القرآن وفهم اللغة العربية
يقول المختصون من اللغويين وعلماء التفسير، أن القرآن يوصل رسالته إلى القارئ والسامع باستخدام أنماط ووسائل أدبية مختلفة. فعلى سبيل المثال تتم قراءة القرآن باستخدام أنماط صوتية تختلف عن تلك المُستخدمة عند قراءة الشعر أو النثر، الأمر الذي يُساعد على حفظها في ذهن السامع وسهولة تذكره لها، والجدير بالذكر هنا أن هذا يصدق على قراءة القرآن بالعربية، أما قراءة الترجمات في اللغات الأخرى فمثلها مثل قراءة النثر، إذ يجمع العلماء والمسلمون أجمعين على أن أسلوب النص القرآني الأصلي المُنزّل بالعربية لا يمكن مضاهاته بأي لغة ثانية أو حتى بالعربية نفسها.
يقول ريتشارد گوثيل وسيگموند فرانكل من الموسوعة اليهودية، أن أقدم أجزاء القرآن تعكس ما يُمكن وصفه بالإثارة أو الانفعال الواضح في أسلوبها، وذلك عبر جمل قصيرة غير مترابطة وانتقالات مفاجئة من موضوع لآخر، غير أن القرآن يبقى محافظًا على تماسكه وقافيته في كل منها. وأن بعض الأجزاء المتأخرة تُحافظ على هذا النمط، ولكن يظهر فيها أيضًا نمط أكثر سكونًا وأسلوب أكثر إيضاحًا.
ينقل مايكل سلز، أستاذ التاريخ والأدب الإسلامي في كلية الدراسات اللاهوتية في جامعة شيكاغو، عن الفيلسوف نورمان براون، أن التعابير الأدبية "غير المنظمة" في النص القرآني، وأسلوب تركيبه "المبعثر والمجزء"، هو في واقع الأمر وسيلة أدبية تهدف إلى إحداث "آثار عميقة في النفوس، وكأن قوّة الرسالة النبوية كانت تهشّم اللغة الإنسانية التي تخاطب البشر بها". كما ويؤكد سلز أن "التكرار" الكثير في عدّة مواضع من القرآن، هو أيضًا أداة أدبية
[rtl]تعتبر اللغة عقلية الامة التي تنطق بها ، وتشكل ركنا مهما من اركان قيام الحضارة وديمومتها ، ومظهرا اجتماعيا لها ، وعلامته الفارقة التي تبرز من خلالها خصوصية الهوية اللسانية لهذه الامة في قبال سائر الامم والمجتمعات الاخرى ،اضافة الى انها من افضل وايسر الوسائل للتعبير ونقل الافكار لسهولة اكتسابها . [/rtl]
[rtl] ولما كانت اللغة مظهرا اجتماعيا لهذه للمجتمعات الانسانية ، اذن لاشك في خضوعها لقانون النمو والارتقاء ، او الضعف والاختفاء فهي " ككل مظهر اجتماعي خاضعة لقانون النشوء والارتقاء ،فهي تقوى وتضعف ، وهي ترتقي وتنحط ، ثم هي تحيا وتموت "[/rtl]
[rtl]ويسجل التاريخ ظهور العديد من اللغات التي ظهرت بظهور هذه الحضارات واحتلت مساحة جغرافية واسعة امتدت على طول المساحات التي امتدت عليها تلك الحضارات ، فظهرت اللغة الفينقية ( لغة اهل لبنان القدماء ) في الحضارة الفينيقية ، واللغة الاشورية ( لغة اهل نينوى )في حضارة اشور ، وكذا الاكدية في حضارة اكد في وادي الرافدين والمصرية في وادي النيل وغيرها من اللغات التي كانت معروفة خلال تلك المرحلة .[/rtl]
[rtl]الا ان العديد من هذه اللغات قد اختفت عن مسرح التحاور والخطاب اللساني بين المجتمعات نتيجة لغياب الحضارات التي تبنتها لتظهر بدلا عنها العديد من اللغات التي لم تكن معروفة سابقا ، فقد بلغ عدد اللغات في قارة افريقيا فقط ما يقارب 700 – 1000 لغة حتى بات تعدد اللغات الرسمية في البلدان الحديثة سمة بارزة في مجتمعاتها . وفي الهند مثلا تمكن الاحتلال الانكليزي من التاثير في المجتمع الهندي وترك بصماته على لغتها حتى بعد استقلال الهند وخروج بريطانيا منها . حيث اقر الدستور الهندي اللغة الانكليزية ( لغة المحتل ) كلغة رسمية للبلاد حتى عام 1965 – 1966[/rtl]
[rtl]وبالتالي فان العديد من اللغات القديمة التي تحدثنا عنها قد اختفت عن مسرح التخاطب بين المجتمعات .[/rtl]
