الجرح
قال في المصباح : ( وجرحه بلسانه جرحًا ، عابه وتنقَّصه ، ومنه : جرحت الشاهد إذا أظهرت فيه ما تُردُّ به شهادته ) .
وقال في اللسان : ( ويقال : جرح الحاكم الشاهد ، إذا عثر منه على ما تسقط به عدالته ؛ من كذب وغيره ، وقد قيل ذلك في غير الحاكم ، فقيل : جرح الرجل غض شهادته ، وقال : جرح الشاهد إذا طعن فيه ورد قوله .. ) اهـ .
أما عند المحدثين:
فهو ذكر ما يثلبُ العدالة أو الضبط ، فكل مُخلٍّ بالعدالة ؛ من كفر ، أو فسق ، أو بدعة ؛ فهو جرح ، وكل مُخلٍّ بالضبط ؛ من غفلة ، وسوء حفظ ، ووهم ، وتخليط ، وضياع كتب ؛ فهو جرح ، والمتصف بذلك مجروح
حكم الجرح
العلماء في هذا فريقان ؛ فريق يرى أن الجرح حرام ؛ لأنه غيبة ، وفريق يرى أن الجرح جائز ، وهاك التفصيل والله المستعان :
1 - القول بأن الجرح حرام :
ذهب بعض الأئمة إلى أن قول القائل : ( فلان ضعيف) ، ( فلان كذاب) ، (فلان وضاع ) ، غيبة محرمة بدليل النصوص الواردة في تحريم الغيبة كقوله تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا } وقوله صلى الله عليه وسلم : " كل المسلم على المسلم حرام ؛ دمه ، وماله ، وعرضه " إلى غير ذلك من النصوص ، هذا إذا كان فيه ما قال ، أما إذا لم يكن في الراوي ما قال الجارح فهو بهتان كما روى فيما أخرجه مسلم 5/449 عن أبي هريرة أن رسول الله صل الله عليه وسلم ، قال : "أتدرون ما الغيبة " ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : " ذكرك أخاك بما يكره" ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته " ، حتى ولو كان ذلك سبيلا للتعريف بالشخص ، فهو غير جائز كما قال الحسن البصري ـ الذي هو من هؤلاء : ( أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة ) . " فتح 10/468".
ولم تظهر لي أسماء هذا الفريق ، ولم يعمد الخطيب إلى ذكر أسمائهم ، وإنما يمكن القول بأن منهم بكر بن حماد الشاعر المغربي ، ومما قاله في ذلك :
أرى الخير في الدنيا يقل كثيره ، وينقص نقصا ، والحديث يزيد
فلو كان خير كان كالخير كله ، ولكن شيطان الحديث مريد
ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها ، والمليك شهيد
فإن تك حقا ؛ فهي في الحكم غيبة وإن تك زورا ، فالقصاص شديد
ومنهم أيضًا يوسف بن الحسين الرازي ، ومنهم كذلك بعض الصوفية .
أخرج الخطيب عن ابن المبارك أنه ، قال : المعلي بن هلال هو إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب ، قال : فقال له بعض الصوفية يا أبا عبد الرحمن ! تغتاب ؟ ! فقال : اسكت ، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟ ! " كفاية ص 91".
2ـ القول بأن الجرح جائز : ـ
وذهب جمهور الأئمة إلى أن الجرح جائز ، بل واجب مستدلين على ذلك بما يأتي : ـ
1ـ قال الله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أوجب سبحانه الكشف والتبيين عند خبر الفاسق ، ولما كان حاله قد يخفى على البعض ، ويحتاج إلى سؤال من يعرفه عن حاله ، فإجابة العارف واجبة ، وإلا كان آثما متصفا بكتمان العلم .
2ـ- أن النبي صل الله عليه وسلم قد جرح بعض الأفراد ، وهذه أمثلة :
أ ـ لما جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها ، قال صلى الله عليه وسلم : " أما أبو جهم ، فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية ؛ فصعلوك لا مال له " ، والحديث في مسلم 3/691 ، وذكره الخطيب في الكفاية ص 84 ، وقال بعده : ( في هذا الخبر دلالة على أن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة ؛ لتجنب الرواية عنهم ، وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم ؛ لأن رسول الله صل الله عليه وسلم لما ذكر في أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه ، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له ، عند مشورة استشير فيها لا تتعدى المستشير ، كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن ، التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم ، وكشفها عليهم إلى تحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وإلى الفساد في شريعة الإسلام أولى بالجواز وأحق بالإظهار ) . اهـ
ب ـ أخرج البخاري ( 10/452) بسنده عن عائشة رضى الله عنها أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال : " بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة " ، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وانبسط إليه . فلما انطلق قالت له عائشة : يا رسول الله ! حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه ، وانبسطت إليه ، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : " يا عائشة متى عهدتني فاحشا ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة ، من تركه الناس اتقاء شره " .
