البريكست: مأساة شيكسبيرية من الزمن الراهن
من الأسباب التي قد تساعد على فهم التخبط الذي أدى برئيس الوزراء البريطاني إلى التعرض لثلاث انتكاسات متتالية، شكلت له سدا منيعا لحد الآن – وفي المقبل من الأيام بلا شك- أمام تعهده قيادة البلاد للخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق، من الأسباب المساعدة على تفسير هذا التخبط، أهم الدعائم التي قام عليها استفتاء 2016، وحينما نتكلم عن «دعائم»، لا نفي المصطلح كامل حقه، في إفادة المعنى، فالـ»دعائم» تستدعي صرحا متينا وبنيانا متماسكا، وهما صرح وبنيان، لم أجدهما، لا أنا ولا الكثير من البريطانيين، حسبما أعتقد، في الفترة التي أعقبت استفتاء 2016، ثم رحيل ديفيد كاميرون، فتولي تريزا ماي مقاليد رئاسة الوزراء.
علينا طبعا أن نطرح سؤالا: هل سيكون بوريس جونسون رئيس وزراء الـ»هارد بريكست»، أي رئيس وزراء الخروج بدون اتفاق؟ يكاد أن يكون السؤال بلاغيا، لأن أحداث شؤون الساعة تطرحه، أكثر مما تطرحه القناعة، فإذا كان هناك واقع واضح ملموس، نستطيع أن نستخلصه من هذا المشهد الضبابي، الشبيه بواقع لندن المناخي في بواكير الصباح، سيكون قدرة مجلس اللوردات الهائلة على التحكم في الأجندة السياسية عند الحاجة، ما يعكس مهارة في ضبط «صمام أمان» تبحث عنه الكثير من برلمانات العالم، منها الأكثر تقدما، ولا تجده.
البريكست، شارع التناقضات، فالعملية حمالة تناقضات، مثلما نقول عن حدث ما إنه حمال أوجه. على رأس هذه التناقضات، غياب تعريف أولي مشترك للبريكست كان، لو اعتمد وقت طرح الاستفتاء، سيغير مجرى الأمور بلا شك. فالخروج الذي جاء مطروحا في سؤال الاستفتاء، لم يأت مصحوبا بأقل ضمانات تعويضية عن احتمالات عالية، حال تحقق خروج من دون اتفاق، من انقطاع المجرى الطبيعي للتبادلات الاقتصادية، وما يرافقه من امتيازات تحكم عملية الاستيراد والتصدير في ظروف ملائمة تريح المواطن، الذي لم يتلق هو الآخر أي ضمانات عن استمرارية سوق الشغل، على وتيرة استقرار مريحة، ناهيك عن تطمينات ولو جزئية عن مضاعفة نسب النمو، وقدرة تنافسية رددتها الشعارات مجانا على أمل أن «يلوكها» المواطن.
غياب تعريف أولي مشترك للبريكست كان، لو اعتمد وقت طرح الاستفتاء، سيغير مجرى الأمور بلا شك
لكن المواطن، والمؤسسة البرلمانية التي تمثل صوت الشعب (وقد أظهرت التجربة كيف يمكن أن يكون صوت الشعب في بريطانيا مدويا) لم «يلوكا» شعار «الغد الأفضل» وأنغامه طويلا. من هنا، انطلق فحص دقيق في المقصود بمفهوم «الخروج» ليجتاح كلا من الشارع والطبقة السياسية البريطانيين فتبودلت النظرات ثم عبارات الاستياء واليقظة معا، فطرحت إشكالية الموازنة بين الخروج باتفاق وعدمه. في السياق ذاته، جاءت تريزا ماي وفرضت نفسها كمنظرة رئيسية لخيار «الخروج باتفاق». نعلم كيف تحركت ماي ضمن خلفية سياسية ساعدتها على تبني موقف يرقى إلى مستوى عال من ممارسة الفنون الدبلوماسية، تحت عنوان «إمساك العصا من المنتصف»، فقد شملت قناعة ماي الراسخة الثابتة بعبثية قطع كل صلة بريطانية بالاتحاد، كامل المسلسل التفاوضي الذي قادته. فلم يغير تحولها التدريجي من معارضة البريكست إلى دعمه، نهجها القائم على مقاربة لم تستبعد الأهم أبدا، أي وزن بريطانيا الاقتصادي.
على وقع هذا التناقض، تناقض الإجابة بـ»نعم» في استفتاء على بريكست، لم يكشف عن خباياه بما يضمن وعيا جماعيا يقظا، تأسس مجمل السيناريوهات المقبلة. سيناريوهات تتوزع بين تواريخ محورية، يأتي الـ31 من أكتوبر على رأسها طبعا، بوصفه تاريخا تسعى من خلاله الحكومة البريطانية إلى تكريس المغادرة، لكن ثمة تاريخا آخر لا يقل أهمية، بل يتوقع أن يكتسب أهمية متزايدة في المقبل من الأيام، هو الذي يسبق هذا التاريخ بأسبوعين، تاريخ الـ17من أكتوبر الذي يتوقع فيه أن يطالب البرلمان البريطاني تأجيلا رسميا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى 31 آخر..الـ31 من يناير.. حتى يتم له مسلسل تفاوضي يفضي إلى خروج باتفاق، المسلسل ذاته الذي بدأته ماي واستثمرت فيه كل طاقاتها، إلى أن أعاده جونسون إلى المربع الأول.
أجندة جديدة يرجح لها إذن بعثرة أجندة قائمة تبدو آيلة إلى الانهيار بمرور الأيام،
ومأساة شكسبيرية مستمرة شعارها: «خروج باتفاق أم بدون اتفاق؟ هذا هو السؤال».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي