منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:37 pm

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:39 pm

إبطال شبهات الملاحدة فى إنكار الله تعالى


يقول بعض الكتّاب: " إن الإيمان بالله لم يأت نتيجةً لبحثٍ علمي، أو تحليل منطقي، وإنما جاء عن طريق أن إنساناً ما وهو النبي قال للناس: إن هناك إلهاً وهذه هي صفاته، وهذه هي أحكامه وتشريعاته، فالمؤمن لم يتوصل إلى ذاك " الله " بمحض عقله، بل إن إيمانه جاء عن طريق تصديق النبي فيما قاله. إذاً الإيمان ما هو إلا نوع من تصديق شخص ما وليس أكثر من ذلك.." ا.هـ .

بهذا التبسيط الساذج، يقرر الملاحدة قضية الإيمان بالله، ليس هناك من دليل على وجوده، سوى شخص جاء وأخبر عنه، وأمر الناس بطاعته، فالإيمان لا يعدو أن يكون تصديق شخص ما، لا أقل ولا أكثر، فهل رأى أحدٌ سخرية من العقل والمنطق كهذه السخرية !!

إن الإيمان بالله عز وجل خالق الوجود ومسيّره، أعظم وأجل من أن يقال فيه هذا، ووجوده أعظم من أن يقتصر في الاستدلال عليه على خبر النبي رغم أهميته وعظم دلالته، بل أدلة وجوده أوسع وأعمق، فهي تتسع لتشمل كل ذرات الكون من فرشه إلى عرشه، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وهو ينادي بالدلالة على خالقه، وهي دلالة لا تقتصر على إثبات الوجود فقط، بل تتسع لتدل على صفات هذا الخالق العظيم، من العلم والحكمة والإرادة والقدرة وغيرها.

ورغم سعة هذه الدلالات وعظمتها، فقد وجد من شواذ البشر، من زعم أنه لا إله، وأن الحياة مادة صماء لا تعقل ولا تنطق، وهي مع ذلك قد أوجدت نفسها بنفسها عن طريق التلقائية والمصادفة !! وهي ذاتها تسيَّر نفسها عن طريق نظام الطبيعة وقوانينها، دون أن يتدخل أحد لا في إيجادها ولا في تسييرها، في منطق يعجز العقل عن تصوره.

إذ كيف لمادة صماء أن توجد نفسها، فضلا على أن تهب الحياة لغيرها ؟!! كيف ؟! والعقل قاضٍ بأن الموجود لابد له من موجد، وأن المخلوق لا بد له من خالق، كما نطق بذلك لسان الفطرة عند أعرابي، عندما سئل عن دليل وجود الله ؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير.

وفي كل شيء له آية *تدل على أنه واحد

ومع وضوح دلائل وجود الخالق سبحانه، إلا أننا نرى أن لا بد من الإتيان على ما يتشبث به الملاحدة من شبه بالنقض والإبطال، ليعلموا أن ليس معهم من العلم شيءٌ يستندون إليه في إنكار خالقهم ورازقهم، فمن شبهات الملاحدة:

الشبهة الأولى قولهم: إن العقول عاجزة عن تصور كنه هذا الإله وحقيقته، وما عجزت العقول عن إدراكه وتصوره فهذا دليل على عدم وجوده.

ونحن نجيب على هذه الشبهة بقولنا: إن المقدمة الأولى من هذه القضية صحيحة بلا شك، فالعباد قاطبة عاجزون عن معرفة حقيقة هذا الإله العظيم.

ومن مأثور كلام أهل العلم في ذلك، قولهم: "كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، وعجزك عن درك الإدراك إدراك، والبحث في كنه ذات الله إشراك "، لكن المقدمة الثانية غير صحيحة، إذ ليس كل ما عجزت العقول عن معرفة حقيقته وكنهه عدم، وإلا للزم أن تنكر العقول كثيرا من أسرار هذا الكون لعجزها عن معرفة حقيقتها وكنهها.

فقد وقف العلماء عاجزين عن معرفة حقيقة المادة التي بين أيديهم، وهم يرونها بأعينهم، ويذوقونها بألسنتهم، ويشمونها بأنوفهم، ويصرفونها في طرق الحياة والعيش . فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يصل بعقله إلى معرفة حقيقة الله تعالى؟ وهل يطمع الإنسان الذي لا يعرف كيف يعرف ؟ ولا يدرك كيف يدرك ؟ ولا يعقل كيف يعقل ؟ أن يعقل حقيقة الله تعالى !!.

إن العلم لا يزال عاجزاً عن معرفة الطريقة التي يتم بها الإدراك، والوسيلة التي يتم بها الاتصال بين المادة والعقل، والكيفية التي يتلقى بها العقل الروحاني الإحساس بالشيء المادي فيدركه، فهل يطمع بعد ذلك أن يعرف كنه ذات الله تعالى ؟.

إن عدم اقتداركم – أيها الملاحدة - على تصور حقيقة الله لا يعني استحالة وجوده، ويكفي العقول أن تستدل على وجود الله بآثاره من نظام وإتقان وإحكام في هذا العالم، أما التطلع إلى إدراك حقيقة ذاته، فهذا ما لا سبيل للإنسان إليه، وفي هذا يقول أحد الفلاسفة الكبار، "روجر باكون " : " إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلا عن أن يعرف كنه ذات الله ".


الشبهة الثانية قولهم: إن عقولنا لا يمكن أن تتصور حصول شيء من لا شيء، أي استحالة خلق المادة من العدم، فكيف يخلق الإله من العدم ؟ وجوابنا عن هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أن قولهم لا يمكننا أن نتصور حصول شيء من لا شيء، مبني على قولهم بقدم المادة وأزليتها، وهذا عين المحال، إذ كيف للمادة الصماء أن توجد نفسها !! وإذا كنتم ادعيتم عجز العقول عن تصور خلق شيء من لا شيء، فإن العقول أعجز عن تصور قدم المادة وأزليتها، ذلك أن المادة لا يعقل أن تخلو من صورة تقوم بها، والعقل السليم يقطع بأن كل صورة تقوم في المادة هي حادثة لأنها تزول وتتغير، ولا يخفى أن كل ما يطرأ عليه العدم يستحيل عليه القدم .

الوجه الثاني: أن عجز العقول عن تصور حصول شيء من لا شيء، لا يعني امتناعه في نفسه، فقد تعجز العقول عن تصور أمور كثيرة وهي ثابتة، كعجزها عن تصور حقيقة المادة رغم أنها ملامسة مشاهدة، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يخضع بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم .!!

إن منشأ هذه الشبهة – إنكار الخلق من العدم - هو قياس التمثيل، فعندما رأوا أن المخلوق لا يمكن أن يصنع شيئا إلا من شيء آخر، نفوا أن يكون شيء مصنوعا من لا شيء، وإبطال هذا القياس بإيضاح الفرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء، أما الخالق فقدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير، { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) .


الشبهة الثالثةقولهم لو كان نظام الكائنات مخلوقا من إله حكيم، لكان موضوعا بقصد وحكمة، ولكانت علامات القصد والحكمة تامة في كل شيء، إلا أننا نرى في العالم أشياء لا تنطبق على القصد والحكمة.

والجواب على هذه الشبهة: أن جهلنا بحكمة مخلوق أو نظام ما في هذا الكون، ليس مبررا على الإطلاق أن ننكر خالقه سبحانه، ذلك أننا نشاهد من أسرار الله في مصنوعاته الحكم الباهرة ولم تزل تظهر لنا يوما بعد يوم حكمة بعد أخرى، مما كان خافيا علينا دهورا طويلة، فليس عدم إدراكنا للحكمة يعني انتفاءها وعدم وجودها، فقد تظهر لنا في يوم من الأيام ، كما ظهر سواها .

وإذا تأملتم – أيها الملاحدة - قصور العقل البشري وعجزه عن إدراك كثير من الأمور المادية المشاهدة لنا، وقارنتم بين هذا العجز وبين قدرة الله العظمى وحكمته، لم تستغربوا اختفاء حكمة بعض الأشياء عن عقولنا، ورأيتم أن من الأولى قياس القليل النادر، مما لم تظهر حكمته، على الكثير المستفيض الذي لا يعد ولا يحصى من شواهد حكم الله الظاهرة في مخلوقاته، لا أن تتخذوا من هذا القليل النادر الذي خفيت حكمته دليلا على إنكار وجود الله الخالق.


الشبهة الرابعة قولهم: إذا كان لكل موجود موجد، ولكل مخلوق خالق فمن خلق الله ؟ والجواب على هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أن إيراد هذا السؤال خطأ بين، ذلك أن قدرة الله جل جلاله تتعلق بالممكنات لا المستحيلات، وأن يخلق الله إلها من المستحيلات بلا شك، فلا تتعلق به القدرة، ذلك أن هذا الإله الذي سيخلقه الله سبحانه سيكون مخلوقا، وإذا كان مخلوقا فبالضرورة لن يكون خالقا وبالتالي لا يصلح أن يكون إلها.

الوجه الثاني: أننا لو تنزلنا وقلنا بصحة السؤال، لأفضى ذلك إلى التسلسل، وهو محال عقلا، بيانه أننا إذا أجبنا على سؤال من خلق الله ؟ بالقول: إنه خالق آخر، فسوف يرد نفس السؤال على الخالق الآخر، فيقال من خلق الخالق الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، وفي المحصلة سنكون قد ارتكبنا محالين عقليين: الأول نفي الخالق، والثاني: القول بتسلسل علل لا نهاية لها.


الإيمان والعلم والفلسفة :

كثيرا ما يستند الملاحدة في إنكارهم للخالق إلى الفلسفة والمنطق، ويحاولون أن يظهروا بمظهر الباحثين والمفكرين، ولكنهم في حقيقة الأمر من أجهل المخلوقات على الإطلاق، ذلك أن الدين والعلم والفلسفة كلها قد اتفقت على الإيمان بالله سبحانه، وأنه موجد الكون ومدبره، ولكن كما قال بعض الفلاسفة: القليل من الفلسفة يبعد عن الله، لكن الكثير منها يرد إلى الله، وقد اخترنا في خاتمة هذا المقال بعض مقولات لعظماء من الفلاسفة الذين نصوا على وجود الله سبحانه، والإيمان به:

يقول "أفلاطون": " إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع عاقل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة "

ويقول "ديكارت": "إنِّي مع شعوري بنقصٍ في ذاتي، أُحسُّ في الوقت نفسه بوجود ذاتٍ كاملة، وأراني مضطرًّا إلى اعتقادي؛ لأنَّ الشعور قد غَرَسَتْه في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحليَّة بجميع صفات الكمال؛ وهي الله".

ويقول "أناكساغورس" أحد فلاسفة اليونان الأوائل: " من المستحيل على قوة عمياء، أن تبدع هذا الجمال، وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد، بصير حكيم "

ويقول ديكارت أيضاً: " أنا موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟ إنني لم أخلق نفسي، فلا بد لي من خالق. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود، وغير مفتقر إلى من يوجده، أو يحفظ له وجوده، ولا بد أن يكون متصفا بكل صفات الجمال. وهذا الخالق هو الله بارئ كل شيء "

ويقول باسكال: " إن إدراكنا لوجود الله، هو من الإدراكات الأولية، التي لا تحتاج إلى جدل البراهين العقلية، فإنه كان يمكن أن لا أكون، لو كانت أمي ماتت قبل أن أولد حيا، فلست إذا كائنا واجب الوجود، ولست دائما ولا نهائيا، فلا بد من كائن واجب الوجود، دائم لا نهائي، يعتمد عليه وجودي، وهو الله الذي ندرك وجوده إدراكا أوليا، بدون أن نتورط في جدل البراهين العقلية، ولكن على الذين لم يقدر لهم هذا الإيمان القلبي أن يسعوا للوصول إليه بعقولهم.."

وبهذه الثلة من أقوال هؤلاء الفلاسفة وبما سبق من أدلة عقلية جلية، يتبين أن الإيمان بوجود الخالق قضية ضرورية بديهية، مركوزة في النفس والعقل، لا يخالطها ريب ولا شك، ولا تحتاج لبرهان إلا لمن فسدت فطرته،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:41 pm

الرد على القائلين بقدم العالم


اختلفت الفلاسفة في قدم العالم. فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه
وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له ومسوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان.وحكي عن أفلاطن أنه قال: العالم مكون ومحدث. ثم منهم من أول كلامه وأبى أن يكون حدث العالم معتقداً له.وذهب جالينوس في آخر عمره في الكتاب الذي سماه " ما يعتقده جالينوس رأياً " إلى التوقف في هذه المسألة. وأنه لا يدري العالم قديم أو محدث. وربما دل على أنه لا يمكن أن يعرف وأن ذلك ليس لقصور فيه بل لاستعصاء هذه المسألة في نفسها على العقول.ولكن هذا كالشاذ في مذهبهم وإنما مذهب جميعهم أنه قديم وأنه بالجملة لا يتصور أن يصدر حادث من قديم بغير واسطة أصلاً.


اختيار أشد أدلتهم وقعاً في النفس: إيراد أدلتهم :

لو ذهبت أصف ما نقل عنهم في معرض الأدلة وذكر في الاعتراض عليه لسودت في هذه المسألة أوراقاً ولكن لا خير في التطويل. فلنحذف من أدلتهم ما يجري مجرى التحكم أو التخيل الضعيف الذي يهون على كل ناظر حله. ولنقتصر على إيراد ما له وقع في النفس مما لا يجوز أن ينهض مشككاً لفحول النظار فإن تشكيك الضعفاء بأدنى خبال ممكن.

وهذا الفن من الأدلة ثلاثة:

الأول يستحيل حدوث حادث من قديم مطلقاً قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً
لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلاً فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكناً إمكاناً صرفاً فإذا حدث بعد ذلك لم يخل إما أن تجدد مرجح أو لم يتجدد

فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما قبل ذلك

وإن تجدد مرجح فمن محدث ذلك المرجح ولم حدث الآن ولم يحدث من قبل

والسؤال في حدوث المرجح قائم.

وبالجملة فأحوال القديم إذا كانت متشابهة فإما أن لا يوجد عنه شيء قط وإما أن يوجد على الدوام فأما أن يتميز حال الترك عن حال الشروع فهو محال. لم لم يحدث العالم قبل حدوثه...

وتحقيقه أن يقال: لم لم يحدث العالم قبل حدوثه

لا يمكن أن يحال على عجزه عن الأحداث ولا على استحالة الحدوث فإن ذلك يؤدي إلى أن ينقلب القديم من العجز إلى القدرة والعالم من الاستحالة إلى الإمكان وكلاهما محالان.

ولا أمكن أن يقال: لم يكن قبله غرض ثم تجدد غرض

ولا أمكن أن يحال على فقد آلة ثم على وجودها

بل أقرب ما يتخيل أن يقال: لم يرد وجوده قبل ذلك. فيلزم أن يقال: حصل وجوده لأنه صار مريداً لوجوده بعد أن لم يكن مريداً فيكون قد حدثت الإرادة.

أو قبل حدوث الإرادة وحدوثه في ذاته محال لأنه ليس محل الحوادث وحدوثه لا في ذاته لا يجعله مريداً.

ولنترك النظر في محل حدوثه. أليس الإشكال قائماً في أصل حدوثه! وأنه من أين حدث ولم حدث الآن ولم يحدث قبله

أحدث الآن لا من جهة الله فإن جاز حادث من غير محدث فليكن العالم حادثاً لا صانع له وإلا فأي فرق بين حادث وحادث

وإن حدث بإحداث الله فلم حدث الآن ولم يحدث من قبل

ألعدم آلة أو قدرة أو غرض أو طبيعة فلما أن تبدل ذلك بالوجود وحدث عاد الإشكال بعينه.

أو لعدم الإرادة فتفتقر الإرادة إلى إرادة وكذى الإرادة الأولى ويتسلسل إلى غير نهاية.

فإذن قد تحقق بالقول المطلق أن صدور الحادث من القديم من غير تغير أمر من القديم في قدرة أو آلة أو وقت أو غرض أو طبع محال وتقدير تغير حال محال لأن الكلام في ذلك التغير الحادث كالكلام في غيره والكل محال ومهما كان العالم موجوداً واستحال حدثه ثبت قدمه لا محالة. وهذا أقوى أدلتهم فهذا أخبل أدلتهم. وبالجملة كلامهم في سائر مسائل الإلهيات أرك من كلامهم في هذه المسألة إذ يقدرون هاهنا على فنون من التخييل لا يتمكنون منه في غيرها. فلذلك قدمنا هذه المسألة وقدمنا أقوى أدلتهم.

لماذا يستحيل حدوث حادث بإرادة قديمة
الاعتراض من وجهين:

أحدهما أن يقال: بم تنكرون على من يقول:

إن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه وأن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر إليها وأن يبتدئ الوجود من حيث ابتدأ وأن الوجود قبله لم يكن مراداً فلم يحدث لذلك وأنه في وقته الذي حدث فيه مراد بالإرادة القديمة فحدث لذلك فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له

قولهم: لكل حادث سبب... فإن قيل:

هذا محال بين الإحالة لأن الحادث موجب ومسبب. وكما يستحيل حادث بغير سبب وموجب يستحيل وجود موجب قد تم بشرائط إيجابه وأركانه وأسبابه حتى لم يبق شيء منتظر البتة ثم يتأخر الموجب بل وجود الموجب عند تحقق الموجب بتمام شروطه ضروري وتأخره محال حسب استحالة وجود الحادث الموجب بلا موجب.

فقبل وجود العالم كان المريد موجوداً والإرادة موجودة ونسبتها إلى المراد موجودة ولم يتجدد مريد ولم يتجدد إرادة ولا تجدد للإرادة نسبة لم تكن فإن كل ذلك تغير فكيف تجدد المراد وما المانع من التجدد قبل ذلك وحال التجدد لم يتميز عن الحال السابق في شيء من الأشياء وأمر من الأمور وحال من الأحوال ونسبة من النسب بل الأمور كما كانت بعينها. ثم لم يكن يوجد المراد وبقيت بعينها كما كانت فوجد المراد ما هذا إلا غاية الإحالة.

وذلك في الأمور الوضعية أيضاً في الطلاق مثلاً وليس استحالة هذا الجنس في الموجب والموجب الضروري الذاتي بل وفي العرفي والوضعي فإن الرجل لو تلفظ بطلاق زوجته ولم تحصل البينونة في الحال لم يتصور أن تحصل بعده لأنه جعل اللفظ علة للحكم بالوضع والاصطلاح فلم يعقل تأخر المعلول إلا أن يعلق الطلاق بمجيء الغد أو بدخول الدار فلا يقع في الحال ولكن يقع عند مجيء الغد وعند دخول الدار فإنه جعله علة بالإضافة إلى شيء منتظر.

فلما لم يكن حاضراً في الوقت وهو الغد والدخول توقف حصول الموجب على حضور ما ليس بحاضر فما حصل الموجب إلا وقد تجدد أمر وهو الدخول وحضور الغد حتى لو أراد أن يؤخر الموجب عن اللفظ غير منوط بحصول ما ليس بحاصل لم يعقل مع أنه الواضع وأنه المختار في تفصيل الوضع.

فإذا لم يمكننا وضع هذا بشهوتنا ولم نعقله فكيف نعقله في الإيجابات الذاتية العقلية الضرورية المقصود فعله لا يتأخر إلا بمانع وأما في العادات فما يحصل بقصدنا لا يتأخر عن القصد مع وجود القصد إليه إلا بمانع

فإن تحقيق القصد والقدرة وارتفعت الموانع لم يعقل تأخر المقصود وإنما يتصور ذلك في العزم لأن العزم غير كاف في وجود الفعل بل العزم على الكتابة لا يوقع الكتابة ما لم يتجدد قصد هو انبعاث في الإنسان متجدد حال الفعل فإن كانت الإرادة القديمة في حكم قصدنا إلى الفعل فلا يتصور تأخر المقصود إلا بمانع ولا يتصور تقدم القصد فلا يعقل قصد في اليوم إلى قيام في الغد إلا بطريق العزم.

وإن كانت الإرادة القديمة في حكم عزمنا فليس ذلك كافياً في وقوع المعزوم عليه بل لا بد من تجدد انبعاث قصدي عند الإيجاد وفيه قول بتغير القديم. لماذا يحدث القصد ثم يبقى عين الإشكال في أن ذلك الانبعاث أو القصد أو الإرادة أو ما شئت سمه لم حدث الآن ولم يحدث قبل ذلك فإما أن يبقى حادث بلا سبب أو يتسلسل إلى غير نهاية.

ورجع حاصل الكلام إلى أنه وجد الموجب بتمام شروطه ولم يبق أمر منتظر ومع ذلك تأخر الموجب ولم يوجد في مدة لا يرتقي الوهم إلى أولها بل آلاف سنين لا تنقص شيئاً منها ثم انقلب الموجب بغتة من غير أمر تجدد وشرط تحقق وهو محال في نفسه. قلنا: من أين تعرفون الأمر...

والجواب أن يقال: استحالة إرادة قديمة متعلقة بإحداث شيء أي شيء كان تعرفونه بضرورة العقل أو نظره وعلى لغتكم في المنطق تعرفون الالتقاء بين هذين الحدين بحد أوسط أو من غير حد أوسط. فإن ادعيتم حداً أوسط وهو الطريق النظري فلا بد من إظهاره وإن ادعيتم معرفة ذلك ضرورة فكيف لم يشارككم في معرفته مخالفوكم والفرقة المعتقدة بحدث العالم بإرادة قديمة لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد ولا شك في أنهم لا يكابرون العقول عناداً مع المعرفة فلا بد من إقامة برهان على شرط المنطق يدل على استحالة ذلك إذ ليس في جميع ما ذكرتموه إلا الاستبعاد والتمثيل بعزمنا وإرادتنا وهو فاسد فلا تضاهي الإرادة القديمة القصود الحادثة وأما الاستبعاد المجرد فلا يكفي من غير برهان. ... من ضرورة العقل فإن قيل: نحن بضرورة العقل نعلم أنه لا يتصور موجب بتمام شروطه من غير موجب ومجوز ذلك مكابر لضرورة العقل.

خصومكم يقولون القول نفسه في علم الله قلنا: وما الفصل بينكم وبين خصومكم إذا قالوا لكم: إنا بالضرورة نعلم إحالة قول من يقول: إن ذاتاً واحداً عالم بجميع الكليات من غير أن يوجب ذلك كثرة ومن غير أن يكون العلم زيادة على الذات ومن غير أن يتعدد العلم مع تعدد المعلوم وهذا مذهبكم في حق الله وهو بالنسبة إلينا وإلى علومنا في غاية الإحالة ولكن تقولون: لا يقاس العلم القديم بالحادث.

وطائفة منكم استشعروا حالة هذا فقالوا: إن الله لا يعلم إلا نفسه فهو العاقل وهو العقل وهو المعقول والكل واحد. فلو قال قائل: اتحاد العقل والعاقل والمعقول معلوم الاستحالة بالضرورة إذ تقدير صانع للعالم لا يعلم صنعه محال بالضرورة والقديم إذا لم يعلم إلا نفسه - تعالى عن قولكم وعن قول جميع الزائغين علواً كبيراً - لم يكن يعلم صنعه البتة. بل لا نتجاوز إلزامات هذه المسألة. دورات الفلك: إن كان لا نهاية لأعدادها لا يكون لها أقسام

فنقول: بم تنكرون على خصومكم إذ قالوا: قدم العالم محال لأنه يؤدي إلى إثبات دورات للفلك لا نهاية لأعدادها ولا حصر لآحادها مع أن لها سدساً وربعاً ونصفاً فإن فلك الشمس يدور في سنة وفلك زحل في ثلاثين سنة فتكون أدوار زحل ثلث عشر أدوار الشمس وأدوار المشتري نصف سدس أدوار الشمس فإنه يدور في اثني عشر سنة.

ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات زحل لا نهاية لأعداد دورات الشمس مع أنه ثلث عشره بل لا نهاية لأدوار فلك الكواكب الذي يدور في ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة كما لا نهاية للحركة المشرقية التي للشمس في اليوم والليلة مرة. فلو قال قائل: هذا مما يعلم استحالته ضرورة فبماذا تنفصلون عن قوله بل لو قال قائل: أعداد هذه الدورات شفع أو وتر أو شفع ووتر جميعاً أو لا شفع ولا وتر.

ولا تكون شفع أو وتر فإن قلتم: شفع ووتر جميعاً أو لا شفع ولا وتر فيعلم بطلانه ضرورةً. وإن قلتم: شفع فالشفع يصير وتراً بواحد فكيف أعوز ما لانهاية له واحد وإن قلتم: وتر فالوتر يصير بواحد شفعاً فكيف أعوز ذلك الواحد الذي به يصير شفعاً فيلزمكم القول بأنه ليس بشفع ولا وتر.

قولهم: المتناهي وحده يوصف بالشفع والوتر فإن قيل: إنما يوصف بالشفع والوتر المتناهي وما لا يتناهى لا يوصف به. قولنا تكون هناك جملة آحاد قلنا: فجملة مركبة من آحاد لها سدس وعشر كما سبق ثم لا توصف بشفع ولا وتر يعلم بطلانه ضرورة من غير نظر فبماذا تنفصلون عن هذا قولهم: ليست هنالك جملة آحاد

فإن قيل: محل الغلط في قولكم أنه جملة مركبة من آحاد فإن هذه الدورات معدومة. أما الماضي فقد انقرض وأما المستقبل فلم يوجد والجملة إشارة إلى موجودات حاضرة ولا موجود هاهنا!. قولنا لا بأس قلنا: العدد ينقسم إلى الشفع والوتر ويستحيل أن يخرج عنه سواء كان المعدود موجوداً باقياً أو فانياً.

فإذا فرضنا عدداً من الأفراس لزمنا أن نعتقد أنه لا يخلو من كونه شفعاً أو وتراً سواء قدرناها موجودة أو معدمة. فإن انعدمت بعد الوجود لم تتغير هذه القضية. أمر نفس الإنسان على أنا نقول لهم: لا يستحيل على أصلكم موجودات حاضرة هي آحاد متغايرة بالوصف ولا نهاية لها وهي نفوس الآدميين المفارقة للأبدان بالموت فهي موجودات لا توصف بالشفع والوتر

فبم تنكرون على من يقول: بطلان هذا يعرف ضرورة وهذا الرأي في النفوس هو الذي اختاره ابن سينا ولعله مذهب رسطاليس. قولهم: النفس واحدة فإن قيل: فالصحيح رأي أفلاطن وهو أن النفس قديمة وهي واحدة وإنما تنقسم في الأبدان فإذا فارقتها عادت إلى أصلها واتحدت. قولنا: هذا مما يخالف ضرورة العقل... قلنا: فهذا أقبح وأشنع وأولى بأن يعتقد مخالفاً لضرورة العقل.

فإنا نقول: نفس زيد عين نفس عمرو أو غيره فإن كان عينه فهو باطل بالضرورة فإن كل واحد يشعر بنفسه ويعلم أنه ليس هو نفس غيره. ولو كان هو عينه لتساويا في العلوم التي هي صفات ذاتية للنفوس داخلة مع النفوس في كل إضافة. وإن قلتم: إنه غيره وإنما انقسم بالتعلق بالأبدان

قلنا: وانقسام الواحد الذي ليس له عظم في الحجم وكمية مقدارية محال بضرورة العقل فكيف يصير الواحد اثنين بل ألفاً ثم يعود ويصير واحداً بل هذا يعقل فيما له عظم وكمية كماء البحر ينقسم بالجداول والأنهار ثم يعود إلى البحر.

فأما ما لا كمية له فكيف ينقسم ولذا هم مفحمون والمقصود من هذا كله أن نبين أنهم لم يعجزوا خصومهم عن معتقدهم في تعلق الإرادة القديمة بالأحداث إلا بدعوى الضرورة وأنهم لا ينفصلون عمن يدعي الضرورة عليهم في هذه الأمور على خلاف معتقدهم وهذا لا مخرج عنه. قولهم: إن الله قبل خلق العالم... فإن قيل: هذا ينقلب عليكم في أن الله قبل خلق العالم كان قادراً على الخلق بقدر سنة أو سنتين - ولا نهاية لقدرته - فكأنه صبر ولم يخلق ثم خلق ومدة الترك متناه أو غير متناه. فإن قلتم: متناه صار وجود الباري متناهي الأول

وإن قلتم: غير متناه فقد انقضى مدة فيها إمكانات لا نهاية لأعدادها. راجع الدليل الثاني قلنا: المدة والزمان مخلوق عندنا. وسنبين حقيقة الجواب عن هذا في الانفصال عن دليلهم الثاني.

قولهم: ما الذي ميز وقتاً معيناً عما قبله وعما بعده... فإن قيل: فبم تنكرون على من يترك دعوى الضرورة ويدل عليه من وجه آخر وهو أن الأوقات متساوية في جواز تعلق الإرادة بها فما الذي ميز وقتاً معيناً عما قبله وعما بعده وليس محالاً أن يكون التقدم والتأخر مراداً بل في البياض والسواد والحركة والسكون فإنكم تقولون: يحدث البياض بالإرادة القديمة والمحل قابل للسواد قبوله للبياض فلم تعلقت الإرادة القديمة بالبياض دون السواد وما الذي ميز أحد الممكنين عن الآخر في تعلق الإرادة به ونحن بالضرورة نعلم أن الشيء لا يتميز عن مثله إلا بمخصص ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العالم وهو ممكن الوجود كما أنه ممكن العدم ويتخصص جانب الوجود المماثل لجانب العدم في الإمكان بغير مخصص. .. وما الذي خصص الإرادة وإن قلتم: إن الإرادة خصصت فالسؤال عن اختصاص الإرادة وأنها لم اختصت.

فإن قلتم:
القديم لا يقال له لم فليكن العالم قديماً ولا يطلب صانعه وسببه لأن القديم لا يقال فيه: لم. فإن جاز تخصص القديم بالاتفاق بأحد الممكنين فغاية المستبعد أن يقال: العالم مخصوص بهيئات مخصوصة كان يجوز أن يكون على هيئات أخرى بدلاً عنها. فيقال: وقع كذلك اتفاقاً كما قلتم: اختصت الإرادة بوقت دون وقت وهيئة دون هيئة اتفاقاً.

وإن قلتم: إن هذا السؤال غير لازم لأنه وارد على كل ما يريده وعائد على كل ما يقدره فنقول: لا بل هذا السؤال لازم لأنه عائد في كل وقت وملازم لمن خالفنا على كل تقدير. قولنا: الإرادة تميز الشيء عن مثله قلنا: إنما وجد العالم حيث وجد وعلى الوصف الذي وجد وفي المكان الذي وجد بالإرادة والإرادة صفة من شأنها تمييز الشيء عن مثله ولولا أن هذا شأنها لوقع الاكتفاء بالقدرة. ولكن لما تساوى نسبة القدرة إلى الضدين ولم يكن بد من مخصص يخصص الشيء عن مثله فقيل: للقديم وراء القدرة صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله فقول القائل: لم اختصت الإرادة بأحد المثلين كقول القائل: لم اقتضى العلم الإحاطة بالمعلوم على ما هو به فيقال: لأن العلم عبارة عن صفة هذا شأنها فكذى الإرادة عبارة عن صفة هذا شأنها بل ذاتها تمييز الشيء عن مثله.


في الأمرين تناقض فإن قيل: إثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله غير معقول بل هو متناقض فإن كونه مثلاً معناه أنه لا تميز له وكونه مميزاً معناه أنه ليس مثلاً ولا ينبغي أن يظن أن السوادين في محلين متماثلان من كل وجه لأن هذا في محل وذاك في محل آخر وهذا يوجب التميز. ولا السوادان في وقتين في محل واحد متماثلان مطلقاً لأن هذا فارق ذلك في الوقت فكيف يساويه من كل وجه.

وإذا قلنا: السوادان مثلان عنينا به في السوادية مضافاً إليه على الخصوص لا على الإطلاق وإلا فلو اتحد المحل والزمان ولم يبق تغاير لم يعقل سوادان ولا عقلت الإثنينية أصلاً. العطشان إذا كان بين يديه قدحان متساويان لا يمكن أن يأخذ أحدهما بدون تمييز يحقق هذا أن لفظ الإرادة مستعارة من إرادتنا ولا يتصور منا أن نميز بالإرادة الشيء عن مثله بل لو كان بين يدي العطشان قدحان من الماء يتساويان من كل وجه بالإضافة إلى غرضه لم يمكن أن يأخذ أحدهما بل إنما يأخذ ما يراه أحسن أو أخف أو أقرب إلى جانب يمينه إن كان عادته تحريك اليمين أو سبب من هذه الأسباب إما خفي وإما جلي وإلا فلا يتصور تمييز الشيء عن مثله بحال. إنكار الأمر في حق الله...