[rtl]ويقف وراء اختفاء هذه اللغات جملة من الاسباب والعوامل ولعل من ابرزها عامل الصراع العسكري الذي كان يشكل تهديدا حقيقيا ليس للغة فقط وانما لاصل وجود الحضارات ، فقد كان لحملات الغزو التي كانت تتعرض اليها مجتمعات تلك الحضارات ، وانتشار الجيوش الغازية بين اوساط المجتمع الاثر الكبير في عملية الضمور او الاختفاء التدريجي بل والمنظم لهذه اللغات وتهجينها او استبدالها بلغة المحتل ، ولعل هذا ما نشهده في عالمنا المعاصر من قيام بعض التجمعات الدولية تحت عنوان الدول الناطقة بالفرنسية مثلا او غيرها من اللغات ، حيث تكشف لنا مثل هذه التجمعات عن الدور الكبير والمؤثر الذي لعبته عملية الغزو والاحتلال في الغاء او تهجين اللغة الاصلية لاهل البلاد .[/rtl]
[rtl]اللغة العربية[/rtl]
[rtl]عندما نريد ان نتحدث عن اللغة العربية فان الظزرف التي احاطت بها وكانت تهددها لاتختلف كثيرا عن تلك الظروف التي تحدثنا عنها بالنسبة للغات القديمة ، وبالتالي فانها ايضا كانت مهددة بالتبديل والتهجين ، فالبلدان العربية لم تكن بعيدة عن شر الاحتلال والغزو الاجنبي واستهدافه للغتهم ، بل ان ابتلائها يكاد يكون اكبر من غيرها لان العديد منها لم يتخلص من الاحتلال الا في اواخر القرن الماضي . فقدتعاقبت عليها الجيوش الغازية على هذه المنطقة ، وكانت مسرحا للاحتلال من قبل اكثر من دولة (الفارسية والبيزنطية والعثمانية والانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية غيرها ) .[/rtl]
[rtl]وقد مارست هذه خلال فترة احتلالها لهذه الدول العديد من السياسات التي كانت تستهدف من ورائها التاثير في اللسان العربي بالمقدار الذي يفقد فيه اللسان العربي خصوصيته النطقية ، لذلك ظهرت سياسة التتريك التي اتبعتها الدولة العثمانية في المشرق العربي. والفرنسة التي اتبعتها فرنسا في المغرب العربي . وقد كانت هذه السياسة مشفوعة بالعديد من القوانين التي تمنع من استخدام اللغة العربية وتعاقب على من ينطق بها .[/rtl]
[rtl]الا انه وبالرغم من تاثر بعض هذه البلدان وخصوصا في المغرب العربي بلغة المحتل الا ان نسبة كبيرة منها – وخصوصا بلدان المشرق العربي – حافظت على هويتها اللسانية العربية .[/rtl]
[rtl]ان مقاومة اللغة العربية لسياسة التغيير ومحافظتها على مفرداتها من الضياع و فقدان الهوية اللسانية لابنائها لم ياتي من فراغ ، وانما كانت تقف وراءه جملة من العوامل التي ساهمت في ذلك ، وبالتاكيد كان للمؤسسات الدينية ومنها الحوزات العلمية الدور الكبير في المحافظة على هذه اللغة ، ففي الوقت الذي بدأت الجامعات العربية تستبدل اللغة العربية باللغة الانكليزية في العديد من اقسامها ، وخصوصا العلمية منها ، الا ان هذه المؤسسات لاتزال تتمسك باللغة العربية كلغة تعليمية في اوساطها التعليمية .[/rtl]
[rtl]الا ان العامل والمهم والرئيسي الذي يقف وراء وقوف اللغة العربية امام رياح التغيير والتبدل بالرغم من تلك المحاولات والسياسات التي انتهجتها تلك الدول هو القران الكريم ، هذا القران الذي اختار له الله سبحانه وتعالى اللغة العربية لتكون هي (اللغة) التي يخاطب بها الباري سبحانه وتعالى عباده ، قال تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، بل ان القران الكريم قد اضاف الى هذه اللغة العديد من المفردات التي ساهمت في اثراءها وخصوبتها .[/rtl]
[rtl]وللقران الكريم منهجيته الخاصة في المحافظة على اللغة العربية ، هذه المنهجية التي تقوم على اكثر من طريقة منها :[/rtl]
1- نزوله باللغة العربية .
