التأكيد على الفرق بين العاصي والمطيع في النشأة الأخرى ، لتحقيق الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، وذلك مقتضى العدل الإلهي.
قال تعالى : ( إِلَيْهِ مَرْجِعِكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) 1) سورة يونس : 10/4.
، وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) 2) سورة النازعات : 79/37 ـ 41.
والثاني : التنديد بالتسوية بين الفريقين وإنكارها.
قال تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) 3) سورة السجدة : 32/18.
، وقال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) 4) سورة ص : 38/28.
، وقال تعالى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) 5) سورة الجاثية : 45/21.
. وقال تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُـجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) 6) سورة القلم : 68/34 ـ 36
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسماء اليوم الآخر
قد أُطلق على ذلك اليوم العظيم الذي يحلُّ فيه الدمار بهذا العالم، ثم يعقبه البعث والحساب والجزاء أسماء كثيرة قد عدَّها بعض أهل العلم فبلغت خمسين اسمًا كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.
من أشهرها:
1- يوم القيامة: لِما يقوم فيه من الأمور العظام، ولأن الناس يقومون فيه لرب العالمين.
2- يوم البعث: أي يوم إحياء الموتى.
3- القارعة: سميت بذلك لأنها تقرع القلوب.
4- يوم الدين: أي يوم الجزاء والحساب.
5- الصاخة: وذلك لِمَا يصاحبها من صوت شديد يبالغ في الإسماع حتى يكاد يصم.
6- الطامَّة الكبرى: لأنها تطم على كل أمر هائل فظيع.
7- يوم الحسرة: لشدة تحسر العباد في ذلك اليوم وندمهم.
8- الغاشية: لأنها تغشى الناس بأفزاعها وتغمُّهم.
9- يوم الآزفة: سُمي بذلك لاقترابه.
وغير ذلك من الأسماء الكثيرة، وقد تعددت أسماؤه لعظم أمره وكثرة أحواله وأوصافه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضرورة الأخلاقية للإيمان باليوم الآخر
بعض أزمات الأخلاق في الفكر الإنساني
منذ العصور الضاربة في القدم وإلى الآن ـ ومنذ تعود الإنسان أن يفكر لنفسه تفكيراً منظماً، ومنذ أخذ في سبيل التنظير لوضع القوانين؛ وهو يحاول بعقله أن يرسم حدود النظريات الأخلاقية؛ مستنداً إلى الواقع الممارس ، أو مستسلماً إلى التأمل المحلق ـ والإنسان يفرز بعقله ركاماً من النظريات الأخلاقية؛ وما من نظرية منها إلا ويعتريها النقص من بعض جوانبها.
ومن أهم المعضلات التي كان يجب على أصحاب النظريات الأخلاقية أن يدرسوها معضلة حماية الفضيلة من الانهيار.
قد يقول قائل : إن الجزاء الذي هو أحد أركان الأخلاق؛ والذي يشتمل على الثواب والعقاب؛ والذي يعتبر هو القمة التي تلي الإلزام والمسئولية وتصعد فوقهما. يكفي وحده لحماية الأخلاق وإحاطتها بسياج مانع من الانهيار والتردي.
ونحن نقول: إن هذا صحيح إلى حد ما، غير أن الجزاء نفسه كلمة عامة تحتمل التفسير، وتتعرض للجاجة أو التأويل.
فقد يقتصر بعض شراح الفضيلة على الجزاء الوجداني، فلا تعدو عندهم العقوبة أن تكون ألماً في النفس، ووخذاً في الضمير، وقلقاً في الوجدان.
والثواب عندهم لا يزيد على مقابل هذه الأشياء.
ولعل هذا هو أفضل ما توصل إليه الفلاسفة بعد رقيهم الفكري ؛ وإن كان الفلاسفة الاجتماعيون قد أدخلوا بعد ذلك رضى الجماعة وسخطها في فكرة الجزاء ثواباً وعقاباً .