الأول أن قولكم: إن هذا لا يتصور عرفتموه ضرورة أو نظراً ولا يمكن دعوى واحد منهما وتمثيلكم بإرادتنا مقايسة فاسدة تضاهي المقايسة في العلم وعلم الله يفارق علمنا في أمور قررناها فلم تبعد المفارقة في الإرادة بل هو كقول القائل: ذات موجودة لا خارج العالم ولا داخله ولا متصلاً ولا منفصلاً لا يعقل لأنا لا نعقله في حقنا. قيل: هذا عمل توهمك وأما دليل العقل فقد ساق العقلاء إلى التصديق بذلك فبم تنكرون على من يقول: دليل العقل ساق إلى إثبات صفة لله تعالى من شأنها تمييز الشيء عن مثله فإن لم يطابقها اسم الإرادة فلتسم باسم آخر فلا مشاحة في الأسماء. وإنما أطلقناها نحن بإذن الشرع وإلا فالإرادة موضوعة في اللغة لتعيين ما فيه غرض ولا غرض في حق الله وإنما المقصود المعنى دون اللفظ.

.. وفي حق الإنسان فإنه إذا كانت بين يديه تمرتين متساويتين يأخذ إحداهما. على أنه في حقنا لا نسلم أن ذلك غير متصور فإنا نفرض تمرتين متساويتين بين يدي المتشوف إليهما العاجز عن تناولهما جميعاً فإنه يأخذ إحداهما لا محالة بصفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله. وكل ما ذكرتموه من المخصصات من الحسن أو القرب أو تيسر الأخذ فإنا نقدر على فرض انتفائه ويبقى إمكان الأخذ. فأنتم بين أمرين: إما إن قلتم: إنه لا يتصور التساوي بالإضافة إلى أغراضه فقط وهو حماقة وفرضه ممكن وإما إن قلتم: التساوي إذا فرض بقي الرجل المتشوف أبداً متحيراً ينظر إليهما فلا يأخذ إحداهما بمجرد الإرادة والاختيار المنفك عن الغرض وهو أيضاً محال يعلم بطلانه ضرورةً. فإذن لابد لكل ناظر شاهداً أو غائباً في تحقيق الفعل الاختياري من إثبات صفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله. لماذا اختص العالم ببعض الوجوه...

الوجه الثاني في الاعتراض هو أنا نقول: أنتم في مذهبكم ما استغنيتم عن تخصيص الشيء عن مثله فإن العالم وجد من سببه الموجب له على هيئات مخصوصة تماثل نقائضها فلم اختص ببعض الوجوه واستحالة تميز الشيء عن مثله في الفعل أو في اللزوم بالطبع أو بالضرورة لا تختلف. ..

قولهم: بضرورة النظام الكلي فإن قلتم: إن النظام الكلي للعالم لا يمكن إلا على الوجه الذي وجد وإن العالم لو كان أصغر أو أكبر مما هو الآن عليه لكان لا يتم هذا النظام وكذا القول في عدد الأفلاك وعدد الكواكب. وزعمتم أن الكبير يخالف الصغير والكثير يفارق القليل في ما يراد منه فليست متماثلة بل هي مختلفة إلا أن القوة البشرية تضعف عن درك وجوه الحكمة في مقاديرها وتفاصيلها وإنما تدرك الحكمة في بعضها كالحكمة في ميل فلك البروج عن معدل النهار والحكمة في الأوج والفلك الخارج المركز والأكثر لا يدرك السر فيها ولكن يعرف اختلافها ولا بعد في أن يتميز الشيء عن خلافه لتعلق نظام الأمر به. وأما الأوقات فمتشابهة قطعاً بالنسبة إلى الإمكان وإلى النظام ولا يمكن أن يدعي أنه لو خلق بعد ما خلق أو قبله بلحظة لما تصور النظام فإن تماثل الأحوال يعلم بالضرورة. قولنا: لا. مثلان...


فنقول: نحن وإن كنا نقدر على معارضتكم بمثله في الأحوال إذ قال قائلون: خلقه في الوقت الذي كان الأصلح الخلق فيه لكنا لا نقتصر على هذه المقابلة بل نفرض على أصلكم تخصصاً في موضعين لا يمكن أن يقدر فيه اختلاف: أحدهما اختلاف جهة الحركة والآخر تعين موضع القطب في الحركة عن المنطقة. ... مثل القطب الشمالي والقطب الجنوبي أما القطب فبيانه أن السماء كرة متحركة على قطبين كأنهما ثابتان وكرة السماء متشابهة الأجزاء فإنها بسيطة لا سيما الفلك الأعلى الذي هو التاسع فإنه غير مكوكب أصلاً وهما متحركان على قطبين شمالي و جنوبي.

فنقول: ما من نقطتين متقابلتين من النقط التي لا نهاية لها عندهم إلا ويتصور أن يكون هو القطب. فلم تعينت نقطتا الشمال والجنوب للقطبية والثبات ولم لم يكن خط المنطقة ماراً بالنقطتين حتى يعود القطب إلى نقطتين متقابلتين على المنطقة فإن كان في مقدار كبر السماء وشكله حكمة فما الذي ميز محل القطب عن غيره حتى تعين لكونه قطباً دون سائر الأجزاء والنقط وجميع النقط متماثلة وجميع أجزاء الكرة متساوية وهذا لا مخرج عنه قولهم لعل ذلك الموضع يفارق غيره بخاصية فإن قيل لعل الموضع الذي عليه نقطة القطب يفارق غيره بخاصية تناسب كونه محلاً للقطب حتى يثبت فكأنه لا يفارق مكانه وحيزه ووضعه أو ما يفرض إطلاقه عليه من الأسامي وسائر مواضع الفلك يتبدل بالدور وضعها من الأرض ومن الأفلاك والقطب ثابت الوضع فلعل ذلك الموضع كان أولى بأن يكون ثابت الوضع من غيره. تقولون بتشابه السماء...

قلنا: ففي هذا تصريح بتفاوت أجزاء الكرة الأولى في الطبيعة وأنها ليست متشابهة الأجزاء وهو على خلاف أصلكم إذ أحد ما استدللتم به على لزوم كون السماء كرى الشكل أنه بسيط الطبيعة متشابه لا يتفاوت وأبسط الأشكال الكرة فإن التربيع والتسديس وغيرهما يقتضي خروج زوايا وتفاوتها وذلك لا يكون إلا بأمر زائد على الطبع البسيط. ... ومن أين تلك الخاصية ولكنه وإن خالف مذهبكم فليس يندفع الإلزام به فإن السؤال في تلك الخاصية قائم إذ سائر الأجزاء هل كان قابلاً تلك الخاصية أم لا فإن قالوا نعم فلم اختصت الخاصية من بين المتشابهات ببعضها

وإن قالوا: لم يكن ذلك إلا في ذلك الموضع وسائر الأجزاء لا تقبلها فنقول: سائر الأجزاء من حيث أنها جسم قابل للصور متشابه بالضرورة وتلك الخاصية التي يستحقها ذلك الموضع بمجرد كونه جسماً ولا بمجرد كونه سماء فإن هذا المعنى يشاركه فيه سائر أجزاء السماء فلا بد وأن يكون تخصيصه به بتحكم أو بصفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله وإلا فكما يستقيم لهم قولهم: إن الأحوال في قبول وقوع العالم فيها متساوية يستقيم لخصومهم أن أجزاء السماء في قبول المعنى الذي لأجله صار ثبوت الوضع أولى به من تبدل الوضع متساوية وهذا لا مخرج منه. ما سبب تباين حركات السماء الإلزام الثاني تعين جهة حركة الأفلاك بعضها من المشرق إلى المغرب وبعضها بالعكس مع تساوي الجهات ما سببها وتساوي الجهات كتساوي الأوقات من غير فرق قولهم: تلك المناسبات مبدأ الحوادث في العالم فإن قيل: لو كان الكل يدور من جهة واحدة لما تباينت أوضاعها ولم تحدث مناسبات الكواكب بالتثليث والتسديس والمقارنة وغيرها ولكان الكل على وضع واحد لا يختلف قط وهذه المناسبات مبدأ الحوادث في العالم. قلنا: لسنا نلزم اختلاف جهة الحركة بل نقول: الفلك الأعلى يتحرك من المشرق إلى المغرب والذي تحته بالعكس وكل ما يمكن تحصيله بهذا يمكن تحصيله بعكسه وهو أن يتحرك الأعلى من المغرب إلى المشرق وما تحته في مقابلته فيحصل التفاوت وجهات الحركة بعد كونها دورية وبعد كونها متقابلة متساوية فلم تميزت جهة عن جهة تماثلها

قولهم: الجهتان متضادتان فإن قالوا: الجهتان متقابلتان متضادتان فكيف يتساويان قولنا: والأوقات! قلنا: هذا كقول القائل: التقدم والتأخر في وجود العالم يتضادان فكيف يدعي تشابههما ولكن زعموا أنه يعلم تشابه الأوقات بالنسبة إلى إمكان الوجود وإلى كل مصلحة يتصور فرضه في الوجود. فكذلك يعلم تساوي الأحياز والأوضاع والأماكن والجهات بالنسبة إلى قبول الحركة وكل مصلحة تتعلق بها. فإن ساغ لهم دعوى الاختلاف مع هذا التشابه كان لخصومهم دعوى الاختلاف في الأحوال والهيئات أيضاً.

...يتبع


عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الخميس 29 نوفمبر 2018, 5:43 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:42 pm

... تابع

الرد على القائلين بقدم العالم


الاعتراض الثاني: صدور حادث من قديم

الاعتراض الثاني على أصل دليلهم أن يقال: استبعدتم حدوث حادث من قديم ولا بد لكم من الاعتراف به فإن في العالم حوادث ولها أسباب. فإن استندت الحوادث إلى الحوادث إلى غير نهاية فهو محال وليس ذلك معتقد عاقل. ولو كان ذلك ممكناً لاستغنيتم عن الاعتراف بالصانع وإثبات واجب وجود هو مستند الممكنات. وإذا كانت الحوادث لها طرف ينتهي إليه تسلسلها فيكون ذلك الطرف هو القديم فلا بد إذن على أصلهم من تجويز صدور حادث من قديم.

قولهم: في حصول الاستعداد وحضور الوقت فإن قيل: نحن لا نبعد صدور حادث من قديم أي حادث كان بل نبعد صدور حادث هو أول الحوادث من القديم إذ لا يفارق حال الحدوث ما قبله في ترجح جهة الوجود لا من حيث حضور وقت ولا آلة ولا شرط ولا طبيعة ولا غرض ولا سبب من الأسباب. فأما إذا لم يكن هو الحادث الأول جاز أن يصدر منه عند حدوث شيء آخر من استعداد المحل القابل وحضور الوقت الموافق أو ما يجري هذا المجرى. قولنا: ومن أين ذلك قلنا: فالسؤال في حصول الاستعداد وحضور الوقت وكل ما يتجدد قائم فإما أن يتسلسل إلى غير نهاية أو ينتهي إلى قديم يكون أول حادث منه. قولهم: وجود الحركة الدورية...

فإن قيل: المواد القابلة للصور والأعراض والكيفيات ليس شيء منها حادثاً والكيفيات الحادثة هي حركة الأفلاك أعني الحركة الدورية وما يتجدد من الأوصاف الإضافية لها من التثليث والتسديس والتربيع وهي نسبة بعض أجزاء الفلك والكواكب إلى بعض وبعضها نسبة إلى الأرض كما يحصل من الطلوع والشروق والزوال عن منتهى الارتفاع والبعد عن الأرض بكون الكوكب في الأوج والقرب بكونه في الحضيض والميل عن بعض الأقطار بكونه في الشمال والجنوب وهذه الإضافة لازمة للحركة الدورية بالضرورة فموجبها الحركة الدورية. وهي سبب الحوادث في العناصر...

وأما الحوادث فيما يحويه مقعر فلك القمر وهو العناصر بما يعرض فيها من كون وفساد وامتزاج وافتراق واستحالة من صفة إلى صفة فكل ذلك حوادث مستند بعضها إلى بعض في تفصيل طويل وبالآخرة تنتهي مبادئ أسبابها إلى الحركة السماوية الدورية ونسب الكواكب بعضها إلى بعض أو نسبتها إلى الأرض. ... وهي قديمة... فيخرج من مجموع ذلك أن الحركة الدورية الدائمة الأبدية مستند الحوادث كلها ومحرك السماء حركتها الدورية نفوس السموات فإنها حية نازلة منزلة نفوسنا بالنسبة إلى أبداننا ونفوسها قديمة فلا جرم الحركة الدورية التي هي موجبها أيضاً قديمة. ولما تشابه أحوال النفس لكونها قديمة تشابه أحوال الحركات أي كانت دائرة أبداً. ولها أجزاء حادثة

فإذن لا يتصور أن يصدر الحادث من قديم إلا بواسطة حركة دورية أبدية تشبه القديم من وجه فإنه دائم أبداً وتشبه الحادث من وجه فإن كل جزء يفرض منه كان حادثاً بعد أن لم يكن فهو من حيث أنه حادث بأجزائه وإضافاته مبدأ الحوادث ومن حيث أنه أبدي متشابه الأحوال صادر عن نفس أزلية. فإن كان في العالم حوادث فلا بد من حركة دورية وفي العالم حوادث فالحركة الدورية الأبدية ثابتة. قولنا: هذا كلام باطل! إذ لا بد من سبب آخر قلنا: هذا التطويل لا يغنيكم فإن الحركة الدورية التي هي المستند حادث أم قديم فإن كان قديماً فكيف صار مبدأ لأول الحوادث وإن كان حادثاً افتقر إلى حادث آخر وتسلسل.

وقولكم: إنه من وجه يشبه القديم ومن وجه يشبه الحادث فإنه ثابت متجدد أي هو ثابت التجدد متجدد الثبوت. فنقول: أهو مبدأ الحوادث من حيث أنه ثابت أو من حيث أنه متجدد فإن كان من حيث أنه ثابت فكيف صدر من ثابت متشابه الأحوال شيء في بعض الأوقات دون بعض وإن كان من حيث أنه متجدد فما سبب تجدده في نفسه فيحتاج إلى سبب آخر ويتسلسل فهذا غاية تقرير الإلزام.

سيأتي الكلام عن ذلك ولهم في الخروج عن هذا الإلزام نوع احتيال سنورده في بعض المسائل بعد هذه كيلا يطول كلام هذه المسألة بانشعاب شجون الكلام وفنونه. على أنا سنبين أن الحركة الدورية لا يصلح أن تكون مبدأ الحوادث وأن جميع الحوادث مخترعة لله ابتداءً ونبطل ما قالوه من كون السماء حيواناً متحركاً بالاختيار حركة نفسية كحركاتنا.


الثاني قولنا: ليس الله متقدماً بالذات فقط... زعموا أن القائل بأن العالم متأخر عن الله والله متقدم عليه ليس يخلو إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين فإنه بالطبع مع أنه يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له وحركة اليد مع حركة الخاتم وحركة اليد في الماء مع حركة الماء فإنها متساوية في الزمان وبعضها علة وبعضها معلول

إذ يقال: تحرك الظل لحركة الشخص وتحرك الماء لحركة اليد في الماء ولا يقال تحرك الشخص لحركة الظل وتحرك اليد لحركة الماء وإن كانت متساوية.

فإن أريد بتقدم الباري على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن يكون أحدهما قديماً والآخر حادثاً.

وإن أريد به أن الباري متقدم على العالم والزمان لا بالذات بل بالزمان فإذن قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوماً إذ كان العدم سابقاً على الوجود وكان الله سابقاً بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من جهة الأول.

فإذن قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض ولأجله يستحيل القول بحدوث الزمان.

وإذا وجب قدم الزمان وهو عبارة عن قدر الحركة وجب قدم الحركة ووجب قدم المتحرك الذي يدوم الزمان بدوام حركته.

اعتراض: ليس قبل الخليقة زمان: القول بأن " كان الله ولا عالم " لا يدل إلا على أمرين... الاعتراض هو أن يقال: الزمان حادث ومخلوق وليس قبله زمان أصلاً ونعني بقولنا إن الله متقدم على العالم والزمان إنه كان ولا عالم ثم كان ومعه عالم. ومفهوم قولنا: كان ولا عالم وجود ذات الباري وعدم ذات العالم فقط ومفهوم قولنا: كان ومعه عالم وجود الذاتين فقط.

فنعني بالتقدم انفراده بالوجود فقط والعالم كشخص واحد. ولو قلنا: كان الله ولا عيسى مثلاً ثم كان وعيسى معه لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم ذات ثم وجود ذاتين وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث وإن كان الوهم لا يسكن عن تقدير ثالث فلا التفات إلى أغاليط الأوهام.

فإن قيل لقولنا: كان الله ولا عالم مفهوم ثالث سوى وجود الذات وعدم العالم بدليل أنا لو قدرنا عدم العالم في المستقبل كان وجود ذات وعدم ذات حاصلاً ولم يصح أن نقول: كان الله ولا عالم بل الصحيح أن نقول: يكون الله ولا عالم. ونقول للماضي: كان الله ولا عالم. فبين قولنا " كان " و " يكون " فرق إذ ليس ينوب أحدهما مناب الآخر. فلنبحث عن ما يرجع إليه الفرق: ولا شك في أنهما لا يفترقان في وجود الذات ولا في عدم العالم بل في معنى ثالث فإنا إذا قلنا لعدم العالم في المستقبل: كان الله ولا عالم قيل لنا: هذا خطأ فإن " كان " إنما يقال على ماض فدل أن تحت لفظ " كان " مفهوماً ثالثاً وهو الماضي والماضي بذاته هو الزمان والماضي بغيره هو الحركة فإنها تمضي بمضي الزمان. فبالضرورة يلزم أن يكون قبل العالم زمان قد انقضى حتى انتهى إلى وجود العالم.

قولنا: ليس هو إلا نسبة إلينا قلنا: المفهوم الأصلي من اللفظين وجود ذات وعدم ذات. والأمر الثالث الذي فيه افتراق اللفظين نسبة لازمة بالإضافة إلينا بدليل أنا لو قدرنا عدم العالم في المستقبل ثم قدرنا لنا بعد ذلك وجوداً ثانياً لكنا عند ذلك نقول: كان الله ولا عالم.

ويصح قولنا سواء أردنا به العدم الأول أو العدم الثاني الذي هو بعد الوجود وآية أن هذه نسبة أن المستقبل بعينه يجوز أن يصير ماضياً قبل المبتدأ نتوهم " قبلاً "... وهذا كله لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير " قبل " له وذلك " القبل " الذي لا ينفك الوهم عنه يظن أنه شيء محقق موجود هو الزمان. ... كما نتوهم وراء العالم " فوقاً " وهو كعجز الوهم عن أن يقدر تناهي الجسم في جانب الرأس مثلاً إلا على سطح له فوق فيتوهم أن وراء العالم مكاناً إما ملاء وإما خلاء. وإذا قيل: ليس فوق سطح العالم فوق ولا بعد أبعد منه كاع الوهم عن الإذعان لقبوله كما إذا قيل: ليس قبل وجود العالم " قبل " هو وجود محقق نفر عن قبوله وكما جاز أن يكذب الوهم في تقديره فوق العالم خلاء هو بعد لا نهاية له بأن يقال له: الخلاء ليس مفهوماً في نفسه وأما البعد فهو تابع للجسم الذي تتباعد أقطاره فإذا كان الجسم متناهياً كان البعد الذي هو تابع له متناهياً وانقطع الملاء والخلاء غير مفهوم فثبت أنه ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء وإن كان الوهم لا يذعن لقبوله.


ولكن ذلك وهم فكذلك يقال: كما أن البعد المكاني تابع للجسم فالبعد الزماني تابع للحركة فإنه امتداد الحركة كما أن ذلك امتداد أقطار الجسم وكما أن قيام الدليل على تناهي أقطار الجسم منع من إثبات بعد مكاني وراءه. فقيام الدليل على تناهي الحركة من طرفيه يمنع من تقدير بعد زماني وراءه وإن كان الوهم متشبثاً بخياله وتقديره ولا يرعوى عنه. ولا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى " قبل " و " بعد " وبين البعد المكاني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى فوق وتحت. فإن جاز إثبات " فوق " لا " فوق " فوقه جاز إثبات " قبل " ليس قبله " قبل " محقق إلا خيال وهمي كما في الفوق.

وهذا لازم فليتأمل فإنهم اتفقوا على أنه ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. قولهم ليس هناك موازنة فالعالم ليس له " فوق " إلا بالاسم الإضافي المتبدل... فإن قيل: هذه الموازنة معوجة لأن العالم ليس له " فوق " ولا " تحت " بل هو كري وليس للكرة " فوق " و " تحت " بل إن سميت جهة " فوقاً " من حيث أنه يلي رأسك والآخر " تحتاً " من حيث أنه يلي رجلك فهو اسم تجدد له بالإضافة إليك والجهة التي هي " تحت " بالإضافة إليك " فوق " بالإضافة إلى غيرك إذا قدرت على الجانب الآخر من كر ة الأرض واقفاً يحاذي أخمص قدمه أخمص قدميك بل الجهة التي تقدرها فوقك من أجزاء السماء نهاراً هو بعينه تحت الأرض ليلاً وما هو تحت الأرض يعود إلى فوق الأرض في الدور.

وأما الأول لوجود العالم لا يتصور أن ينقلب آخراً. وهو كما لو قدرنا خشبة أحد طرفيها غليظ والآخر دقيق واصطلحنا على أن نسمي الجهة التي تلي الدقيق فوقاً إلى حيث ينتهي والجانب الآخر تحتاً لم يظهر بهذا اختلاف ذاتي في أجزاء العالم بل هي أسامي مختلفة قيامها بهيئة هذه الخشبة حتى لو عكس وضعها انعكس الاسم والعالم لم يتبدل. فالفوق والتحت نسبة محضة إليك لا تختلف أجزاء العالم وسطوحه فيه.

وأما العدم المتقدم على العالم والنهاية الأولى لوجوده ذاتي لا يتصور أن يتبدل فيصير آخراً ولا العدم المقدر عند إفناء العالم الذي هو عدم لاحق يتصور أن يصير سابقاً. فطرفا نهاية وجود العالم الذي أحدهما أول والثاني آخر طرفان ذاتيان ثابتان لا يتصور التبدل فيه بتبدل الإضافات البتة بخلاف الفوق والتحت. ولكن لوجود العالم " قبل " فإذن أمكننا أن نقول: ليس للعالم فوق ولا تحت ولا يمكنكم أن تقولوا: ليس لوجود العالم " قبل " ولا " بعد ". وإذا ثبت القبل والبعد فلا معنى للزمان سوى ما يعبر عنه بالقبل والبعد.

قولنا: كما أن العالم ليس له " خارج " كذلك ليس له قبل قلنا: لا فرق فإنه لا غرض في تعيين لفظ الفوق والتحت بل نعدل إلى لفظ الوراء والخارج ونقول: للعالم داخل وخارج فهل خارج العالم شيء من ملاء أو خلاء فسيقولون: ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وإن عنيتم بالخارج سطحه الأعلى فله خارج وإن عينتم غيره فلا خارج له.

فكذلك إذا قيل لنا: هل لوجود العالم " قبل " قلنا: إن عني به: هل لوجود العالم بداية أي طرف منه ابتدأ فله " قبل " على هذا كما للعالم خارج على تأويل أنه الطرف المكشوف والمنقطع السطحي. وإن عنيتم بقبل شيئاً آخر فلا " قبل " للعالم كما أنه إذا عني بخارج العالم شيء سوى السطح قيل: لا خارج للعالم. فإن قلتم: لا يعقل مبتدأ وجود لا " قبل " له فيقال: ولا يعقل متناهى وجود من الجسم لا خارج له. فإن قلت: خارجه سطح الذي هو منقطعه لا غير قلنا: قبله بداية وجوده الذي هو طرفه لا غير. نسبة ذلك للمكان والزمان من عمل الوهم...

بقي أنا نقول: لله وجود ولا عالم معه. وهذا القدر أيضاً لا يوجب إثبات شيء آخر والذي يدل على أن هذا عمل الوهم أنه مخصوص بالزمان والمكان. فإن الخصم وإن اعتقد قدم الجسم يذعن وهمه لتقدير حدوثه. ونحن وإن اعتقدنا حدوثه ربما أذعن وهمنا لتقدير قدمه. هذا في الجسم.

فإذا رجعنا إلى الزمان لم يقدر الخصم على تقدير حدوث زمان لا " قبل " له وخلاف المعتقد يمكن وضعه في الوهم تقديراً وفرضاً. وهذا مما لا يمكن وضعه في الوهم كما في المكان فإن من يعتقد تناهي الجسم ومن لا يعتقد كل واحد يعجز عن تقدير جسم ليس وراءه لا خلاء ولا ملاء بل لا يذعن وهمه لقبول ذلك.


وهذا هو سبب الغلط ولكن قيل: صريح العقل إذا لم يمنع وجود جسم متناه بحكم الدليل لا يلتفت إلى الوهم. فكذلك صريح العقل لا يمنع وجوداً مفتتحاً ليس قبله شيء. وإن قصر الوهم عنه فلا يلتفت إليه لأن الوهم لما لم يألف جسماً متناهياً إلا وبجنبه جسم آخر أو هواء تخيله خلاء لم يتمكن من ذلك في الغائب. فكذلك لم يألف الوهم حادثاً إلا بعد شيء آخر فكاع عن تقدير حادث ليس له " قبل " هو شيء موجود قد انقضى. فهذا هو سبب الغلط والمقاومة حاصلة بهذه المعارضة.


صيغة ثانية لهم في إلزام قدم الزمان

قولهم: كان الله قادراً على أن يخلق العالم قبل أن خلقه بقدر سنين... قالوا: لا شك في أن الله عندكم كان قادراً على أن يخلق العالم قبل أن خلقه بقدر سنة ومائة سنة وألف سنة وإن هذه التقديرات متفاوتة في المقدار والكمية فلا بد من إثبات شيء قبل وجود العالم ممتد مقدر بعضه أمد وأطول من البعض. ... أو أن يخلق قبله عالماً ثانياً مثله بحيث ينتهي إلى زماننا هذا بقدر عدد أكثر من الدورات وإن قلتم: لا يمكن إطلاق لفظ سنين إلا بعد حدوث الفلك ودوره فلنترك لفظ سنين ولنورد صيغة أخرى فنقول: إذا قدرنا أن العالم من أول وجوده قد دار فلكه إلى الآن بألف دورة مثلاً فهل كان الله قادراً على أن يخلق قبله عالماً ثانياً مثله بحيث ينتهي إلى زماننا هذا بألف ومائة دورة فإن قلتم: لا فكأنه انقلب القديم من العجز إلى القدرة أو العالم من الاستحالة إلى الإمكان.

وإن قلتم: نعم ولا بد منه فهل كان يقدر على أن يخلق عالماً ثالثاً بحيث ينتهي إلى زماننا بألف ومائتي دورة ولا بد من نعم. قولنا: فهناك مقدار معلوم...

فنقول: هذا العالم الذي سميناه بحسب ترتيبنا في التقدير ثالثاً وإن كان هو الأسبق فهل أمكن خلقه مع العالم الذي سميناه ثانياً وكان ينتهي إلينا بألف ومائتي دورة والآخر بألف ومائة دورة وهما متساويان في مسافة الحركة وسرعتها فإن قلتم: نعم فهو محال إذ يستحيل أن يتساوى حركتان في السرعة والبطء ثم تنتهيان إلى وقت واحد والأعداد متفاوتة. وإن قلتم: إن العالم الثالث الذي ينتهي إلينا بألف ومائتي دورة لا يمكن أن يخلق مع العالم الثاني الذي ينتهي إلينا بألف ومائة دورة بل لا بد وأن يخلقه قبله بمقدار يساوي المقدار الذي تقدم العالم الثاني على العالم الأول وسمينا الأول ما هو أقرب إلى وهمنا إذ ارتقينا من وقتنا إليه بالتقدير فيكون قدر إمكان هو ضعف إمكان آخر ولا بد من إمكان آخر هو ضعف الكل. ...

فهناك زمان فهذا الإمكان المقدر المكمم الذي بعضه أطول من البعض بمقدار معلوم لا حقيقة له إلا الزمان فليست هذه الكميات المقدرة صفة ذات الباري تعالى عن التقدير ولا صفة عدم العالم إذ العدم ليس شيئاً حتى يتقدر بمقادير مختلفة والكمية صفة فتستدعى ذا كمية وليس ذلك إلا الحركة والكمية إلا الزمان الذي هو قدر الحركة.

فإذن قبل العالم عندكم شيء ذو كمية متفاوتة وهو الزمان. فقبل العالم عندكم زمان. اعتراض: وكذلك فوراء العالم خلاء أو ملاء... الاعتراض أن كل هذا من عمل الوهم وأقرب طريق في دفعه المقابلة للزمان بالمكان.

فإنا نقول: هل كان في قدرة الله أن يخلق الفلك الأعلى في سمكه أكبر مما خلقه بذراع فإن قالوا: لا فهو تعجيز. وإن قالوا: نعم فبذراعين وثلاثة أذرع وكذلك يرتقي إلى غير نهاية. ونقول: في هذا إثبات " بعد " وراء العالم له مقدار وكمية إذ الأكبر بذراعين ما كان يشغل ما يشغله الأكبر بذراع فوراء العالم بحكم هذا كمية فتستدعي ذاكم وهو الجسم أو الخلاء. فوراء العالم خلاء أو ملاء فما الجواب عنه ... فيكون الخلاء مقداراً وكذلك هل كان الله قادراً على أن يخلق كرة العالم أصغر مما خلقه بذراع ثم بذراعين وهل بين التقديرين تفاوت فيما ينتفي من الملاء والشغل للأحياز إذ الملاء المنتفي عند نقصان ذراعين أكثر مما ينتفي عند نقصان ذراع فيكون الخلاء مقدراً والخلاء ليس بشيء فكيف يكون مقدراً وجوابنا في تخييل الوهم تقدير الإمكانات الزمانية قبل وجود العالم كجوابكم في تخييل الوهم تقدير الإمكانات المكانية وراء وجود العالم ولا فرق. قولهم: كون العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه ليس بممكن

فإن قيل: نحن لا نقول: إن ما ليس بممكن فهو مقدور وكون العالم أكبر مما هو عليه ولا أصغر منه ليس بممكن فلا يكون مقدوراً. ولماذا وهذا العذر باطل من ثلاثة أوجه: أحدها أن هذا مكابرة العقل فإن العقل في تقدير العالم أكبر أو أصغر مما عليه بذراع ليس هو كتقديره الجمع بين السواد والبياض والوجود والعدم والممتنع هو الجمع بين النفي والإثبات وإليه ترجع المحالات كلها فهو تحكم بارد فاسد. وجود العالم يكون واجباً!

الثاني أنه إذا كان العالم على ما هو عليه لا يمكن أن يكون أكبر منه ولا أصغر. فوجوده على ما هو عليه واجب لا ممكن والواجب مستغن عن علة. فقولوا بما قاله الدهريون من نفي الصانع ونفي سبب هو مسبب الأسباب وليس هذا مذهبكم. ووجوده قبل الوجود غير ممكن!

الثالث هو أن هذا الفاسد لا يعجز الخصم عن مقابلته بمثله. فنقول: إنه لم يكن وجود العالم قبل وجوده ممكناً بل وافق الوجود الإمكان من غير زيادة ولا نقصان. فإن قلتم: فقد انتقل القديم من القدرة إلى العجز قلنا: لا لأن الوجود لم يكن ممكناً فلم يكن مقدوراً وامتناع حصول ما ليس بممكن لا يدل على العجز. وإن قلتم: إنه كيف كان ممتنعاً فصار ممكناً قلنا: ولم يستحيل أن يكون ممتنعاً في حال ممكناً في حال فإن قلتم: الأحوال متساوية قيل لكم: والمقادير متساوية فكيف يكون مقدار ممكناً وأكبر منه أو أصغر بمقدار ظفر ممتنعاً فإن لم يستحل ذلك لم يستحل هذا. فهذا طريقة المقاومة.


إن الله إذا أراد فعل والتحقيق في الجواب أن ما ذكروه من تقدر الإمكانات لا معنى لها وإنما المسلم أن الله قديم قادر لا يمتنع عليه الفعل أبداً لو أراد وليس في هذا القدر ما يوجب إثبات زمان ممتد إلا أن يضيف الوهم بتلبيسه إليه شيئاً آخر.

الثالث قولهم: إمكان العالم كان موجوداً فالعالم أيضاً كان موجوداً تمسكوا بأن قالوا: وجود العالم ممكن قبل وجوده إذ يستحيل أن يكون ممتنعاً ثم يصير ممكناً وهذا الإمكان لا أول له أي لم يزل ثابتاً ولم يزل العالم ممكناً وجوده إذ لا حال من الأحوال يمكن أن يوصف العالم فيه بأنه ممتنع الوجود. فإذا كان الإمكان لم يزل فالممكن على وفق الإمكان أيضاً لم يزل فإن معنى قولنا أنه ممكن وجوده أنه ليس محالاً وجوده.
فإذا كان ممكناً وجوده أبداً لم يكن محالاً وجوده أبداً وإلا فإن كان محالاً وجوده أبداً بطل قولنا إنه ممكن وجوده أبداً وإن بطل قولنا إنه ممكن وجوده أبداً بطل قولنا إن الإمكان لم يزل وإن بطل قولنا إن الإمكان لم يزل صح قولنا إن الإمكان له أول وإذا صح أن له أولاً كان قبل ذلك غير ممكن فيؤدي إلى إثبات حال لم يكن العالم ممكناً ولا كان الله عليه قادراً.