2- الدعوة الى الارتباط بالقران الكريم عن طريق القراءة قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
3- التاثير في المجتمعات غير الناطقة بالعربية لان التمدد الاسلامي وصل الى البلدان غير العربية وبالتالي فان عملية الاطلاع على الاسلام وتشريعاته تقتضي من المسلم غير العربي ان يقرأ القران باللفظ العربي .
[rtl]اذن ديمومة اللغة العربية بصورة اساسية مرتبط بوجود القران الكريم ، ودعوة هذا القران الى تلاوته وعدم هجرانه ، مما يكشف لنا ان سر ضياع اللغات في العديد من دول العام القديم هو فقدانها لمثل هذا الكتاب العزيز الذي يحفظ لها هويتها وخصوصيتها اللسانية .[/rtl]
[rtl]ان كتابا كالقران الكريم يقوم بهذه المهمة والوظيفة الكبيرة والعظيمة ، اضافة الى المهمات الاخرى التي يقوم بها ، والتي من خلالها يقوم بتغذية اتباعه بما يجعلهم يحفظون خصوصيتهم الانتمائية للدين الاسلامي . جدير باتباعه ان يقفوا عنده الوقفة تلو الاخرى لاستنطاقه واستنباط ما يمكن ان يستنبط منه من القوانين و التشريعات التي تنتهي الى المحافظة على مجموع الانسان ومجتمعه دون الاقتصار على لغته ونطقه فقط .[/rtl]
[rtl]فالقران الكريم منظومة السماء الفكرية التي تشتمل على كل ما يحتاج اليه اهل الارض في حياتهم الدنيوية . بل انها تمكنهم من استشراف المستقبل اذا ما هم احسنوا القراءة والاستماع والتدبر لهذا الكتاب العزيز .قال تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وقال تعالى (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )[/rtl]
[rtl]والحمد لله رب العالمين[/rtl]
[rtl]يأتي في قمة الكلام الفصيح البليغ: القرآن الكريم، الذي أنزله الله بلسان عربي مبين، وبلغ من الفصاحة والبلاغة ما يعجز عن الإتيان بمثله البلغاء، وتقصر عنه همة الفصحاء، وقد قال الله : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]. ( 1 )
وقد قرر أهل العلم أهمية حفظ القرآن الكريم وتلاوته في اكتساب الملكة اللسانية، وتنمية مهاراتها، وممن ذكر ذلك ضياء الدين ابن الأثير، والطوفي، وشهاب الدين الحلبي، وابن الأثير الحلبي، والقلقشندي( ).
ويذكر ابن خلدون شواهد على ذلك، فيقول بعد أن قرر أن حصول الملكة اللسانية بكثرة المحفوظ، وجودته بجودته: (ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرًا من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة.
والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقًا من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفًا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة.
وفى المؤتمر السنوى لأعضاء مجممع ( 2 ) اللغة العربية بالقاهرة فى دورته السادسة والسعين يقول الاستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان ـ العالم الروماني عضو المجمع المراسل من رومانيا ـ حول دور وسائل الإعلام في تحديث اللغة العربية وفي تفصيح العامية مؤكدا أن الباحثين من غير العرب أدركوا جيدا أن اللهجات العامية لا تختلف هيكليا عن الفصحي، وأن ميزاتها وخواصها لا تجعل من المستحيل التفاهم بين متكلمي مختلف اللهجات، وخاصة في عصرنا الحاضر بسبب اقتراب اللهجات اقترابا ملحوظا من الفصحي بفضل ارتفاع مستوي التعليم وانتشار وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية والمرئية.
وأشار إلي أن الباحثين العرب والأجانب لفتوا النظر إلي الاستقرارية النادرة للغة العربية الفصحي وقدرتها المتميزة علي التطوير الدائم تجاوبا مع المتطلبات المتزايدة واستجابة لها، وكذلك أكدوا دور القرآن الكريم والدين الإسلامي عموما في حفظ سلامة اللغة .