ففي هذا الحديث لم يقصد صلى الله عليه وسلم الطعن في الرجل ، وإنما أراد أن يبين للناس مذمة الحال التي عليها كي يجتنبوها ، وإلا فإنهم لو رأوا إكرامه صلى الله عليه وسلم للرجل دون أن يقول ذلك لربما ظنوا تقريره صلى الله عليه وسلم لذي الحال، ومعلوم أن تقريره صل الله عليه وسلم سنة . فأبان مذمة الحال،
ومع ذلك عامل الرجل بحسن الخلق ، فجمع بين الحسنيين ، وعليه فإن ذكر العيب إذا لم يكن قصد المخبر الطعن والتنقص ، وإنما قصد قصدا آخر شريفا ساميا فلا شئ فيه ، وهو جائز كما هنا ، وجرح الرواة من هذا القبيل .
ج ـ أخرج البخاري (1/566 ) بسنده عن أبي هريرة حديث السهو في الصلاة ، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكما يقول ذو اليدين " ؟ وفي رواية أخرى للحديث : " صدق ذو اليدين " ، وذو اليدين هذا رجل في يديه طول ، ولفظ " ذو اليدين " غيبة ، بل ما ورد عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة ، فقال النبي صل الله عليه وسلم : " اغتبتيها".
قال الحافظ في الفتح (10/469) في شرح حديث ذي اليدين ما نصه : "قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا ، إن كان للبيان والتمييز فهو جائز ، وإن كان للتنقيص ؛ لم يجز ، قال : وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة فقال النبي صل الله عليه وسلم : "اغتبتيها" ، وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا ، وإنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب . اهـ
د ـ أخرج الإمام أحمد في مسنده حديث أبي رهم الغفاري وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بايعوا تحت الشجرة ، أخرج حديثه الذي يرويه عن غزوة تبوك ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : " ما فعل النفر الحمر الطوال القطاط " ؟ ـ أو قال : " القصار " ؟ ـ شك عبد الرزاق شيخ أحمد ـ والحديث في مسند أحمد (4/349) وفي إحدى روايات الحديث عند البزار قال صل الله عليه وسلم لأبي رهم : " ما فعل النفر الطوال الجعاد الأدم من بني غفار ، هل معنا منهم في المسير أحد " ؟ قلت : لا ، قال : " فما فعل النفر الأدم القصار الخنس من أسلم ، هل معنا منهم في المسير أحد " ؟ قلت : لا ، قال : " فما فعل النفر الحمر الشطاط ، هل معنا أحد منهم في المسير... " الحديث ، والحديث راجعه في مسند أحمد (4/349) ، والفتح الرباني ج21 ص 205 ، ومجمع الزوائد (6/191) ، وهو يدل على جواز أن يذكر الإنسان إنسانا آخر بصفة من صفاته (الطويل القصير. . .) إلخ ، وهذه وإن كانت في صورة الغيبة ، لكنها لا تحرم إذا كانت للتعريف ، كم في الحديث المتقدم .
ومن هذه الأدلة يتضح لك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما صورته صورة الجرح . نعم لم يكن قصده صلى الله عليه وسلم طعنا ولا تنقيصا ولا إعابة ، وإنما كان قصده شريفا ، وهدفه نبيلا ، وهذا أيضا قصد جارح الرواة ، فإنه يقصد حفظ ساحة السنة النبوية ، والحفاظ على دين الله تعالى ، وكفاه ذلك شرفا ونبلا ، فدل هذا على جواز الجرح ، فإذا جمعت أدلة الجــواز من السنة مع قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ومع قوله صل الله عليه وسلم : "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب ؛ فهو أحد الكاذبين " ، انتقل الجواز إلى الوجوب ، وأصبح على الأمة أن تبين أحوال الرواة بتعديل العدل ، وجرح المجروح على سبيل الوجوب.
وبهذا ينتفي قول القائلين بحرمة الجرح ، فإنه إنما أجيز لمصلحة عليا ، وهي الحفاظ على الإسلام ، ودل على جوازه بل وجوبه الكتاب والسنة ، بل والإجماع كذلك .
إجماع الأمة على جواز الجرح : ـ
وعدا هذه القلة التي ذهبت إلى أن الجرح غير جائز ، قاطبة أهل العلم ، وجمهور الأئمة على جواز الجرح ، حتى اعتبر بعضهم ذلك إجماعًا غير معتبر بهذا الخلاف لقلته ، وبساطة أهله في ساحة العلم ، أي : قلة نصيبهم منه .
قال الخطيب في رده على هؤلاء الذين يرون عدم جواز الجرح : (وليس الأمر على ما ذهبوا إليه ؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق ، المأمون على ما يخبر به ، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقا في روايته ) . " كفاية ص 83" .
وقال السخاوي : ( وأجمع المسلمون على جوازه ـ أي الجرح ـ بل عدَّ من الواجبات ، للحاجة إليه . وممن صرح بذلك النووي ، والعز بن عبد السلام ولفظه في قواعده " القدح في الرواة واجب ، لما فيه من إثبات الشرع ، ولما على الناس في ترك ذلك من الضرر في التحريم والتحليل ، وغيرهما من الأحكام " ، وحكى النووي الإجماع أيضا ، وسيأتي كلامه ) .
فترى في عبارة الخطيب : ( لأن أهل العلم أجمعوا ) فاعتبر جواز الجرح أمرا مجمعا عليه من أهل العلم ، وفي عبارة السخاوي : ( أجمع المسلمون) فكأنه لم يلق بالا لهذا الاختلاف ، واعتبره أمرا مُجمعًا عليه
شروط المجرح
يشترط في المجرِّح :
1ـ أن يكون عدلا كي يمنعه ورعه ، وتقواه من الوقوع في الناس بالباطل.
2ـ أن يكون ذا اعتناء بهذا الشأن ؛ كي يهتم بأحوال الرجال ، ويحرص على معرفتها .
3ـ أن يكون عالما بأسباب الجرح .
4ـ أن يكون منصفًا لا متعصبًا .
نقل في الرفع والتكميل ص (54) عن ( فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت) ما يلي : ( لابد للمزكي أن يكون عدلاً عارفًا بأسباب الجرح والتعديل ، وأن يكون منصفًا ناصحًا لا أن يكون متعصبا ومعجبا بنفسه ، فإنه لا اعتداد بقول المتعصب كما قدح الدارقطني في الإمام الهمام أبي حنيفة رضى الله عنه بأنه ضعيف في الحديث ، وأي شناعة فوق هذا ؟ ! ) ثم رد هذا الزعم فراجعه إن شئت .
وقال الحافظ ابن حجر : ( وينبغي أن لا يقبل الجرح إلا من عدل متيقظ).
ولقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتابه : ( جامع بيان العلم وفضله ) (ج 2 ص 184 ) بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض ، استهله بحديث الزبير بن العوام أن رسول الله صل الله عليه وسلم ، قال : " دب إليكم داء الأمم قبلكم ؛ الحسد والبغضاء ، البغضاء هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين ، والذي نفس محمد بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك ، أفشوا السلام بينكم "
وذكر فيه قول ابن عباس : استمعوا علم العلماء ، ولا تصدقوا بعضهم على بعض ، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها.
وقول مالك بن دينار : يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم على بعض.
ثم قال : هذا ـ قول العلماء بعضهم في بعض ـ باب قد غلط فيه كثير من الناس ، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك ، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته ، وثبتت في العلم أمانته ، وبانت ثقته ، وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد ، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات .
ثم ذكر نماذج من أقوال السلف بعضهم في بعض ، دلل بها على ما قاله من تنافس الأقران ، وحسد بعضهم لبعض ، ثم قال : ( فمن هداه الله وألهمه رشده ، فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته ، وعلمت بالعلم عنايته ، وسلم من الكبائر ، ولزم المروءة والتعاون ، وكان خيره غالبا ، وشره أقل عمله ، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به ، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله ) . انتهى بتصرف ص 199.
وإذا كان هذا بين العلماء فليس سببه الحسد والتنافس وكفى ، ولكن قد تختلف أسبابه من تعصب مذهبي، أو إقليمي ، أو عقدي ، كتعصب بعض الشافعية ـ أمثال الدارقطني ـ ضد الأحناف والعكس ، وتعصب أهل العراق ضد أهل المدينة ، وتعصب المجسمة ضد أهل السنة ، حتى قال بعضهم في أبي حاتم بن حبان : ( لم يكن له كبير دين ، نحن أخرجناه من سجستان لأنه أنكر الحد لله ) . قال الإمام تاج الدين السبكي : ( وليت شعري من المجروح مثبت الحد أو نافيه ) ؟ !! " راجع طبقات الشافعية 3/132".
الجرح الجائز
إذا كان الإسلام قد أباح الجرح ، فإنما أباحه بشروط ، هي :
1ـ أن يكون لراوٍ ـ أو واحد ممن بقي بيان جواز غيبتهم ـ أما غيرهم فلا داعي لتجريحهم إذ لا فائدة في ذلك .
2ـ أن يكون داعي الجرح المصلحة والنصيحة ، لا حب الطعن والتنقيص والهوى.
3ـ أن يكون الجارح واثقًا مما قال .
4ـ أن يكون بقدر الحاجة فقط .
5ـ إذا كان ترجمة لراوٍ من الرواة ، قد اجتمع فيه تعديل وتجريح فليذكر الجرح والتعديل معًا .
قال رجاء بن حيوة ( مقدمة الكامل في الضعفاء ص 244 ) لرجل : (حدثنا ولا تحدثنا عن شمات ولا طعان ) .
وقال السخاوي ( فتح المغيث 3/325) : ( لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد ، فقد قال العز بن عبد السلام في قواعده : إنه لا يجوز للشاهد أن يجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما ، فإن القدح إنما يجوز للضرورة ، فليقدر بقدرها . ووافقه عليه القرافي وهو ظاهر ) .