اعتراض: العالم لم يزل ممكن الحدوث الاعتراض أن يقال: العالم لم يزل ممكن الحدوث فلا جرم ما من وقت إلا ويتصور أحداثه فيه وإذا قدر موجوداً أبداً لم يكن حادثاً فلم يكن الواقع على وفق الإمكان بل خلافه. وهذا كقولهم في المكان وهو أن تقدير العالم أكبر مما هو أو خلق جسم فوق العالم ممكن وكذى آخر فوق ذلك الآخر وهكذا إلى غير نهاية.

فلا نهاية لإمكان الزيادة ومع ذلك فوجود ملاء مطلق لا نهاية له غير ممكن. فكذلك وجود لا ينتهي طرفه غير ممكن بل كما يقال الممكن جسم متناهي السطح ولكن لا تتعين مقاديره في الكبر والصغر فكذلك الممكن الحدوث ومبادئ الوجود لا تتعين في الرابع

قولهم: كل حادث تسبقه مادة... وهو أنهم قالوا: كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه إذ لا يستغني الحادث عن مادة فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصور والأعراض والكيفيات على المواد. ... ممكنة له وبيانه أن كل حادث فهو قبل حدوثه لا يخلوا إما أن يكون ممكن الوجود أو ممتنع الوجود أو واجب الوجود ومحال أن يكون ممتنعاً لأن الممتنع في ذاته لا يوجد قط ومحال أن يكون واجب الوجود لذاته فإن الواجب لذاته لا يعدم قط فدل أنه ممكن الوجود بذاته.

فإذن إمكان الوجود حاصل له قبل وجوده وإمكان الوجود وصف إضافي لا قوام له بنفسه فلا بد له من محل يضاف إليه ولا محل إلا المادة فيضاف إليها كما نقول: هذه المادة قابلة للحرارة والبرودة أو السواد والبياض أو الحركة والسكون أي ممكن لها حدوث هذه الكيفيات وطريان هذه التغيرات فيكون الإمكان وصفاً للمادة. والمادة لا يكون لها مادة فلا يمكن أن تحدث إذ لو حدثت لكان إمكان وجودها سابقاً على وجودها وكان الإمكان قائماً بنفسه غير مضاف إلى شيء مع أنه معنى الإمكان لا يرجع إلى كونه مقدوراً... ولا يمكن أن يقال إن معنى الإمكان يرجع إلى كونه مقدوراً وكون القديم قادراً عليه لأنا لا نعرف كون الشيء مقدوراً إلا بكونه ممكناً. فنقول: هو مقدور لأنه ممكن وليس بمقدور لأنه ليس بممكن.

فإن كان قولنا: هو ممكن يرجع إلى أنه مقدور فكأنا قلنا: هو مقدور لأنه مقدور وليس بمقدور لأنه ليس بمقدور وهو تعريف الشيء بنفسه. فدل أن كونه ممكناً قضية أخرى في العقل ظاهرة بها تعرف القضية الثانية وهو كونه مقدوراً. ... ولا إلى كونه معلوماً ويستحيل أن يرجع ذلك إلى علم القديم بكونه ممكناً فإن العلم يستدعي معلوماً.

فالإمكان المعلوم غير العلم لا محالة ثم هو وصف إضافي فلا بد من ذات يضاف إليه وليس إلا المادة. فكل حادث فقد سبقه مادة فلم تكن المادة الأولى حادثة بحال. اعتراض: الإمكان هو قضاء العقل وهو يستدعي شيئاً موجوداً... الاعتراض أن يقال: الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل. فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع عليه تقديره سميناه ممكناً وإن امتنع سميناه مستحيلاً وإن لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجباً.

فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى تجعل وصفاً له. بدليل ثلاثة أمور: أحدها أن الإمكان لو استدعى شيئاً موجوداً يضاف إليه ويقال إنه إمكانه لاستدعى الامتناع شيئاً موجوداً يقال إنه امتناعه وليس للممتنع وجود في ذاته ولا مادة يطرى عليها المحال حتى يضاف الامتناع إلى المادة. إمكان السواد والثاني أن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين. فإن كان هذا الإمكان مضافاً إلى الجسم الذي يطريان عليه حتى يقال معناه إن هذا الجسم يمكن أن يسود وأن يبيض فإذن ليس البياض في نفسه ممكناً ولا له نعت الإمكان وإنما الممكن الجسم والإمكان مضاف إليه.

فنقول: ما حكم نفس السواد في ذاته أو هو ممكن أو واجب أو ممتنع ولا بد من القول بأنه ممكن فدل أن العقل في القضية بالإمكان لا يفتقر إلى وضع ذات موجود يضيف إليه الإمكان. إمكان النفوس والثالث أن نفوس الآدميين عندهم جواهر قائمة بأنفسها ليس بجسم ومادة ولا منطبع في مادة. وهي حادثة على ما اختاره ابن سينا والمحققون منهم ولها إمكان قبل حدوثها وليس لها ذات ولا مادة. فإمكانها وصف إضافي ولا يرجع إلى قدرة القادر وإلى الفاعل فإلى ماذا يرجع قولهم: الإمكان ليس بقضاء العقل فإذا قدر عدم القضاء لم يزل الإمكان

فإن قيل: رد الإمكان إلى قضاء العقل محال إذ لا معنى لقضاء العقل إلا العلم بالإمكان. فالإمكان معلوم وهو غير العلم بل العلم يحيط به ويتبعه ويتعلق به على ما هو والعلم لو قدر عدمه لم ينعدم المعلوم. والمعلوم إذا قدر انتفاؤه انتفى العلم. فالعلم والمعلوم أمران اثنان أحدهما تابع والآخر متبوع. ولو قدرنا إعراض العقلاء عن تقدير الإمكان وغفلتهم عنه لكنا نقول: لا يرتفع الإمكان بل الممكنات في أنفسها ولكن العقول غفلت عنها أو عدمت العقول والعقلاء. فيبقى الإمكان لا محالة. للامتناع موضوع... وأما الأمور الثلاثة فلا حجة فيها فإن الامتناع أيضاً وصف إضافي يستدعي موجوداً يضاف إليه. ومعنى الممتنع الجمع بين الضدين فإذا كان المحل أبيض كان ممتنعاً عليه أن يسود مع وجود البياض فلا بد من موضوع يشار إليه موصوف بصفة.

فعند ذلك يقال: ضده ممتنع عليه فيكون الامتناع وصفاً إضافياً قائماً بموضوع مضافاً إليه. وأما الوجوب فلا يخفى أنه مضاف إلى الوجود الواجب. ولإمكان السواد موضوع وأما الثاني وهو كون السواد في نفسه ممكناً فغلط. فإنه إن أخذ مجرداً دون محل يحله كان ممتنعاً لا ممكناً وإنما يصير ممكناً إذا قدر هيئة في جسم.

فالجسم مهيأ لتبدل هيئة والتبدل ممكن على الجسم وإلا فليس للسواد نفس مفردة حتى يوصف بإمكان. ولإمكان النفوس موضوع وأما الثالث وهو النفس فهي قديمة عند فريق ولكن ممكن لها التعلق بالأبدان فلا يلزم على هذا. ومن سلم حدوثه فقد اعتقد فريق منهم أنه منطبع في المادة تابع للمزاج على ما دل عليه كلام جالينوس في بعض المواضع فتكون في مادة وإمكانها مضاف إلى مادتها.

وعلى مذهب من سلم أنها حادثة وليست منطبعة فمعناه أن المادة ممكن لها أن يدبرها نفس ناطقة فيكون الإمكان السابق على الحدوث مضافاً إلى المادة فإنها وإن لم تنطبع فيها فلها علاقة معها إذ هي المدبرة والمستعملة لها فيكون الإمكان راجعاً إليها بهذا الطريق. الجواب الإمكان هو قضاء العقل كما يصرح بأن الكليات موجودة والجواب أن رد الإمكان والوجوب والامتناع إلى قضايا عقلية صحيح وما ذكر بأن معنى قضاء العقل علم والعلم يستدعي معلوماً. فنقول له: معلوم كما أن اللونية والحيوانية وسائر قضايا الكلية ثابتة في العقل عندهم وهي علوم لا يقال لا معلوم لها ولكن لا وجود لمعلوماتها في الأعيان حتى صرح الفلاسفة بأن الكليات موجودة في الأذهان لا في الأعيان.

وإنما الموجود في الأعيان جزئيات شخصية وهي محسوسة غير معقولة ولكنها سبب لأن ينتزع العقل منها قضية مجردة عن المادة عقلية. فإذن اللونية قضية مفردة في العقل سوى السوادية والبياضية ولا يتصور في الوجود لون ليس بسواد ولا بياض ولا غيره من الألوان ويثبت في العقل صورة اللونية من غير تفصيل ويقال: هي صورة وجودها في الأذهان لا في الأعيان. فإن لم يمتنع هذا لم يمتنع ما ذكرناه. لو قدر عدم العاقل...

وأما قولهم: لو قدر عدم العقلاء أو غفلتهم ما كان الإمكان ينعدم فنقول: ولو قدر عدمهم هل كانت القضايا الكلية وهي الأجناس والأنواع تنعدم

فإذا قالوا: نعم إذ لا معنى لها إلا قضية في العقول فكذلك قولنا في الإمكان ولا فرق بين البابين. وإن زعموا أنها تكون باقية في علم الله فكذى القول في الإمكان. فالإلزام واقع والمقصود إظهار تناقض كلامهم. امتناع وجود شريك لله وأما العذر عن الامتناع بأنه مضاف إلى المادة الموصوفة بالشيء إذ يمتنع عليه ضده فليس كل محال كذلك فإن وجود شريك لله محال وليس ثم مادة يضاف إليها الامتناع.

فإن زعموا أن معنى استحالة الشريك أن انفراد الله تعالى بذاته وتوحده واجب والانفراد مضاف إليه فنقول: ليس واجب فإن العالم موجود معه فليس منفرداً. فإن زعموا أن انفراده عن النظير واجب ونقيض الواجب ممتنع وهو إضافة إليه قلنا: نعني أن انفراد الله عنها ليس كانفراده عن النظير فإن انفراده عن النظير واجب وانفراده عن المخلوقات الممكنة غير واجب فنتكلف إضافة الإمكان إليه بهذه الحيلة كما تكلفوه في رد الامتناع إلى ذاته بقلب عبارة الامتناع إلى الوجوب ثم بإضافة الانفراد إليه بنعت الوجوب.

السواد هو في العقل وأما العذر عن السواد والبياض بأنه لا نفس له ولا ذات منفرداً إن عني بذلك في الوجود فنعم وإن عني بذلك في العقل فلا فإن العقل يعقل السواد الكلي ويحكم عليه بالإمكان في ذاته. وهو في الحق يضاف إلى الفاعل وإلى المادة ثم العذر باطل بالنفوس الحادثة فإن لها ذواتاً مفردة وإمكاناً سابقاً على الحدوث وليس ثم ما يضاف إليه.

وقولهم: إن المادة ممكن لها أن يدبرها النفس فهذه إضافة بعيدة. فإن اكتفيتم بهذا فلا يبعد أن يقال: معنى إمكان الحادث أن القادر عليها يمكن في حقه أن يحدثها فيكون إضافة إلى الفاعل مع أنه ليس منطبعاً فيه كما أنه إضافة إلى البدن المنفعل مع أنه لا ينطبع فيه. ولا فرق بين النسبة إلى الفاعل والنسبة إلى المنفعل إذا لم يكن انطباع في الموضعين.

قولهم: قابلتم الإشكالات بالإشكالات فإن قيل: فقد عولتم في جميع الاعتراضات على مقابلة الإشكالات بالإشكالات ولم تحلوا ما أوردوه من الإشكال قولنا: المعارضة تبين فساد الكلام قلنا: المعارضة تبين فساد الكلام لا محالة وينحل وجه الإشكال في تقدير المعارضة والمطالبة. ونحن لم نلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتغبير في وجوه أدلتهم بما نبين تهافتهم. ولم نتطرق الذب عن مذهب معين فلم نخرج لذلك عن مقصود الكتاب ولا نستقصي القول في الأدلة الدالة على الحدث إذ غرضنا إبطال دعواهم معرفة القدم.


إثبات المذهب الحق يكون في كتاب قواعد العقائد وأما إثبات المذهب الحق فسنصنف فيه كتاباً بعد الفراغ من هذا إن ساعد التوفيق إن شاء الله ونسميه قواعد العقائد ونعتني فيه بالإثبات كما اعتنينا في هذا الكتاب بالهدم والله أعلم.

أبو حامد الغزالى من كتابه تهافن الفلاسفة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:47 pm

الحرية

اولا الحرية عند فلاسفة الغرب
مثلما شغلت الحرية اذهان المفكرين الاسلاميين, فانها شغلت اذهان المفكرين في الجانب الشمالي من الكرة الارضية، وهذه مسألة جد طبيعية نظرا لملازمة الحرية للانسان منذ آدم (ع)، واعتداء قابيل على حرية أخيه هابيل في الحياة والتمتع بما وهبه الله له، ومنذ ذلك التاريخ والانسان يبحث في مفهوم الحرية وحدودها وتطبيقاتها ومصاديقها الموضوعية.


الحرية عند فلاسفة اليونان


وذهب على مذبح الحرية الكثير من الانبياء والعظماء والمفكرين، وفضّل البعض ان يهب حياته ويزهقها على يد اعدائه لئلا يتنازل عن حريته وبما يؤمن، وبما يعتقد بانه حقه في القول والفعل بما يراه حقا..


اذ: "ليس هناك شيء اهم من حرية الارادة"(1)، مثلا فضّل سقراط (Socrates)(469-399 ق م) واضع باب التعريف في المنطق القديم، والذي اعطى للناس الثقة بوجدانهم عن فوضى السياسة وتشكيك الجدل(2)، فضل هذا الفيلسوف في بلد رفع اول ما رفع لواء "الديمقراطية المباشرة" الموت على التنازل عن افكاره وحريته، كانت افكاره وايمانه بحرية التعبير هي السبب وراء محاكمته المشهورة "..


ففي سن السبعين قدم سقراط لمحكمة اثينا بتهمة عقوق مبادئ اله اثينا وافساد عقول الشباب من خلال تساؤلاته المستمرة"(3)، كان يدرك خطورة الموقف .


وقد: "رأى سقراط انه لن يعامل بتسامح، وحضه اصدقاؤه على الفرار من اثينا فرفض، ولم تكن الا ايام حتى عقد له مجلس مؤلف من 500 قاض لمحاكمته .. قال سقراط: ليس على الارض انسان له الحق في ان يملي على الاخر ما يجب ان يؤمن به أو يحرمه من حق التفكير كما يهوى ..


مادام الانسان على وفاق مع ضميره فانه يستطيع ان يستغني عن رضى اصدقائه وان يستغني عن المال وعن العائلة وعن البيت، ولكن بما انه لا يمكن ان يصل الى نتائج صحيحة بدون ان يفحص المسائل، مالها وما عليها، فحصا تاما فانه يجب ان يترك الناس احرارا، لهم الحرية التامة في مناقشة جميع المسائل بدون ان تتدخل الحكومة في مناقشتهم.

ويضيف الكاتب المصري سلامة موسى (1887-1957م) أن حجج سقراط في دفاعه عن نفسه ورد تهمة الكفر التي اتهم بها كانت قوية الى حد ان خاطبه المجلس في الكف عن تعليم تلاميذه بحيث اذا وعد وعدا صادقا بذلك فان المجلس يعفو عنه، فكان جواب سقراط على هذه التسوية: كلا، مادام ضميري، هذا الصوت الهادئ الصغير في قلبي، يأمرني بان اسير واعلم الناس طريق العقل الصحيح فاني سأوالي تعليم الناس اصرح لهم بما في عقلي بدون اعتبار النتائج"(4).

واذا كان سقراط قد وصف الحرية بانها حرية الناس في مناقشة جميع المسائل دون رقابة سلطوية فانّ تلميذه افلاطون ()(Plato427-347ق م) اعتبر الحرية مفصلا هاما في حياة الناس: "وان النفس، بحكمة العلم، أي النظر والتأمل في الحقائق الأبدية، تستطيع ان تنفصل عن الجسم، (وتنحدر) منه، فالنفس تصل الى حريتها عن طريق النظر، والتأمل، والحرية هي الارتقاء بواسطة الجدل العقلي نحو الوجود المطلق".(5)

وافلاطون هنا يعول كثيرا على الحرية، لانه زعم ان الانسان عاش بروحه المثالية قبل ان يعيش ببدنه، في عالم اسماه (عالم المُثُل):


"وهناك عرفت روح الانسان روح الحقائق"(6)، فهو يرى ان الحرية ضرورية لان يصل الانسان الى ذلك العالم،عالم المثل، فالحرية عنده هي انطلاقة الانسان نحو كماله من دون عوائق او حواجز مرتبطة بشوائب الارض والجسد، ليس هذا على الارض فحسب..


فهو يعتقد: "ان نفوس الفلاسفة الذين يناضلون في حياتهم من اجل ملاحقة الحكمة والسعي وراء نيلها ستتحرر بعد الموت من كل قيود الجسد ولوثاته".(7) وهذه اشارة واضحة من افلاطون الى ان الانسان سيعود كما جاء الى عالم المثل، ولكن شريطة ان يكون حرا في متابعة الحكمة وان لا يقيد نفسه باواصر الارض والجسد، وبالطبع فان هذه مرحلة متطورة في سلوك الانسان قليل من يرتقي اليها..


وعند حديثه عن المدينة الفاضلة التي ينشدها او مدينة الحرية والديمقراطية فانه يشير الى حرية: "كل انسان في ان يرتب وينظم حياته بالصورة التي تناسبه تحت قانون ينطبق على الجميع"(Cool، ففي المدينة الفاضلة يرى افلاطون: "ان الحرية هي افضل واكمل ما يملكه الناس، ولذلك فهناك مدينة واحدة فقط هي عندما يملك المرء الحرية الطبيعية للعيش بسلام".(9)

ان التأكيد على تجرد الروح في حياة الانسان وحريته نجدها في فلسفة خريج الاكاديمية الافلاطونية في اثينا, الفيلسوف ارسطو (Aristotle) (384-322ق م)، فهو قد وجد ان النفس هي مدار حياة الانسان ونشدانه للحرية والعيش بسلام وطمأنينة.(10)


الحرية المشروطة


وكما صعب على المفكرين المسلمين، ان يهتدوا الى تعريف جامع مانع، لم يهتد اليه المفكرون الغربيون، يقول الباحث العراقي الشيخ آل نجف: "واذا ما طالعنا التراث الغربي في تعريف الحرية وتحديد معناها ومفهومها رأينا فيه تأكيدا متواصلا على وجود تعاريف ومعان مختلفة كثيرة للحرية حتى قال مونتسكيو انه: ليست هناك كلمة اعطيت معاني مختلفة كالحرية..


ثم عرفها بقوله: ان يقدر المرء على ان يعمل ما ينبغي عليه ان يريد، وألاّ يُكره على عمل ما لا ينبغي ان يريد، هي الحق في ان يعمل المرء ما تجيزه القوانين العادلة، واذا كان المواطن ان يعمل ما ينهى عنه كان لغيره نفس هذا الحق فتلاشت الحرية".(11)

ونلاحظ في هذا التعريف انسجاما في رؤية القانوني الفرنسي مونتسكيو (Montesquieu Charles Louis De) (1689-1755م) للحرية وتأطيرها بالقانون، وهو انسجام نابع من خلفيته القانونية وهو مؤلف كتاب (روح الشرائع) الذي كان له تأثير غير قليل في تطور دستور فرنسا في عهد الثورة التي اندلعت بعد 34 سنة من وفاته، وقد اشتهر عنه قوله ان المملكة التي توجدها الحرب تحتاج الى حرب لتحافظ على كيانها(*) ويقدم "كتاب روح الشرائع الى جانب كتابين اخرين دروسا حول الطغيان والحرية"(12)

لكننا نجد الفيلسوف توماس هوبز (Thomas Hobbes)(1588-1679م) البريطاني الذي يعد أحد أضلاع المثلث الفكري السياسي الى جانب ميكافيللي وسبينوزا، الذين ساهموا في وضع النظريات السياسية للدولة الحديثة في بريطانيا وفي اوروبا، لا يعول كثيرا على القانون، فهو يعتقد ان كينونة الحرية في الانسان دافع اساسي لإعمال حريته وليس القانون.


يقول البروفيسور ريتشارد توك(Richard Tuck)استاذ القانون الدولي في جامعة هارفارد الاميركية: "لقد اخذ هوبز في عمله السياسي عهدا، بانه اذا لم يكن الانسان حرا بحق وحقيقة، فليس هناك موضع للادعاء بان هذا الانسان يكون متمتعا بالحرية فقط عندما يكون تحت نظام قانوني معين ..


اذ تبقى الحرية عند هوبز نصا يمتلك معنى واسعاً، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لاحراز ما يرغب فيه الانسان، فالارادة او الرغبة لوحدها لا تكفي لاطلاق معنى الحرية"(13)، يفهم من كلام هوبز ان الحرية ينبغي ان تكون جزءاً من الانسان لا ان تقوده القوانين اليها، على ان تكون هذه الحرية حقيقية لا وضعية، وهوبز صريح في مدعاه، فامتلاك الارادة والرغبة لا يعنيان الحرية بعينها مادامت هناك موانع تحجز الانسان عن تحقيق رغبته وتمرير ارادته.


وهوبز كغيره من رواد الفكر السياسي الغربي، يؤمن ان حرية الانسان تنتهي عند حرية الاخرين، على انه ذهب في تنظيره السياسي كالفيلسوف الايطالي ميكافيللي (Niccolo Machiavelli) (1469-1527م)، الى دعم سلطة الملك وتنازل الناس عن بعض الحقوق الشخصية لصالح سلطة الملك.(14)


لكن هوبز رفض وهو يتحدث عن اهمية الحرية وقد وصفها بانها "انعدام المعارضة"(15)، رفض الحرية الزائدة غير المقيدة اذ: "أكد بان هذه الحرية ليست الحرية الحقيقية لانها خارجة عن السيطرة، بالاحرى سيكون الانسان مستعبدا من خلال سيادة حالة من الخوف المطرد المستمر. ان المصالح الشخصية الخاصة وحتى الحياة نفسها ستكون عرضة للرعب والذعر من قبل إعمال الاخرين لحرياتهم. ان الحرية المطلقة تقود الى فقدان مطلق للحرية الحقيقية".(16)


وكما ان الحرية لدى هوبز مشروطة بعدم الاعتداء على حرية الاخرين فانها مشروطة ايضا بعدم ايذاء النفس، يقول ريتشارد توك: "اعتقد ان السيد هوبز لا يقول بان الحق الطبيعي للانسان في الحرية تسمح له بان يدمر حياته الشخصية"(17)..


فنحن هنا امام بعد اخلاقي على علاقة بالحرية، فالانتحار من الحرية الذاتية لكنه ايذاء للنفس وازهاق لها، وقطع عضو من اعضاء الجسد حرية ذاتية، ولكن العملية ألحقت الأذى بحياة الانسان نفسه، نعم يصبح قطع العضو في ظروف اخرى عملية انسانية مطلوبة ومن الحريات المحمودة المباحة، مثل ان يتبرع الانسان بإحدى كليته لانسان اخر محتاج لها، او ان يتبرع باعضاء جسده كقطع غيار بعد مماته.(18)


وعدم الاضرار بالنفس هو رأي ذهب اليه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jacques Rousseau) (1712-1778م)(*) يقول روسو: "لا تعتمد الحرية على ان يفعل الفرد ما يريد بارادته الخاصة، بقدر ما تعتمد على الا يخضع لارادة شخص اخر، وهي تعتمد اكثر على عدم خضوع الاخرين لارادتي الخاصة...


ففي الحرية العامة ليس لاحد الحق في ان يفعل ما تحرمه عليه حرية الاخرين، ان الحرية الحقة لا تدمر نفسها قط"(19)، ويجادل روسو الفلاسفة الاخرين مؤكدا: "ان الناس بطبيعتهم يكرهون أن يكونوا مقيدين بالقوانين, ولكنهم يجدون انفسهم في مأزق بدون قوانين، فالناس لا يكونون جيدين وصالحين في حالة الفوضى، فهم سيقتنعون بان غياب القوانين يخلق قيودا اكثر من وجود القوانين نفسها".(20)


لاشك ان جان جاك روسو لا يقصد بالاكراه، الجانب المظلم والسلبي منه لان هذا خلاف الحرية وخلاف رسالة الانبياء والمفكرين والفلاسفة لتحرير الانسان من رق الحياة وسلبياتها، فالانسان تتنازعه نفسه الامارة بالسوء لانه متكون داخليا من خير وشر، فهو قد يقدم على مزاحمة حرية الاخرين، ولكنه اذا وجد ان القانون يمنعه من ذلك فانه سيخضع للقانون وهو مكره، فالاكراه هنا فيه جنبة قانونية وحقوقية ينبغي للانسان ان يسلّم بها، والا ساخت الحياة المدنية بأهلها.


يعلق الاكاديمي المصري استاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة الدكتور إمام، على كلام جان جاك روسو معرجا على تعريف (هيجل وكانت) للحرية، بقوله: "نحن هنا نلمح بواكير فكرة هيجل الشهيرة في تعريف الحرية بانها (التحديد الذاتي) (Self Determination) وهي الفكرة التي اعتمدت هي نفسها على فكرة كانط في استقلال الارادة (Autonomy) التي تشرّع لنفسها قانونا لتسير عليه...


فكأن الحرية هي أن يطيع الانسان نفسه او ارادته الكلية، فهو عندما يطيع القانون الذي اشترك بطريقة مباشرة او غير مباشرة في سنّه فانه في الواقع يطيع نفسه، وعندما يعصي هذا القانون ربما يترتب على هذا العصيان من عقاب، فانه يطلب العقاب لنفسه، وهكذا يصبح سلوك الفرد وحريته صورة مصغرة للديمقراطية، وهي ان يحكم المرء نفسه بنفسه! وتكون الديمقراطية السياسية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وعندئذ فقط يكون حرا".(21) وكان عمانوئيل كانت حريصا اشد الحرص على الحرية الذاتية للانسان واستقلاله ولذلك فهو يوصف بانه "فيلسوف استقلال ارادة الذات الانسانية".(22)


الحرية وحقائق الأشياء

في الواقع ان احد استدلالات المفكرين الاسلاميين على نقص القوانين الوضعية، وقصورها على الإلمام بكل احتياجات الانسان، منها حرية الانسان، هو قولهم ان هذه القوانين انما هي من بناة عقل الانسان، ولما كان الانسان تتنازعه رغائب كثيرة وتتنازعه نفسه، وهناك صراع دائم بين العقل والنفس والعواطف..


فان عقله مهما تعاظم، ومهما اجتمعت العقول القانونية الفطنة، فانها غير قادرة على الإلمام بكل احتياجات الانسان في مجال التشريع القانوني، ومن هنا فان التشريع ينبغي ان يكون خاضعا لجهة لا تتنازعها مثل هذه الرغائب..

بل جهة مبلغ غايتها سعادة الانسان تفيض عليه بالخيرات، وليست هناك جهة في الكون تحمل مثل هذه المواصفات سوى خالق الكون، وهو الله الغني عن خلقه، على ان للفقهاء حرية الحركة التشريعية او التأطيرية ضمن دائرة الفراغ، اذ ان من مهماتهم: "ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة"(23) كما يعبر عن ذلك المفكر العراقي الراحل الفقيه السيد محمد باقر الصدر (1935-1980).

اننا نجد فيما ذكره الدكتور إمام توافقا وانسجاما بين الفيلسوف الالماني جيورج هيجل (Wilhelm Friedrich Hegel George) (1770-1831م) صاحب الديالكتيكية الجدلية، والقائل بالمثالية المطلقة, ونظيره الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت أو كانط (Immanuel Kant) (1724-1804) القائل بان العقل البشري عاجز عن ادراك حقائق الاشياء بذاتها، يساوق هذا التوافق تساوقا في مجال آخر...


يقول الدكتور شدود عميد المعهد العالي للعلوم السياسية في سوريا: "لقد انتقلت فكرة نهاية التاريخ الى الفيلسوف (هيغل) واتفق (هيغل) مع (كانط) ان هناك نقطة نهاية لمسار التاريخ، وهي تحقيق الحرية على الارض.


وكما قال: (ان تاريخ العالم يتحقق من خلال الوعي بالحرية)، وتتجسد الحرية عند (هيغل) في قيام الدولة الدستورية، او اما اطلق عليها (فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ والرجل الأخير، المنشور في اميركا العام 1992) ايضا الديمقراطية الليبرالية.


ورأى (هيغل) ان قمة المسار التاريخي كله هي تحقيق التاريخ البشري مؤسسات سياسية اجتماعية ملموسة"(24)، ان الحرية الشخصية بنظر هيجل تعني: "متابعة مصالحنا الخاصة وهي في الواقع تستعبدنا. نحن في الواقع لسنا احرارا حقا تحت أي ظرف بسبب اننا نُجبر لنقاتل ضد العالم الذي نراه منفصلا عنا، بكلمة اخرى نحن نُنَفر من اجل راحة العالم والمجتمع، حتى ولو ان ذلك المجتمع وضع قليلا من القيود على أفعالنا.


الحرية الحقيقية تزدهر فقط اذا كان كل واحد يمارس حريته الشخصية جنبا الى جنب مع راحة وسلامة المجتمع، وهذا يعني فيما يعني ان كل فرد يفقد خصوصيته في ذلك المجتمع ككل.


وفي هذا الطريق ليس هناك من تناقض بين اهداف المجتمع واهداف كل فرد، فكل واحد فرد، الان هو حر ذلك لانه ليس من تناقض البتة بين الافعال الشخصية وافعال الكل".(25)

ان هيجل بما جاء به انما يدعو الى ذوبان حرية الفرد في حرية الاخرين، أي نوع من أنواع الدعوة الى تذويب الملكيات الخاصة لكل انسان، وهي نظرية عمل الفكر الماركسي على تأكيدها والتبشير بها. ولا اعتقد انه من السليم تذويب الفرد في ذات المجتمع ككل، لان في ذلك تهديداً لذاتية وخصوصيات كل فرد، وهو امر فطري ان يكون لكل انسان شخصيته وهويته..


على انه من الطبيعي ان لا يكون مذهب تأكيد الهوية بداية لثلم حرية الاخرين، فالفرد بقدر ما يكون حريصا على تأكيد شخصيته في اطار الحرية التي يتمتع بها، فانه في الوقت نفسه، ينبغي ان يكون حريصا على حريات الاخرين، فبالتالي يمكن ان تلتقي اهداف الفرد كشخص مع اهداف المجتمع ككل في بعض المفاصل وليس كلها.


نحو صياغة عالم جديد


اما ما ذهب اليه هوبز حول الارادة وفاعليتها نجد قريبا من تلك الافكار لدى الفيلسوف والرياضي الفرنسي رينه ديكارت (Rene Descartes)(1650-1596) صاحب القول المشهور "انا افكر اذا انا موجود"(26)، فهو يرى في تعريف الحرية: "القدرة على فعل الشيء، او الامتناع عن فعله ..


إن حرية استواء الطرفين هي ادنى درجة من الحرية، وهي بهذا المعنى تعبر عن نقص في المعرفة اكثر مما تعبر عن كمال في الارادة، ولكن ربما يقصد البعض بكلمة استواء الطرفين او اللامبالاة, تلك القدرة الايجابية التي بمقتضاها نستطيع ان نختار هذا او ذاك".(27) وبهذا فان ديكارت بالفعل: "يميز بين نوعين من الحرية:

1- حرية تقوم على تحدد الارادة, وتلك هي الحرية المعقولة.

2- حرية تقوم على لا تحدد الارادة, وتلك هي حرية استواء الطرفين والحرية الاولى عنده حرية عليا ولاحقة, في حين ان الحرية الثانية حرية دنيا تكون سابقة".(28)


واعتقد ان ديكارت كان في منتهى إعماله لارادته وحريته الذاتية، وذلك عندما تحلل من الافكار القديمة ودعا الى التحرر من الافكار الموروثة ورفضها واعادة صياغتها من جديد، ومرة اخرى بتفعيل الحرية الذاتية، أي انه دعا الى استعمال الحرية لرفض الموروث واستعمال الحرية ثانية لصياغة عالم جديد وفكر جديد، وبالتالي فانه في الحالتين يؤكد على اهمية الحرية في الهدم البنّاء والبِناء المثبت.(29)


الحرية وحكم الأكثرية


وعرف الكاتب، والسياسي الفرنسي, السويسري المولد بنيامين دي ريبيكيو كونستانت (Constant de Rebecque,Benjamin)(1767-1830) الحرية بقوله: "الاستمتاع الهادئ بالاستقلال الفردي".(30)


بالطبع الكل يحلم بحرية هادئة بعيدة عن المصاعب والمشاق، لكن المصاعب هي جزء من الحياة وتكوينها، لاننا لا نعرف قيمة الحياة وحتى قيمة الحرية اذا لم نتعامل مع الصعوبات، فالاشياء تعرف باضدادها كما يقول الاصوليون والمناطقة.


ولا استبعد ان يكون هذا التعريف له علاقة بالاحداث السيئة التي مرت على بنيامين كونستانت، فرغم تأييده للثورة الفرنسية لكنه عارض تصرفات نابليون بونابرت (Napoleon Bonaparte) (1769-1821م)، فنفاه العام 1803م، وظل في منفاه احد عشر عاما وعاد الى باريس العام 1814م بعد سقوط نابليون.