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا مهما كانت التفسيرات لفكرة الجزاء هو : ماذا يكون الموقف لو أن إنساناً صنع معروفاً في غيره، سواءاً كان هذا الغير أفراداً أو جماعة؛ فقابل هذا الغير صنيعه هذا بالإنكار والجحود ؟ ماذا يكون الموقف بالنسبة لصانع المعروف؟ هل سيضيع عليه جزاؤه ؟ أو أن له جزاء آخر قد احتجز له في ضمير الغيب قد يدركه وقد لا يدركه، أو أننا سوف نتركه فريسة انفعال شديد، وندم مؤلم على ما قدم من معروف؛ أو صنع من خلال الخير والفضيلة ؟
إن هذه التساؤلات ، ونحوها تشكل عقبة كئوداً أمام كثرة هائلة من المفكرين وصناع النظرية الأخلاقية من بني البشر.
هذه العقبة لا مجال لها في نطاق الإسلام : ـ
ولو أننا تأملنا النصوص الإسلامية المعتمدة لوجدنا أن هذا الإشكال؛ وتلك العقبة تتلاشى إلى حد الذوبان؛ ذلك أن الإسلام قد أكد على نقطتين مهمتين:
إحداهما : أن صنع الفضيلة باعتباره تكليفاً من الله وإلزاماً منه يستهدف غاية محددة لا علاقة لها بمن نصنع المعروف معه، إذا نظرنا إلى الغايات؛ أو تأملنا البواعث.
إن الباعث والغاية معاً هما رضا الله عز وجل، فرضا الله باعث باعتباره محركاً في إطار القانون الشرعي الذي كلفنا الله بالتزام جزئياته سلبياً وإيجابياً ؛ ورضا الله غاية باعتباره أملاً تتطلع النفس إليه ؛ ولا تريد أن تخطئه.
وفي إطار هذا المفهوم لا يجد المسلم نفسه مكتئباً حين يلقى جزاء عمله الخير شراً من الأفراد أو الجماعات؛ ولا يجد نفسه مسروراً مزهواً، حين يجد من الجماعة رضا عنه إذا هو أسدى إليهم معروفاً ، أو تقدم لهم بخصلة من خصال الخير والفضيلة.
بل هو العكس من ذلك ، إنه يخشى إن قيل رضا الناس عنه؛ وجزائهم له أن يفوت عليه هذا الرضا، وقبوله له الوصول إلى غايته العليا التي يطمع في تحقيقها، وهي رضا الله عز وجل، إذ إنه متجاوب مع النصوص الشرعية التي تأخذ به إلى أعلى في بواعثه وغايته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول : إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه. رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرقها قال. فما عملت فيها قال : قاتلت فيك حتى استشهدت. قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار ] (1).
والمتأمل في هذا النص يجد أن المسائل الثلاث التي اشتمل عليها لم تعرض جزافاً وإنما هي عينات ممثلة تمثيلاً حقيقياً لجميع قوى النفس حاصرة لها.
وما قوى النفس سوى أن تكون في لبابها الجامع القوة العصبية والقوة الشهوانية والقوة المفكرة أو العاقلة.
وما ورد في النص يلمس هذه القوى الثلاث بشكل مباشر واضح لا سترة به.إ‘فراد استعداد الفرد الممارس باعتبار أن طاقات الأفراد متفاوتة.
وثانية النقطتين التي تشير إليهما النصوص في هذا المجال تتصل بالمساحة الزمنية.
إن النصوص الشرعية ترفض رفضاً باتاً أن تكون خريطة الزمان التي يتم فيها الجزاء الخلقي مقصورة على هذه الحياة الدنيا.
وإنما تمتد الخريطة لتشمل حياة بعد هذه الحياة؛ ووجوداً متميزاً على هذا الوجود بما له من صفات الاستمرار والخلود.
وفي الوقت نفسه فإننا نجد هذه النصوص ترفض المبدأ القائل برفع الجزاء الدنيوي؛ لأن في هذا المبدأ ـ لو نحن قلنا به ـ إسباغاً لصفة التراخي على الأخلاق؛ ودفعاً للأفراد إلى الكسل عن كل عمل خلقي والإحجام عن كل مسلك رشيد.
ولا يبقى أمامنا متحمساً للأخلاق إلا من كان على درجة عالية من المثالية.
ومن هذا كانت النصوص قاطعة في أن الجزاء أخروي ودنيوي في الوقت ذاته؛ بل إن بعض الجزاء قد عهد به الشرع إلى المسئولين عن قيادة المجتمع في إطار نصوص تشريعية لها صلة بالله الذي اختص نفسه بالتشريع.