وقال ( 3/316) : ( فالجرح والتعديل خطر ؛ لأنك إن عدلت بغير تثبت كنت كالمثبت حكما ليس بثابت ، فيخشى عليك أن تدخل في زمرة من روى حديثا ، وهو يظن أنه كذب ، وإن جرحت بغير تحرز أقدمت على الطعن في مسلم برئ من ذلك ، ووسمته بميسم سوء ، يبقى عليه عاره أبدا ).
وقال الذهبي في ترجمة أبان بن يزيد العطار ( ميزان الاعتدال ):" قد أورده أيضا العلامة ابن الجوزي في الضعفاء ، ولم يذكر فيه أقوال من وثقه ، وهذا من عيوب كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق " اهـ.
ولعله اتضح لك ما يجب أن تكون عليه إذا أردت أن تترجم لراو ، وهو أن تراجع العديد من الكتب ، وتأخذ أقوال المعدلين والمجرحين ، فإن استطعت أن ترجح ترجيحا يعتمد على حقائق علمية فافعل ، وإلا فدع عنك هذا ، فيكفيك أن تقول عدله فلان وفلان وجرحه فلان وفلان ، وحذار أن تتعصب لتجرح ، أو تتعصب لتعدل ، فليس هذا لك
ما يثبت به الجرح
يثبت الجرح بأحد أمرين هما :
1ـ شهادة عدل أو عدلين بذلك ، وقد تقدم في " ما تثبت به العدالة " ذكر الخلاف بين الأئمة في أنه هل تثبت العدالة بتزكية عدل واحد أم لابد من عدلين ، وهو هنا أيضا ، والذي نميل إليه أن
الجرح يثبت بشهادة عدل واحد ذكر ، أو أنثى ، حر ، أو عبد .
2ـ الاستفاضة بين أهل هذا الشأن بالجرح ، فمن اشتهر بين الأئمة جرحه فهو مجروح ، بل جرحه أكثر ثبوتا ممن شهد عدل أو عدلان بجرحه
تفسير الجرح
أ ـ ذهب بعض الأئمة إلى أنه يجب تفسير الجرح ـ أي ذكر أسبابه ـ مستدلين على ذلك بما يأتي :
1ـ أن الجرح لا يشق ذكره ، بل هو هين يحصل بالشئ الواحد.
2ـ أن الناس مختلفون في أسباب الجرح ، فيطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده ، ولربما كان في حقيقة الأمر ليس جرحا ، وعليه فلابد من ذكر سبب الجرح ، ليظهر أهو قادح أم لا ، وذكروا أمثلة ذكر فيها الجرح فظهر أنه ليس في حقيقة الأمر جرحا ، وإنما هو جرح بحسب رأي الجارح ، وها أنذا أذكر لك بعضا منها :
1) سئل شعبة بن الحجاج لم تركت حديث فلان ؟ قال : ( رأيته يركض على برذون فتركت حديثه ).
" كفاية ص 182 ، وراجع ترجمة شعبة في الحلية 7/152".
2) قال يحيى بن سعيد القطان : أتى شعبة المنهال بن عمرو فسمع صوتا فتركه ، قال أبو حاتم : يعني أنه سمع صوت قراءة بألحان ، فكره السماع من أجل ذلك . " تقدمة الجرح والتعديل ص 153 ، ص 172".
3) قال وهب بن جرير : قال شعبة : أتيت منزل المنهال بن عمرو فسمعت فيه صوت الطنبور فرجعت ، قلت : فهلا سألت عسى أن لا يعلم هو ؟
" كفاية ص 183".
4) قيل للحكم بن عتيبة لم لم ترو عن زاذان ؟ قال : كان كثير الكلام .
" كفاية ص 183".
5) سئل وهب بن جرير عن صالح بن أبي الأخضر ما شأنه ؟ قال : سمع وقرأ وكان لا يميز القراءة من السماع . " كفاية ص 181".
6) قال جرير : رأيت سماك بن حرب يبول قائما فلم أكتب عنه .
" كفاية ص 183".
وقد عقد الخطيب لذلك بابا هو ( باب ذكر بعض من استفسر في الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة ) ، فراجعه في الكفاية ص (178).
قال القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري : لا يقبل الجرح إلا مفسرا ، وليس قول أصحاب الحديث فلان ضعيف وفلان ليس بشئ مما يوجب جرحه ورد خبره ، وإنما كان كذلك ؛ لأن الناس اختلفوا فيما يفسق به ، فلابد من ذكر سببه ، لينظر هل هو فسق أم لا ؟
حكى هذا القول الخطيب ، ثم قال : وهذا القول هو الصواب عندنا ، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده ، مثل : محمد بن إسماعيل البخاري ، ومسلم ابن الحجاج النيسابوري ، وغيرهما .