وكان من ابرز دعاة حماية الحريات الشخصية, وكان شديد الايمان باهمية: "الحرية في كل شيء، في الدين، الفلسفة، الأدب والفن، الصناعة، والسياسة. واعني بالحرية انتصار استقلال الارادة الذاتية على السلطة التي ترغب في الحكم باسلوب استبدادي، وعلى الكتلة التي تحتكر لنفسها الحق في خضوع الأقلية للأكثرية".(31)

نحن هنا اما نظرة متطورة في فهم الحرية والديمقراطية، فكونستانت في الوقت الذي يعترف بحكم الاكثرية التي مكنتها اصواتها من تبوء السلطة وفق اللعبة الديمقراطية، فانه يرفض ان تضيع حريات الاقلية بدعوى الديمقراطية وسلطة الأكثرية، ولذلك اطلق على اخذ الاقلية لحريتها بالانتصار, لانه رأى بالممارسة ان الاكثرية قد يأخذها الغرور ونشوة الانتصار وتقوم بحسر حرية الاقلية تحت مسميات شتى..


فهو لا يدعو الاكثرية الى إعطاء الحرية للأقلية, بل يدعو الاقلية الى اخذ حقها، وقد دلت التجارب السياسية الكثيرة سابقا وحاضرا، ان الطغيان قد يصيب الاكثرية عندما تحكم فتسحق تحت عربة حكمها الاقلية، فهناك تجاذب بين الاكثرية والاقلية، والمرجع في ذلك الى القانون، شريطة ان يحترم الطرفان القانون الذي لا يخالف الفطرة ولا يخالف العرف والمنطق، وان يحترمان قواعد اللعبة الديمقراطية، لانه بامكان الاكثرية ان تستفيد من حكمها في سن قوانين شاذة مجحفة بحق الاقلية تحت مسمى الديمقراطية والشورى.


اما البريطاني هارولد جوزيف لاسكي(Harold Joseph Lsaki)(1893-1950م) وهو من السياسيين والحقوقيين فقد عرّف الحرية بانها: "(انعدام القيود) بمعنى القدرة على اتساع واختيار الفرد لطريقة حياته الخاصة بدون أي ضغوط وتحريمات تفرض عليه من خارجه، وهي عنده من جانبها الفقهي القانوني: التحرر من القيود التي تنكر على المواطن حقه في النشاط والتقدم".(32)


الحرية بين القدرة والاختيار


ان انعدام القيود، التي يعرّف فيها لاسكي الحرية انما نابعة من ثقافته اليسارية، فهو كان معلما للافكار الماركسية في بريطانيا وتزعم حزب العمال ما بين عامي (45-1946م)، ولذلك فمن الطبيعي ان يدعو الى حرية خالية من القيود، على خلاف بعض الفلاسفة الغربيين والبريطانيين الذين رفضوا الحرية المطلقة ونادوا بالحرية التي تقيدها القوانين لتنظيم مسار الحريات الانسانية ككل.(33)


وذهب الكاتب والفيلسوف الفرنسي اللاذع في نقده وآرائه وكتاباته(*) فولتير (Voltaire)(1694-1778م) الى ان معنى الحرية يتحقق: عندما اقدر على ما اريد فهذه حريتي.


فيما عرف غوتفريد ليبنيز(Gottfried Wilhelm Leibniz)(1646-1716م)(**) وهو فيلسوف ألماني، الحرية بانها: عبارة عن قدرة المرء على فعل ما يريده، في حين ذهب برتراند راسل(Bertrand Russell)(1872-1970م) وهو فيلسوف بريطاني وحائز على جائزة نوبل العام 1950, ومن بناة المنطق الحديث، الى تعريفها بقوله: ان الحرية بشكل عام يجب ان تعرف على انها غياب الحواجز امام تحقيق الرغبات.


يعلق الباحث والفقيه العراقي الشيخ الصفار على تعاريف (فولتير وليبنيز وراسل) بالقول: "الامر الذي يجده المرء في نفسه بعد التأمل الدقيق ان مرجع جميع هذه التعاريف الى جامع واحد وحقيقة مشتركة – هي القدرة على الفعل والاختيار- دلت عليها الفاظ متعددة وبصورة مختلفة".(34)


لكن الانسان ليس بقادر على ان يفعل كل ما يريد، الا اذا قسمنا الحرية الى سماطين ايجابي وسلبي، فما أفادت المرء او من يحيط به ولم تخرج به عن سنّة الكون والفطرة الانسانية فهي من الحرية الايجابية، وبالعكس فهي من الحرية السلبية، الا ان الحرية السلبية يطلق عليها البعض بالفوضوية، وهنا بحاجة لان نضع الموازين القسط بين السماطين، وعلى العتبة يقع الخلاف في تحديد الموازين، وهو خلاف قائم، وهو من علامات تنوع المدارس الفكرية في نظرتها للحرية.


وفي الحقيقة ان تعريف فولتير للحرية الآنف الذكر انما كان من مبتنياته الفكرية في مقتبل عمره، ولكنه في العقد السادس من عمره عدل من افكاره حول الحرية..


يقول البروفيسور (Edward Craig) استاذ الفلسفة الحديثة في جامعة كامبردج في المملكة المتحدة: "كان فولتير في مقتبل عمره يؤمن بحقيقة الحرية الانسانية في اتخاذ القرار والفعل, ولكنه ابدله بعد العام 1748، فقد نما الى قناعته بان بعض الحريات هي وهم خادع".(35) واعتقد ان التجربة التي اكتسبها فولتير من الحياة مع تقادم الزمن، جعلته يعدل من نظرته للحرية.


اما بخصوص لبينيز فان الحرية عنده ليست مجرد فكرة او نظرية يراد لها تسليط الاضواء على حدودها والتنظير لها، بل كان اهتمامه منصبا على تركيزها في مجتمعه: "اذ كانت شغله الشاغل، وكان يؤمن ان الله عندما خلق آدم فانما خلقه حرا، وان اكله للتفاحة لم يكن قسرا وانما كان باختياره وحريته"،(36) ولهذا كان لا يرى عن الحرية بديلا لخلق عالم عادل ومتكامل، ونلاحظ ان لبينيز في تناوله لقصة آدم (ع) وعلاقتها بالحرية يلتقي مع الرواية الاسلامية بشكل عام، في اختيارية تصرفات آدم (ع) حتى قبل هبوطه الى الارض.


ويقرر الفيلسوف البريطاني جون لوك (John Locke) (1632-1704م)(*) ان (قدرة الانسان) هي محور الحرية، فالحرية عنده هي: "قدرة المرء على فعل او الامساك عن فعل أي نشاط خاص"(37)، وقد طور لوك مفهوم السلوك الاجتماعي للحرية جاعلا الانسان هو القضية وهو الموضوع للعلاقة الوطيدة بين فهم الانسان لقوانين الطبيعة ذات القواعد العامة لتنظيم السلوك الغريزي لذات الانسان مؤكدا على ان الحرية تعني: "وجوب ان يحترم كل شخص حياة وممتلكات الاخرين".(38)


ان لوك بقوله هذا يجعلنا نعتقد للوهلة الاولى ان معرفة الانسان لمتطلبات الحياة وقوانين الطبيعة والفطرة الانسانية تكفيه احترام حريته وتجنبه الاعتداء على حريات الاخرين، وانه ليس هناك من دواع او مبررات لوضع قوانين وشروط وقيود على الحرية مادام فهمنا لها وتقديرنا لمتطلبات الحياة يقودنا الى السيطرة على سلوكنا الخاص..


غير ان لوك استدرك الامر معتبرا: "انه ليس بوسع كل انسان ان يسير خلف قانون الطبيعة بمفرده فهو بحاجة الى قوانين وقواعد لتنظيم السلوك".(39) هنا ينظر لوك الى الحرية بمنظار القوانين، فهو لا يجعل القوانين مقيدة للحرية وانما منظمة لها، وهناك فرق بين التقييد والتنظيم، وان كان التنظيم في احد أوجهه يتطلب تقييد بعض الحريات في سبيل المصلحة العامة..


أي كما يقول جون وادهام (John Wadham) المحامي والناشط البريطاني في مجال الدفاع عن الحريات المدنية: "نحن لسنا احرارا بالكامل لنصب خيمة في ركن من الشارع وإخبار العالم بما نرغب قوله وفق حريتنا، او أن نجلس خلف الكمبيوتير –الحاسوب- وإرسال ما نرغب ارساله عبر شبكة الانترنيت، فالقانون يمد بطارية قيود لادارة حقنا في التعبير عن رأينا أو النشر او طبع أي شيء نرغب فيه، نعم نحن احرار في التعبير عن ما يجيش في انفسنا ما عدا ما حرمه القانون".(40)


الحرية بين القانون والوجدان


اذن، يظل القانون إن كان من وضع الانسان او وضع البارئ تعالى هو مدار الفصل بين الحرية الايجابية والحرية السلبية، لكن القانون الوضعي لا يمثل الحكم الفيصل في تحديد الحريات مئة في المئة من الناحية الوجدانية، لان عملية سن القوانين خاضعة هي الاخرى وبخاصة في الديمقراطيات الغربية الى حكم الاغلبية والاكثرية، فما وافقت عليه الاكثرية يكون ملزما على الاقلية من الناحية الفعلية، ولكنه الزام قانوني وليس الزاما وجدانيا ذاتيا.


في الختام هذا حوار تاريخي فلسفي يكشف عن معنى الحرية التي آمن بها الفلاسفة القدماء, وهو حوار جرى بين الفيلسوف الرواقي ابكتيتوس (EPICTITUS) او ابكتيتس (EPIKTETOS)(حوالي 135م) مع تلميذه المذهول من فيلسوفه الذي كان يفيض بالحرية وهو الذي كان يسمى سابقا بالعبد:

التلميذ: يا سيدي متى اكون حرا؟

ابكتيتوس: هل يستطيع احد ان يجعلك ان تصدق ما ليس يصدق؟

التلميذ: لا.

ابكتيتوس: هل يستطيع احد ان يكرهك على فعل ما لا تعتقده؟

التلميذ: نعم.

ابكتيتوس: وكيف ذلك؟

التلميذ: اذا هددني بالقتل او الحبس؟!

ابكتيتوس: فاذا لم تخش من الموت او الحبس؟

التلميذ: لا يستطيع!!

الفيلسوف: أنت عندها حر.(41)


من مجمل هذه التعريفات يبقى الشاخص هو الموانع والحواجز التي عبر عنها القرآن الكريم بالإصر والأغلال:

{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويُحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون} سورة الاعراف:157.


فالحرية تسمى حرية اذا مارس الانسان ارادته دون مانع أو سلطة أو ارادة غير ذات صبغة شرعية او قانونية, والا فالحرية معدومة المعنى حينئذ، كما يقول بيتر جويس (Peter Joyce) استاذ السياسة البريطانية المعاصرة: "الحرية تعني أن الاشخاص قادرون على العيش كما يريدون وفق رغباتهم من غير معوقات او موانع تؤثر على افعالهم وارادتهم"(42)..


او حسب تعريف اعلان حقوق الانسان للعام 1789م, ان الحرية تعني: "حق الفرد في ان يفعل ما لا يضر بالاخرين"(43)، غير ان الاختلاف يقع في معنى الإصر والأغلال وحدودهما والاتفاق او عدم الاتفاق عليهما، وهذا له بحث مستقل.

... يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:48 pm

... تابع

الحرية


المصادر:

1- Mel Thompson, PHILOSOPHY, Hodder Headline Plc,London,First Published,1995,P93.

2- انظر: المدرسي، محمد تقي، المنطق الاسلامي اصوله ومناهجه (ايران، ط2 1401هـ/1981م) ص48.

3- Edward Craig, Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY, The Softback Preview Publisher, New York, USA, First Published 2000,p847.

4- موسى، سلامة، حرية الفكر وابطالها في التاريخ (بيروت، دار العلم للملايين، ط5، 1974م) ص31-32.

يضيف موسى: ولم يكن بعد ذلك سوى الامر بقتله، فقتل وتجرع السم بين تلاميذه ومات مرتاح الضمير هادئ النفس، وتفرق تلاميذه بعد مقتله مرعوبين، ولكن لم تمض عشر سنوات حتى عادوا الى روعهم وعادوا يعلمون الناس فلسفته. ص32.

5- رياض، محمد "الحرية وآراء جدلية في الدلالة" مجلة النبأ (بيروت، المستقبل للثقافة والاعلام، السنة 7، العدد 62، 1422هـ/2001م) ص13.

6- المدرسي، محمد تقي، المنطق الاسلامي اصوله ومناهجه (مصدر سابق) ص49.

7- Edward Craig, Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY, (ibid), p678.

8- Richard Stonman, PLATO THE REPUBLIC,J.M.Dent&Sons Ltd,London,1989,P245.

9-,(ibid),P250-251. Richard Stonman, PLATO THE REPUBLIC

10- انظر: Antony Flew, AN INTRODUTION TO WESTERN PHILOSOPHY, Thames and Hudson Ltd,London,1989,p155.

11- آل نجف، عبد الكريم "الحرية من وجهة نظر السيد الشهيد الصدر" مجلة المنهاج (بيروت، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، السنة 5, العدد 19, 1421هـ/2000م) ص157.

(*) للمزيد عن حياة مونتسكيو: راجع: جورج طرابيشي, معجم الفلاسفة (بيروت, دار الطليعة، ط1، 1987م) ص601.

12- Edward Craig, Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY,(ibid),p591.

13- Keith Thomas, Great Political Thinkers, Oxford University Press, Oxford, New York, printed in UK by: Biddles Ltd, Guildford and Kingslynn, first published, 1992.P161.

14- انظر: المنجد في الاعلام (بيروت، دار المشرق، الطبعة السادسة والثلاثون 1997م) ص601.

15- Stephen D.Tansey, POLITICS THE BASICS, Roultedge Ltd,London,First Published 1995, p65.

16- NEIL McNAUGHTON, SUCCESS IN POLITICS,John Murray (Publishers) Ltd, Second Edition 2001, p21.

17- Keith Thomas, Great Political Thinkers,(ibid) p177.

18- راجع في هذا المجال: الطباطبائي الحكيم، محمد سعيد، فقه القضاء (طبعة ايران، مكتب اية الله العظمى السيد الحكيم، مطبعة ستاره، ط1، 1420هـ/2000م) ص206.

(*) ولد روسو في مدينة جنيف, وهو من الفلاسفة الاجتماعيين, كان لكتابه العقد الاجتماعي الذي الفه العام 1762م، تأثير كبير على الثورة الفرنسية التي اندلعت بعد احد عشر عاما من رحيله، ومن مصنفاته: اميل، واعترافات.

انظر: BCA&Random Century Group Ltd, THE HUTCHINSON CONCISE ENCYCLOPEDIA, Random Century Group,1990,p796.

19- J.J.Rousseau, the Social Contract, Eng Tran, by: Maurice Cranston, Penguin Book,New York (USA), p32.

20- NEIL McNAUGHTON, SUCCESS IN POLITICS,(ibid) p22.

21- إمام، د. إمام عبد الفتاح، الطاغية .. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، ط2، 1996م) ص282-283.

22- Edward Craig, Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY,(ibid)p432.

23- للمزيد، انظر: عبد الجبار، محمد، تجديد الفكر الاسلامي (لندن، الدستورية للطباعة والنشر، ط2، 1420هـ/1999م) ص171.

24- شدود، د. ماجد "الديمقراطية والمتغيرات الدولية" كتاب: الاسلام والفكر السياسي .. الديمقراطية، الغرب، ايران، تحرير وتقديم: د. رضوان زيادة (الدار البيضاء وبيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م) ص87.

25- NEIL McNAUGHTON, SUCCESS IN POLITICS,(ibid) p22.

26- Niegel Warburton, PHILOSOPHY THE BASICS,Routledge Publisher, London, Second Edition,1995,p96.

27 و28- رياض، محمد "الحرية وآراء جدلية في الدلالة" مجلة النبأ (مصدر سابق) ص18، ص19

29- انظر: Edward Craig, Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY,(ibid)p204.

30- إمام، د. إمام عبد الفتاح، الطاغية .. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي (مصدر سابق) ص56.

31- Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY,(ibid) p171.

32- غرايبه، د. رحيل محمد، الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الاسلامية (عمّان، المعهد العالمي للفكر الاسلامي والمنار للنشر والتوزيع، ط1، 1421هـ/2000م) ص34.

33- وهو من الذين اطلقوا صيحة الانذار، ونادى بان المصاعب الاقتصادية التي يعاني منها العالم الرأسمالي بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، هي المعول الذي سيقوم بتدمير الديمقراطية السياسية في العالم الغربي, ومن مصنفاته: (الدولة في النظرية والتطبيق – The State in Theory and Practice), وكتاب (الايمان والعقل والحضارة- Faith,Reason,and Civilization). وقد نشر لاسكي في العام 1925 كتاب (قواعد السياسة) وفي العام 1940 نشر كتاب (الرئاسة الاميركية)

انظر: BCA&Random Century Group Ltd, THE HUTCHINSON CONCISE ENCYCLOPEDIA,(ibid) p521.

(*) وفولتير اسم استخدمه فرانسوا ماري لنفسه لتذييل كتاباته، وهو ممن نادى بالحرية والمساواة, من مصنفاته: (المعجم الفلسفي – Philosophiane Le Dictionaire) وكتاب (زاديك او صادق – Zadig) نقله الدكتور طه حسين الى العربية تحت اسم القدر.

(**) طور ليبنيز فرعا من فروع الرياضيات يسمى كالكولوس (Calculus) او التحليل الحسابي, ساهم ضمن نشاطه الديني والسياسي مع آخرين في دمج الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية، وهو ممن يحسب على الفلسفة المثالية.

34- الصفار، فاضل، ضد الاستبداد (بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، ط1، 1418هـ/1997م) ص52 و 137.

- و راجع: الأسدي، ناصر حسين، شورى الفقهاء المراجع (بيروت، مؤسسة الفكر الاسلامي للثقافة والاعلام، ط1، 1411هـ/1991م) ص248.

35- Edward Craig, Concise Routledge, ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY,(ibid)p921.

36- NEIL McNAUGHTON, SUCCESS IN POLITICS,(ibid) p21.

(*) يعتبر جون لوك مؤسس المدرسة التجريبية الحديثة، دعا الى التسامح الديني. درس الطب في جامعة اوكسفورد. هرب العام 1683م الى هولندا بسبب معارضته للحكم القائم في بريطانيا، ثم عاد العام 1688م بعد سقوط الحكومة، واشتهر عنه قوله: "التجربة منبع كل معرفة".

37- Stephen D.Tansey, POLITICS THE BASICS, (ibid), p65

38- NEIL McNAUGHTON, SUCCESS IN POLITICS,(ibid) p22.

39- John Henry Kingdom, GOVERNMENT&POLITICS IN BRITAIN,Polity Press,Cambridge,UK,1991,P42.

40- John Wadham,Philip Leach and Penny Sergeant, YOUR RIGHTS The Liberty Guide, Pluto Press,London,Sixth Edition 1998,p36.

41- خالصي، د. خالصي، "جدلية الفكر والقوة .. قوة الفكر وصنمية القوة" مجلة النبأ (بيروت، المستقبل للثقافة والاعلام، السنة 7، العدد 60، 1422هـ/2001) ص17.

42- Peter Joyce, 101 Key Ideas Politics, First Published in UK 2001, by: Hodderline PLC, London,P39.

43- غرايبه، د. رحيل محمد، الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الاسلامية (مصدر سابق) ص35

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحرية نصوص ونظرات

في تعريفه للإنسان في عصر الرأسمالية يقول هوبز: (الإنسان ذئب للإنسان)(1).

انتهت الألفية الثانية وموضوع الحرية لا زال يشكل جدل العصر الحاضر بعد ما شكل جدلا واسعا في العصور السابقة وستشكل نفس الجدل إن لم يكن أكبر في عصور لاحقة..


فمنذ وجود الإنسان على الأرض وظهور المجتمعات البشرية وما يحدث داخلها من صراعات ونزاعات تصادر حريات الآخرين على حساب حريات أخرى وتنشئ أنظمة عديدة للرق والعبودية يصبح الإنسان فيها هو السلعة الوحيدة بخسة الثمن حيث تهدر كرامته وإنسانيته لأجل رغيف من الخبز يسكت به جوعه أو قطعة رثة من الثياب يستر بها عريه..


منذ وجود الإنسان ومفردات هذه الكلمة البراقة تأخذ حيزاً كبيراً ومساحات شاسعة من تفكير وقلق العقل البشري واهتماماته سواءً على مستوى التنظير القانوني أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي إلى آخر المجالات التي تدخلها هذه المفردة في عمليات التفاعل والتواصل الإنساني بين الفرد كذات واعية وبين المجتمع وعياً وممارسة جماعية..


يقول لوركا شاعر إسبانيا مخاطباً حبيبته والتي هي رمز لبلاده التي رزحت لسنوات طوال تحت حكم الدكتاتورية:

ما الإنسان دون حرية يا ماريانا..

قولي لي.. كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حراً؟

كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟


نجد في تلك المقطوعة معادلة واضحة الأبعاد ـ فبقدر ما تكون حراً تستطيع أن تحب وأن تمنح مشاعر الود للآخرين.. وبقدر ما تكون مستلباً.. ومستباحاً تجد أنك منكفئ على ذاتك تفكر وتستغرق فيها ولا تستطيع أن تمنح شيئاً للذات الأخرى سواء كانت إنساناً أو وطناً..


ما هي الحرية..

في اللغة العربية نجد أن تاريخ هذا المصطلح ليس واضحاً بما فيه الكفاية رغم أنه بمعناه المجرد كان شائعاً في استعمال العرب قبل الإسلام..


كانت كلمة الحر تعني: النبيل(2)، وقد كان استعمال حر بمعنى (شريف حسن) شائع الاستعمال في اللغة العربية في بواكيرها..


وفي الأدب العربي شاع استخدام الكلمة مصطلحاً وصفياً يتضمن قيماً سائدة مثل: (حر الكلام) تعني كلاماً بالغ الفصاحة(3) .. وقد تعني كلمة حر أحياناً كل ما تتضمنه كلمة (سيد)..


وتأكيداً لهذا البعد الأخلاقي لكلمة (حر) نجد أنها تستعمل أحياناً جنباً إلى جنب مع كلمة (كريم) أو ما شابهها فـ(الحر الكريم) هو السيد الحقيقي..


ويعود اصل هذا الاستخدام لكلمة (حر) إلى ذلك الميل الإنساني العام إلى نسبة كل الصفات القبيحة للرقيق وقدره السيئ في أن يحظى الإنسان الحر ـ قانوناً ـ بنسبة كل الصفات الطيبة إليه..


وهنا حين تظهر كلمة (حر) فإن المقابل الطبيعي لها هو كلمة (عبد) وحتى في الموت فالحر لا يرضى إلا بموت يليق بمكانته كما في قول مسلم بن عقيل الذي رفض الاستسلام دون قتال وأنشد:


أقسمت لا أقتل إلا حراً         وإن رأيت الموت شيئاً نكرا(4)


فالخيار هنا ليس بين الحرية والموت ولكنه الخيار بين موت كريم هو موت الأحرار وآخر وضيع هو موت العبيد..


أما المقابل العبري للكلمة فهو قريب من المقابل العربي لها وكان يعني (النبل) و(السؤدد) في أوساط الطبقات العليا في مجتمع ما(5)..


وأما التعريفات الصوفية للحرية فنستطيع أن نلاحظها في كتاب التعريفات للجرجاني حيث يعرفها كما يلي: (الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نور الأنوار)(6).


والحرية ـ كما في موسوعة السياسة ـ مفهوم سياسي واقتصادي وفلسفي وأخلاقي عام ومجرد ذو مدلولات متعددة ومتشعبة ويمكن تمييز ثلاثة مستويات مختلفة في تعريف الحرية..


المستوى الأول: هو المستوى اللغوي والعادي والمتعارف عليه والذي يعني انعدام القيود القمعية أو الزجرية، ويرتبط هذا المستوى بشبكة معقدة من المفاهيم مثل المسؤولية القدرة على اتخاذ القرار، القدرة على تنفيذ مشروع أو هدف الإرادة..


المستوى الثاني: يقع في نطاق التفكير الأخلاقي السياسي وهي في هذا المستوى ذلك الشيء الذي يجب أن يكون ولم يتحقق بعد.. ويرتبط هذا المستوى بشبكة أخرى من المفاهيم مثل القانون، الشريعة، والقاعدة والمؤسسة والسلطة السياسية.


المستوى الثالث: هو مستوى الفلسفة الخالصة حيث يطرح السؤال التالي : كيف ينبغي أن يكون تكوين الواقع في كليته حتى يصبح من الممكن أن يشتمل على شيء ما يشبه الحرية؟ إن هذا السؤال هو سؤال عن ماهية الحرية وجوهرها يربط وجودها بمجموعة من المفاهيم والتعابير مثل السببية، الحتمية، الاحتمال، الإمكان، تتعلق كلها بصيغ الوجود وطرقه.. (7)


هذا الوجود البشري لا يتقوم إلا بامتلاك المعرفة التي هي وحدها الموصلة إلى قيم الخير وابتعاداً عن الشر وبالتالي الوصول إلى الحرية المنشودة.


(ليس من أحد شريراً بمحض إرادته ذلك أن كل شيء لدى الإنسان يأتي من نقص في المعرفة، المعرفة تحرر وتوصل إلى الحقيقة والحقيقة سيدة مطلقة تأبى لمن وصل إليها أن يعود إلى عبودية الأهواء والنزوات)(Cool كما يقول سقراط..


الحرية هنا إذن عملية انعتاق من الجسد وتحرر من كل ما يشدنا نحو ارتكاب الشر وهي في النهاية التزام دائم بالخير..


عند ديكارت فإن الحرية الحقيقية ليست قدرة التردد بين اختيار شيء ونقيضه بل هي الإرادة التي استعانت بالمعرفة واختارت الحق أي أنها الإرادة التي تتحكم فيها البواعث والحوافز الخيرة، ومن هنا فإن المعرفة الطبيعية والنعمة الإلهية تزيدان الحرية ولا تنقصانها تقويانها ولا تضعفانها.. كلما ازدادت معرفتي للحق والخير كلما ازدادت حريتي.. الحرية إذن تمر عبر علمية التحرر من الخطأ وهي في نهاية المطاف مع الخير المطلق(9).


أما التعريف الفلسفي والذي يقع ضمن التقليد الأخلاقي.. ووفقاً لهذا الفيلسوف..


فإن حرية النفس تعني أن النفس إما ألا تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية وإما أن تكون تائقة..


فالتي تكون تائقة هي الحرية وإنما سمينا هذه الحالة بالحرية لأن الحرية في اللغة تقال على ما يقابل العبودية ومعلوم أن الشهوات شيء مستعبد..


وأما التائق إلى الأمور البدنية فإنه سواء تركها أو لم يتركها فإنه لا يكون حراً بل التائق التارك أسوأ حالاً من التائق الواجد في الحال، من حيث أن التوقان مع الحرمان قد يشغل النفس عن اكتساب الفضائل، وإن كان أحسن حالاً منه في المآل لأن عدم وجدانه لها في الحال واشتغاله بغيرها ربما يزيل عنها ذلك التوقان في ثاني الحال..


فظهر مما قلنا: أن الحرية عفة غريزية للنفس لا التي تكون بالتعويد والتعليم وإن كانت تلك أيضاً فاضلة وهي معنى قول أرسطو: (الحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية..).


وبالجملة فكلما كانت علاقة النفس بالبدن أضعف وعلاقتها العقلية أقوى كلما كانت أكثر حرية ومن كان بالعكس كان بالعكس والى هذا أشار أفلاطون بقوله: (الأنفس المرذولة في أفق الطبيعة وظلها والأنفس الفاضلة في أفق العقل وضوئه)(10).


ما الذي يمكن أن نتستشفه من كل تلك التعريفات للحرية؟


الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً تحيط به جملة من الضوابط الأخلاقية كونه فرداً في مجتمع متعدد الأفراد يراعي مسألة الأخلاق في تعامله وسلوكه.. فهو كلما كان ملتزماً بتلك الضوابط والقواعد الأخلاقية التي أرساها المجتمع كان حراً وبالتالي فإن تلك الحرية المتحصلة عن هذا الطريق لا تتجاوز حرية الآخرين أو محاولة تهميشها في سبيل الاندفاع اللامسؤول لتحقيق حريته..


وعودة لمقولة هوبز الذئبية والتي كانت في بداية السطور نلمح بوضوح تلك الصلة الحميمة بين الحرية والأخلاق أو قل نلمح المفهوم الأخلاقي للحرية الذي عالجته جميع الدراسات الفكرية ونادت به لتكون الحرية منهجاً وسلوكاً واقعياً ينسجم مع حركة الذات وتفاعلها مع حركة المجموع..


فالحرية الأخلاقية تعني رغبة الإنسان في أن يكون طيباً.. وهي بتعبير آخر: (خدمة الإنسان للخير وإنهماكه فيه وبقدر خدمته له تكون حريته لأن من لم يتمسك بالخير فليس بحر)(11).


وتعني أيضاً ضبط النفس إذ (لا يعد حراً من لا يتمكن من ضبط نفسه)(12).


فالطمع أحد الوجوه للعبودية التي هي نقيض الحرية.. يقول أمير المؤمنين… : (لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً)(13)، فالاسترقاق هنا يوازي الحرية ويعادلها إذا تمكن الطمع من النفس البشرية.


والحرية تساوي الحب والمودة والسلام.. وهي حرية الأسوياء والأتقياء في عالم ينضح بالكراهية والحقد والبغضاء.. وهي صفاء القلب ووضوحه وصدقه وليس مخاتلة أو مداورة أو رياء فالحرية على حد تعبير أبي تراب… : (منزهة من الغل والمكر)(14).


إن هذا المسار الأخلاقي للحرية إذا تمكن من النفس شرط ضروري لسيطرة الإنسان على غيره، وهي سيطرة التكافؤ والتماثل لا سيطرة التناقض والتنافر.. إن الحرية تعطي الإنسان القدرة على تجريد نفسه من قيود بيئته الطبيعية وعاداته الرتيبة، وبذلك تجعل فيه إنساناً حكيماً حقاً..


إنما يمتلك الحرية الحقيقية ذلك الذي يمتلك الذكاء والحقيقة (فزيادة كلمة في مخاطبة الحر أحب إليه من زيادة جزيلة في أجرته، وإحسانك إلى الحر يحركه على المكافأة واحسانك إلـــى الخسيـــس يحركه عــــلى معاودة المسألة)(15) وهو مأخوذ وإن بتعبير آخر من قول الإمام علي… : (من قضى ما أسلف من الإحسان فهو كامل الحرية)(16).


فالحرية هي إذن التحرر من الشر بجميع مفرداته والاندفاع نحو الخير والحب، ومن العوامل التي تعيق الإنسان عن بلوغ الهدف الحقيقي لإنسانيته.. إن تجنب الشرور التي ترتكبها الكائنات البشرية عادة هو الحرية الحقيقية (فعسير على الإنسان أن يكون حراً وهو ينصاع للأفعال القبيحة الجارية مجرى العادة)(17).


إن التحرر من البدائية والبلاهة والجهل يعد النفس للحرية الحقيقية (وبسلوك هذه السبل تصير حرة معتوقة من رق الجهالة وعبودية الحداثة)(18)، أو كقول سقراطSmileالحرية تعني أن امرءاً ما تحرر من الجهل وانه لا يفعل إلا ما يتطلبه العقل)(19).


هل نستطيع لملمة ما تناثر من موضوعنا على أسطع الأوراق وسطورها الزرقاء؟ ومما تناثر فيما سبق نخلص إلى النتيجة التالية:


الحرية.. عنينا بها الحب والمودة والصدق والتواضع والبساطة وضبط النفس أمام الأهواء والشهوات.. وهي المعرفة والحكمة واتزان العقل في تعاطيه مع ما يصادفنا في طرقات الحياة.. ونسأل.. كيف نظر الإسلام بتلك المجموعة من القيم والتشريعات الإلهية إلى الحرية.. سواء على مستوى النظرية أو الممارسة؟


لقد رأى الإسلام أن (الأصل في الإنسان الحرية في قبال الإنسان الآخر.. إذ لا وجه لتسلط الإنسان على إنسان آخر وهو مثله، كما أن الأصل في الإنسان العبودية لله سبحانه وتعالى)(20).


في هذه الفقرة.. الحرية هي حق طبيعي للإنسان وليست منة من أحد ما سواءً كان فرداً أو مجموعة.. فهي في فطرته توجد معه منذ لحظة الولادة وحتى لحظة الموت.. ولا أحد يقدر على سلبها إياه إلا الله سبحانه وتعالى لأنه الموجد والمانح لها..


وقد طبق الرسول الكريم(ص) في أول حكومة إسلامية ذلك المبدأ في السلم والحرب وفي جميع تعاملاتها مع الآخرين مسلمين كانوا أو مشركين وكفاراً.. وكذلك أمير المؤمنين… في حكومته القصيرة زمنياً الطويلة بما قدمته من نماذج في التعامل يحتذى بها.. وليس بخاف على أحد موقفه مع الخوارج الذين رفعوا السيف بوجهه وهو خليفة المسلمين إذ قال لهم (لكم عليّ ثلاث: ألا أمنعكم من مساجد الله تذكرون الله فيها وأن لا أمنعكم أرزاقكم وأن لا أبدأكم بقتال).