وهذا الجزاء على اتساع خريطته يحمل الناس قطعاً على العمل الخلقي، ولكن لا على سبيل الجبر وإنما للإرادة الإنسانية فيه مجال على نحو ما، بحيث يكون الجزاء نفسه قد ارتكز على أساس من الشرعية.
غير أن هذه الإرادة قد تفتح أمامنا باباً آخر للتراخي مهما كان ضئيلاً فإنه ولابد أن يدخل في الاعتبار.
والشرع الحكيم قد وضع لهذا الباب المفتوح ما يناسبه من التشريعات التي تحد التسلل منه، وتضيق مخارجه إلى حد كبير.
والنصوص التي تلائم هذا الباب وتتعامل معه نجدها تركيز على الموت باعتباره نهاية أليمة ينتظرها الإنسان ولا يجد منها مفراً ، ويرى وقوعه في آحاد الناس بالعشرات بل بالمئات فيذكر ذاته ومصيره القريب، ويتأكد من تكرار التجربة المرة بعد المرة أنه لا مفر من مقاساة هذا المصير ومعالجة ألمه المحتوم، هذا الألم الذي يعد في أقل صوره مرارة، ما وقع بالنبي صل الله عليه وسلم ـ الذي قال ـ وهو يعالج سكرات الموت: "اللهم هون علينا سكرات الموت .
وقد كان من الممكن أن يكون الموت وحده واعظاً كافياً على أعلى درجات الكفاية بحيث يحمل الإنسان على العمل لما بعد الموت لولا ما للإلف والعادة من تأثيرهما المباشر على هذا الواعظ والتقليل من فاعليته.
فنحن نعلم أن الشئ يدهشنا لأول مرة، ويأخذ بالألباب والعقول حين لا يكون للناس به عهد، أما حين يتكرر هذا الشئ ويكثر وقوعه تتعوده الأعين وتألفه الأسماع، ويتواءم معه بانسجام النفس والقلب، فكان لابد ـ والحالة هذه ـ من شئ آخر واحد في نوعه مختلف في آحاده اختلافاً يميز تلك الآحاد بحيث لا يكون عرضة للإلف فيقلل من أهميته وفاعليته، وبحيث يكون هذا العامل الجديد معاضداً لعامل الموت الذي ينال منه أحياناً الإلف والعادة فيقللان من تأثيره.
وهذا العامل الجديد الذي اقتضت رحمة الله أن ينزل بنا التذكير وحمل الناس على الفضيلة هو ما نسميه بالشدائد ويسميه القرآن بالابتلاء.
إن الابتلاء واحد في نوعه مختلف في آحاده اختلاف التعبير بين الآحاد مع الاتحاد في الحقيقة والماهية.
وهذا الابتلاء ينزله الله بآحاد عباده وجماعتهم أحياناً ليلفتهم إلى صفاء الفطرة الأولى، ولا ينزل هذا الابتلاء إلا بالمؤمنين فقط، ومن هنا فإن الابتلاء لا يأخذ صفة التدمير المطلق، وإنما يقتصر فقط على المقدار الذي به التذكير والأخذ بالإنسان إلى فطرته الأولى في صفائها ونقائها
قال تعالى : " ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" سورة البقرة 155 ـ 157..
والمتأمل المقارن يجد أن ما يقع بالمؤمن غير ما يقع بالكافر، فما يقع بالمؤمن لا يكون مدمراً، وإنما قدر من الشدة بمقدار تقويمه بلفته إلى صفاء الفطرة الأولى.
وما يقع بالكافر يمر بمرحلتين: مرحلة تعيده فكرياً إلى فطرته الأولى ليؤمن بربه حتى لا يكون له على الله حجة، فهو حين يشتد على الكافر إنما يلفته إلى ميثاق الفطرة الذي أخذ عليه.
" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " سورة الأعراف آية : 172..
وهم إذا لم يلتفتوا بعد هذا التنبيه حق عليهم البلاء والتدمير حيث أخذتهم الحجة من جانبين: حجة ظاهرة بإرسال الرسل: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " سورة الإسراء آية : 15. وحجة باطنة بالتذكير بميثاق الفطرة : "قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين".
وحين تأخذهم الحجة من جميع أقطارهم ينزل بهم البلاء : "وضرب الله مثلاً قرية كانت مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" سورة النحل آية : 112..