فإن البخاري قد احتج بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم ، والجرح لهم ؛ كعكرمة مولي ابن عباس في التابعين ، وكإسماعيل بن أبي أويس ، وعاصم بن علي ، وعمرو بن مرزوق في المتأخرين ، وهكذا فعل مسلم بن الحجاج ، فإنه احتج بسويد بن سعيد ، وجماعة غيره اشتهر عمن ينظر في حال الرواة الطعن عليهم ، وسلك أبو داود السجستاني هذه الطريق وغير واحد ممن بعده ، فدل ذلك على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه ، وذكر موجبه . اهـ
" كفاية ص 179".
ب ـ وذهب بعض آخر إلى أنه لا يجب تفسير الجرح ما دام قد صدر عمن توافرت فيه شروط الجارح ـ وقد تقدمت ـ مستدلين على ذلك بأن استفساره عن الجرح لا ينبني إلا على أحد أمرين :
1ـ إما اتهام له بالجهل بأسباب الجرح ، وقد ثبت أنه عالم به ـ إذ هذا شرط في قبول جرحه .
2ـ وإما سوء ظن به وهو لا يصح ؛ لأنه عدل ، وعليه فلا يجب تفسير الجرح. أما إذا خلا الجارح من شرط أو شروط من يقبل جرحه فيكون الأمر كالآتي :
أ ـ إذا فقد شرط العدالة فلا يقبل جرحه ؛ إذ الجرح حكم ولا يعقل حكم غير العدل.
ب ـ إذا فقد شرط من الشروط الباقية أو كلها فلابد من تفسير الجرح ، وقيل جرح المتعصب لا يقبل ، ولو كان مفسرا.
قلت : والرأي الأول أرجح لما ثبت أن بعضهم ـ وهم من أهل الشأن كشعبة ويحيى بن سعيد القطان ـ يذكر ما لا يصح أن يكون جارحًا .
لكن ليس القول على إطلاقه ، من أن الجرح لا يقبل إلا مفسرًا ، وإنما يقيد في حق من خلا عن التعديل ، وجرح جرحًا مبهما ، فإن الجرح هنا يقبل ؛ لأنه لما خلا عن التعديل صار في حيز المجهول ، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله في حق هذا المجهول ، وأما في حق من وثق وعدل فلا يقبل الجرح المجمل ، وهذا ما قاله الحافظ ابن حجر في النخبة
مراتب الجـرح
اعلم أن مراتب الجرح متفاوتة ، فمن المجروحين من يكتب حديثه للاعتبار ، ومنهم من لا يعتبر به البتة ، وإنما هو ساقط عن مدار الرواية بالمرة ، داخل في الوعيد الشديد : " من كذب على متعمدا ؛ فليتبوأ مقعده من النار" . وها أنذا أذكرها لك ـ مرتبة من الأعلى إلى الأدنى ، بمعنى : أن أذكر لك أولاً أعلى درجات الجرح ، وأنتهي بأقل درجات الجرح ، فإذا أردت أن تجعل سلمًا لمراتب الرواة يبدأ بأعلى درجات التعديل ، وينتهي بأعلى درجات التجريح ، فاعكس ما هنا تجد عندك ترتيبا تنازليًّا يبدأ بـ ( أوثق الناس ) وينتهي بـ ( أكذب الناس ) ، وكنت أردت أن أجعلها هنا من الأدنى إلى الأعلى لتكون مناسبة لهذا التنظيم ، لكني وجدت أن الترتيب من الأعلى إلى الأدنى أيسر للفهم ؛ فسرت عليه ونبهتك.
المرتبة الأولى :
الوصف بما يدل على المبالغة في الجرح :
أكذب الناس ـ أشر الناس وضعًا للحديث.
ومنه قولهم : ( إليه المنتهى في الوضع ) و( هو ركن الكذب )، ونحو ذلك.
المرتبة الثانية : الوصف بالكذب أو الوضع :
دجال ـ وضاع ـ كذاب ـ يضع ـ يكذب ـ وضع حديثًا .
المرتبة الثالثة : الوصف بما يفيد الاتهام بالكذب ونحوه :
فلان يسرق الحديث ـ متهم بالوضع ـ متهم بالكذب ـ ساقط ـ هالك ـ ذاهب أو ذاهب الحديث ـ متروك أو متروك الحديث أو تركوه ـ فيه نظر ، سكتوا عنه ـ لا يعتبر به أو لا يعتبر بحديثه ـ فلان ليس بالثقة ـ أو ليس بثقة ، أو غير ثقة ـ ولا مأمون ، ونحو ذلك .
المرتبة الرابعة :
الوصف بما يفيد رد الحديث ، وعدم كتابته ، أو نحو ذلك.
فلان رد حديثه ، أو ردوا حديثه ، أو مردود الحديث ـ فلان ضعيف جدا ـ واه بمرة ـ تالف ـ طرحوا حديثه ـ ارم به ـ مطرح ، أو مطرح الحديث ـ لا يكتب حديثه ـ لا تحل كتابة حديثه ـ لا تحل الرواية عنه ـ ليس بشئ ، أو لا شئ ، أو فلان لا يساوي فلسا ، أو لا يساوي شيئا .