إلا أن هذا المفهوم الإسلامي الشامل والواسع لمبدأ الحرية قد تعرض لانتكاسات عديدة على مستوى التطبيق والممارسة.. لابتعاد الإنسان عن جادة الصواب واندفاعه وراء الشهوات والأهواء..


مما جعل أحد المفكرين الفرنسيين يخلص إلى القول في دراساته حول الحرية القانونية وضماناتها في المنظومة السياسية والاجتماعية للحضارة الإسلامية (إن الحرية في الدولة الإسلامية النموذجية لم تكن الحرية التي يموت الإنسان ـ ربما ـ من أجلها، والتي تعطي للحياة قيمتها الحقيقية والتي تتناول احترام الإنسان ككائن مخلوق على صورة الله.. إن معنى الحرية الحقيقي في الإسلام يوجد في العلاقة بين الإنسان والله)(21) .


وهذا المفهوم للحرية هو المفهوم الميتافيزيقي الذي تبناه متصوفة الإسلام في جميع أقوالهم وممارساتهم حتى باتت تغيب عن أنظارنا الصورة الحقيقية لهذا المفهوم الذي كرسه الإسلام بجميع تشريعاته.. ووصلنا إلى الألفية الثالثة ونحن ننظر إلى تجارب الآخرين نحاول استعارتها..


والذي نأمل منه أن تكون هذه الكتابات وغيرها بادرة خير لعودة الحرية الواقعية لأبناء أمتنا الإسلامية ليعيشوا في أوطانهم عيش الأحرار الأبرار وما ذلك ببعيد.

====================
الهوامش :-

(1) نحو حرب دينية: روجيه غارودي ص14.

(2) لسان العرب: لابن منظور، ح ر ر.

(3) يتيمة الدهر: الثعالبي، ج4 ص248.

(4) مقاتل الطالبيين: الأصفهاني، ص 104.

(5) العهد القديم: سفر الملوك الأول.

(6) التعريفات: الجرجاني، ص90.

(7) موسوعة السياسة: د. عبد الوهاب الكيالي، ج2 ص244.

(Cool الموسوعة الفلسفية العربية: د.معن زيادة، ص266.

(9) المصدر السابق.

(10) المباحث الشرقية: الرازي، ج2 ص413.

(11) محاسن الكلم: المبشر بن فاتك، ص113.

(12) المصدر السابق: ص67.

(13) غرر الكلم.

(14) المصدر السابق.

(15) محاسن الكلم: المبشر بن فاتك ص128.

(16) غرر الكلم.

(17) محاسن الكلم: ص64.

(18) المصدر السابق: ص12.

(19) لباب الأدب: أسامة بن منقذ ص434.

(20) الفقه السياسة، السيد الشيرازي مسألة 44 ص454.

(21) مفهوم الحرية في الإسلام: فرانز روزنتال ص102
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:49 pm

التكليف والحرية

من شروط التكليف طاعة وحرية ..
وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين فى قضية القدر ، وفى قضية الايمان ، وفى قضية التكليف والجزاء ، فيقصرون النظر على شرط الحرية ويهملون شرط الطاعة كأنه مناقض للجزاء وكأنه من اللازم عقلا أن يكون الجزاء مقرونا بالحرية المطلقة ، وهى فى ذاتها استحالة عقلية بكل احتمال يخطر على البال فى فهم خلق الانسان .. فمن 

بحث عن الايمان بالتكليف غير ناظر إلى شرط ( الطاعة ) فلا جرم يضل عنه ولا
ينتهى إلى قرار ، لأنه يبحث عن شئ اخر ولا يبحث عن التكليف ولا عن الايمان
فى القران خطاب متكرر الى العقل ، وبيان متكرر لحساب الانسان العاقل على الخير
 والشر  مع اسناد الارادة إليه فى استحقاقه للثواب والعقاب
وفى ايات صريحة تسند الإرادة إلى الله ، وتقرر انه - سبحانه وتعالى - هو الخالق المقدر الذى يقدر الهداية والضلال ، ويعطى كل شئ خلقه ويهديه وهى ايات كثيرة مقصودة بالتكرار وإن لم تبلغ فى الكثرة عدد ايات الخطاب والتكليف ، وايات التذكير بالعقل والنظر والتمييز والتفكير

 
قوله تعالى (( فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم )) صدق الله العظيم سورة البقرة اية 213

وقوله تعالى (( قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون ,29, فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلــلة )) صدق الله العظيم سورة الأعراف اية 29 - 30

وقوله تعالى (( سبح اسم ربك الأعلى ,1, الذى خلق فسوى ,2, والذى قدر فهدى )) صدق الله العظيم سورة الأعلى آية 1-3

وقوله تعالى (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهوالعزيز الحكيم )) صدق الله العظيم سورة ابراهيم آية 4

وقوله تعالى (( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )) صدق الله العظيم سورة ابراهيم آية 27

وكثرة الآيات بهذا المعنى تبعد عن الذهن أن يكون فيها مجال للتأويل بغير معناها الظاهر على اختلاف العبارة والمناسبة ، فمعناها الظاهر الذى لا تأويل فيه أن الله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد الذى يخلق عباده ويخلق ما يعملون
أفى هذا تناقض فى حكم العقل إذا نظرنا إلى الأمر كله نظرة المعقول ولم نقصر النظر إلى النصوص ، أو إلى واجب الاعتقاد بمقتضى هذه النصوص ؟
إن الرجوع بالقضية إلى أسسها المحتملة على كل احتمال ، ينفى التناقض ، ويرينا كيف يكون هذا الاعتقاد حلا للمشكلة من أسسها المفروضة جميعا ، وخروجا من التناقض الذى يلزمها على كل احتمال غير هذا الاحتمال
وليكن الانسان روحا وعقلا خلقه الله ، أو يكن تركيبا عارضا من تراكيب المادة لم يخلقه أحد ، على قول المؤمنين بالمادة مجردة من الفكرة والارادة
وليكن التكليف إرادة من عند الله أو يكن ضرورة من قضاء الواقع لا يرتبط بها أمر ولا جزاء
فكيف يتصور العقل إرادة الانسان على كل احتمال ؟
إنه لا يتصورها إرادة مطلقة من جميع القيود ، لأن ارادة إنسان واحد تنطلق بغير قيد لكل إنسان سواه ، وكيف يأتى هذا الانسان الواحد بإرادته المطلقة منفردا بها بين أمثاله المقيدين ؟
أما أن يوجد الناس جميعا بإرادة مطلقة لكل منهمعلى سواء ، فهذه هى الإحالة العقلية فى الفرض والتقدير قبل الوصول بها إلى الايجاد والتحقيق
فإذا كانت الارادة المطلقة هى إرادة الله ، فخلق الناس مكلفين بغير إرادة لهم شئ غير معقول وغير مقبول ، لأن سقوط التكليف لا معنى له فى هذه الحالة إلا أن يخلق الناس جميعا متشابهين متماثلين متساوين فى العمل الصالح الذى يساقون إليه ، كما تساق الآلات ، فلا فضل إذا للعاقل على غير العاقل ، ولا تمييز للانسان على الجماد المجرد من الحس ، فضلا عن الحيوان
فإذا وجب تكليف الإنسان ، فالعقل الانسانى لا يوجبه إلا كما ينبغى أن يوجب على حالة واحدة لا سواها ، وهى حالة الإرادة المخلوقة يودعها فيه الخالق كما ينبغى أن تودع ، وهى لا ينبغى أن تودع إلا على هذا الفرض الذى يدعو أليه القرآن
إن الحرية المخلوقة حرية صحيحة كما ينبغى أن تكون فى احتمال العقل المدرك المميز الذى يهتدى بإذن الله لما اختلفوا فيه
ولا يقال إن الحرية التى تخلق ليست بحرية .. فإن الحرية غير القيد سواء كانا مخلوقين أو مطبوعين ، وسواء كانا من عالم الروح أو من عالم المادة عند التمييز بينهما كما تتمايز قيمة المعدن نفيسا وغير نفيس ، وكلاهما مخلوق أو مصنوع ، فإن صنعنا للآنية الذهبية وللآنية النحاسية لا ينفى نفاسة الاولى ولا يسوى بين الآنيتين المصنوعتين
وليس فى العقل شئ يسمى حرية مطبوعة تعلو على الحرية المخلوقة بالانطلاق من جميع القيود .. لأن الانطلاق من جميع القيود غير معقول وغير موجود
وإذا وجدت للمخلوقات العاقلة حرية أو وجدت لها إرادة، فلترجع إلى العقل لترى كيف يتصورها العقل - أى عقل - وكيف تكون على احتمال واحد دون كل احتمال
أنها لا تكون سواء فى كل إنسان ، لأنها إذا امتنع فيها خلاف القوة لم يمتنع خلاف الزمن والعمر ، ولا خلاف المكان والجسد ، ولا خلاف الصغر والكبر ، ولا خلاف الحركة والجمود
واذا امتنع فيها كل هذا الخلاف فليست هى بشئ ، إذ ليست الموجودات التى لم تتمايز ولم تتنوع بأشياء يقبلها التصور ، بل هى عدم ينقطع عن الوجود ، أو كائن لا تمييز فيه ولا تكليف ولا حسنة ولا سيئة ، ولا ثواب ولا عقاب
فإذا وجد المخلوق حرا ذا إرادة فلا وجود له إلا بهذا الاختلاف فى حكم العقل كيفما كان حكم النصوص
وإذا قضى العقل بهذا دون سواه ، فالعقل هو الذى يتصور إرادة الله وإرادة الانسان على احتمال واحد دون سواه
وحكم الايمان هنا وحكم العقل متماثلان إذ كان كل ما عدا حرية الايمان فرضا غير معقول بل غير موجود
ونحن إذا فى حل من القول بكفاية العقل وحده لتلقى خطاب التكليف إذ كان المؤمن والفيلسوف معا يذهبان بالعقل بين نقائض الفروض ، فلا يستقران على فرض ممكن أو صالح غير اعتماد التكليف على العقل واعتماد العقل على الايمان
والانكار الجزاف يوقع العقل فى نقيضين ، وهو تعطيل للعقل أفضل له من كل تعطيل
وإنما تساورنا الحيرة فى مسائل الايمان عامة من خطأ شائع يوهم أناسا من المتدينين والمنكرين أن الايمان على الدوام تسليم بما يأباه العقل وبما يتقبله - إذا تقبله - وهو مغمض العين مكتوف اليد ، يتساوى منه النظر وترك النظر ، بلا اجتهاد ولا محاولة ولا موازنة بين ما يجوز وما يمتنع كل الامتناع
هذا إيمان يلغى العقل ويلقى به بعيدا إلى طرف التصديق بغير سؤال ولا انتظار جواب .. فإما عقل ولا تصديق ، وإما تصديق ولا عقل : ضدين لا يجتمعان
والفرق بعيد بين الإيمان الذى يلغى العقل ، والإيمان الذى يعمل فيه العقل غاية عمله ، ثم يعلم من ثم أين ينتهى وأين يبتدئ الايمان
إن الايمان هنا نتيجة لعمل العقل غاية جهده ، وليس نتيجة لاهماله وإبطال وجوده
والعقل يستطيع أن يصل إلى هذه النتيجة ، فتلزمه حجة الدعوة إلى التصديق بالغيب المجهول
والعقل يستطيع أن يعلم بضرورة الايمان لأن إنكار هذه الضرورة نقيضة عقلية وليس بنقيضة للدين والعقيدة وحسب ، ولا سبيل إلى الايمان بموجود كامل مطلق الكمال يصح أن يؤمن به غير الاعتراف بضرورة هذا الايمان ولزومه - منطقا - قبل لزومه لهداية الضمير
فالموجود الذى يصح أن نؤمن به هو وجود كامل أبدى ليست له حدود
والموجود الذى ليست له حدود لا يحيط به إدراك العقل المحدود
فما النتيجة اللازمة لهذه الحقيقة التى لا شك فيها ؟؟
هى إحدى اثنتين .. إما إنكار جزاف ، وإما تسليم بحقيقة تفوق إدراك العقول
الانكار معناه أن سبب الإيمان الوحيد ، يكون هو السبب الوحيد لكل تعطيل ، والإنكار الجزاف يوقع العقل فى نقيض ، وهو تعطيل للعقل أفضل له من الإنكار
إن الموجود السرمدى الكامل المطلق الكمال هو الإله الذى نريده بالإيمان ، وهذا هو حقه فى إيمان العقلاء بوجوده وربوبيته
ولكن العقل المحدود لا يحيط بالوجود المطلق الذى ليست له حدود
أفيقول العقل إذا : لا إيمان بهذا الموجود المطلق لأنه الموجود الذى يصح فى العقل أن نؤمن به ونبحث عنه ، ولا يصح فى العقول إيمان بغيره ؟
العقل لا يقول هذا
والعقل إذا قال بضرورة الايمان على هذه الصفة ، وبهذا الحق ، لم يكن قد ألغى عمله وأبطل وجوده ، بل هو يبلغ بذلك غاية عمله ، فهو عقل يزيد عليه إيمان
إن العقل الذى يزيد عليه الإيمان ، هو العقل الذى خاطبه القرآن بالتكليف ، أو هو العقل المؤمن الذى تعنيه النبوة بالتذكير والتبشير ، وهو المسئول أن يستمع إلى النبى المرسل من عالم الغيب ، فلا معذرة له بعد حجة الغيب والتسليم ، وبعد حجة الشهادة والتفكير
ومع التسليم بهذا الموجود الكامل ، لا يعرف عقل الانسان تكليفا غير التكليف الذى بسطته نصوص القرآن ، فلا معنى للتكليف أصلا إن لم تكن فيه طاعة وحرية ، ولا معنى للحرية من وراء إرادة الخالق وإرادة المخلوق

بقلم / عباس محمود العقاد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:50 pm

الإسلام يخاطب العقل الإنسانى

 
هناك شعوبا إسلامية كثيرة ليس لديها تفسير مطبوع للقرآن ا لكريم بلغاتها حتى الآن و ان كانت بعض الشعوب الإفريقية لديها تفاسير غير مكتوية تتناقلها الألسن مشافهة.
وكان يصاحب انتشار الإسلام في الصدر الأول انتشار للغة العربية بحيث أن الحاجة إلى تفسير للقرآن الكريم بغير العربية كانت قليلة أو غير واردة ولم يبدأ ظهور تفاسير باللغة الفارسية إلا في عام 315 ه حيث تم ترجمة تفسير الطبري.
وفي عام 734 ه تم ترجمة نفس التفسير إلى التركية ٬ أما الأردية وهي لغة أحدث من السابقتين فقد ظهرت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم عام 1190 ه والتي قام بها مولانا شاه رفيع الدين. وقد كانت التفاسير و ترجمة المعاني تنبع من حاجة إسلامية وبايد إسلامية أمينة على تبليغ رسالة الإسلام ومعاني القرآن الكريم لمن لا يحسن العربية وبعد فتوحات المسلمين في أوروبا والأندلس واحتكاك المسلمين والمسيحيين في الحروب الصليبية وغيرها بدأ المسيحيون في ترجمة معاني (القرآن الكريم ( في محاولة للتعرف على كتاب محمد أو التعرف على القانون التركي أو على قرآن محمد كما أطلقوا عليه وقد ترجم إلى اللاتينية بمعرفة رهبان ديركلوني عام 508 ه وحفظت هذه الترجمة لدراسات الرهبان للتعرف على دين المسلمين ولم تطبع الترجمة إلا في عام 950 هـ ومن هذه الترجمة نقلت ترجمات إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية حيث أن المترجمين لم يكونوا على علم باللغة العربية فوجدوا الترجمة اللاتينية أقرب منالا. وبعد هذا التعرف المبدئي بالإسلام عن طريق هذه التراجم اشتد ساعد الأوروربيين في حربهم للإسلام وظهرت حركات التبشير والاستشراق وانقضوا على تراثنا الإسلامي اما بحرقه في أسبانيا أو بنهبه وحفظه في مكتباتهم وجامعاتهم أو بدراسته وإثارة الشبهات كلما أمكنهم ذلك ٬ وكانت ترجمة معاني القرآن الكريم وسيلتهم لتحريف الكلم عن مواضعه أو لصرف أقليات إسلامية سقطت تحت حكمهم عن النص القرآني الكريم وتحويلهم إلى ترجمة ميسرة بلغتهم كما حدث في بلغاريا إذ قام المبشر الألماني هوبه و فريق من الدارسين بعمل ترجمة باللغة البلغارية لشعوب البوماك المسلمين وكان حدثا اعتبره المبشرون عيدا ٬ وكالترجمة التي قام بها القس جودفري ديل بالسواحيلية ووزعها على مراكز التبشير ومدارس الأحد في شرق أفريقيا حتى يمكن محاجة المسلمين عن علم ومناقشتهم عن معرفة.
وهكذا نجد أن ترجمة معاني القرآن استخدمها أعداء الإسلام لمحاربته. واقترح الدكتور حسن المعايرجي بعد مقدمات وافية ما يأتي: حصر ترجمات معاني القرآن الكريم بشتى اللغات.. جمع نسخ من هذه الترجمات لتكون مكتبة كاملة يستعين بها الباحثون و المحققون. تمحيص تلك التراجم لتعميم الجيد منها والتحذيرمن السيء والمشبوه. اختيار تفسير حسن للقرآن الكريم وترجمته إلى اللغات الأساسية وتوزيعه على جماهير المسلمين.. والدكتور معذور في اهتمامه ب “الأعاجم المسلمين” فهم أكثر من أربعة أخماس الأمة الإسلامية الكبيرة! وإن كان العرب المسلمون ما أحسنوا تيسير العربية لهم ٬ ولا نقل الثقافة الإسلامية بألسنتهم! بم اشتغل العرب؟ ولماذا ينتظرون أن يجيء الناس إليهم بدل أن يذهبوا هم إلى الناس؟ أليست هذه خيانة لأمانات الدعوة وتفريطا في جنب الله؟ وماذا كسب العرب من تنازعهم على السلطان؟ وعشقهم للرياسات؟ وتقاتلهم على الحطام والبريق الخادع؟ لا شيء إلا ضياع الدين والدنيا معا نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا مانرقع أعلن منذ أيام رجل الاقتصاد البريطاني ” أحمد كريستوفر شامونت” أنه دخل في الإسلام ٬ قال: لقد وجدت في الإسلام ما كنت أبحث عنه! فأي مشكلة يعاني منها المرء في حياته سوف يجد حلها في القرآن الكريم.!
ثم يقول أشهر اقتصادي إنجليزي: إن الإسلام يخاطب العقل الإنساني ٬ ويضعه على مشارف الطريق الحق٬ ويضمن له سعادة الدنيا والآخرة! ويقول: إنني حتى الآن قرأت ست سور من القرآن الكريم٬ وقد شعرت بأن الإسلام يملك أسباب التقدم الحضاري والتفوق العلمي٬ ولكن المسلمين متقوقعون (!) يعيشون بعيدا عن هدى دينهم ٬ وهو ما جعل غيرهم من الشعوب يسبقهم٬ ويرجح عليهم.. ولم يكن المسلمون الأوائل على هذا النحو السيئ! لقد كانوا أول سالك لطريق الحضارة والتقدم في شتى الميادين العلمية والاجتماعية والاقتصادية..! هذا الخبر ناطق بأن الإسلام يشق مستقبله بقواه الذاتية وخصائصه العقلية ونستطيع أن نؤكد أن العقل الأوربي أسرع شيء إلى قبول الإسلام والابتهاج به يوم يعرفه معرفة صحيحة.. إن هذا العقل المتفتح الذكي لا يستسيغ الإلحاد! والإلحاد في الحقيقة مرض نفسي وليس يقظة فكرية.
كما أن هذا العقل الأوربي المستقيم يأبى التعدد والتجسد وسائر المتناقضات التي حفلت بها أديان أرضية وسماوية! ولا ريب أن المفهوم الإسلامي للألوهية مشرق المعنى والدليل ٬ ولا يصد عنه امرؤ سليم الفطرة..! فلننظر إلى الخبر الآخر الذي جاءنا من أميركا! لقد قالوا: إن سلطات الأمن في واشنطن أمرت بإغلاق المسجد في المركز الثقافي الإسلامي (!) لماذا؟ الآن القوم هناك يضنون بحرية التبليغ على أتباع الإسلام؟ كلا ٬ فحرية الدعوة مكفولة.. لكن الذي حدث أن المسلمين من رواد المسجد انقسموا على أنفسهم انقساما شائنا ٬ ووقعت بينهم فتن عكرت صفو الأمن ٬ فرأت الدولة أن تستريح من هذا الشغب! ترى ماذا قسم المسلمين هناك ٬ وأفسد ذات بينهم ٬ وانتهى بإغلاق مسجدهم؟؟ قالوا: نزاع بين أتباع السلف وأتباع الخلف تفاقم حتى أوقد بينهم حربا لا تؤمن عقباها!! وتصورت أنا ما حدث ٬ يصلي إمام شافعي المذهب فيجهر بالبسملة ٬ ويقنت في الفجر ٬ فيقول له مأموم من السلف: الجهر بالبسملة لم يرد ٬ والقنوت في الفجر بدعة ٬ وكل بدعة ضلالة ٬ وكل ضلالة في النار!! ثم يحاول هو ومؤيدوه أن يصلوا على مذهبهم هم ٬ وهنا يتشابكون ٬ ويكون النزاع بالأيدي ويخاف نصارى واشنطن أن يتحول إلى تشابك بالنعال أو بالنصال فيغلقون المسجد! وربما كان الخلاف: هل يجهر بختم الصلاة أويسر؟ هل تقرأ سورة الكهف قبل الصلاة أم سورة أخرى أم لا قراءة البتة؟
وهذه الخلافات الهائلة يمكن تصعيدها إلى مجلس الأمن ٬ ولكن من يدري! ربما استعمل الروس حق الاعتراض الفيتوا فخذلوا السلف ٬ أوهزموا الخلف!! إن المسلمين القادمين إلى العالم الجديد يحملون معهم كما قلت من قبل أدرانهم الفكرية ٬ وجراثيم العفن الخلقي الذي أزرى بهم وبدينهم على سواء!! أترى الاسلام يحرز نصرا في ميادين الدعوة بهذا التفكير؟ ماذا لو عولجت هذه القضايا الثانوية على مكث ٬ وتركت وجهات النظر الغالبة أو المغلوية تحيا كيفما اتفق ٬ وتعاون الجميع على خدمة العقائد والأخلاق والعبادات المجمع عليها وما أكثرها وبقيت الأمور الخلافية معفلة ٬ أو ماضية على أي وجه؟ إنني بعد ما بلوت أصحاب هذه القضايا استقر عندي أن القوم يتعصبون لأنفسهم! وأن العناد واللجاج مظهر للغلب الشخصي تحت ستارمن اسم الله ٬ وحقائق الدين!! إنهم يفقدون نكران الذات ٬ وإيثار الله ٬ ومصلحة الإسلام العليا! إن هؤلاء الناس محتاجون إلى مزيد من التربية الخلقية والزكاة النفسية والتعلق بالآخرة. أما عناوين السلف والخلف فهي قشور ..وحاجة الإسلام إلى الفقه الذكي مثل حاجته إلى النية الصالحة ٬ ولن يفيده مخلص أحمق ٬ ولا عالم مفتون!


بقلم الشيخ محمد الغزالى رحمه الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:52 pm

الجانب الإنسانى فى العقيدة الإسلامية

بدء الخليقة بين العلم والدين
ــ
محاولات قاصرة : ـ
خلق الله الإنسان طلعة يجري وراء المجهول، ويلهث خلف المستور بقصد استجلاء أسراره وهتك الحجب التي تفصل بينه وبينه وفضح معالمه حتى يظهر جلياً ناصع الجلاء واضحاً لا سترة به.
وهذه الطبيعة الإنسانية لكي تحقق غايتها من كشف المساتير لابد لها من وسائل وإمكانيات، ولابد لها من قدرة تتناسب مع هذا المجهول حتى يمكن كشف أسراره، كما أنه لابد من المنهج المتاح والوسيلة الممكنة التي يمكن من خلالها تحقيق الهدف وبلوغ المرام.
والعاقل من النوع الإنساني هو الذي يوازن بين الهدف والغاية المرتقبة، والمنهج والوسيلة التي هما مطيته لهذا الهدف المنشود.
وغير العقلاء من النوع الإنساني من يجري وراء الهدف بدون تقدير لهذه الموازنة أو إعطائها ما تحتاج إليه من الاهتمام الواجب إعطاؤه لها فيقع في خلط أكيد وربما يتراءى له الهدف على أنه واضح يمكن إدراكه أو على أنه قريب يتمكن هو من تحصيله ، وهذا الهدف في حقيقة الأمر ربما يكون أكثر شبهاً بسراب الصحراء الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .
ونحن نقدم بهذا الحديث الموجز لندخل من خلاله إلى حقيقة هامة لفت القرآن إليها المسلمين الأوائل والعلماء الذين جاءوا بعدهم على طول العصور وتوالي الأزمان.
فالباحثون في مجال العلم على أي مستوى من مستويات العلم تنقسم الأهداف أمامهم باعتبار الوسيلة المؤدية إليها إلى قسمين :
1ـ فهناك هدف يمكن الوصول إليه لأن وسائله متاحة أمامنا كأن تكون ظواهره خاضعة للتجربة والملاحظة العلمية كما هو الحال في مسائل العلم التجريبي بمختلف أنواعه أو تكون ظواهره خاضعة للمنهج الاستردادي واستلهام الماضي بشرط أن يكون له آثار باقية تدل عليه كالحفريات الواضحة أو معالم الأبنية وما يشبهها مما يساعد على الوصول إلى نتيجة هي أقرب إلى اليقين ، وهذا النوع من العلوم أو تلك الأهداف التي يقصد الإنسان الوصول إليها يشجع القرآن والسنة النبوية على أن لا يتباطأ الإنسان فيها، فالله يقول في القرآن : " قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنظر عن قوم لا يؤمنون" ، "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" ، "وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" ، "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجيال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت" آيات كثيرة في هذا المجال كلها تزعج الإنسان من غفلته وتوقظه من سباته وتأخذه بشدة إلى أن يتأمل هذا الكون، وكيف لا وهو القائل : " قل سيروا في الأرض فانظروا " ، " قل سيروا في الأرض ثم انظروا " إن المجال مفتوح بل والنوع الإنساني مكلف بالبحث عن أسرار هذا الكون كل بقدر طاقته وبقدر ما أتيح له من وسائل وإمكانيات.
والدين الإسلامي حين يطلب ذلك إلى الأمة إنما يقصد أن يبلغ بهم إلى هدفين :
أن يحققوا إلى مجتمعهم الإسلامي بالعلم والمعرفة ما يجعلهم يسابقون الأمم الأخرى غير الإسلامية ويسبقونهم في مجال الخدمات والنفع الاجتماعي بأوسع معنى للكلمة بحيث تتحقق لهم الريادة والسيادة، وبهذا الهدف وحده تسقط كل دعاوي الكذب والريبة التي تدعي أن الإسلام كان سبب تخلف المسلين في فترة ما من الزمن وحقبة معينة من الدهور، والمتحدث بهذه الدعوى إنما يتحدث عن معاني في الكنيسة المسيحية والمجتمع الغربي ، بلغة عربية.
والإسلام يقصد بعد ذلك إلى أن يطبع شخصية العالم المسلم بالتواضع الجم بحيث لا يغتر بذاته وإنما يلتفت بقوة إلى مسبب الأسباب وراء هذا الكون وواضع القانون العام لهذا النظام، ولذا كان العالم المسلم هو الجدير وحده بأن يعترف بالتوحيد لله وأن يسجد له خاشعاً بعد أن يقف على سر الحقيقة في الكون وهو وحده الذي يستحق المدح بوضعه في مرتبة تالية بعد الله والملائكة في الآية الكريمة " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولي العلم " وهو وحده الجدير بأن يخشى الله ويتقيه وهي منزلة راقية على مستوى البشرية كلها " إنما يخشى الله من عباده العلماء " .
2ـ أما القسم الثاني من العلماء : فهم يتعلقون بأهداف لا يمكن الوصول إليها ذلك أنها لا ظاهرة لها أصلاً أو أنها لها ظاهرة لا تعبر عن بداية وجودها فهي لا تخضع للتجربة المباشرة ولا تخضع للملاحظة العلمية كما أنها من ناحية أخرى لا تستجيب للمنهج التاريخي (الاستردادي) ولا تخضع في المدى المؤثر للمنهج الإحصائي.
وعلى الجملة : فإن ظواهر هذا النوع من المجالات التي يتعلق بها بعض العلماء ويحاولون عبثاً أن يستنتجوا نتائج يصفونها بأنها علمية لا تخضع قط لأي منهج من مناهج الدراسات ولا لأي طريقة من طرائق البحث والدرس، ومن يريد الوصول إلى هدف في هذا المجال فإنه كالسائر في البيداء يستحث ظهره إلى السير حتى يقطعه دون أن يصل إلى هدف معقول من وراء سيره.
ومن هذا النوع الأخير من العلماء من يحاول بالعلم أن يعرف بداية خلق الإنسان ويقف على سر وجود أول مخلوقات هذا النوع وهو عاجز عن استخدام أي منهج من مناهج العلم أو أي طريقة من طرائق التكفير والنظر.
فنحن لا نستطيع بالعلم وحده أن نرجع إلى الوراء لنقف على سر بداية خلق الإنسان الأول، ولا على كيفية هذا الخلق، ولا على تاريخ محدد أو تقريبي لهذه البداية إن هذه وأمثالها محاولات عابثة ونشاطات لا تعدو أن تكون جزءاً من الترف العقلي والسياحة الذهنية التي لا أمل يرجى من ورائها، ولا رجاء يعلق عليها سوى أنها سياحة ذهنية.
ولقد ابتلى الله الإنسانية في كل زمان بمن يدعي معرفة هذا السر ويقف على بداية خلق الإنسان.
ففي ماضي اليونان السحيق وأيام أن نشط المفكرون الطبيعيون فيهم سمعنا من المؤرخين أنهم قد نسبوا لليونان فكرة تقول : إن الإنسان متدرج عن حيوان غاية في الصغر درج في الماء ثم وصل إلى البر فعاش فيه ثم تدرج إلى أن وصل إلى أكثر الحيوانات قرباً من الإنسان ثم تحول إلى الإنسان أرقى الموجودات في هذا الكون.
ونحن حين ننسب هذه الفكرة إلى اليونان الأوائل تبعاً للمؤرخين لا نشك في أن أي إنسان يقرأ هذه النسبة دون أن يقف على تفاصيل الفكرة لا يشك في سذاجة التفكير وبساطة التعبير والمجافاة الشديدة التي تقع بين الفكرة والواقع ذلك أن هذه الفترة من الزمان كانت تعبر عن وهم يسيطر على التفكير العلمي سببه الأساسي أن الإنسانية كانت تعيش فترة من الطفولة ليس فيها مظهر واحد من مظاهر النضج العقلي.
والشئ الغريب أن الإنسانية بعد أن نضجت عادت في فترة من الفترات لهذا التفكير المقلوب وسلكت نفس الطريق المسدود فبدا علماء الحياة (1) بزعامة دارون يتحدثون عن بداية خلق الإنسان ويرددون نفس الكلام اليوناني القديم إ ذ إن الإنسان ليس إلا طوراً من الأطوار ومرحلة من المراحل لعملية انقلاب مستمر وتحول دائب من نوع إلى نوع آخر ترجع بدايته الأولى إلى حيوان غاية في الصغر أو ميكروب من الميكروبات ذات الخلية الواحدة، فهم يزعمون أن بداية هذا المخلوق كغيره من المخلوقات الحية كانت في عفونة رطبة واستمرت فترة طويلة في الماء العذب أو الملح واستمر الترقي وفقاً لقانون الانتخاب الطبيعي إلى أن توصل إلى الإنسان وتوقف.
وانبهر السذج في كل مكان بمثل هذه النظرية التي اعتقدوها حديثة وما هي إلا محاولة من المحاولات القديمة في اليونان ماتت وقبرت لتوها فنبش علماء الحياة المحدثون قبرها وجمعوا أوصالها من جديد وألبسوها ثوباً قشيباً وسكبوا عليها عطراً فواحاً بقصد ستر عفنها ونتنها.
والمتأمل في هذه الفكرة يجدها قد انطوت على عدة أخطاء علمية.
وأول هذه الأخطاء أنها دعوى بغير دليل ونظرية مزعومة بغير مقدمات، فهي لا تخضع إلى تجربة ولا تستجيب لملاحظة علمية، ولا هي قد مرت بمرحلة فرض الفروض وانتخاب الصالح منها وإنما هي على الجملة تنظير في فراغ وتقعيد بغير مقدمات ودعوى بغير دليل.
وكل ما استطاعوا أن يقدموه لنا هو ذلك الشبه الشديد من الناحية التشريحية بين الإنسان وغيره من سائر الحيوانات. وهذا الشبه الشديد لا يؤكد وحدة النوع ولا يثبتها، وإنما يؤكد فقط وحدة الجنس المشتمل على أنواع لكل نوع خواصه ومميزاته مع اشتراك جميع الأنواع المندرجة تحت جنس واحد في صفة تجمع بينهم، فعنصر الحياة هو المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات إلا أن كل نوع من الحيوانات له ما يميزه عن غيره، وينفرد به عما عداه، فدليل وحدة التشريح دليل من لا يفهم الفرق بين النوع والجنس أو دليل من يفهم لكنه مغرض فيطمس حقائق العلم من أجل هدف يبغيه وقصد يطويه ومرام يريد أن يقصد إليه مهما كانت الوسائل غير شريفة.
والثاني من الأخطاء العلمية في فكر علماء الحياة المقلوب: أنهم قد أجازوا الانتقال من نوع إلى نوع في هذه الحياة، إذ إن من الجائز عنهم أن يتحول الفرد العادي إلى لون من القردة العليا ثم يتحول الأخير عن نوعه إلى الإنسان، وهذه الفكرة خطيرة في عالم العلم، إذ إنه من رحمة الله بعباده أن جعل الكون مستقراً من يوم أن خلقه بحيث يسبح كل نوع في فلكه وكل فلك في مداره وكل جنس في دائرته المرسومة له بحيث قد جعل لك نوعا أو جنسا أو مخلوقا أيا كان لمجموعة من القوانين تخصه هو ، ومجموعة من النظم يخضع لها أفراد النوع الواحد لا يتأتى أن تكون لغيره من الأنواع، وعلى أساس من هذا الثبات في النظام يمكن لنا أن نكتشف هذه القوانين وأن نستثمرها ونتعامل معها ونستفيد من آثارها ومعطياتها ونحن على يقين وثقة أن هذه القوانين من الثبات بحيث لا يطرأ عليها التغير ، ومن الاستقرار بحيث لا يعتريها التبدل أو التحول.
ولو افترضنا العكس المقابل لهذه الحالة بمعنى أن نفترض بأن الله قد خلق القوانين بغير استقرار والنظم بغير ثبات، والأسباب بحيث يمكن أن تنفصل تلقائياً عن المسببات بحيث يصبح قرد الأمس إنسانً اليوم ، وبحيث يصبح حجر اليوم ذهباً في الغد، وبحيث يمكن أن تتحول أخشاب الغد إلى معادن في مستقبل الأيام وهكذا ، لو افترضنا هذه الأشياء المبنية على نظام لا قرار له وقانون يتحول يوماً بعد يوم لشقيت البشرية بهذا الفرض ولكان علمها لا ثقة به وتوقعاتها لا أمان عندها، ولفقدت كل تطلع إلى المستقبل، ولنامت عن بلوغ الآمال وقعدت عن تحقيق الأهداف، إذ إن لا أمل يرجى في المستقبل وكل توقع أو تطلع يكون مبنياً على غير أساس، وبذلك يشقى الإنسان ويعيش مبتوراً مقطوع الصلة بكل عمل ذهني يرفع من قدره ويرسم له طريق حياته ويعبر به نحو الكمال.
من رحمة الله بالخلق أن جعل لهم القوانين ثابتة مستقرة (1) ، ويأتي أصحاب هذه النظرية الموتورة ليقولوا لنا بفكرة الترقي وتحول الأنواع عن أنواعها الأساسية إلى أنواع هي أعلى منها وأرقى.
وهذه النظرية لم يحترمها أصحاب الرأي الثاقب والفكر السديد، وإن كان المغرضون من أعداء الإسلام شرقاً وغرباً قد حاولوا أن يفرضوا على بني الإسلام أن يؤمنوا بهذه النظرية، ومما يؤسف له أنها قد قدمت إلى النشء من شبيبة الإسلام وهم في مراحل التعليم الأولى ليجعلوها غذاء لعودهم الذي لم يكتمل بعد مستغلين نقص الثقافة عندهم خصوصاً ما يتصل منها بأمور دينهم.
وعلى الجملة فإن تفسير العلم لبدء الخليقة يفتقر إلى المنهج الصحيح وإلى المقدمات التي توصل إلى النتائج ثم هو يجازف بحياة الإنسان العلمية حين يحكم على الأجناس بالتحول والانتقال .
أين الطريق ؟
وإذا حكم الإنسان عقله لن يقع في حيرة ولن يستسلم إلى الوهم.
ومقتضى العقل السليم والفطرة المستقيمة أن أقرب الأشياء تصديقاً لديه وأكثر الأحداث ثقة بها وأقر بها إلى القلب والوجدان هي تلك الأحداث التي رواها من شهدها وقصها علينا من صنعها، إذ إن صنعته لها ومشاهدته إياها تجعله أكثر علماً بها، وتجعلنا نحن أكثر تصديقاً وقبولاً لها ـ ونحن مختارون أو غير مختارين ـ لا طريق أمامنا إلا أن ننصت إلى كلام الله الثابت الذي لم يطرأ عليه تغيير لنستمع إليه وهو يروي قصة بداية الخليقة باعتبار أن الله هو الذي شاهد خلق الإنسان الأول، وأن الإنسان الأول هو صنعة ربه لم يشاركه غيره فيها فكان هو العليم بالكيف والابتداء معاً " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ؟