وأوضح المستعرب الروماني الدكتور نيقولا دوبريشان أن وجود لغة مكتوبة واحدة في جميع البلدان العربية أمر في غاية الأهمية المعنوية والعلمية الجبارة بالنسبة للشعوب العربية لأنها رمز وحدة العرب الثقافية القديمة وتضامنهم الراهن، وأنها الدعامة الأساسية لكل أمة وبفضلها صار العرب مجموعة سياسية وثقافية علي الصعيد الدولي.
وأضاف أن وسائل الإعلام ساهمت إسهاما جوهريا في تبسيط اللغة الكلاسيكية من جهة وفي التقارب بين مستويي اللغة العربية وإيجاد لغة عربية وسطي يفهمها جميع القراء والمستمعين والمشاهدين، وقد ابتكر الصحفيون نوعا جديدا من الفصحي يقع بين العربية المعيارية واللهجات العامية الشائعة في مختلف البلدان تمتاز ببلاغة وفصاحة العربية المعيارية وسهولة وسلامة اللهجات العامية، ولاشك أن وسائل الإعلام المكتوبة والسمعية والمرئية تؤثر تأثيرا بالغا علي استخدام اللغة الفصحي التي تمتلك مكانة مرموقة بارزة ولا يمكن للهجات العامية ان تحل محلها في أي حال من الأحوال، وأن الفصحي المحدثة المبسطة التي تستعملها وسائل الإعلام تسعي لفرض نفسها بمثابة لغة التخاطب في مستقيل ليس ببعيد، وأن وسائل الإعلام أدت دورا مهما في فرض لغة عربية فصحي وسطي مخففة مبسطة، وأصبح الآن من واجب وسائل الإعلام أن تسهم في تفصيح العاميات ورفع اللغة العربية المعاصرة إلي مستوي لغة الصحافة تمهيدا لتعميم اللغة الفصحي والتي ينبغي أن تظل لغة العرب الوحيدة الموحدة.
من جانبه تحدث العالم العراقي الدكتور علي القاسمي ـ عضو مجمع اللغة العربية المراسل من العراق ـ حول السياسة اللغوية في البلدان العربية .. الإعلام نموذجا، مؤكدا أن المقصود بالسياسة اللغوية أي التخطيط اللغوي أو التدبير اللغوي، وصيانة اللغة وتنميتها، وأن السياسة اللغوية نشاط تضطلع به الدولة وتنتج عنه خطة تصادق عليها مجالسها التشريعية ويتم بموجبها ترتيب المشهد اللساني في البلاد واختيار اللغة الرسمية، والتخطيط اللغوي يمر بمراحل عديدة أهمها مسح الاحتياجات واختيار لغة مشتركة وتنميتها وتيسير تعلمها ونشرها وتشجيع استعمالها من قبل جميع المواطنين في الدولة.
وأضاف الدكتور القاسمي أن التعليم والإعلام في طليعة وسائل نشر اللغة، وكلما ازداد سماع الطفل اللغة الفصيحة في قاعة الدرس أو أمام شاشات التليفزيون ازداد اكتسابه لها وتحسن أداؤه بها.
وأوضح أن الإعلام العربي ينسجم مع الشكل الذي يستخدمه، وكلما كان شكله يؤدي إلي الإضرار بلغة المستهلك وتدنيها، فإن مضمونه يؤدي إلي تجهيل المستمع والمشاهد وحرمانهما من أي ثقافة حقيقية، ويعتبر الدين الإسلامي الملاذ الأخير للغة العربية الفصحي كلما تعرضت لاضطهاد مشين أو إهمال مسيء.
وشدد علي أن المشهد اللغوي في وسائل الإعلام في البلدان العربية يهمش اللغة العربية الفصيحة المشتركة، وأن الإعلام العربي الرسمي لا يلتزم باللغة الرسمية ولا يقوم بوظيفته في تعزيز اللغة الفصيحة ،مطالبا الإعلام العربي أن يضطلع بوظائفه ويكون مؤثرا ومشاركا في عملية التنمية البشرية، ويرتقي بالمادة المقدمة شكلا ومضمونا لترقية المتلقي واستخدام لغة فصيحة، سليمة ميسرة، والأمانة المهنية من حيث الالتزام بحرية المعلومة وقيمة المادة الثقافية المقدمة تعزيزا لثوابت الأمة.