المرتبة الخامسة :
الوصف بما يفيد عدم الاحتجاج بحديثه :
ضعيف ، أو ضعيف الحديث ـ منكر الحديث ، أو حديثه منكر ، أو له ما ينكر ، أو مناكير ، أو مضطرب الحديث ـ واه ـ ضعفوه ـ لا يحتج به .
المرتبة السادسة :
الوصف بما يفيد التكلم فيه بتضعيف أو تليين :
فيه مقال ، أو أدنى مقال ـ ضعف ـ فيه ضعف ، أو في حديثه ضعف ـ تنكر وتعرف ـ ليس بذاك ، أو ليس بذاك القوي ، أو ليس بالمتين ، أو ليس بالقوي ـ ليس بحجة ، أو ليس بعمدة ، أو ليس بمأمون ، أو ليس من إبل القباب ، أو ليس من جمال المحامل ، أو ليس من جمازات المحامل ، أو ليس بالمرضي ، أو ليس يحمدونه ، أو ليس بالحافظ ، أو غيره أوثق منه ـ في حديثه شئ ـ فلان مجهول ، أو فيه جهالة ، أو لا أدري ما هو ، أو للضعف ما هو ـ فلان فيه خلف ـ فلان طعنوا فيه ، أو مطعون فيه ـ فلان نزكوه ( أي طعنوا فيه ) ـ فلان سئ الحفظ ـ فلان لين ، أو لين الحديث ، أو فيه لين .
وهذا التقسيم هو ما سار عليه جمهور أهل الفن وخالفهم فيه مخالفة يسيرة الشافعي والبخاري وابن معين .
الشافعي والبخاري :
للإمامين نوع مخالفة سببه ورع الرجلين وتقواهما :
فالبخاري :
1ـ يستعمل ( فيه نظر ) ، و ( سكتوا عنه ) اللتين هما من المرتبة الثالثة في أعلى درجات التجريح أي مكان ( أكذب الناس ) و ( كذاب ) اللتين هما المرتبة الأولى والثانية ، وقل أن يقول : ( كذاب ) ، أو ( وضاع ) ، وإنما يقول : ( كذبه فلان) ، ( رماه فلان بالكذب).
قال الحافظ ابن حجر : ( وللبخاري في كلامه على الرجال توق زائد ، وتحر بليغ ، يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل ، فإن أكثر ما يقول : ( سكتوا عنه) ، و ( فيه نظر ) ، و ( تركوه ) ، ونحو هذا ، وقل أن يقول : (كذاب) ، أو (وضاع ) ، وإنما يقول : ( كذبه فلان ) ، ( رماه فلان ) ، يعني بالكذب ).
2ـ ويستعمل (منكر الحديث) الذي أدرج في الخامسة والتي يعتبر بحديث أهلها ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ فيمن لا يحتج ولا تحل الرواية عنه ، وهذا موضعه المرتبة الرابعة فما فوقها .
قال البخاري : كل من قلت فيه : ( منكر الحديث ) لا يحتج به ـ وفي لفظ ـ (لا تحل الرواية عنه) .
والشافعي : كان سيره على هذه الوتيرة ـ ولعل البخاري كان تلميذ الشافعي في هذا ، أو اتفق الرأيان لاتفاق الداعي وهو الورع ـ فلقد كان يستعمل : ( ليس بشئ) التي هي من المرتبة الرابعة بدل ( كذاب ) التي هي من المرتبة الثانية ، فإذا وجدت عن الشافعي ( ليس بشئ ) فاعلم أن هذا جرح من مرتبة الجرح الثانية.
قال السخاوي ( فتح المغيث 1/345) : ( وقد روينا عن المزني قال : سمعني الشافعي يوما وأنا أقول : ( فلان كذاب ) ، فقال لي : يا إبراهيم ! اكس ألفاظك ، أحسنها ، لا تقل فلان كذاب ، ولكن قل : حديثه ليس بشئ.
يحيى بن معين :
تقدم في مراتب التعديل ضمن كلام يحيى بن معين لأبي خيثمة : ( وإذا قلت لك : هو ضعيف ، فليس هو بثقة ، ولا تكتب حديثه ).
وهذا يدل على أنه يستعمل (ضعيف) التي هي من المرتبة الخامسة ، والتي يعتبر بحديث أهلها ، فيما لا يكتب حديثه ، وهو المرتبة الرابعة فما قبلها .
هذا ولا يعترض برأي الشافعي والبخاري وابن معين على هذه المراتب ، فإن المعول عليه فيها رأي جمهور أهل هذا الفن .
حكم هذه المراتب:
تقدم قولي لك إني سأرتب هذه المراتب من أعلا درجات الجرح إلى أدناها ، وعليه فالمرتبة الأولى شر المراتب ، والمتصف بها شر الرواة ، يليها ما بعدها ، وهكذا حتى تصل إلى السادسة فهي أخف أنواع الجرح وتليها العدالة.