وهكذا يقوم الابتلاء بدور مهم لا يستهان به في علاج النظرية الأخلاقية.
ولكي تكتمل الصورة في تمامها النهائي وغايتها التي لا غاية بعدها نشير إلى هذا العنصر الفعال الذي كثيراً ما أدى دوره في الأمم السالفة، وهو التلويح والإشارة إلى العذاب العاجل والشامل إذا أجبرت بيئة البلاغ لأي نبي من الأنبياء على الكفر والعناد، وأصبح المعنيون بالدعوة بعيدين عن الله لا يسمعون لرسوله.
وكثيراً ما كان هذا العنصر يؤدي دوراً ولو قليلاً في حفز الناس إلى الفضيلة والبعد عن الرذيلة، الأمر الذي قد يرى البعض معه أنه غائب في بناء النظرية الأخلاقية في الإسلام بمقتضى قوله تعالى :
"وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" سورة الأنفال آية : 33..
ويرى بعض المفكرين المعنيون بشرح النصوص الإسلامية أن الأمة الإسلامية قد رفع عنهما التدمير والعقاب الشامل بمقتضى هذا النص إكراماً للنبي صل الله عليه وسلم .
وهذا حق عندي لا مراء فيه، ولكن التدمير مرفوع فقط عن الأمة أمة الدعوة في حياة النبي صل الله عليه وسلم ـ إكراماً له وبعد حياته إلى فترة طويلة تكون الرسالة فيها فعالة بحيث يقوم العلماء بأداء دورهم محتجين لهذا الدور بالمعجزة الدائمة غير أن أمة الإسلام التي هي أمة الإجابة مرفوع عنها التدمير إلى الأبد كغيرها من أمم الإجابة التابعة لكل نبي.
أما أمة الدعوة في الإسلام فسوف يأتي عليها الوقت المحدد الذي ينزل عليها فيه تدمير شامل كما نزل بالأمم السابقة عليها.
ولما كانت هذه الأمة هي آخر الأمم ولا نبي بعدها فإن تدمير أمة الدعوة سيؤخر إلى آخر الزمان بعد أن ينجي الله أمة الإجابة بريح هينة لينة تأخذهم تحت أباطيهم فيموتون، ويكون التكليف قد انتهى بانتهاء عصره، ويرتفع القرآن من الصدور حين تطلع الشمس من مغربها، وتقوم الساعة بهولها العظيم بعد أن يتعاقب ثلاثة أجيال من الكفر وهذا فيما أرى تدمير أمة البلاغ والدعوة حين يطبقون على الكفر والعناد.
وهذا الهلاك الشامل والفزع الكبير يؤدي دوره هنا في حمل الناس على الفضيلة كما أدى الدور نفسه في كل أمة سبقت هذه الأمة وتقدمتها.
ومن هنا يتبين مقدار الحيطة الكاملة التي أحاط بها الإسلام النظرية الأخلاقية بحيث لا نستطيع أن نجد فيها ثغرة ينفذ منها معترض أو مجال للكمال حين يتفلسف أصحاب الرأي وهواة التشكيك بالاحتمال
نهاية الإنسان ومصيره
إن الكاتب في هذه الجزئية يتردد بين أمرين يرجو الكتابة فيهما أو في أحدهما:
أحدهما : أن يكتب عن الإنسان باعتباره فرداً ويتحدث عن مصير هذا الإنسان بشخصه فيتناول مسألة الموت وما يتبعها من أحاديث تتناول سكرات الموت وكيفية خروج الروح وصفات الملائكة المستقبلة لها . إلى آخره ثم يتناول مسائل آخر تتعلق بما يعقب الموت كمسألة عذاب القبر ونعيمه، وكيفية استقبال القبر لنزوله ونوع الأسئلة الموجهة للميت ... إلخ.
وثانيهما : أن يكتب عن الإنسان باعتباره نوعاً .
ومن المعلوم أن القضايا التي يمكن للكاتب أن يتناولها محدداً بها مصير الإنسان باعتباره نوعاً عن القضايا التي يتناولها حين يتحدث عن مصير الإنسان باعتباره فرداً.
وهذا الاختلاف يحدده وجود كل منهما وبقاؤه في هذا الوجود.