اللغة العربية هي أقدم اللغات على الإطلاق، كما بينت الدراسات الحديثة وأنها اللغة التي علّم الله بها آدم الأسماء كلها، وهي لغة أهل الجنة كما ورد في الحديث: "أَحِبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي" (2).
ومن هذا المنطلق نجد الثعالبي يعبر عن هذه اللغة أبلغ تعبير فيقول في مقدمة كتابه الشهير فقه اللغة وسرّ العربية: "من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمداً (، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمداً ( خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره" (3).[/rtl]
ومن هنا اكتسبت اللغة العربية القداسة النورانية والخلود السرمدي، قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( [الحجر: 9] فبحفظ الله تعالى كتابه يحفظ اللغة العربية، فهي باقية ببقائه إلى يوم الدين، ويمكننا ذكر أهم ما أحدثه القرآن الكريم في اللغة العربية من آثار فيما يلي:
1-المحافظة على اللغة العربية من الضياع:
ذكرت فيما سبق أن السر الكامن وراء خلود اللغة والحفاظ عليها من الاندثار هو القرآن الكريم بما كان له من أثر بالغ في حياة الأمة العربية، وتحويلها من أمة تائهة إلى أمة عزيزة قوية بتمسكها بهذا الكتاب الذي صقل نفوسهم، وهذب طباعهم، وطهر عقولهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية، وألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة واحدة توحدت فيها غاياتهم، وبذلوا من أجلها مهجهم وأرواحهم، ورفع من بينهم الظلم والاستعباد، ونزع من صدورهم الإحن والضغائن والأحقاد، فقد كان القرآن الكريم ولا يزال كالطود الشامخ يتحدى كل المؤثرات والمؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة القرآن، يدافع عنها، ويذود عن حياضها، يقرع أسماعهم صباح مساء، وليل نهار بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين( [البقرة: 23 –24]، وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً( [الإسراء: 88] فلما كان القرآن الكريم بهذه المنزلة لا جرم أن المسلمين أقبلوا عليه ودافعوا عنه، واعتبروا أن كل عدوان على القرآن هو عدوان على اللغة العربية، وأن النيل من اللغة العربية هو نيل من القرآن، ولذلك فإن بقاء اللغة العربية إلى اليوم وإلى ما شاء الله راجع إلى الدفاع عن القرآن، لأن الدفاع عنه –لكونه أصل الدين ومستقى العقيدة- يستتبع الدفاع عنها لأنها السبيل إلى فهمه، بل لأنها السبيل إلى الإيمان بأن الإسلام دين الله، وأن القرآن من عند الله لا من وضع أحد.
يقول الباقوري: "ولو فرضت أنه نزل كما نزل غيره من الكتب المقدسة، حكماً وأحكاماً، وأمراً ونهياً، ووعداً ووعيداً، ولم يتحر هذا الأسلوب الذي جاء به، فلم يعن الناس بلفظه ولم ينظروا إليه قولاً فصلاً، وبياناً شافياً، وبلاغة معجزة، لكان من الممكن أن تزول هذه اللغة بعد أن يضعف العنصر الذي يتعصب لها على أنها لغة قومية، ومن ذلك تضعف هي وتتراجع حتى تعود لغة أثرية.
وفي اللغة العبرية ما يؤكد هذا، فإنها –وهي لغة كتاب مقدس –صارت إلى ذمة التاريخ، ولو أن التوراة جاءت كما جاء القرآن فتحدت اليهود على النحو القرآني لاحتفظوا بلغتهم لأن في ذلك احتفاظاً بمعجزة نبيهم، فكان ممكناً أن نرى لغة موسى عليه السلام" (4).
ويبدو هذا الأمر واضحاً لمن تتبع اللغات وما تعرضت له من انقسام وانشطار واندثار بعد أن كانت لغة عالمية محكية وصناعية، وليست اللغة اللاتينية عنا ببعيدة فقد كانت لغة وحضارة وسطوة وقوة فبقيت أثراً بعد عين.