إذا علمت هذا فاعلم أن المراتب الأربع الأول لا يحتج بواحد من أهلها ، ولا يستشهد به ، ولا يعتبر به ، أما المرتبة الخامسة والسادسة ، فإنه يروي أحاديث أهلها ويكتب للاعتبار.
وأرجو أن تلاحظ أن الترتيب هنا تنازلي في الجرح تصاعدي في العدالة ؛ فـ ( لين الحديث) أعلى من ( ليس بالقوي ) ، و ( ليس بالقوي ) أعلى من (ضعيف الحديث ) ، وهكذا .
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم
تعارض الجرح والتعديل
قد تجد في ترجمة راو واحد تعارضًا ، وهذا التعارض نوعان :
1ـ تعارض بين قول أكثر من إمام ، فيعدله بعض ، ويجرحه بعض.
2ـ تعارض بين قول إمام واحد ، فيروي عنه أنه عدله ، ويروي عنه أنه جرحه .
فما حكم ذلك ؟
الجواب : أقول وبالله التوفيق :
أولا ـ تعارض أقوال الأئمة :
إذا تعارضت أقوال إمامين فأكثر في راو واحد ، فيجب أن نبحث أولا : هل حقيقة التعارض موجودة أم لا ؟ فإذا جرحه أحدهم بعدم الضبط ، وعدله آخر ، بحثنا لعله ضبط بعد ذلك . وإذا جرحه أحدهم بالاختلاط ، ووثقه آخر ، بحثنا فلعل من عدله عدله قبل الاختلاط ، وجرحه من جرحه بعد الاختلاط ، وإذا جرحه أحدهم بفسق ووثَّقه آخر فلعله أحدث توبة ، وإذا جرحه بعضهم بعدم الضبط ، ووثقه آخر، فلعله لا يضبط بدون كتاب ويضبط بكتاب . . . إلخ ما يمكن تصوره من ذلك .
فإذا لم نجد مخلصًا وتحقَّق التعارض ، فللعلماء فيه أقوال :
1ـ الجرح إذا كان مفسرا ، فهو مقدم على التعديل .
2ـ إذا كان المعدلون أكثر أو أحفظ فهو عدل ، وإلا فهو مجروح .
3ـ إذا فسر الجرح وكان المعدلون أكثر أو أحفظ ، تعارض التعديل والتجريح واحتجنا إلى مرجح ، وهاك التفصيل والله المستعان .
الأول : ذهب الجمهور إلى أن الجرح إذا كان مفسرًا فهو مقدم على التعديل ، سواء كان الجارحون أكثر أم أقل ، حتى ادعى ابن عساكر على ذلك الإجماع إذ قال : ( أجمع أهل العلم على تقديم قول من جرح راويا على قول من عدله ) ، وذكر الخطيب أنه متفق عليه ، إذ قال في كفايته ( ص 175) : ( اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والاثنان ، وعدله مثل عدد من جرحه فإن الجرح به أولى ).
ولقد علل الخطيب لهذا الرأي فقال : والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه ، ويصدق المعدل ويقول له : قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها ، وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره ، وإخبار العدل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به ، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل . ثم قال : ولأن من عمل بقول الجارح لم يتهم المزكي ، ولم يخرجه بذلك عن كونه عدلا ، ومتى لم نعمل بقول الجارح كان في ذلك تكذيب له ، ونقض لعدالته ، وقد علم أن حاله في الأمانة مخالفة لذلك .
ونقل السخاوي (1/286) ، عن العضد نحو قول الخطيب هذا ، إذ يقول : (وغاية قول المعدل أنه لم يعلم فسقا ، ولم يظنه ، فظن عدالته ، إذ العلم بالعدم لا يتصور ، والجارح يقول : أنا علمت فسقه ، فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا ، ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما أخبرا به ، والجمع أولى ما أمكن ؛ لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر ) . اهـ
هذا ويشترط لهذا الرأي شرطان :
الأول : أن يكون الجرح مفسرًا ، فإن لم يكن مفسرا فالتعديل
.
الثاني : أن يكون التعديل مطلقا ، أما إذا قال المعدل إنني أعلم هذا الجرح لكنه تاب منه أو لم يقع منه فالتعديل ثابت والجرح منتف.
وعليه فما يشيع في الأوساط العلمية من أن الجرح مقدم على التعديل ليس على إطلاقه ، وإنما يشترط فيه هذان الشرطان ، وهو قول الجمهور ، وعارضه قولان آخران ، فليس متفقًا عليه وليس على إطلاقه.
الثاني : وذهب بعض الأئمة إلى التفصيل ، فالتعديل مقدم إذا كان المعدلون أكثر عددا ، وإلا فالجرح ، وقيل يراعي الحفظ أيضا فالتعديل مقدم إذا كان المعدلون أحفظ وإلا فالجرح ، قالوا : وذلك لأن الكثرة تقوي الظن ، والعمل بأقوى الظنين واجب.
وقد أنكر الخطيب على هؤلاء بقوله : ( وهذا بعد ممن توهمه ؛ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك وقالوا : نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل تعديل أو جرح ؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه ، وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه.
الثالث : وذهب بعض الأئمة إلى أنه إذا كان المعدلون أكثر، أو أحفظ ، وكان الجرح مفسرا ، فيتعارضان ولا يرجح أحدهما إلا بمرجح .
ووجهة ذلك أن التعديل فيه جانب قوة من حيث كثرة أو حفظ قائليه، والجرح فيه قوة من حيث زيادة العلم بالاطلاع على الباطن فتعارضا.
ثانيًا ـ تعارض أقوال الإمام الواحد :
أما إذا كان القولان المتعارضان قالهما إمام واحد ، فهناك أمور يجب أن تراعى قبل الكلام على التعارض ، وهي :
1ـ هل كلام الإمام على الإطلاق أم هو نسبي ؟ فقد يكون كلام الإمام ليس على الإطلاق وإنما هو نسبي ؛ كمن يسأل عن أشخاص فيوثق هذا ، ويضعف هذا ، ولا يريد أن الأول يحتج بحديثه والثاني يرد ، وإنما هذا بالنسبة لمن قرن معه .
من ذلك ما روى عن عثمان الدارمي قال : سألت ابن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه كيف حديثهما ؟ فقال : ليس به بأس . قلت : وهو أحب إليك أو سعيد المقبري ؟ قال : سعيد أوثق ، والعلاء ضعيف.
فهذا لم يرد به ابن معين أن العلاء ضعيف مطلقا ، بدليل قوله : إنه لا بأس به ، وإنما أراد أنه ضعيف بالنسبة لسعيد المقبري.
2ـ اصطلاح الإمام في التعديل والتجريح فقد يذكر الإمام في الرجل لفظتين من مرتبتين ، فيخيل لنا التعارض ، في حين أنه يستعمل اللفظتين في مرتبة واحدة ، ولذلك نظير في كلام الشافعي والبخاري وقد تقدم .
3ـ ضبط صيغ الجرح والتعديل ، فلربما أدى الخطأ في ضبط الصيغة إلى الحكم بالتعارض في أقوال الإمام . من ذلك قولهم : (فلان مود) فلقد اختلف في ضبطها فمنهم من يخففها من أودى فلان فهو مود أي هالك ، ومنهم من يشدد الدال مع الهمزة (مؤد) أي حسن الأداء ، وفي ذلك من التعارض ما فيه .
ومن ذلك أيضا قولهم : ( هو على يدي عدل ) ، فلأول وهلة إذا قرأها قارئ فهم أن من قال ذلك فهو يعدل هذا الراوي ، في حين لو علم أنها كناية عن الهلاك ـ وأصل هذا أن العدل كان ولي شرط تبع ، فكان تبع إذا أراد قتل رجل دفعه إليه ، فمن هنا قال الناس وضع على يدي عدل ، أي هلك ، ثم قيل ذلك لكل شيء قد يئس منه ـ لما فهم منها تعديل قائلها لمن قيلت فيه ، وعليه فلو قال قائلها بعد ذلك في الراوي إنه ضعيف فلا تعارض ، وقبل فهم معناها كان يحكم بالتعارض.
4ـ تغير حال الراوي فقد يعدل الإمام الراوي مرة ، ثم يطرأ جرح فيجرحه ، أو العكس.
5ـ تغير اجتهاد الإمام ، فقد يؤديه اجتهاده إلى تجريح ، ثم إلى تعديل ، أو العكس ، فيخيل لنا التعارض ، وليس في الأمر تعارض.
فعلي أحد هذه الأمور يحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل ، ممن وثق رجلا في وقت ، وجرَّحه في آخر ، ومن هنا يجب حكاية أقوال أئمة الجرح كما هي ، لينظر فيها علها من أحد هذه الأمور . ومن هنا أيضًا تظهر مزية جمع التراجم من أكثر من كتاب ، خاصة الكتب التي نهج مؤلفوها منهج الاستيعاب والاستقصاء.
فإذا لم نجد شيئًا من هذه الأمور ، وبقى التعارض ، فالعمل على آخر القولين إن علم المتأخر ، وإلا فالواجب التوقف.
قال السخاوي ( ج1 ص 288) : أما إذا كانا ـ أي القولين المتعارضين ـ من قائل واحد ، كما يتفق لابن معين وغيره من أئمة النقد، فهذا قد لا يكون تناقضًا، بل نسبيًّا في أحدهما، أو ناشئًا عن تغير اجتهاد، وحينئذ فلا ينضبط بأمر كلي، وإن قال بعض المتأخرين إن الظاهر أن المعمول به المتأخر منهما إن علم وإلا وجب التوقف.
هذا والله أعلم ؛؛