فوجود الإنسان باعتباره فرداً وجود موقوت، ينتهي بعد انقضاء مدة يسيرة يمكن للإنسان العادي أن يتوقع قصاراها، أو يحده متوسطها.
أما وجود الإنسان باعتباره نوعاً فهو وجود ممتد لا يستطيع الإنسان بمفرده مهما أوتى من قوة البصيرة أو نصاعة الحجة أن يقف على بدئه في الماضي، ولا يستطيع بمفرده كذلك مهما أوتى من قوة البصيرة ونصاعة الحجة أن يقف على نهايته في المستقبل؛ لأن بدء الإنسان باعتباره نوعاً ونهايته من المسائل المغيبة التي لم تقع في نطاق إدراك العقل أو في منطقة تفكيره.
وأعترف أنني قد وقعت في حيرة عندما أردت كتابة هذا الفصل وتناول قضاياه.
وكان مصدر الحيرة سؤالاً طرحته على نفسي مؤداه : إلى أي شئ أتوجه بالكتابة ؟ هل أتوجه إلى الإنسان بصفته فرداً باعتبار أن قضاياه ملموسة متكررة في بعض أجزائها ؟ أو أتوجه إلى الإنسان بصفته نوعاً باعتبار أن قضاياه في مصيره مجهولة سوى ما أبان الشرع عنه ؟
وانتهى الأمر عندي إلى أن قضايا الإنسان بصفته فرداً مطروقة والكلام فيها شبه معاد، وقضايا الإنسان- بصفته نوعاً- قليلة مباحثها خاصة في كتب العقيدة، وإن كانت كثيرة متعددة في كتب السنة وكتب التفسير، فأرادت أن يكون جهدي مقصورا في هذا الفصل على مصير الإنسان بصفته نوعاً للسبب الذي ذكرته مع أنني أعتقد بهذه القضية المنطقية وهي : أن الحديث عن الكل حديث عن أجزائه وأفراده فقصر الجهد لهذين السببين على الحديث عن الإنسان بصفته نوعاً لابد لكل أمر عظيم من توطئة :
تعودنا ـ من فضل الله وكرمه ـ أنه لا يحدث في الكون من عظائم الأمور إلا ما يمهد له ويهيىء الأذهان لتقبله.
وقد شرحنا ذلك باستفاضة في الفصل الأول من هذا القسم بما يغنينا عن إعادته هنا إلا بمقدار التذكير به ولفت النظر إليه. وقيام الساعة وإنهاء هذا اللون حدث عظيم بل أكاد أجزم أنه ليس هناك حدث يسبقه في العظمة أو يعلو عليه في درجة الاهتمام به.
وطبقاً لما تعودناه من فضل الله وكرمه أن الله لم يشأ أن يفاجئ الكون بهذا الحدث الضخم، كما لم يشأ من قبل أن يفاجئ العالم بعظائم الأمور.
غير أن هذا الحدث لضخامته الكبرى، ولعظمة الذي لم يسبق إليه انفرد عن سائر العظائم بميزة تخصه، وهي أن ما سواه من العظائم كان يمهد له، ويترك الأمر للأذهان كي تدرك هي هذا التمهيد من غير مساعد من إخبار أو إشارة.
أما هذا الحدث فإن الله قد أخبر على لسان الصادق المصدوق صل الله عليه وسلم بالتمهيدات التي تؤدي إليه والتوطئة التي تعد الأذهان لاستقباله، والمقدمات التي نلفت الأنظار للعمل من أجله.
فكان حديث النبي صل الله عليه وسلم المتكرر عما نعرفه اصطلاحاً بأشراط الساعة أو علامات الساعة.
ونحن لا نريد أن نستقصي هذه العلامات بالعد والترقيم، فإن ذلك أمر ميسور على كل من يعمد إلى كتاب من كتب الحديث ولسوف يجد أنه يستطيع أن يقف على هذه العلامات من غير أن يبذل في ذلك مجهوداً يذكر.
ولكننا في الوقت نفسه لا نريد أن نترك هذه المسألة تمر قبل أن نضع لعلامات الساعة وأشراطها تقسيماً نوعياً يضبطها جميعاً في قاعدة عامة تحتويها احتواء شاملاً، وتجتذب شتاتها اجتذاباً يريح العاقل، ولا يؤذي المتفقة أو المحدث.