وعلى العكس من ذلك فإن اللغة العربية لم تكن لها هذه القوة وهذه المنعة، وليست لغة حضارة وصناعة، إنما كانت لغة صحراء وأمية، بكل ما تفرضه بيئة الصحراء من بساطة وضيق عيش، وبعد عن العلوم والمعارف، ثم إن العرب قد تعرضوا للحروب والدمار كغيرهم، ولكن ما زالت لغتهم قوية ساطعة تنبض بالحيوية والنشاط، وما ذلك إلا بفضل القرآن الكريم، الذي تكفل الله بحفظه، فحفظ به اللغة التي نزلت به، ولم يتكفل بحفظ غيره من الكتب المقدسة فبادت اللغة التي نزلت فيها واندثرت.
2-تقوية اللغة والرقي بها نحو الكمال:
منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال، وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله: "نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود لأنها هي لغتهم التي يعرفونها ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم" (5).
هذا ما عبر به إمام العربية الرافعي رحمه الله، وليس هو فحسب، بل اعترف أعداء العربية من المستشرقين وغيرهم بقوة اللغة العربية وحيويتها وسرعة انتشارها، فيقول "أرنست رينان": "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى..." (6).
ويقول جورج سارنوت: "ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهبها الرسول (() مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد" (7).
ويقول بروكلمان: "بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن اللغة العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت اللغة العربية منذ زمان طويل رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى التي تنطلق بها شعوب إسلامية" (.
ومما لا شك فيه أن اعتراف أمثال هؤلاء، لا يقوي من وضع اللغة العربية أو يأخذ بيدها إلى الرفعة، وإنما ذكرنا أقوالهم لنبين أن الفضل ما شهدت به الأعداء.
ويأتي العلاّمة الفراهي الهندي (9) -إمام العربية في عصره –ليقول عن اللغة العربية: "أعلم أن كلام العرب كله نمط أعلى من كلام الأمم الذي تعودت به، لأنهم مولعون برزانة القول وتهذيبه من أمور سخيفة، فهم يجردون كلامهم من كل رابطة، ولو فعلوا ذلك كان عاراً على السامع، فإنه يفهم الروابط بذكائه، فلذلك كثر فيهم الحذف..." (10).
3-توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة:
من المعلوم أن لجهات اللغة العربية كانت مختلفة، تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، وكانت القبائل العربية معتدة بلهجتها حتى إن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف من أجل التخفيف على العرب في قراءته وتلاوته، ولا شكّ أن لغات العرب متفاوتة في الفصاحة والبلاغة، ولذلك نجد عثمان رضي الله عنه قد راعى هذا الجانب في جمعه للقرآن، وقال للجنة الرباعية: "إذا اختلفتم أنتم فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلغتهم" وما ذلك إلا لأن لغة قريش أسهل اللغات وأعذبها وأوضحها وأبينها، وكانت تحتوي على أكثر لغات العرب، ونظراً لكونهم مركز البلاد وإليهم يأوي العباد من أجل الحج أو التجارة، فقد كانوا على علم بمعظم لغات العرب بسبب الاحتكاك والتعامل مع الآخرين، ولكن لغتهم أسهل اللغات كما ذكرت، ينقل السيوطي عن الواسطي قوله: ".... لأن كلام قريش سهل واضح، وكلام العرب وحشي غريب" ولذلك حاول العرب الاقتراب منها، وودوا لو أن ألسنتهم انطبعت عليها حين رأوا هذا القرآن يزيدها حسناً، ويفيض عليها عذوبة، فأقبلوا على القرآن الكريم يستمعون إليه، فقالوا على الرغم من أنفهم: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" (11)، ولم يزل المسلمون يقبلون عليه ويتلونه حق تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، حتى صاروا بفضل القرآن خير أمة أخرجت للناس، ينطقون لغة واحدة عربهم وعجمهم، وكان بذلك جامعاً للعرب والمسلمين على لغة قريش وما يقاربها، وليس بينهم هذا التفاوت والاختلاف في اللهجات كما كان قبل نزول القرآن، وبذلك دخلوا في مرحلة تاريخية فريدة هي توحد لغتهم وألسنتهم فيما بين بعضهم البعض بل وعلى مر العصور وكر الدهور.
4-تحويل اللغة العربية إلى لغة عالمية:
من المعروف أن اللغة هي صورة صادقة لحياة الناطقين بها، والعرب قبل نزول القرآن الكريم، لم يكن لهم شأن ويذكر أو موقع بين الأمم آنذاك حتى تقبل الأمم على تعلم لغتهم، والتعاون معهم فليست لغتهم لغة علم ومعرفة، وكذلك ليس لديهم حضارة أو صناعة، كل ذلك جعل اللغة تقبع في جزيرتها فلا تبرح إلا لتعود إليها.