إرادة على طريق التنفيذ
ولقد روى الله لنا قصة بداية الخلق أو قصة آدم الأول في القرآن الكريم في أكثر من موضع مفصلة مرة ومجملة أخرى، وهي في تفصيلها وإجمالها تعطي العقل الإنساني ثراء علمياً ، وإحساساً مقدساً بكيانه في حالة من الاعتزاز والشموخ والكرامة والفخار.
ولم يشأ القرآن أن يحدثنا عن كيفية الخلق الأول مباشرة ، ولكنه أراد أيضاً أن يحدثنا عن التمهيدات التي طبع الله الكائنات في الكون بها، والتي تنبئ عن مخلوق جديد سيكون له من الصفات والشمائل ما يخالف بها صفات وشمائل الكائنات الموجودة بالفعل.
ورب العزة لم يشأ في وقت من الأوقات أن يفاجئ الكون بحدث دون أن يعطي له مقدمات وتمهيدات تبشر بوقوع الحدث وتنبئ عن تغيير سوف يحدث على ظهر الأرض أو في الفضاء أو في كبد السماء (1) " ومن هذا القبيل فإن المخلوق الجديد آدم يعتبر حدثاً في هذا الكون لم تتعوده الكائنات الموجودة فعلاً، وطبقاً للرحمة الإلهية فإنه لابد من تمهيد ينبئ عن شمائل القادم الجديد.
ولو أننا تأملنا الخطاب الموجه من الله للملائكة قبل خلق آدم في إطار هذه القاعدة السالفة الذكر لأمكن لنا أن نتصور كيف مهد الله لخلق آدم، قبل خلق آدم عليه السلام تحدث الله إلى ملائكته حول هذا المخلوق الجديد، ونحن نعرف من صفات الملائكة أنهم "عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" ولم يثبت في تاريخ الأديان أن الملائكة كما ناقشوا أو وازنوا بين أمرين موازنة عقلية أو منطقية، وإنما هم يؤمرون فيطيعون ويتوجه إليهم الله بالخطاب فلا يترددون ولا يتلكئون حتى كأن الطاعة بالنسبة للملك هي عنصره الجوهري بحيث لو ارتفعت عنه فقد صفته الذاتية كملك، ولكنهم هذه المرة قد وازنوا بين مشروع الإرادة الإلهية في الخلق الأول، وبين تجارب الماضي في الكون الذي سيشاطرهم المخلوق الجديد إياه ، قالوا ولأول مرة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " رداً على قول الله لهم فيما يحكيه رب العزة : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وليس عندنا ريب ولا شك في أن الله قد شاء أن توازن الملائكة هذه الموازنة، وأن يجيبوا بهذه الإجابة طبقاً لقاعدة الرحمة الإلهية التي ذكرناها سلفاً والتي تقتضي أن يمهد الله لهذا الحدث الجديد بالكشف عن بعض طباعه وشمائله، ومن بعض طباع الإنسان وشمائله أنه مجادل موازن وأنه متردد مرتاب، وأنه لا يصدق إلا بعد الموازنة والاستدلال، فهو الذي يقول الله عنه فيما بعد : " وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " وهو الذي لا يصدق إلا بدليل ولا يقتنع إلا باليقين، وقد مهد الله لذلك حين علم آدم الأسماء كلها ومسمياتها ثم عرضهم على الملائكة فقال : "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا " فطلب لآدم أن يعلمهم ليقتنعوا وأن ينبئهم كي لايرتابوا : " قلنا يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم " ذكرهم الله بجزء من المناقشة الماضية قبل خلق الإنسان قال: "ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون" وبهذا اللون من التعبير تبين لنا بعض شمائل الإنسان ذلك المخلوق الجديد الذي سيكون خليفة الله في أرضه فيما يستقبل من الزمان أو يأتي من العصور.
استدراك : ـ
وحين يفرغ الإنسان من سماع خطاب الله للملائكة الذي يتعلق بخلق آدم المحتوم يتحرك في داخله استفسار عقائدي مشروع مؤداه : أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون وهو ملكه ـ بضم الميم ـ وملكه ـ بكسر الميم ـ يتصرف فيه طبقاً لإرادته بالزيادة والنقص وبالإسعاد والإشقاء دون أن يسأل عن شئ من ذلك بلم أو كيف " لا يسأل عما يفعل وهو يسألون" ، " يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " إلى آخر هذه الآيات والنصوص التي تعبر عن طلاقة الإرادة والقدرة الإلهيتين.
وفي ضوء هذه المسلمة يمكن للمسلم أن يتساءل : ما هي حقيقة هذا الخطاب الإلهي للملائكة في مشروع كهذا المشروع الإلهي ؟ إن الإرادة الإلهية والقدرة كلتيهما غير محتاجة إلى مشورة مخلوق ناقص، أو إلى الاستناد إلى رأي كائن لا يقدر على مشورة كهذه ولا تتسامى مشورته إلى هذا المستوى القدسي.
تلك وساوس يمكن أن يلقيها الوهم في عقل الإنسان وتتسرب إلى وجدانه،ولو رجعنا إلى النص الكريم لوجدنا أن فكرة مشورة الله للملائكة مرفوضة بسياق النص ذاته؛ فالمشورة إنما تعني أن من يطلبها متردد في أخذ قرار بعينه ويريد أن يستضئ برأي غيره فيه ؛ والنص الإلهي يقول : "إني جاعل في الأرض خليفة " أي أن الإرادة ـ تعلقت بالفعل بهذا المخلوق المرتقب قبل أن يعرض هذا الأمر على الملائكة ، وبذلك تسقط فكرة المشورة من أساسها لغياب العنصر الجوهري فيها وهو التردد من قبل المستشير.
غير أن تحليل النص على هذا النحو لم يحل المشكلة العقائدية عند من تثار هذه المشكلة في ذهنه، إذ إن السؤال ما يزال قائما وإن كان بأسلوب جديد، ويمكن صياغته صياغة جديدة على النحو التالي : إذا كان عرض الخطاب على الملائكة ليس للمشورة كما هو مفاد النص فما هي الفائدة منه إذن ، وما هو النعت الحقيقي اللائق به ؟
ولو أننا تأملنا ما سطرناه سلفاً لاتضح لنا أننا نميل كل الميل إلى أن خطاب الله للملائكة ورد الملائكة على هذا الخطاب كان تمهيداً وتبشيراً بشمائل هذا المخلوق الجديد، ونحن لا نستطيع أن نخفي تحمسنا الشديد لهذه الفكرة غير أننا يمكن أن نضيف إليها بعض الأجوبة الطريفة التي قالها أسلافنا من الأساتذة الأجلاء، ومن هذه الأقوال الطريفة ما ذكره الفخر الرازي قال بعد أن صاغ القضية على النحو السالف ذكره، وذكر بعض الردود عليها : (الوجه الثاني: أنه تعالى علم عباده المشاورة ) (1).
وفي بعض ما يروى عن أسلافنا آراء ربما لا يستريح الإنسان إليها لأنها لا توافق الطبع العام للملائكة أساساً، ولا توافق السياق العام الذي يذكره القرآن عنه، ومن بين هذه الآراء الرأي القائل : ( أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أو ردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب)(2).
وننتهي من مناقشة هذه القضية إلى اختيار أن الخطاب كان أمراً اقتضته الإرادة الإلهية للإبانة عن بعض طباع الكائن الجديد من جهة، ولتعليم بني آدم كيفية الحوار الذي لا يصل إلى حد المراء من جهة أخرى

الخلافة حقيقتها ومعناها
ومن الأشياء الواردة في خطاب الله للملائكة أنه قد تحدث عن المخلوق الجديد بوصفه خليفة، والخليفة :من يخلف غيره ويقوم مقامه، وهذا الوصف إنما يعبر عن وظيفة الكائن الجديد وتحديد مهمته التي خلق من أجلها، إن هذا الكائن الذي تعلقت الإرادة به ستكون الخلافة هي مهمته الحقيقية على هذا الكوكب الأرضي ، ولقد ذكر الله هذه الكلمة ـ خليفة ـ بإطلاقها فهي غير مقيدة ولا محددة.
وللإنسان حيال هذا الإطلاق أن يقف وقفتين :
أولاهما : أن يقف على معنى كلمة خليفة من حيث هي، أعني ما هي المهمة الحقيقية التي سوف تتضمنها هذه الكلمة وستكون علماً عليها أو اسماً لها؟
وثانيتهما : هذا المخلوق الجديد إذا كان خليفة فإنه من حقنا أن نسأل عن المخلوف أي الذي سوف يخلفه آدم ويحل محله أو ينوب عنه.
وسنحاول فهم النقطتين معاً فنقول : إن للعلماء هنا آراء متعددة واقتراحات ومفاهيم متنوعة ، " فآدم حين سيكون خليفة إنما سيخلف جنساً بأكمله هو جنس الجن، ولقد نسب هذا الرأي لابن عباس ، على أن هذا الرأي لا يكاد يكون مفهوماً إذ إن الجن ما يزال موجوداً إلى اليوم وبعد اليوم في الأرض يابسها ومائها (1). ونستطيع أن نفهم هذه الخلافة باعتبار أنها سوف تكون خلافة عن الله عز وجل بمعنى أن الله قد انتدب الإنسان لنشر شريعته في الأرض فيوحي بها لبعض أبناء آدم ومعهم الوثائق الكاملة والبراهين القاطعة التي تقنعهم أنها من عند الله، وهنا يجب على النوع الإنساني أن يطبق شريعة الله بشكل عام إذا كانت الشريعة عامة، أو على بعض أفراده إذا كانت الشريعة خاصة.
وهذه الخلافة على هذا النحو من التخريج إنما تحدد مهمة الإنسان التي خلق من أجلها، وهذا التخريج على هذا النحو أيضاً حين يكون مقبولاً في العقل إنما يعتبر صيحة قوية لتلفت النوع البشري من غفلته لتنبهه إلى أن الإنسان حين يغفل عن تطبيق الشريعة الإلهية لا يكون قد ارتكب جرماً على أعلى درجات التجريم التي تستوجب المساءلة والعقاب فحسب، وإنما يكون قد تعدى ذلك إلى مسخ شخصيته وسلب أهم عناصر وجوده، وإلغاء جانب كبير من ماهيته، والتنازل عن مقدار لا يستهان به من كرامته الاجتماعية والأخلاقية والدينية، فإذا لم يكن للإنسان من وظيفة على الأرض إلا تحقيق العبودية بتطبيق شرع الله في العقائد والاجتماعيات والأخلاق والعبادات، فإنه حين يلغي ذلك أو بعضه يكون قد ألغى مهمته ووظيفته الحقيقية وتخبط في دياجير الإهمال، وتاه في بيداء الظلمة والحيرة بغير هدف يقصده أو بغية ينتهي إليها.
وربما يتسع معنى الكلمة ليشمل أن يكون أفراد النوع الإنساني الذي تعلقت الإرادة بإيجاده لن يكون لهم البقاء ولن يتمتعوا بالخلود، وإنما سيحيا الواحد منهم إلى أجل مرسوم ثم يعود تراباً كما بدأ ، وبهذا فإن أفراد النوع الإنساني سوف يخلف بعضهم بعضاً ويكون بعضهم خليفة عن البعض إلى أن يقضي الله أمره بانتهاء هذه الحياة.
وعلى هذا التخريج يكون الله قد نعى النوع الإنساني قبل وجوده وأعلمهم بأنهم لا بقاء لهم في هذه الدنيا إلا ريثما يستوفي الواحد منهم أجله ثم يتركها إلى الحياة البرزخية وما يتلوها.
وهذا الإعلان كاف وحده لكي يلتفت النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى تحقيق العبودية لله في أنفسهم بتحقيق الواجب الذي يطلب منهم والقيام بأعباء المهمة التي كلفوا بها من تحقيق شرع الله في الأرض.
ومن هنا يظهر الترابط بين التخريجين الأول والثاني، فالإنسان خليفة عن الله لتنفيذ شرعه وأفراد الإنسان لا بقاء لهم فوق الآجال المحددة لهم فهم يخلفوا بعضهم بعضاً.
ولو تأملنا أسلوب القرآن لوجدناه يستخدم الخلافة بالمعنيين معاً، فهو يتحدث عن الخلافة بمعنى تنفيذ شرع الله في الأرض فيقول : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " . ويستخدم القرآن الخلافة بمعنى أن بعض أفراد النوع الإنساني يخلف بعضاً فيقول : "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" ، "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً " ، " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون".
والترابط بين التخريجين ظاهر واللفظ الوارد في خطاب الملائكة (خليفة) من العموم والشمول بحيث يتسع لهما ولما يمن الله به على الأجيال القادمة من فهم يضيفونه إلى هذه المعاني

ظهور آدم
غير أنه إلى الآن وإلى هذه المرحلة التي نتحدث عنها لم يظهر آدم ظهوراً فعلياً للعيان، وكل ما حدث أن الإرادة الإلهية قد تعلقت بهذا المخلوق الجديد لإيجاده وعند اللحظة المحتومة لوجود آدم كونه الله من عناصر ومادة الأرض، فيحدثنا القرآن مرة بأنه قد خلق آدم من تراب ومرة يقول : " إني خالق بشراً من طين"ومرة يقول : " من طين لازب " ومرة يقول : " من صلصال من حمإ مسنون"، ثم يقول في موضع آخر : "من صلصال كالفخار" . وهذه التنوعات في الحديث عن آدم تشير إلى أمرين هامين :
أحدهما : أن آدم في خلقه مر بمراحل متعددة يبتدئ من التراب إلى صلصال كالفخار، والقرآن يعبر في كل موضع عن مرحلة منها، ولما كان القرآن كالحرف الواحد في تماسكه وشدة ترابطه كان من الممكن جمع المراحل كلها لتعبر عن أطوار آدم هذا المخلوق الجديد. ثم يدخل بعد هذا الطور الأخير من مرحلة العنصرية الأرضية وبها إلى مرحلة الإضافة القدسية عليه. "ونفخت فيه من روحي" فيتحرك لحماً ودماً بحيوية وإحساس ووجدان ومنطق، وعلى الجملة إنساناً كاملاً في خلقته على النحو الذي أرادته المشيئة الإلهية.
وهذا التنوع في الخطاب بعد استكماله وجمعه يعطينا بدهية مسلمة، وهي أن الإنسان في أولي مراحله قد تكون من العناصر الأرضية ويحتفظ بها ذريته إلى اليوم في أجسادهم، فهم يحتفظون بعناصر الأرض بكل معنى الكلمة من يابس وماء، فلو أننا أخذنا قطعة مادية من جسم الإنسان وحللناها معملياً لوجدناها تحتوي على العناصر الترابية في الأرض، بل نحن نرى أن الإنسان بعد أن تنتهي حياته ويوارى التراب يتحلل جسمه إلى عناصر ترابية.
والجانب الرطب في الإنسان الذي يعبر عنه بالمائية يمكن أن نفهمه من قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شئ حي" وهذه الجملة قد فهمها علماء الحياة فهماً خاطئاً ففسروها على نحو ما ذكرناه سلفاً بأن بدايات الحياة الأولى كانت في الماء ، ثم تطورت طبقاً لقانون الانتخاب الطبيعي، غير أن الكثرة من المحدثين يرون أن المراد من الماء هو ما يحمله الإنسان في داخله من سيولة ورطوبة لازمة للحياة واستمرارها.
والحياة بهذا المعنى ، لم تترك الماء قط ، ذلك أن جميع صور الحياة تستمر بفضل البروتوبلازم وتمارس نشاطها داخله، وقد عرف أحد المعاجم البروتوبلازم بأنه مادة زلالية نصف سائلة تعد الأساس الأول للحياة الطبيعية التي تتطور منها جميع الكائنات الحية وتكون المواد التي يتكون منها البروتوبلازم ذائبة في الماء أو عالقة به، فالماء أساس البروتوبلازم ، والبروتوبلازم أساس الحياة، فالحياة والماء في هذا الكوكب متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر  

وعلم آدم الأسماء كلها
وبعد إتمام مراحل خلق آدم أخبرنا الله تعالى بأنه علمه أسماء الأشياء كلها.
ونحن هنا نستطيع أن نتساءل : ما معنى تعليم الله الأسماء لآدم، فكل شئ له صفاته الخاصة به وهي التي تعبر عن ماهيته وحقيقة وجوده وله لفظ لغوي يدل عليه، فما الذي علمه الله لآدم واستقر في نفسه أهي تلك الصفات الجوهرية للأشياء والتي هي حقائقها ومهاياها، أم هي الألفاظ والأسماء واللغات؟
إن المرء لا يكاد يرتاب في أن الله قد علم آدم حقيقة كل شئ وماهيته والصفات الجوهرية له، إذ أن شرف العلم بالشئ من حيث ماهيته وحقيقته يفوق شرف العلم به من حيث الألفاظ الدالة عليه والخاصة به.
واللغة لا تمنع هذا التخريج إذ أن استعمال الأسماء في الآية للدلالة على الصفات والمهايا يقبله الاشتقاق اللغوي للفظة اسم ، فالاسم إما أن يكون [ من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من الأسماء : الصفات ، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشئ كالمرتفع على ذلك الشئ ، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة ، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقى أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به](1).
وهب أننا خرجنا التعبير القرآني على هذا النحو من التخريج، فهل يكفي هذا ليكون هو المقصود من الآية ؟ إن الإنسان إذا تعلم حقائق ومهايا الأشياء لا يكفيه هذا التعليم، ولا يغنيه غناءاً كاملاً، ذلك أن الإنسان حين يتعلم مهايا الأشياء وصفاتها التي تميز الواحد منها عن الآخر فإنه إذا أراد أن يعبر عن الواحد من هذه الأشياء لابد لهم من مصطلح لغوي يطلق على مجموعة الصفات الخاصة بكل شئ على حدة، أي أنه لابد لكل شئ من اسم لغوي يدل عليه، وهذا الاسم اللغوي لا يحتاج الإنسان إليه إلا في مرحلة متأخرة إذ إننا بالتجربة ندرك الحقائق والمهايا أولاً ثم نحتاج بعد ذلك إلى أن نضع اسماً لغوياً يدل على ما أدركناه من الحقائق والمهايا، ولذلك يجمع علماء أصول اللغات على أن الأشياء توجد أولاً ثم توجد بعد ذلك اللغات الدالة عليها.
ولو أن آدم لم يتعلم الأسماء بمعنى الألفاظ وبقى عند حدود معرفة كل الصفات والمهايا التي تميز بين الأشياء وتقسمها إلى أجناس وأنواع وأفراد لتميزت الأشياء في ذهنه تميزاً ذاتياً، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن هذا التمييز لغيره ممن سيخلفونه على الأرض.
ولذا فإننا لا نرانا بحاجة ملحة إلى استقصاء هذا الخلاف المستمر بين العلماء حول ما إذا كان الله قد علم آدم الأسماء فقط علمه المسميات دون الأسماء إذ إن اللائق بالتعليم وحقيقته أن يميز الإنسان في ذهنه بين الأشياء وذلك لا يكون إلا بالحقائق والمهايا وأن يستطيع التمييز بين هؤلاء الأشياء بما يكون لها من أسماء تدل عليها وتميز من الناحية اللفظية بين آحادها وجملها.
سبب تعليم الله الأسماء لآدم : ـ
وحين علم الله الأسماء لآدم عليه السلام بعد خلقه بهذا المعنى العام للتعليم، فإن ذلك سوف يعطينا انطباعاً قوياً ويلفتنا إلى أن النص ما يزال يسير نحو هدف محدد وغاية مرسومة لا يحيد عنها ولا قيد أنملة، فالله قد أخبر الملائكة بأن آدم سيكون خليفة في الأرض ، وبخلافة آدم سوف تكون له علاقة بما ومن عليها، وهذه العلاقة سوف تكون جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية وبدون هذه العلاقة سوف لا يكون آدم خليفة في الأرض ولن يتمكن من أداء مهمته عليها، فكان تعليمه الأشياء حقيقة ولغة ضرورة اقتضتها وظيفته على الأرض وحتمية من حتميات القيام بمهمته وتحقيق ما أنيط به من الخلافة.



... يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:54 pm

...  يتبع

الجانب الإنسانى فى العقيدة الإسلامية


اللقاء بين آدم والملائكة
ثم تدبر العناية الإلهية لقاءاً بين آدم والملائكة بعد أن علمه حقائق وأسماء الأشياء كلها وكان بداية اللقاء بين آدم والملائكة سؤالا من الله لملائكته حول ماهية وحقيقة وأسماء بعض الأشياء " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وهذه نقلة في قصة آدم تبدو وكأنها غريبة على أذهاننا ، فالله قد علم آدم حقائق الأشياء ثم يسأل الملائكة عنها مع علمه بأنهم لا يجيبون " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وتزداد المسألة لدينا غرابة حين ينتدب الله آدم لتعليم الملائكة ما عجزوا عنه : " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " ويصدع آدم لهذا الأمر ويعلمهم أسماء وحقائق الأشياء والمرء حين يندهش لهذه النقلة الغريبة يحتاج إلى جواب عن سؤال مؤداه: لماذا وجه هذا السؤال إلى الملائكة : " أنبئوني بأسماء هؤلاء " ؟ ولماذا انتدب آدم إلى تعليم الملائكة وإحاطتهم بما لم يحيطوا به : " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " ؟
ولو تأملنا القاعدة التي صدرنا بها قصة بدء الخلق في القرآن والتي مفادها أنه من رحمة الله بالخلق أن لا يفاجئهم بأمر من الأمور حتى يعطي له تمهيداً ومقدمات تريح الكون أو بعض الكائنات اللاتي سيتعلق بها هذا التغيير أو يتصل بها على نحو من الأنحاء لفهمنا المراد من السياق.
ففي هذا الإطار يجب أن نعلم أن الملائكة إلى هذا الوقت الذي سألهم الله هذا السؤال فيه لم تكن لهم أي علاقة بهذا المخلوق الجديد، وقد شاءت العناية الإلهية أن هذا العالم العلوي الملائكة ستكون لهم علاقة خدمة وعناية بهذا الكائن المرتقب، ولقد اتضح لنا في خطاب الله للملائكة وإجابة الملائكة برأيهم في هذا الكائن الجديد أنهم قد توقعوا منه الفساد والإفساد فمن المتوقع عندهم أنه سيكون مصدر الرذيلة والإثم ولم يتوقعوا منه حسن الشمائل ولا رفعة الخصال، وليس من اللائق منطقياً أن تعمل الملائكة في خدمة كائن قد تصوروه سلفاً على هذا المستوى فلابد أن يبرز لهم الله ـ على مقاس الرحمة لا على مقياس الجبر ـ الجانب المضئ والفضيلة العليا التي سوف ينطوي عليها هذا الكائن الجديد، ومن بين فضائله ومن أسماها أنه قادر على تحصيل العلم والمعرفة بأوسع معنى لهذه الكلمة، وتحصيل العلم فضيلة حين يتعلق العلم بمعرفة الله الخالق البارئ المصور وبمعرفة آثاره في كونه وبمعرفة قوانينه التي وضعها ونظمه التي أرسى قواعدها في هذا العالم، وأنه خلق من الكائنات عوالم وأجناسا وأنواعا وأفرادا لكل صفاته وشمائله، ولكل خواصه وحقائقه فلا تختلط الأجناس ولا تتداخل الأنواع ولا تختلط الأفراد بعضها ببعض، وحين يقف الإنسان على هذا السر يكون قد حقق لذاته مزية وحقق لكيانه وجوداً غير وجوده المادي الذي يشارك به غيره من الكائنات الدنيا.
وقف الملائكة على هذا السر وتعرفوا على هذه الفضيلة بعد هذا اللقاء الذي أرادته العناية الإلهية فتهيأت نفوسهم إلى إكبار وتعظيم هذا المخلوق الجديد.
ولا يستطيع قائل أن يقول : إن هذا المخلوق الجديد ليست له هذه المزية من ذاته، فهو حين تعلم لم يتعلم ببذل المجهود ولا بصرف الهمة ولا بإشقاء الجسد والروح، ولا بكد الفؤاد وتوجيه الإرادة وإنما كان تعليمه بتوجيه الله له وصب هذه المعاني صباً في فؤاده : "وعلم آدم الأسماء كلها ".
إننا لا نصغى إلى مثل هذه الشوشرة لأن الملائكة هم الآخرون بما لهم من فضيلة تتلخص في لبابها وحقيقتها في جملة واحدة هي الطبيعة الخيرة لا يدعون أو لا يدعي غيرهم بأن هذه الطبيعة الخاصة بالملائكة قد أتتهم ببذل المجهود أو كد النفس أو توجيه القصد إلى تلك الغاية النبيلة أو الفطرة السليمة وإنما هم خلقوا هكذا عبادا مكرمين فطرتهم خيرة ولا يتأتى أن يطرأ عليها الإعوجاج ، [ وكل ما في هذا العالم على هذا النمط الفضائل كلها قد خلقها الله في الفضلاء وقد أضفى عليهم مزاياهم ثم ترك للإنسان بعد ذلك ميدان الاختيار بعد أن زلل أمامه كل صعاب ] .
الملائكة إذن قد أصبحوا مهيئين إلى خدمة هذا الكائن الجديد بعد هذا التمهيد الذي دبرته العناية الإلهية

مزية آدم وفضيلته
وحين نصل بالمناقشة إلى البحث في مزية آدم وفضيلته، فإنه ينبغي أن نصدر هذه القضية بالتنبيه إلى ما يمكن أن تنزلق إليه أقلام المفكرين وأفكار العلماء.
فالإنسان حين يخطئ في المقاييس يخطئ لا محالة فيما يصدره من أحكام تعتمد على هذه المقاييس الخاطئة ، وهو حين تخطئه المقدمات أو يخطئ هو في الوقوف على حقيقة المقدمات يخطئ حتماً في النتيجة والغاية التي تنتهي إليها هذه المقدمات.
وقضية التكريم في آدم قد يرجع بها بعضهم إلى فضيلة العنصر وطيب الجانب المادي فيه، ويحاول أن يسطر الصفحات تلو الصفحات ليبين عن مزية في عناصر الأرض تمتاز عن كل مزية في أي عنصر آخر حتى ولو كان عنصر النار بما له من الشفافية والميل إلى العلو والرفعة.
وهذا في الحقيقة مقياس خاطئ قد شقى به إبليس من قبل حين اعتمد عليه في المقارنة بين أصله الذي نزع عنه وهو النار، وأصل آدم الذي خلق منه وهو التراب فأدى به هذا المقياس إلى الاغترار بأصله والتمرد على الأمر الإلهي " أأسجد لمن خلقت طيناً " ، " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". وأراد الله أن يلفته إلى خطأ هذا المقياس عنده : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" ، ولكنه لم يصغ إلى هذه اللفتة واعتز بمقياسه هو الذي توصل إليه بفكره المحدود.
ومن هذه العجالة الخاطفة اعتمادا على مقياس خاطئ لن يؤدي إلا إلى أحكام خاطئة ، واصطناع المقدمات الفاسدة تسقط صاحبها في مهاوي الضلال عن الحقيقة والبعد عن اليقين.
ولو أننا تأملنا النص الإلهي في قصة آدم مجتمعاً لوجدنا أن قضية التكريم لا علاقة لها بالعنصر المادي من قريب أو من بعيد وإنما يتجه النص الإلهي بنا وجهة أخرى حين يحدد عناصر أربعة بها مجتمعة يكتسب آدم وبنوه ما لهم من مزية التكريم والتفضيل، وهذه العناصر الأربعة قد جاءت معظمها في فترة تالية لفترة التكوين المادي العنصري المتصل بمادة الأرض من تراب وماء.
فالله قال مباشرة بعد أن انتهى من الخلق المادي : " ونفخت فيه من روحي" ونفخ الروح والإضافة إلى الله عز وجل أعطت لهذا الكائن المادي ما يميزه عن غيره من النظائر والأشباه، ثم في آية أخرى نرى القرآن يقول مخاطباً إبليس : "ما منعك أن لا تسجد لما خلقت بيدي " فالعنصر المادي وإن كان تراباً وماء إلا أن مباشرة الصانع الحكيم له جعلته ينتسب إلى الله من حيث التكوين والصنعة ونحن وإن كنا نجهل كيفية التكوين وكيفية الصنعة إلا أن العنصرين الترابي والمائي قد اكتسبا بهذه الصلة معنى جديداً لم يكن فيهما من قبل.
وبعد أن استكمل آدم مرحلته المادية والروحية ابتدأت مرحلة جديدة لإطلاق أهم ما يميزه عن غيره من المعاني والوجدانات وهو العقل فأودع الله فيه حقائق العلوم وأسرار الأشياء وعلمه الألفاظ الدالة على ذلك وليس العلم في الحقيقة إلا إدراكاً فعلياً لتلك الأسماء والمسميات معاً وبكيفية الاستفادة من هذه الأشياء على نحو ما خلقت له " وعلم آدم الأسماء كلها " وتلك إشارة إلى أنه من بين مزايا الإنسان ومن عناصر تكريمه أن يحاول محاولات جادة ومستمرة الوقوف على أسرار العلوم وحقائق الأشياء بقدر الطاقة والإمكان.
وباستكمال هذه العناصر الثلاثة التي أشرنا إليها كان العنصر الرابع نتيجة محتومة من الناحية المنطقية وهو إسجاد الملائكة له " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".