وقد ظلوا كذلك، حتى جاء القرآن الكريم، يحمل أسمى ما تعرف البشرية من مبادئ وتعاليم، فدعا العرب إلى دعوة الآخرين إلى دينهم، ومما لا شك فيه أن أول ما يجب على من يدخل في الإسلام هو تعلم اللغة العربية لإقامة دينه، وصحة عبادته، فأقبل الناس أفواجاً على تعلم اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولولا القرآن الكريم لم يكن للغة العربية هذا الانتشار وهذه الشهرة.
يقول أ. د. نور الدين عتر: "وقد اتسع انتشار اللغة العربية جداً حتى تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل البخاري ومسلم، والنسائي، وابن ماجه القزويني، وغيرهم وغيرهم" (12).
أقول: بل حسبنا ما نراه ونسمعه في مسابقات حفظ القرآن الكريم وتلاوته من أن الفائزين بالدرجات العليا هم من أبناء الجنسيات غير العربية (13).
وخلاصة القول كما يقول الباقوري: "أن اللغة العربية ما كانت تطمع في أن يتعدى سلطانها جزيرتها، فتضرب الذلة على لغات نمت في أحضان الحضارة وترعرعت بين سمع المدينة وبصرها، وتستأثر دونها بالمكان الأسمى في ممالك ما كان العربي يحلم بها، فضلاً عن أن يكون السيد المتصرف فيها، ولكن القرآن الكريم انتزعها من أحضان الصحراء، وأتاح لها ملكاً فسيح الأرجاء، تأخذ منه لألفاظها ومعانيها، وأغراضها وأسلوبها، ما لم تمكنها منه حياته البدوية، فبعد أن كانت ثروتها في حدود بيئتها، أصبحت غنية في كل فنون الحياة فأقبل الناس عليها مدفوعين إلى معرفة أحكام الدين، وأداء واجبات الإسلام" (14).
5-تحويل اللغة العربية إلى لغة تعليمية ذات قواعد منضبطة:
من الثابت المعروف أن العرب قبل نزول القرآن كانوا يجرون في كلامهم وأشعارهم وخطبهم على السليقة، فليس للغتهم تلك القواعد المعروفة الآن، وذلك لعدم الحاجة إليها، ولا أدل على ذلك من أن التاريخ يحدثنا عن كثير من العلماء الذين صرحوا أن لغتهم استقامت لمّا ذُهب بهم إلى الصحراء لتعلم اللغة العربية النقية التي لم تشبها شائبة، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، وأن الوليد بن عبد الملك كان كثير اللحن، لأنه لم يغترف لغته من الينبوع العربي الصحراوي الصافي.
ولما اتسعت الفتوح، وانتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، احتك العجم بالعرب فأفسدوا عليهم لغتهم، مما اضطر حذيفة بن اليمان الذي كان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، أن يرجع إلى المدينة المنورة ويقول لعثمان رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى...."(15) فأمر عثمان( يجمع القرآن، وكان قصده أن يجمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي ( وإلغاء ما ليس بقرآن خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد(16)، وهذا ما حصل، فقد ضعفت اللغة مع مرور الأيام وفشا اللحن في قراءة القرآن، الأمر الذي أفزع أبا الأسود الدؤلي وجعله يستجيب
لوضع قواعد النحو، التي هي أساس ضبط حركات الحروف والكلمات، ومن ثم العمل على ضبط المصاحف بالشكل حفاظاً على قراءة القرآن من اللحن والخطأ.
وليس هذا فحسب، بل يرجع الفضل للقرآن الكريم في أنه حفظ للعرب رسم كلماتهم، وكيفية إملائهم، على حين أن اللغات الأخرى قد اختلف إملاء كلامها، وعدد حروفها.
يقول د. عتر: "والسر في ذلك أن رسم القرآن جعل أصلاً للكتابة العربية، ثم تطورت قواعد إملاء العربية بما يتناسب مع مزيد الضبط وتقريب رسم الكلمة من نطقها، فكان للقرآن الكريم الفضل في حفظ رسم الكلمة عن الانفصام عن رسم القدماء" (17). ... يتبع