سجود الملائكة لآدم
والنص الإلهي يفيد أن الملائكة مأمورون بالسجود لآدم من قبل البدء في خلق آدم أو معرفة حقيقته بالنسبة إليهم " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " وهذا أمر تكليفي من الله للملائكة أن يسجدوا لهذا المخلوق العظيم عقب استكمال خلقه مباشرة ، والملائكة لن يخالفوا في تنفيذ هذا الأمر، ولكن أراد الله على حسب مقتضى رحمته أن لا يسجد الملائكة لآدم إلا بعد استكمال التمهيدات الكاملة التي تضفي عليه من الفخار والقداسة ما يستحق معهما أن تسجد الملائكة له استكمالاً لهذا الفخار وتلك القداسة، فنحن نظن ظناً غالباً أن الملائكة لم تسجد لآدم إلا بعد أن خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، فكل هذه الأشياء تتصل بتكوين آدم ماديا ومعنوياً، وبعد هذا يأتي دور السجود الفوري دون أن يكون هناك تضارب مع النص القائل : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" 
وكان من المفروض أن يمر الأمر الإلهي علينا مروراً عادياً من غير قلق أو اضطراب ، فالله قد أمر الملائكة بالسجود لآدم واستجابت الملائكة فسجدت لآدم، غير أن هذا الموضوع قد أحدث دوياً فكرياً بين السادة من العلماء والمفكرين فهم قد استعظموا أن تسجد الملائكة لغير الله وراحوا في تحليل وتفكير وتاهوا في بيداء التحليل والتفكير فاشتط بعضهم في الرأي واعتدل البعض الآخر فيه في حين أن المسألة لا تحتاج إلى الاعتدال كما أنها في غنى عن الشطط والتطرف فالسجود لآدم ليس سجود عبادة لآدم وإنما هو استجابة لأمر الآمر سبحانه، فنحن ننظر إلى هذا الفعل من زاويتين : ننظر إليه من حيث هو استجابة لأمر الخالق سبحانه، وخضوع لهذا الأمر الإلهي والسجود من هذه الزاوية عبادة لا شك في ذلك، فالاستجابة إلى أمر الله تكون عبادة بصرف النظر عن الوجهة التي يوجهنا إليها، فنحن حين نقبل الحجر لا نعبد الحجر وإنما نستجيب لأمر الله في ذلك على لسان نبيه واقتداء بفعله، وحين نطوف بالبيت أو نتوجه إليه في الصلاة لا يكون البيت هو محل العبادة، وإنما هو محل تعلق الأمر الإلهي ومكان قد وجهنا إليه لنتخذه قبلة ولنطوف به، نحن حين ننفذ الأمر الإلهي نكون في تنفيذنا لهذا الأمر محققين للعبودية الحقة التي تقتضي الانصياع إلى أوامر الله .
وبالقياس فإن الملائكة حين ينفذون أمر الله عز وجل يحققون العبودية والخضوع لله تعالى بالانصياع إلى أمره.
غير أن للفعل ( السجود ) منظورا آخر ، فنحن يمكن أن ننظر إليه باعتباره سجودا لآدم ، في هذه الحالة يختلف الحكم على الفعل من كونه عبادة إلى كونه تكريما.
وخلاصة القول :إن سجود الملائكة إذا حاولنا أن نحكم عليه فلابد أن نحكم عيه حكماً مزدوجاً ، إنه عبادة لله بإطاعة أمره في تكريم آدم بالسجود له.
ومن هنا تكون المسألة في غاية السهولة لا تحتاج إلى هذه الكثرة من تحبير الصفحات في عرض الآراء وتوسيع هوة الخلاف بين وجهات النظر وتعدد الآراء

امتناع إبليس عن السجود لآدم
إن من المسلمات البديهية أن الأمور لكي تسير سيراً طبيعياً لابد من إحداث شئ من التوازن فيها.
وخلافة آدم في الأرض لييست شذوذاً عن هذه القاعدة فلكي تتحقق الخلافة لابد وأن تكون جميع القوى المتصلة بها متعادلة، ولابد وأن تكون القوى الداخلية للخليفة نفسه متعادلة كذلك، فلا يقع بعضها تحت تأثير معين دون أن يقع البعض المقابل لمثل ذلك التأثير ، وبمعنى أوضح : لابد وأن تكون الطرق كلها معبدة أمام الخليفة بحيث يختار هو منها أي الطرق يسلك.
وفي هذه القصة قصة آدم قد برزت لنا إلى الآن عدة حقائق هامة ، من بينها : أن آدم قد خلق مكتمل القوى، كامل التكوين.
ومن بينها كذلك : أن الله قد سخر جنساً من الأجناس لخدمة هذا المخلوق الجديد وخدمة أبنائه الذين يتعاقبون بعده.
والملائكة حين يسخرون لخدمة آدم وبنيه من قبل الله عز وجل لن يكونوا بالطبع مسخرين له لكي يزللوا أمامه الغواية، ويزينوا له الإثم، ويسهلوا له سبيل الإغواء والانحراف عن أمر الله، وإنما تسخير الملائكة لآدم وبنيه، إنما هي وسيلة لجذبه نحو الفضيلة والارتقاء به إلى الكمال، وتشجيعه على أفضل الخصال وأرقى الشمائل.
وعليه فإن آدم عليه السلام بما له من قوى لم ير في الكون إلا الخضوع لله والتجارب والانسجام مع أمره تعالى.
ولما كان الخليفة الجديد قد هدى طريقي الخير والشر معاً "وهديناه النجدين" كان محتاجاً لرؤيا واضحة تبصره بجانب الشر في هذا الوجود وتوقفه على مصدر كل رذيلة ووسيلة كل غواية، وتلك حقيقة لابد من أن يحيط آدم بها يشهدها أولاً في غيره شهود العيان وتتجسد أمامه حية متحركة بحيث تلتصق بذهنه التصاقاً لا يكاد ينفصل عنه.
ولقد برزت هذه الحقيقة مساوقة لظهور فكرة الخير التي تجسدت أمامه حين أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فأطاعوه، في نفس الوقت الذي أمر إبليس بالسجود فعصى.
والاستجابة لأمر الله وطاعته هي الخير الذي لا خير فوقه في هذا الوجود، والخروج على أمر الله هو مصدر كل رذيلة في هذا الوجود أيضاً.
واستجابة الملائكة لأمر الله أمر طبيعي لا شذوذ فيه غير أن عصيان إبليس للأمر هو الإثم الذي يحتاج إلى مساءلة وإيضاح، وتأتي المساءلة على مرأى ومسمع من آدم " يا إبليس ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك"، "ما منعك أن لا تسجد لما خلقت بيدي".
وجوابات إبليس كلها تدور حول محور واحد هو سنام الشر كله وهو أنه يرد الأمر على الآمر، ويحاول أن يعدل على الذات الإلهية، وهذا كفر صراح كما أنه يحاول أن يجد لخطيئته ـ كما يفعل المخطئون غالباً ـ أساساً منطقياً معقولاً فيقارن بين أصل خلقته ومادتها وأصل خلقة آدم ومادته، " أأسجد لمن خلقت طيناً" ، " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " .
وكما أن المخطئ دائماً يغالط ويتعدى الحقيقة حين يحاول أن يجد لإثمه الأساس المنطقي الذي يعتمد عليه كذلك فعل إبليس، فالقضية هي إما أن يستجيب إلى الآمر فيما أمر، وإما أن يرد الأمر على الآمر وتعلق القضية بآدم تعلق فرعي في هذا القبول أو الرفض. وأنت ترى أن إبليس قد نقل القضية من الأصل إلى الفرع بقصد المشاغبة والإبانة عما في قلبه، وقد ظهر أمام آدم بهذا المظهر الذي ينبئ عن صفتين أساسيتين هما : الكفر في القلب والإثم والرذيلة والتكبر في السلوك "أبى واستكبر وكان من الكافرين".
وبهذه المسألة تعادلت قوتي الخير والشر أمام آدم، ولكن الملائكة وهم رمز الخير لهم صلة التعاون مع آدم من هذه الجهة، أما إبليس رمز الشر فلم يظهر له تأثير معلن إلى الآن، ولكن القرآن يغطي هذه الجزئية على لسان إبليس إمعاناً في إبراز التعادل فيقول : " فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين".
وللمرء هنا أن يقف موقف تأمل وتدبر في الموقف كله ليعرف ما إذا كانت الطرق كلها أصبحت متعادلة ومتوازنة أمام الإنسان الأول أم لا ؟.
وبلحظة تأمل بسيط يجد الإنسان نفسه أمام قوتي الخير والشر في الإنسان، والإنسان ينجذب إلى الخير بواسطة قوى الخير فيه ومساعدة الملائكة له والسعادة المطلقة التي ينتظرها وهي لا تأتيه إلا مترتبة على سلوك طريق الخير والخضوع إلى أمر الله والاستجابة له.
والإنسان في نفس الوقت أمامه طريق الشر واضحة جلية يسلكها بواسطة قوى الشر فيه ويساعد على سلوكها ما يتعرض له من غواية وإثم وإضلال مصدر الشر الأول إبليس.
فهل هذه المعادلة إلى الآن متكافئة ؟
إننا حين نتأمل نجد أن سلوك طريق الخير يحتاج إلى معاناة ومكابدة لأنه عمل إيجابي متطلع دائماً إلى الرقي والكمال في حين أن الجانب المقابل لا يحتاج إلى هذه المعاناة أو المكابدة.
وهنا يظهر الفرق واضحاً بين الطريقين المتمايزين، ولذا فإن جانب الخير يحتاج لكي يتعادل مع جانب الشر إلى بعض المحفزات وإلى شئ من المنفرات في الرذيلة حتى يقلل ذلك كله من فرض سيطرة الغرائز والغوايات.
ولذا فإن الله عز وجل لم يشأ لإبليس وآدم أن ينصرفا عن هذا الموقف المشاهد من قبل إبليس، والذي تكبر فيه وكفر قبل أن يطلب إبليس طلبه الذي رغب فيه أن يمد الله له في حياته لا بقصد تعليل موقفه، وإنما بقصد التكثير من عدد الخارجين على الأمر الإلهي من بني آدم " قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون" واستجاب الله لطلبه كما تقتضيه الحكمة الإلهية " قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم" ، واستشعر إبليس أن وقت عمره أصبح طويلاً وأن أمامه فرص الغواية والإضلال لا تكاد تحصى " قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم".
تحددت إذن نية إبليس ووسيلة إغوائه وصبره ومثابرته على الغواية والإضلال.
غير أن الإنسان يكفيه أن يظهر قليلاً من حسن النية وأن يتوجه بإخلاص القلب إلى الله وحده وأن يكبح جماح شهوته من الداخل ليضمن سد منافذ الشيطان عنه، وهو ما وعد به رب العزة في نفس الموقف حين قال لإبليس: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من تبعك من الغاوين" ولقد أدرك إبليس هذه الحقيقة من أول مرة فقال مستثنياً من غواياته "إلا عبادك منهم المخلصين" وقال عن آماله في المستقبل : "فلا تجد أكثرهم شاكرين" معنى ذلك أن إبليس وإن لم تكن الطرق معبدة أمامه لإغراء المخلصين فإنه قانع بغير المخلصين وهم الكثرة كما يتوقع هو، وقد حكم الله عليه وعليهم "إن جهنم لموعدهم أجمعين".
ويتضح أمام آدم وبنيه من ختام الحديث المطول بين إبليس ورب العزة عدة حقائق هامة منها: أن طول العمر وكثرة عرض الدنيا في اليد والتمتع بالصحة والعافية ليست علامة على رضا الله والسعادة في الآخرة، ومنها: أن أتباع إبليس وهم الأكثرية لن يتمتعوا بسعادة الدارين وإنما هم في قلق وحيرة في الدنيا وملعونين من رحمة الله في الآخرة، ومنها : أن الإنسان يكفيه أن يحدد العلاقة بينه وبين الله ليأخذ الله بيده من طريق الغواية ويسد عنه منافذ الضلال والإضلال وهذا معنى حديث لرسول الله صل الله عليه وسلم يحكيه عن رب العزة : " ما تقرب إلى عبدي بأفضل مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإذا تقرب إلى عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة ـ .
وإذا استطاع الإنسان أن يكابد نفسه وارتفع عن الغواية وفعل حسنة من الحسنات فإن القرآن يحددها له بعشر "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" ، أما من جاء بالسيئة "فلا يجزى إلا مثلها"، ومن هم بسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة، وأما من فعلها فقد كتبت له سيئة واحدة " .
وبهذه الطريقة يقع التعادل بين قوى الشر والخير وبين طريقي الخير والشر، أو بين الرذيلة والفضيلة من غير أن يكون هناك ترجيح لجانب على الآخر، وإن كان هناك ترجيح فهو إلى جانب الفضيلة أكثر، وصدق الله حيث يقول: "وهديناه النجدين".

آدم وحواء
لقد استكملت الخلافة جزءاً هاماً من عناصر تكوينها، واستطاع الخليفة أن يحتوي بما سكبت العناية الإلهية فيه على مقومات هامة من مقومات شخصيته كخليفة.
فهو قد اكتسب تكريمه وتفضيله على الأشياء، واكتسب كذلك القوى المفكرة التي يستطيع بها أن يستوعب ويحلل ويقارن ويناظر، كما اكتسب إطلاق الغرائز فيه ورسم طريقي الخير والشر أمامه، وتعادل هذه الطرق، واتضح أمامه مصدر الشر والغواية، وتبين الفرق بين الطبيعة الخيرة والطبيعة الشريرة ومسار كل منهما، بحيث يكون مرشداً قوياً له على طريقي الهدى والنور، وهذه وغيرها أمور ستتعلق بها نيابة آدم عن الله في تطبيق شرعه وإنفاذ أمره.
غير أن الخلافة لن تكون فترة محددة من الزمن تقاس بعمر آدم كفرد، ولكنها فترة أطول من ذلك تقاس بعمر الإنسان كنوع.
ولما كانت الخلافة عن الله لا تنقضي بانقضاء آدم الفرد فإنها تحتاج لاستكمال بعض معالمها بحيث يجد الخليفة طريقاً للتعاقب والتوالد، أو طريقاً للخلود والبقاء.
والخلود الفردي لن يعطي فرصة واسعة لتطبيق معنى الخلافة وإنفاذ شرع الله، وإنما يتحقق بالتوالد كثرة من البشر يتحقق فيهم تطبيق الخلافة وتحقيق معنى شرع الله أمراً ونهياً بطريقة إجرائية واضحة.
ولما كانت الخلافة تحتاج إلى التوالد، وكان الكون كله يقوم على فكرة السلب والإيجاب، "ومن كل شئ خلقنا زوجين" اقتضت العناية الإلهية أن يستكمل آدم الجزء الذي يتم به التوالد والتعاقب وهو حواء ، فبإيجاد حواء إلى جوار آدم يوجد النسل وتكثر الذرية، فأوجد الله حواء وهي العنصر السالب بعد إيجاد آدم وهو العنصر الموجب.
والبدهية العلمية تقتضي أن يكون السالب والموجب من نوع واحد إذ لو لم يكونا من نوع واحد لما تحقق الإنجاب حاملاً لصفات النوع بعينه، ويؤكد القرآن الكريم أن حواء عندما خلقت لم تكن من الجن، وهي ليست من الملائكة. وعلى الجملة فإنها ليست من نوع آخر يختلف من نوع الإنسان ففي سورة الأعراف: "وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به"، "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها " .
نحن نميل إلى القول : بأن كلمة (منها) إنما تفيد النوعية، فمن نوع آدم خلقت حواء، ولقد مال الكثرة من المفسرين إلى أن التبعيض هنا يفيد التبعيض المادي، فحواء إنما خلقت كما يرون من بعض جسد آدم، وهي فكرة موجودة في الكتب المقدسة القديمة.
ويحكي الفخر الرازي وجهة النظر هذه مفصلة ولباب القول فيها أن الله قد نزع ضلع من أحد جوانب آدم وأنبت مكانه لحماً ثم خلق من هذا الضلع حواء وتمت هذه العملية كلها في لحظة نوم طبيعي لآدم فاستيقظ فإذا حواء كائن مكتمل الخلقة فسألها: من أنت ؟ فأجابت : حواء. فقال: ولماذا خلقت؟ قالت لتسكن إلى.
ولعلهم يستشهدون لذلك بأصل حديث رسول الله صل الله عليه وسلم الذي معناه : استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقومه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج  والظاهر عندي أن هذا الحديث وما يتابعه من الأحاديث في معناه إنما يتحدث عن الطبائع والشمائل لا عن الخلقة والأصل مثله تماماً كمثل ما يقوله النبي "رفقا بالقوارير" وغيره مما يتحدث عن طبع المرأة وخصالها ولفت الرجال إلى هذه الطبائع والخصال.
والله أعلم بمراده حيث لا نستطيع بالمقاييس العلمية أن نحقق هذه القضية التي سكت القرآن عنها.
والقرآن حين يغفل قضية ما أو حين يتعمد أن لا يناقش جزءاً من أجزاء قضية ما إنما يلفت النظر إلى أن هذا الجزء أو تلك القضية لا تشكل خطراً على عقيدة المرء أو سلوكه. وليس للإنسان حينئذ أن يثير هذا الذي تركه القرآن عمداً ليخلق منه قضية جدلية لن يصل فيها إلى قول فصل.
وبعد أن خلق الله حواء من جنس الإنسان أو من بعضه حسبما شاءت العناية الإلهية أمر الله آدم وحواء أن يسكنا الجنة.
وظاهر النص الكريم أن آدم قد خلقت له حواء قبل أن يدخل الجنة دخولاً فعلياً، وإن كان أسلافنا الكرام قد رأوا ضرورة التأويل في النص على أساس أن آدم قد خلقت له حواء بعد أن أسكن الجنة، فلما طرد الله منها إبليس لعصيانه قال لآدم وزوجته : "اسكن أنت وزوجك الجنة" بعد أن خرج منها إبليس 
وما لا يحتاج إلى تأويل أقرب عندي مما يحتاج إلى ذلك التأويل، والنص واضح وظاهر لا سترة به.

سكن آدم الجنة
يستطيع الإنسان بلمحة خاطفة أن يدرك أن خلافة آدم قد استكملت من الناحية النظرية، واستوفيت جميع أركانها بحيث لا يكون هناك زيادة لمستزيد، أو فضل يمكن الاستغناء عنه.
غير أن الأشياء النظرية تبقى نظرية حتى يتأتى لها أن تطبق تطبيقاً عملياً، والأفكار تظل أفكار مجردة حتى يتاح لها أن تطبق على الواقع تطبيقاً ملموساً مشاهداً.
وقد يستطيع الإنسان أن يحصل النظريات في العلوم المادية تحصيلاً جيداً فإذا نزل إلى أرض الواقع للتطبيق ربما تخطئه الوسيلة أو يغيب عنه الهدف، وقل مثل ذلك في نظريات الأخلاق وضبط السلوك ومعالجة الشيم والحث على حسن السيرة والارتفاع بالذات، ربما يعرف الإنسان النظريات الضابطة لكل هذا إلا أنه يعجز عن تطبيق ذلك تطبيقاً عملياً.
والذي يصحح المسار ويبعد بالإنسان عن الخطأ ويؤمنه من الزلل والزيغ ليس سوى التجربة العملية أمام المشرع والواضع لهذه القوانين فيصحح له أخطاءه ويلفته إلى أماكن الزلل عنده ويوجهه إلى وسيلة التصحيح حين يخطئ في وسيلة أو يقصر في بلوغ هدف.
ولباب القول : أن آدم وإن كان قد استكمل عناصر الخلافة من الناحية النظرية فهو بعد لم تتح له فرصة تطبيق هذه النظرية على نفسه في أضيق الحدود قبل أن ينطلق بها انطلاق المسئول عما يفعل المكلف بكل ما يأتي وما يدع.
وما كان للعناية الإلهية كما هو مقتضى رحمة الله أن تغفل هذه الجزئية في خلافة آدم في الأرض، فأتيح له ولزوجه فرصة الممارسة والتجربة التي تخضع للصواب والخطأ.
موقع الجنة التي أسكنها آدم
فأسكن الله آدم وذريته الجنة " اسكن أنت وزوجك الجنة " .
ويقف بنا أسلافنا من المفسرين وقفات طويلة للإجابة عن سؤال مؤداه: أين كانت الجنة التي سكنها آدم ؟ في الأرض أم في السماء ؟ جنة الخلد هي التي وعد الله المتقين أم هي بستان على الأرض أعد لسكني آدم وحواء ؟ .
وقبل أن نجيب على هذا السؤال نحب أن نلفت النظر إلى أن الإجابات التي عرضت لحل هذه القضية متعارضة ومتضاربة من حيث مضمونها، وهي في نفس الوقت متعادلة متكافئة من حيث الأدلة التي اعتمد عليها كل منها، ومن جهة ثالثة فجميع الأدلة التي اعتمدت عليها وجهات النظر المختلفة ظنية لا جزم فيها ولا حسم.
والقاعدة العامة : أن أي قضية من القضايا وأي مشكلة من المشكلات تجد لنفسها أجوبة معارضة من حيث الحقيقة متكافئة من حيث الاستدلال، ظنية من حيث حقيقة الدليل وقيمته العلمية، تكون هذه القضية أو تلك المشكلة بين أمرين، إما أن تكون قد وضعت وضعاً خطأ فحار الناس في الإجابة عليها دون أن يلتفتوا لوضعها الخطأ، أو أن الإنسان نفسه لا يملك الطريق والمنهج الذين يستطيع من خلالهما أن يحسم هذه القضية أو تلك المشكلة.
والقضية التي نحن بصددها (مكان جنة آدم) من القضايا التي لا نملك المنهج العلمي لبلوغ أغوارها وحلها حلاً مرضياً جازماً.
ولو أن القرآن الكريم قد حددها لنا لاستطعنا من خلال هذا التحديد أن نعرف حقيقة الجنة ومكانها .
غير أن القرآن لا يذكر من الأحاديث والوقائع عادة إلا ما يكون له من أهمية خاصة أو عامة تتعلق بأفراد النوع الإنساني أو بالنوع كله، أما الأشياء الهامشية التي لا تشكل خطراً فكرياً أو عقائدياً ولا تتصل بالسلوك الإجرائي أو العملي، فإن القرآن لا يذكرها عادة ، فهو ـ مثلاً ـ لم يحدد اسم أم موسى "وأوحينا إلى أم موسى" ولم يحدد اسم الرجل المؤمن من آل فرعون الذي عارض فكرة القتل الواردة في الآية " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ". ولم يحدد أي فتاة تزوج بها موسى من بنات شعيب. أهي الصغرى أم الكبرى؟ "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين" ولنفس السبب لم يحدد مكان الجنة التي أسكنها آدم، فنوع الجنة ومكانها لا يشكل أدنى خطر عقائدي أو اجتماعي أو فكري.
وحين يقحم المفكرون أنفسهم في حل قضايا من هذا القبيل يخلقون منها مشكلة فكرية يصممونها تصميماً يبدو جاداً وهو في نفس الوقت لا يعبر عن قيمة علمية، حين يفعل المفكرون ذلك إنما يضعون أنفسهم وقراءهم على عتبة فصل كبير من السياحة الذهنية والترف العقلي الذي لا فائدة ترجى من ورائه.
فنحن لا نناقش القائلين : بأن الجنة هي جنة عدن وهي دار الخلود في الآخرة.
ولا نناقش كذلك القائلين : بأن الجنة هي بستان على الأرض هنا أو هناك، نحن لا نناقش هؤلاء ولا أولئك لأنهم سيصلون بنا في النهاية إلى طريق مسدود، وإنما نحن ننجذب فكرياً إلى أصحاب الرأي القائل: بأن الآراء الواردة ممكنة.
( والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم)

آدم على الأرض
فتتوقف قصة آدم تقريباً عند هذا الحد في القرآن فلم تتابع القصة حياة آدم إلى نهايتها لأنها ليست غرضاً مستهدفاً، غير أن الإيحاء واضح بأن آدم على الأرض لم يخالف المنهج، إذ إن مخالفة آدم للمنهج على الأرض يكون من قبيل العصيان الحقيقي لا الشكلي، وهو أمر يتنزه عنه الأنبياء والمرسلون، وآدم في نفس الوقت سيكون بالنسبة لبنيه المثل الذي ينبغي احتذاؤه والنموذج الذي يتعين محاكاته فهو منهج الله الذي تجسد على الأرض .
والإنسان في كل عصر لا يخلو عن غريزة حب المحاكاة للعظماء والتقليد لمن يراهم أفضل منه.
ومن رحمة الله بالخلق أنه لم يغفل فيهم هذه الغريزة فجعل لهم الأنبياء مثلاً يحتذى لمن أراد لنفسه الفضيلة، ولكيانه الكرامة والعزّة.
لكل هذا لا يتأتى من آدم على الأرض أن يخالف المنهج في قليل أو كثير.
غير أن الله لم يشأ أن يغمض آدم عينيه قبل أن يرى أول مخالفة لمنهج الله تقع على يد أحد أبنائه وتتصل بأحد أبنائه كذلك حين تجرأ أحد ابني آدم على قتل أخيه واضعاً أول سنة سيئة في تاريخ البشرية جمعاء (ومن سنّ سنة سيئة في الإسلام فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) فهو يعاقب على الوزر مرتين لأنه قد أخطأ كذلك مرتين مرة بارتكاب الجريمة ومرة بنصب نفسه مثالاً للشر يحتذى (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون).
وقفة تأمل
يشيع على ألسنة العامة أن الله حين أخرج آدم من الجنة كان ذلك بسبب عصيانه بالأكل من الشجرة، وهذا شئ غريب على أسلوب التفكير المستقيم، ذلك أن آدم قبل أن يخلق تحددت مهمته كخليفة على الأرض ولو لم يخرج من الجنة لكان للعاقل أن يتساءل عن سبب بقائه فيها.
وكان الأولى بالمفكرين أن يعالجوا القضية على هذا النحو، لماذا دخل آدم الجنة ؟ ولكنهم عالجوها خطأ حين تساءلوا عن سبب خروج آدم من الجنة.
وحين يسأل المفكر عن سبب دخول آدم الجنة تكون الإجابة واضحة ـ كما أسلفنا ـ أما حين تسأل لماذا خرج ؟ فإننا نسأل عن بدهية معروفة ثم نحاول أن نتطرف لترتب خروجه على مخالفته، وهو أمر غير معروف الصلة كما علمت .
وهكذا تنتهي قصة آدم أو قصة بدء الخلق كما يصورها القرآن وكما يصورها العلم الحديث والقديم وعلى العاقل أن يوازن بينهما ليعرف أين الترابط المنطقي، والتسلسل الفكري فيقتنع بما يشاء كيف يشاء، إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه مسئول إذا أقنع نفسه بغير دليل أو تطرف على غير منهج لأن الله قد منحه إمكانية العلم ووسائل المعرفة، وأخبره أنه سيكون مسئولاً عن استخدامها (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) ، (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).

الإنسان بين بدايته ومنتهاه
ـ
يمتاز الإنسان بين سائر الكائنات بميزة تجمع جميع المميزات التي يتميز بها عن غيره تقريباً، وهذه الميزة تكمن في استعداد الإنسان التطور والترقي.
ونقول : إن هذه ميزة له، وقد قال بهذه الميزة غيرنا من العلماء والمفكرين بحيث جنح بعضهم إلى تعريف الإنسان بأنه هو الحيوان الراقي أو المتطور.
وتطور الإنسان أو على الأحرى استعداده للتطور يأتي على محاور ثلاثة، كل محور منها يمثل بعداً يمكن للإنسان أن يتطور ويرقى فيه، وإن كان الموضوع نفسه في معظم الأحيان لا يقبل التطور أو التغير.
ونضرب هنا مثالاً لتوضيح الفكرة بين الموضوع الثابت والإنسان المتطور فنقول: إن الفرد منا يحاول أن يرقى على درج أو معراج، وهو يقصد الوصول إلى غاية عليا ومحسوسة، وكل ما يرقى الفرد منا درجة على هذا المعراج، فإن هذه الدرجة تقربه من غايته بمقدار نسبة رقيه، ويظل يرقى إلى أقصى الغاية التي يستطيعها، فإذا ما وصل إلى غايته، قلنا: إنه قد رقى وصعد، وعلوه وصعوده حالة له هو تقابل الحالة التي كان فيها قبل رقيه وصعوده، غير أن غايته ثابتة، والمعراج الذي كان يرقى عليه ثابت هو الآخر.
ونحن نوضح هذه الفكرة بهذا المثال قبل أن ندخل إلى توضيح الأبعاد الثلاثة التي يرقى الإنسان فيها، أو هو مستعد للرقى فيها، كي ندفع به شغب مشاغب أو نرد به لجاجة ملتاع يظن أنه قد وجد فرصة يشاغب بها من خلال ما نكتبه بعد.
ونعود إلى شرح الأبعاد الثلاثة التي يمكن للإنسان أن يرقى فيها.
1ـ وعـي التوحيد : ـ
(هذه الفكرة هي قاسم مشترك بين كل النبوات التي عاشها الإنسان منذ أن خلقه الله على وجه الأرض).
ويجب أن يكون واضحاً غاية الوضوح من حيث المبدأ : أن التوحيد في حد ذاته مسألة لا تقبل الرقي أو التطور، والرسالات السماوية في مصادرها الصحيحة لم تتحدث عن التوحيد بأنه مبدأ متطور متغير، ولكننا في الوقت ذاته نفرق بين التوحيد باعتباره صفة تتصل بالله عز وجل، ووعي التوحيد باعتباره صفة تتصل بالإنسان ، فالتوحيد يكون صفة لله عز وجل، غير قابل للرقي أو التطور، ووعي الإنسان باعتباره صفة إنسانية. ليست ذات درجة حدية، وإنما هي بنفسها ذات درجات من العمق والأصالة والتركيز والترسيخ، ولذا فهي ذات درجات متفاوتة.
وكان لابد بمقتضى الحكمة الإلهية أن يهيأ الإنسان لها بالتدريج، هذا الإنسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي، والطبيعي في حسه ودنياه، حينما يدعي إلى فكرة التوحيد لابد أن ينتزع من عالم حسه ودنياه بالتدريج لكي ينفتح على فكرة (التوحيد) التي هي فكرة (الغيب).
وظل الإنسان يرقى في هذه الفكرة ويتطور تحت عناية الرسالات السماوية المتعاقبة، وبتوجيه من الوحي الإلهي المتصل إلى أن وصل إلى كمال رشده، في ظل الرسالة الخاتمة.
2ـ المسئولية الأخلاقية : ـ
هذا هو البعد الثاني الذي يمكن أن يرقى الإنسان فيه ويتطور.
وهذا الاتجاه الثاني أو الخط الثاني من خطوط التطور يتصل بعلاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، أو بعلاقة الإنسان بتصرفاته الشخصية.
وهذا البعد يعتبر بعداً عملياً منبثقاً عن البعد الأول، وهو البعد التصوري.
وباعتبار أن هذا البعد بعداً عملياً، فهو يحتاج إلى جملة من التشريعات التي تضبطه من ناحية، وترقيه من ناحية أخرى.
وفلسفة التطور الأخلاقي التي فطر عليها الإنسان يمكن تلخيصها في استحضار الواقع الإنساني إلى جوار الصورة التطلعية لبني البشر.
والتعبير عن ذلك بشكل أوضح أن نقول : إن الإنسانية في حالتها المستقيمة تعيش واقعها وتمارسه، ولكنها ترفض الاستمرار على هذا الواقع إذا تحول أمامها إلى صورة نمطية متكررة، وحين تثور الإنسانية على نمطية الواقع، ينبغي أن ترسم أمامها صورة لمستقبل يعبر عن شئ من الرقي، وفي نفس الوقت ينبغي أن يرسم إلى جوار الصورة المستقبلية التي تنشدها الإنسانية وتبغي الوصول إليها صورة أخرى للطريق الذي يوصل إلى تلك الغاية.
وتبدأ الإنسانية بعد رسم الصورتين في أخذ الطريق إلى تحقيق هدفها المأمول وبعد فترة تطول أو تقصر تصل الإنسانية إلى هدفها فيتحول الأمل الذي كان صورة مأمولة إلى واقع محسوس وممارس.
وتثور الإنسانية على هذا الواقع إذا تحول عندها إلى صورة نمطية، ثم تدخل في جولة جديدة مماثلة لما قامت به من قبل.
تلك هي (1) فلسفة التطور في جانب الأخلاق، وهي فلسفة شاقة لا يتحمل التخطيط لها ورسم صورها الجهد البشري.
3ـ سيطرة الإنسان على الطبيعة : ـ
هذا هو البعد الثالث من الأبعاد التي يتأتى للإنسان أن يتطور فيها.
وهو بعد يعبر بالدرجة الأولى عن علاقة الإنسان بالكون، واستثمار قوانينه وترويضه وفقاً لنظامه الذي يحكمه.
وتطور الإنسان في هذا الجانب، ورقيه في معاملته مع هذا الكون موجود معه منذ أوجد الإنسان على هذه الأرض لأول مرة وهو مستمر معها.
[ ولن يقف عند مرحلة من المراحل على الإطلاق .
الإنسان سوف لن تقف سيطرته ـ بإذن الله ـ عند مرحلة من مراحل الاستيلاء على الكون والطبيعة، وإن انتهى استيلاؤه على الأرض فلسوف يفكر بالاستيلاء على بقية الكواكب، وعلى جميع أبعاد الكون.
إذن فهو في نمو مستمر لا ينقطع، ولا توضع له حدود مفترضة من هذه الناحية ] 
والمتأمل في هذه الأبعاد الثلاثة التي تقبل أن يتطور الإنسان فيها يجد أنها على ما بينها من صلات مفهومة إلا أن الإنسان بالنسبة للعامل الأخير، أو البعد الأخير يمكنه أن يقف على أسراره بنفسه حين يبذل فيه شيئاً من المجهود.
فالله عز وجل قد خلق العالم الكوني على نظام ثابت، وطبقاً لقوانين ونظم في طاقة الإنسان أن يكتشفها.
وهو حين يكتشف الواحد من هذه القوانين يسلم له أبناء نوعه اكتشافه، ولا يقيمون حوله جدلاً أو لجاجة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Empty
مُساهمةموضوع: رد: سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة   سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة Emptyالخميس 29 نوفمبر 2018, 5:55 pm

الجانب الإنسانى فى العقيدة الإسلامية

بدء الخليقة بين العلم والدين


وعي بالتوحيد والأخلاق
أما البعد الأول وهو ما يتعلق بالتوحيد وتطور الإنسان في فهمه، فعقل الإنسان قاصر حين يريد أن يتصور كل ما يتعلق بالذات الإلهية ، أو يقف على حدودها.
فهو محتاج إلى الرسالة السماوية لكي تمده بالزاد الذي يعينه ويغنيه في هذا المجال.
يبقى أمامنا بعد من الأبعاد التي تقبل التطور والترقي وهو البعد الخلقي الذي ينظم علاقة الإنسان بالإنسان.
وحين نتساءل عن القاعدة التي يدور عليها هذا البعد وعن محور الارتكاز فيه نجد أنفسنا أمام خضم هائل من الآراء والأفكار الإنسانية التي لا نريد عرضها ولا نحرص على استقصائها بقدر رغبتنا في الجنوح إلى تحليل الموقف الإنساني لنصعد من هذا التحليل إلى نتيجة نراها هي القاعدة والأساس، وهي الأسلوب والنظام الذي يضمن سلامة المسيرة في حركة الترقي في هذا البعد بالذات 
إننا نستطيع أن نسمع أو نقرأ من خلال الفكر الحديث أو القديم أن هناك واحدا من البشر عاش في غاية منعزلة أو جزيرة مهجورة أو ربوة بعيدة عن المجتمع والناس. ومارس حياته على هذا النحو متوحداً ومنفرداً قاصياً ومنعزلاً.
وهو يستطيع أن يأخذ من الطبيعة طعامه من ثمار الأشجار وخضرة الأرض وما تجود به الطبيعة عليه يتناوله كما هو دون تعديل أو تحوير، وهو يلبس ليستر عورته إن أراد من خصف الشجر. ويتقي البرد بجلود الهالك من الحيوان، ولا يحتاط لنفسه بمسكن يأويه إلا إذا آلمه البرد فينزوي إلى مكان دافئ، أو إذا خاف المفترس من الحيوان فيتقيه بالصعود على المرتفع من الأغصان. وعلى الجملة فهو يعيش وحده عيشة الأوابد من الحيوان والمتوحش من غير الإنسان، وسواء أكان ما يروى عن بعض أفراد الإنسان صحيحاً أو غير صحيح واقعاً، أو خيالاً فإنها تعبر عن حالات بادرة، وقصص لا تتكرر إلا على تباعد الزمان وافتراق المكان 
أما الكافة من البشر فإنهم لا يستطيعون أن يعيشوا هذه العيشة، ولا أن يمارسوا حياتهم على هذا النحو من الممارسة.
فما كان لبشر أن يأخذ نفسه بهذا الأسلوب الصعب إلا إذا قهر شيئاً في وجدانه وحارب غريزة من غرائزه.
فلقد أجمع المتخصصون في دراسة الإنسان كعلماء النفس والاجتماع على أن في الإنسان غريزة أودعها الله فيه وهي تشكل جزءاً من طبيعته وفطرته، وهي غريزة حب الاجتماع، وهم يعبرون عن هذه الخاصية في الإنسان بقولهم (الإنسان مدني بطبعه).
ومدنية الإنسان التي هي جزء من طبيعته تجعله يخالف غيره من سائر المخلوقات ذلك أن سائر المخلوقات لم يرزقها الله العقل والتفكير لكي تبحث عن معايشها وتدبر حياتها على أساس من الفكر والمنطق والتخطيط والتدبير، ومن هنا فإنك ترى خالقها قد أودع فيها خاصية أخرى توجهها إلى تدبير حياتها ويمكننا أن نصطلح على تسمية هذه الخاصية بالإلهام، وهو المقصود في نحو قوله تعالى، "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا " (1).
وبهذا الإلهام توجهت النحلة إلى اختيار وحدة السكن داخل الخلية على شكل سداسي لأنها ـ النحلة ـ قريبة من الاستدارة ، وهي تريد أن تستهلك في مساحة الخلية، فلو أنها جعلت الوحدة السكنية مربعة الشكل لفاضت عن جسمها من كل جانب وكان الفائض مستهلكاً، وقل مثل ذلك في المثلث والمستطيل. ولو أنها اختارت وحدة السكن داخل الخلية على شكل مستدير لكان يناسب جسمها، ولم يفض عنه من الداخل شيئاً. ولكن الوحدات السكنية حين توضع داخل الخلية المتكاملة سيكون بين كل وحدة وأخرى مساحة خالية مستهلكة، فكان لابد من حل تتوفر معه المساحة في الداخل والخارج، وأقرب هذه الحلول هو الشكل السداسي.
وأنت حين تتأمل مثل هذا تعتقد أنه صادر عن فكر وروية، والحق أنه صادر عن إلهام، وهو لون من ألوان الوحي.
وتستطيع أن تجد ذلك في كثير من مخلوقات الله الحية، وهي تنظم سكنها أو تبحث عن رزقها، وليس هناك من المطالب الضرورية، والمعايش الملحة ما يحتاج إلي تدبير أكثر من السكن وتحصيل الأرزاق.
ولم يتوفر للإنسان في فطرته الأولى خاصية الوحي أو التوجيه بالإلهام لتحصيل المعايش، ولكن الله قد أبدله خاصية الفكر والمنطق، وغريزة الاجتماع والائتلاف لكي يعتمد في تحصيل معايشه على عقله، وفكره.
والإنسان ليس مدنياً باختياره، وليس اجتماعياً بإرادته الحرة وإنما الاجتماع فيه ضرورة يلجئه إليها غريزة حب البقاء، ويلجئه إليها كذلك استمرار حياته ووجوده.
ومن هنا يكون الاجتماع ضرورة، إنه ضرورة يتطلبها بداية وجود الإنسان وهو ضرورة أيضاً لاستمرار هذا الوجود.
ويشرح الإمام الغزالي هذه الضرورة المزدوجة فيقول بعد كلام له في هذا المجال [ ثم إن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين :
أحدهما : حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما.
فهو لذلك يحتاج لبني نوعه احتياجاً يجعله يقوم بالاتفاق معهم بتوزيع الأعباء وتبادل المنافع بحيث يقوم البعض بمهنة وتخصص يعود نفعه على الجماعة، ويفعل بعض آخر مثلما يفعل البعض الأول في مهنة وتخصص يختلفان عما قام به البعض الأول، وهكذا حتى يغطي الجماعة بتقسيم الأعباء جميع احتياجات الأفراد من الضروريات والكماليات، وتكون هذه هي الضرورة الثانية من الضرورات التي تحتم الاجتماع، بحيث يستشعر هذه الضرورة الأفراد والجماعات على السواء.
وهذه الفكرة التي يلحظها الغزالي قد سبق إليها، وعثرنا عليها مسطرة في فكر السابقين عليه مثل الفارابي في المدينة الفاضلة، وابن سينا في أكثر من كتاب له ككتابي الشفاء والنجاة، وعلماء الكلام في حديثهم عن النبوات واحتياج البشر إليها كما فعل كتاب المقاصد لسعد الدين التفتازاني.
وهذه الفكرة قد استغلت بعد الغزالي كذلك في الشرق والغرب فهي موجودة عند عبد الرحمن بن خلدون، وهي نفسها التي اعتبرها الغرب ميزة المفكر الاجتماعي إميل دوركايم (1858 ـ 1917م) (1).
وسواء عثرنا على هذه الفكرة عند هذا المفكر أو ذاك، فهي إنما تعبر عن واقع تحياه الجماعة الإنسانية منذ أن وجد الإنسان، وقبل أن يوجد هذا المفكر أو ذاك.
وبتقدم وسائل الاتصال في المجتمعات الحديثة ظهرت الاحتياجات، وتبادل المنافع كأقوى ما يكون الظهور قصداً إلى دفع المكروه، أو تحقيق المرغوب.
وهكذا ثبتت العلاقات المحتومة بين بني البشر على نحو لا يقبل الفكاك لما يتصف به من الحتمية التي لا رجعة فيها.
فنحن مضطرون إلى العيش في جماعة، ونحن مضطرون داخل الجماعة إلى أن نوزع الأعباء المعيشية فيما بيننا، وأن يحصل كل منا من أسباب وجوده من أفراد الجماعة التي يحيا داخلها، ويعطي لهذه الجماعة من نتاج عمله، ما يسد بعض احتياجاتها من وسائل المعيشة.
وهكذا يمكن القول: بأن كل فرد من المجتمع يشكل جزءاً هاماً في جسم هذا الكل المجموعي، وهذا الكل المجموعي يشكل بالنسبة إليه أجزاء هامة لا يمكن تغافلها أو تناسيها، معنى ذلك أن كل فرد من أفراد الجماعة يشعر بأنه جزء هام في الجماعة ، وأن أفراد الجماعة أجزاء منه.
واستناداً إلى ذلك ربما نستطيع أن نقول : إن هذه الجماعة المتكاملة فيما بينها تندفع في تحقيق رغباتها بقانون المحبة، فكل فرد من أفراد الجماعة يستطيع أن يعامل سائر الأفراد مستنداً إلى هذه القاعدة الراسخة، وهذا الرباط الصلب من محبة الإنسان لأخيه الإنسان

اختيار البشرية لنفسها بعيدا عن منهج السماء
ولقد تخبطت البشرية العاقلة حين أرادت أن تختار بعقلها أساساً يضبط التعامل فيما بينها، فاندفع فريق وراء شهواته، فظهرت اللذة كأساس العلاقات الإنسانية في بعض المذاهب سافرة واضحة، وفي بعض المذاهب الأخرى مستورة مقنعة.
"فأرستبوس" يعتمد عليها اعتماداً لا يمنعه الخجل أن يصرح به في أخس صوره.
ويختار "أبيقور" فيما بعد هذا المذهب بعد أن وازن بين اللذات وركز على الأدوم منها والأكثر بقاء.
ثم تتطور الفكرة في العصر الحديث لتظهر لنا مغلفة بستر المنقعة سواء أكانت هذه المنفعة منفعة الفرد أو منفعة الجماعة.
وهذا الأساس لا يعبر عن الرقي الاجتماعي؛ بل إنه لا يرتفع بالإنسان فوق الأنواع الهابطة، ولا قيد أنملة (1).
وهناك بعض العقليات الشابة، والأفكار المتسرعة ترى في أسس المحبة، والمنفعة شاعرية لا نليق بالمجتمع ولا تتلاءم مع قانون الحياة، وترى فيهما وفي أمثالهما نوعاً من الضعف الإنساني، والتخاذل في تحقيق الذات إلى درجة لا يفتأون يعبرون عن استيائهم الشديد منهما؛ وعن خجلهم الذي لا حدود له.
وفي هذا المجال ترى الفيلسوف الألماني "نتشه" يمجد القوة وحب الغلبة، ويمقت الضعف والانهزامية، والإنسان لكي يحقق آدميته في هذه الحياة لابد أن يقهر في نفسه أولا عوامل الضعف بحيث يستأصل منها كل معنى يشير إلى الرحمة أو العطف، أو الحثو على الضعفاء والفقراء والمعوزين، إن القوة إذا هي خير ما يحقق للإنسان آدميته، ويحقق له رقيه في هذا الكون الفسيح، والقوة في ذات الوقت متلائمة ومنسجمة مع قانون الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأقوى دون سواه.
وهذا المنحى قد انتقده أصحاب الرأي والفكر، وثار عليه عقلاء النوع الإنساني، واعتبروه لوناً من الحماسة التي لا صلة لها بالتفكير (1).
ويرى أصحاب البصيرة من الناس أنه لا بقاء لشريعة تأسس على اللذة أو المنفعة ولا يصلح منطق القوة أن يؤسس عليه شئ من التشريع أو مبادئ القانون، ولابد أن يحل شئ آخر محل الرحمة لا يعتمد على منطق القوة أو المنفعة.
ورأى هؤلاء أنه لا يصلح لهذه المهمة إلا مبدأ العدل.
إن العدالة مبدأ سام وشيد عليه وبه قامت السموات والأرض، وهو وحده الذي يصلح لقيادة هذه البشرية بحيث يعد مطلبها السامي، وأساس تشريعها المتين.
غير أن العدالة التي ينشدها أهل الرأي والبصيرة، ويتطلع إليها العقلاء والمفكرون لا تعدو أن تكون غاية قبلها وسيلة ، ونهاية لابد لها من طرق وسبل.
إننا إذا توصلنا إلى العدالة ربما نكون قد ظفرنا بشئ هام في حياة الفرد والجماعة، غير أن الطريق إلى هذه العدالة يحتاج يحتاج إلى قواعد وتشريعات ويكون أهل الرأي والبصيرة إلى الآن قد وضعوا أمام الإنسانية أملاً يحتاج إلى إيضاح السبيل إليه، والسبيل إليه قواعد وتشريعات، فمن له حق التشريع، ومن يختص بوضع القواعد وإيضاح السبيل إلى العدالة ؟ (2).
إن الإنسان في حياته الواقعية يحتاج إلى قانون ينظم سلوكه، وهذا القانون يختلف غاية الاختلاف عن قانون الطبيعة ومبادئ المادة.
إن قانون الطبيعة تعبير عما هو كائن، وربط العلل بمعلولاتها والأسباب بمسبباتها.
أما القانون الذي ينظم حياة الإنسان لا يعبر عن واقع أو موضوعية، ذلك أن الإنسان يشارك غيره من سائر المخلوقات باعتباره شيئا واقعيا، وطبيعة موجودة تعلن عن نفسها بوصفها شيئا تاريخيا.
غير أن الإنسان بطبيعته وواقعه التاريخي ووجوده كشئ وضعي لا يعدو أن يكون شيئاً قليل القيمة جداً بالقياس إلى هذا الكون الرحيب المتسع، ولكن خالقه قد ميزه بشئ يجعله يعادل هذا الكون بل ويتفوق عليه، ذلك أنه قد غرس في طبعه عدم الرضى بواقعه التاريخي وتميز بالثورة المستمرة على وجوده الوضعي، فهو يريد من وقت لآخر تشريعاً يحمله على فعل ما ينبغي أن يكون، ويحفزه لكي يثور على ما هو كائن، ويشعر بالقلق من وجوده حتى يتأتى له أن يغيره، ومن هنا فإن الإنسان يحتاج إلى مجموعة القواعد والقوانين التي ترقى بسلوكه نحو ما سيكون.
ولذلك كانت مجموعة التشريعات التي يحتاجها الإنسان لضبط سلوكه، والقوانين التي يحتاجها لضبط حياته تختلف غاية الاختلاف عن قانون المادة وأسبابها التي تعبر عن واقعها المحسوس.
وهذا التميز الذي يثبت للقوانين والتشريعات التي تختص بالإنسان يوحي إلينا بشيئين رئيسيين:
أحدهما : أن الإنسان هو المخلوق الوحيد في هذا العالم الذي يعتبر همزة الوصل بين ما هو كائن، وبين ما هو مأمول أو مرتقب على درج الرقي والكمال، فالإنسان حين يمارس أشياء إنما يمارسها لكي تتحول إلى شئ واقعي يفعلها ليترقى بشخصيته نحو القمة السامقة، ولكن هذا الفعل قبل أن يخضع للممارسة العملية كان أملاً مرتقباً للإنسان، وعليه فإن الفعل يظل ضمن طائفة الأفعال المرتقبة التي يتعلق الإنسان بها باعتبار أنها شئ لم يكن وينبغي أن يكون حتى يفعلها الإنسان فتتحول إلى شئ واقعي ووضعي، ويتعلق الإنسان بعد تحويل هذا الفعل من شئ لم يكن إلى شئ قد كان بفعل آخر ليس موجوداً ليحوله إلى موجود واقعي، وهكذا يتحول الإنسان بذاته إلى كائن مترفي أو كائن أخلاقي، ويكون هو الكائن الوحيد الذي يتميز بأنه حلقة حلقة الاتصال بين الواقع المشاهد، والمأمول المرتقب.
يقول الأستاذ زكريا إبراهيم :
[ إن هذا "الكائن الأخلاقي" الذي نسميه بالإنسان هو ـ وحده ـ الذي يحمل "أمانة القيم" صحيح أن الموجود البشري قد لا يمثل سوى كمية مهملة فانية في نطاق العالم، ولكنه مع ذلك أقوى من العالم نفسه ؛ لأنه حامل لمبدأ أسمى، إن نقل بأنه المبدع الحقيقي لذلك "الواقع" الحافل بالدلالة والقيمة؛ ما دام هو الذي ينقل إلى العالم الواقعي تلك "المعاني السامية" التي يأخذ على عاتقة مهمة اكتشافها. وعلى حين أن الطبيعة مضطرة إلى الخضوع لقوانينها الخاصة، نجد أن الإنسان ـ والإنسان وحده ـ هو الموجود الذي يحمل في باطنه قانوناً أسمى، ومن ثم فإنه يستطيع أن يخلق في العالم ـ ابتداء من اللا وجود نفسه ـ "مثلا عليا" كانت بمثابة إمكانيات كامنة في أعماق الوجود وربما كانت المعجزة الكبرى التي تصنعها الأخلاق هي أنها ترد للإنسان كرامته، وتحرك ما فيه من عنصر "سمو" أو "جلال" وتسمو به فوق المستوى الطبيعي البحت ] (1).
وثانيهما : أن الإنسان حين يشعر بتميزه في هذا العالم وأن تميزه يرجع إلى مجموعة القوانين التي تضبط سلوكه نحو تحقيق ما ينبغي له أن يفعله يحس من نفسه نشاطاً إلى البحث عمن يضع له هذه القوانين وينظم له تلك القواعد.
ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام الباحثين منذ عصور طويلة خلت وإلى الآن. ولعل هؤلاء الباحثين الذين تناولوا تلك المسألة بشئ من الاهتمام قد أدركوا الفارق بين القانون الطبيعي والقانون الذي ينظم سلوك الإنسان من حيث أن قانون الطبيعة يعبر عن واقع كما قلنا وهو من أجل ذلك كما هو منفذ أن وضعه خالقه، وما على الإنسان العاقل المتطلع إلى المعرفة والعلم إلا أن يبحث عن القانون في مظانه ويحاول أن يكتشفه أو يظفر به.
أما القانون الذي يضبط سلوك الإنسان فإنه لا يعبر عن واقع بقدر ما يحمل الإنسان على أن يحقق شيئاً لا وجود له، فإذا وجد تعلق القانون بغيره لكي يحقق للإنسان حركة دائمة نحو السمو والكمال.
وهذه الخاصية التي تتوفر لمثل هذا القانون لا تجعله أمراً واقعياً يتمكن الإنسان من اكتشافه ولكن من يتصدى للقانون الإنساني والتشريع البشري لابد أن يتميز بصفات وشمائل يستطيع على أساسها أن يعقد البشرية قواعد تضمن لها الرقي والكمال الدائمين.
ومن بين هذه الخواص وتلك الشمائل أن يرتفع المشرع فوق هواه ونوازعه الشخصية وأن يتأبى على المصلحة الذاتية والغرائز الفطرية.
ولابد أن يكون المشرع من جهة ثانية قادراً على تصور الحاضر والمستقبل فهو يأخذ من الواقع الذي يراه ويشاهده نقطة ارتكاز الصعود نحو الكمال في حاضر الإنسان ومستقبله، ويكون بصيراً بالحالة الواقعية التي سوف يتحول إليها السلوك البشري الذي هو يراه في الحاضر أمراً مغيباً وكامناً في اللاوجود، ثم يستطيع أو يتصور المرحلة التالية، وهي أكثر عمقاً في اللا وجود ويتصور وجودها في الواقع المحس ثم يتصور المرحلة التي تليها وهكذا.
ومعنى ذلك أن المشرع لابد أن يكون ذا بصيرة نافذة نلحظ ما في عمق الغيب انطلاقاً من الواقع المحسوس، وإلى أن يقضي العالم، وينتهي هذا الوجود المؤقت.
وليست هذه هي الميزات والشمائل التي يجب أن تتوفر للمشرع فحسب، ولكن لابد أن يكون ذا بصيرة نافذة يعرف بها احتياج الأفراد والجماعات، وقدرة فائقة يستطيع على أساسها أن يوازن بين العواطف والرغبات، بحيث لا يطغى عاطفة على أخرى فيصيب الأفراد بالكبت، والجماعات بالفوضى، أو التسلط والقهر.
ثم لابد أن يتوفر في المشرع شئ من القوة بحيث تضمن إخضاع جميع الأفراد والجماعات إلى ما أنتجه عقله من المبادئ والتشريعات فيخضعون لتشريعه خضوع الرضى والتسليم، لا خضوع القهر والعنف، وخضوع القناعة والفهم لا خضوع البغي والقهر.
فمن المعروف أن عظمة القانون تكون حين يرعاه الأفراد في السر والعلن، وحين يكون مؤسساً على الانسجام بين ظاهر الفرد وباطنه، أما أن يقوم القانون على الإسكات دون الإقناع، ويعتمد في تنفيذه على القهر دون التسليم والرضى، فإن مثل هذا القانون يحدث زلزالاً قوياً حين يشعر بمنطقة ضعف في القشرة الخارجية والإطار الظاهري الذي أوجدته القوة بالقهر والتسلط، ويسيطر هذا الزلزال على العواطف والمشاعر فيروح المجتمع في فوضى يعجز المشرع، ومنفذ القانون جميعاً عن ضبطه والسيطرة عليه.
ومن هنا كنا نجد حتى في القانون الذي يضبط حركات المجتمع اختلافاً شديداً بين جهابذة العلماء حول صفات المشرع ومن توكل إليه هذه المهمة، وما إذا كان المشرع واحداً ممن سيبق عليه القانون، أو لابد أن يكون رجلاً من خارج المجتمع حتى يضمن المجتمع أنه لا ينطلق من أهوائه وعواطفه، وهو يقعد السلوك الناس.
ولقد كان [ العرف السائد بين معظم الدول الإغريقية أن تعهد إلى أجانب بوضع قوانينها. كما أن الجمهوريات الحديثة في إيطاليا كثيراً ما اتبعت هذا التقليد. وكذلك جنيف لجأت إلى نفس الطريقة واستفادت منها. وقد شهدت روما في عصرها الذهبي جميع جرائم للطغيان تعود بين ظهرانيها، وكادت تهلك لا لشئ سوى أنها وحدت السلطة التشريعية، وللسلطة السيادية في يد واحدة ] (1).
غير أن الملاحظ أن القوانين والتشريعات التي وضعت إلى الآن لم تستحوذ محليا قدر كاف من رضى الناس على طول الزمان وتوالي العصور، وهذا يدل على قصر نظر المشرع، وتأثره ببشريته، وقلة استيعابه لطبائع الناس ووجداناتهم، وتعدد علاقاتهم وتنوعها.
ولكن بعض الباحثين قد لاحظ أن القانون، أو التشريع إذا كان له صلة بالسماء اكتسب من هذه الصلة احتراماً وقداسة بمقدار ما له من حجم هذه الصلة.
ففي كتاب العقد الاجتماعي : [ إن الشريعة اليهودية ما زالت حية، والشريعة الإسلامية التي حكمت نصف العالم مدى عشرة قرون، ما برحت حتى اليوم تعلن عن عظمة أولئك الذين وضعوها، وقد لا يرى فيهم أولئك الذين أعمتهم الكبرياء الناجمة عن الفلسفة، أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسنى الحظ، ولكن السياسة الحسنة تعجب في أنظمتهم بتلك العبقرية العظيمة القادرة التي تتصدر المنشآت الخالدة ] (1).
ولم يتوقف كاتب هذه الصفحات طويلاً عند المقارنة بين الأنظمة التي لها صفة البشرية، والأنظمة التي لها صلة بالسماء، فليس هناك مجال للشك في أن الأنظمة المتصلة بالسماء أدوم وأطول وأقدر على سياسة البشر، وفي حالة من الطمأنينة واستمرار النفس.
ويتضح لدى الكاتب السبب الواضح لاستمرارية وصلاحية أنظمة السماء وتفوقها عما عداها من النظم، وهو يعتمد على وضوح هذا السبب حين يقرر أننا في حالة مستمرة إلى السماء لنستلهم منها الوحى الذي يضع القوانين والنظم والتشريعات.
ويلخص لنا كتاب العقد الاجتماعي السبب والنتيجة معاً فيقول :
[ يتطلب اكتشاف أفضل قواعد المجتمع، التي تتلاءم مع طبيعة الأمم، عقلاً ممتازاً يرى كل أهواء الناس على ألا يتعرض هو نفسه لأي منها، عقل لا صلة له بطبيعتنا البشرية، ولكنه يدرك جذورها؛ وأن تكون سعادته مستقلة عن سعادتنا، ولكنه مع ذلك يهتم بسعادتنا؛ وأخيراً يتطلب الأمر أن يرنو هذا العقل ببصره إلى المستقبل البعيد، وينتظر يوم مجده في عهد لم يأت بعد أي أن يزرع في قرن ويحصد الثمار في قرن آخر. وبعبارة أخرى ، إن الأمر يتطلب آلهة تمنح البشر قوانينها ] (1).
وهذه النتيجة التي انتهى إليها الباحث يلحظها الكثيرون من المشتغلين بالتشريع ، والذين يعتبرونه صناعتهم التي يجيدونها فقاموا بالتدليس والادعاء وموهوا على الناس بأن ما أتوا به من آراء وأفكار لا تعدو أن تكون آراء وأفكار السماء، ولكنهم استلهموها منها بوسيلة أو بأخرى يحددها هؤلاء المشرعون بحيث تتفق مع الديانة التي يدين بها الشعب الذي يشرعون له.
وهذه صعوبة تعترض التشريع أحياناً، وتقلل من قيمته وجدواه غير أن هذه النسبة المزيفة للسماء سرعان ما تنكشف ويفتضح أمرها.
ولكن هناك صعوبة قوية أخرى يثيرها أمامنا كتاب العقد الاجتماعي، وهي كيفية الصلة المستمرة بالسماء ووسيلة الاتصال بالآلهة لحل مشاكلنا التشريعية وقضايانا التي تتعلق بضبط السلوك.
ويصوغ الكتاب هذه المعضلة فيقول :
[ وهذا العقل السامي الذي يسمو على فهم العامة، هو ما يضع المشرع أحكامه في أفواه الخالدين ليقودوا بوساطة السلطة الإلهية أولئك الذين لا يستطيعون التخلص من عجز البشر الهالكين، ولكن لا يستطيع كل إنسان أن يجعل الآلهة تتكلم، ولا أن يجعل الناس نصدقه عندما يدعى أنه يتحدث باسمها، فروح المشرع العظيمة هي التي يجب أن تكون دليل رسالته. وكل إنسان يستطيع أن ينقش كلمات على حجر ويرشو كاهناً وثنياً، ويدعي اتصالاً سرياً بأحد الآلهة، أو أن يدرب طيراً ليهمس في أذنه، أو يجد وسيلة دنيئة للتمويه على الناس إن من لا يستطيع غير ذلك، قد يكون في وسعه أن يجمع حوله صدافة جماعة من الحمقى؛ ولكنه لن ينشئ إمبراطورية أبداً، وسرعان ما يختفي عمله الجاهل معه ] (2).
وهذا الإعضال على ضخامته لا يحتاج منا، أو من الباحثين على وجه العموم إلا إيجاد الضمان، وخلق السياج الذي يحيط التشريع السماوي بما يحفظه من عبث الباحثين، أو المغرضين الذين ينسبون أنفسهم إلى حقل التشريع.
والحق أننا نلتمس العذر لمؤلف كتاب : العقد الاجتماعي؛ لأن البيئة، وميدان البحث، ومجال الدراسة، الجميع قد تضافر على خلق جو لا يسمح لصاحب الكتاب أن ينفذ وراء هذه البيئة، وهذا التخصص ليبحث عن سياج يضمن للتشريع السماوي صفاء المصدر الإلهي الذي لم تدنسه يد البشر، وعقوله القاصرة.
إن الديانات التي وضعت تحت نظر الباحث إنما هي في أغلب الظن الديانات القديمة واليهودية المشوشة، والإسلام في أقل مظاهره.
وأغلب الظن أنه لو اتضح أمام الباحث الأمان والضمان للتشريع الإلهي لما ذهب إلى غيره من مصادر التشريع.
والمتصفح للفكر الإسلامي يظهر له بمقارنته لسائر الأديان أنه هو الدين الوحيد الذي احتفظ لنفسه بالنص الإلهي بألفاظه، وحتى طريقة الأداء فيه، وتلك مسألة لا تقبل الشك ولا الجدال، إن الكتاب السماوي إلى الآن ما يزال يحتفظ بنصه ولفظه ولغته وطريقة أدائه، وإن ذلك وعد من المشرع نفسه أن يحفظ الكتاب من أن تمسه يد التبديل والتحريف ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(1).
ويلمس بعض المؤرخين للفكر الإسلامي من هذه المسألة في يسر وسهولة كما جاء في كتاب التفكير الفلسفي في الإسلام على نحو مبسط حين يقرر أن القرآن قد وصل إلينا ( بطريق التواتر بحيث لا يمكن الشك مطلقاً في أنه وصل إلينا كما نزل على محمد صل الله عليه وسلم دون زيادة أو نقص ).
والمستشرقون ـ رغم تحامل بعضهم على الإسلام ـ لا يجدون مطعناً صحيحاً من تلك الجهة قط، وقد قال المستشرق الفرنسي الأستاذ ديمو مبين بحق في كتابه عن الإسلام :
( إن المنصف لا مناص له من أن يقر بأن القرآن الحاضر هو القرآن الذي كان يتلوه محمد صل الله عليه وسلم ) (1).
وإذا ثبت أن القرآن هو النص الإلهي الوحيد المعتمد في الأرض ثبت في نفس الوقت أنه هو المبدأ الوحيد الذي ينبغي أن يرتكز عليه جميع المشرعين في الأخلاق إذا أرادوا أن يحتفظوا لنظرياتهم الأخلاقية بالسمة العلمية، وبذلك نكون قد أوجدنا الحلقة المفقودة التي طالما ما بحث عنها في مثابرة كتاب العقد الاجتماعي لكي يعتمد مصدراً أساسياً للتشريع يكون له صلة وثيقة بالسماء بعيداً عن أهواء البشر وتطلعات العقل الإنساني القاصر والمغرض.
* * *
============================
(1) انظر الأخلاق في إطار النظرية التطورية ج2 ـ د طه الدسوقي . (1) انظر المرجع السابق. (2) انظر رسالة الشيخ محمد عبده ـ رسالة التوحيد ـ ص 90. (1) المشكلة الأخلاقية ـ ص 28. ) العقد الاجتماعي ـ تأليف لوك ـ هيوم ـ رسو ص 123.
(1) نفس المرجع ص 125. (1) العقد الاجتماعي ص 121. 2) العقد الاجتماعي ص 124 ، 125. (1) سورة الحجر آية : 9. (1) التفكير الفلسفي في الإسلام ـ د/ عبد الحليم محمود ج1 ص 46.

من كتابات الأستاذ الدكتور طه حبيشى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
سادسا : بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة العلوم والمعارف :: الموسوعة الإسلامية الشاملة :: موسوعة العقيدة الشاملة-
انتقل الى: