البوسنة والهرسك وجه الإسلام المشرق في قلب أوربا
من قمة شاهقة تمكنا من أن نرى مشهداً بانورامياً للمدينة البهية: بيوتاً أوربية الطابع بيضاء مغطاة بالقرميد، وأشجاراً كثيفة تغطي تلال الجبال المحيطة بالمدينة كسور كبير، تمزج أحمر القرميد بأخضرها البهي، ونهرا يشق المدينة؛ يمنح المدينة ألقاً خاصا، ويسبغ على قسماتها جمالا آسرا، يهبه لفتيات المدينة الفاتنات. وقبل أن نهبط من القلعة، قريبا من البوابة التاريخية القديمة لسراييفو؛ لنبدأ رحلتنا، أصخت السمع قليلا، لأصغي لنداء لاح لي أنه صوت المدينة يهمس «بمجرد أن لمحتك أيها الشاب شعرت بحاجة إلى أن أحكي لك شيئا لم أحكه لأحد أبدا». فبماذا باحت سراييفو؟!
في الطريق من المطار الصغير، إلى قلب المدينة في حي باتشارشيا العتيق، حيث اخترنا أحد الفنادق للإقامة، كنت أتأمل المدينة البسيطة الجميلة، التي تبدو كأنها مساحة شاسعة بين تلال، تتناثر البيوت الأوربية الطابع على محيط الجبال، بينما تستقر البنايات الحديثة العالية في الطريق الأقرب إلى المطار، وعلى جانبي الطريق الواسع، الذي يفصل بين نهريه مسار المترو، اصطفت بنايات حديثة ومحال تجارية وعمارات سكنية من العصر الاشتراكي الذي ميز يوغسلافيا قبل التفكك، وكلما توغلنا قدما بات طابع البيوت أقرب إلى الطابع الأوربي التقليدي العتيق.
مزيج أوربي، عصري وشرقي، فريد من نوعه. المساجد العثمانية الطرز تتجاور مع الكنائس والكاتدرائيات، في مدينة تعرف بأنها مدينة السلام أو مدينة «القدس الأوربية» كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، بوصفها المدينة الأوربية التي تضرب مثالا رائعا في تعايش الأغلبية المسلمة من أهل البوسنة مع صرب البوسنة الأرثوذكس، والكاثوليك من كروات البوسنة معا، وفي تقديم نموذج أوربي إسلامي بديع في التسامح والتعايش. ولا عجب، فقد كان تاريخ البوسنة منذ الأزل متسامحا على هذا النحو، بل إنهم قدموا نموذجا نادرا في الحرب حين كانت قذائف الصرب توجه للبيوت والمساجد والمباني بلا تفريق، بينما لا يرد البوسنيون برصاصة واحدة، إلى كنيسة أو كاتدرائية، وهو ما سمعته من كثرٍ هنا بينهم سفير البوسنة في الكويت ياسين رواشدة الذي التقيته في الكويت، وأدهم باشيتش، مساعد وزير الخارجية البوسني، والسفير الأسبق لجمهورية البوسنة والهرسك في دولة الكويت، وجافريلو جروهافاش نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والرياضة والسيد أحمد خطاب السفير المصري في البوسنة الآن، ود.عصمت بوتشاليتش، عميد كلية الدراسات الإسلامية، وغيرهم.
وداعاً للحرب
انتهت آثار الدمار التي كانت شاهدة على واحدة من أكبر مجازر التطهير العرقي التي شهدها القرن الماضي، وما بقي منها أكثره ذكريات مريرة، وشواهد قبور الشهداء، الذين راحوا ضحية حرب عرقية باهظة، في أماكن عديدة وبينها منطقة «كوفاتشي»، يتوسطها ضريح الزعيم الراحل علي عزت بيجوفيتش.
تحلت العاصمة سراييفو بحلة جديدة، لا تخلو من وجوه حداثية عدة، تؤكد أنها تسعى حثيثا للحاق بركب الدول كاملة العضوية في الاتحاد الأوربي، حتى لو عرقلت تلك الأحلام بعض المصاعب الاقتصادية والسياسية، التي سنلقي عليها الضوء تباعا في ثنايا هذا الاستطلاع، لكن ما يدعو إلى التفاؤل، في ملامح الناس، وحديث الشباب، ورجال السياسة والدين، والكتّاب، والمستثمرين، وعارضات الأزياء ممن التقينا، وغيرهم، أكثر بكثير من نبرات التشاؤم.
في قلب المدينة الذي يتضمن منطقة السوق العتيق الممتلئ بحوانيت خشبية أنيقة، تتجاور على ضفتي الدروب والأزقة المبلطة بالحجارة، تتكدس بها ألوان من أعمال يدوية من الخشب والنحاس، صوان، أواني القهوة البوسنية التقليدية المكونة من الكنكات، والفناجين وقواعدها النحاسية المزركشة، أباريق، لوحات خشبية، وأخرى معدنية، وأوان خزفية بديعة مرسوم عليها بعض أهم معالم سراييفو الأثرية، صناديق خشبية صغيرة مزخرفة برسوم ملونة، شالات نسائية، وغيرها، بينما تتناثر بين تلك الحوانيت مطاعم تركية، ومقاه، وملاه ليلية.
هذا الجانب من المدينة هو الجانب الذي يمتلئ بالشباب. شباب من الجامعيين، بصحبة فتيات جميلات رشيقات، شقراوات أو صهباوات، أو ذوات شعور سوداء كالحة تعبر عن الجمال الذي تعرف به منطقة البلقان إجمالا، أو فتيات يتمشين، في الطريق إلى مطعم أو مقهى، أو إلى حفل راقص، أو حفل موسيقي لعازفين وموسيقيين من شباب البوسنة، أو من رموز الطرب المشهورين من عهد يوغسلافيا، أو يعبرن الممشى الطويل الممتد تقاطعه مع شارع تيتو التجاري.
أما الكهول، وكبار السن من المتقاعدين، فسوف تجدهم متجمعين صباحا في ساحة مبلطة ببلاطات مصقولة على مقربة من باتشارشيا وبجوار الكنيسة الأرثوذكسية، يتحلقون حول مساحة كبيرة من الأرض، تمثل رقعة شطرنج كبيرة، تنتثر عليها قطع شطرنج ضخمة، يحركها لاعبان متحمسان بحملها على البلاطات الكبيرة على أرض الباحة، بينما يقف المتفرجون يفكرون عميقا في اللعبات المحتملة، وبعضهم يستسلم جالسا لأشعة الشمس الدافئة حتى يغفو.
نبض الحياة
ثمة نوع من الألفة التي تلفك بها سراييفو على الفور، فتنفض عنك إحساسك بالغربة سريعا، وهو ما ترسخه عناصر أخرى بينها رؤية المساجد، وأبراج الساعة التي تحدد مواقيت الصلاة، والأبنية التركية التي تشبه الآثار العثمانية في مصر والشام، مثل التكايا والسبيل، والمدارس القديمة، والاستماع إلى صوت الآذان، بلغة عربية سليمة، وبأصوات جميلة خلابة، تجاورها الكاتدرائيات والكنائس في مساحات متجاورة.
في قرارة نفسي كان لدي يقين بأن التاريخ موجود في كتب التاريخ، لكني كنت أرغب في التعرف على الراهن، أن أرى المدينة اليوم بكل ما يمثل واقعها المعاصر الآن وهنا. أن استمع إلى نبضها المعاصر. وهكذا كنت مشغولا بالتفكير في كيفية إيجاد الفرصة للاقتراب من الشباب والفن في هذه المدينة، بين ازدحام الجدول المعد لنا للمقابلات الرسمية، وزيارات المدن الأخرى خارج سراييفو.
أبدأ من الفن، مشيرا إلى أن مهرجان «شتاء سراييفو» الذي يقام في شهر فبراير من كل عام والذي تأسس منذ أولمبياد 1984 التي أقيمت في البوسنة، والذي يرأسه ويدير فعالياته الشاعر والكاتب إبراهيم سباهيتش، بقدر ما يمثل مناسبة سنوية لحضور العديد من الفنانين من أرجاء أوربا والعالم في فنون الموسيقى والمسرح والغناء والرقص والفن التشكيلي والأفلام التسجيلية وعروض الفيديو آرت وغيرها، ليقدموا فنونهم لجمهور البلقان، فإن المهرجان نفسه عادة ما يكون مناسبة مهمة لكي يعرض الفن البوسني نفسه للعالم عبر عروض موسيقية لفنانين أمثال دامر إماموفيتش، الذي يعد أحد الأسماء المهمة في الفن الموسيقي في البوسنة في الوقت الراهن، وفي البلقان بطبيعة الحال.
كما أن البوسنة عرفت في السنوات الأخيرة نهضة سينمائية عبر مجموعة من المخرجين الشباب مثل ياسميلا جبانيتش، والأخوين نهاد وسعيد كريشيفيلياكوفيتش، اللذين قدما عددا من الأفلام التسجيلية، والروائية، وبعضها من تأليف نهاد وإخراجه أيضا. بالإضافة إلى سييلا كامريتش ودانيس تانوفيتش الذي حصل على جائزة الأوسكار عن فيلم No Man s Land في العام 2002، وإدمير كينوفيتش وبيير جاليشا وغيرهم. كان لافتا تتويج جهود شباب صناع السينما في البوسنة بحصول فيلم «جرابافيتسا» للمخرجة ياسميلا جبانيتش على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي قبل ثلاثة أعوام (العام 2006)، والذي قامت ببطولته الممثلة الصربية ميليانا كرابوفيتش، وأدت شخصية سيدة من البوسنة تتعرض للاغتصاب من رجل صربي خلال الحرب، وتنجب طفلة تنشئها دون أن تخبرها عن هوية أبيها الحقيقية، وتعيش في صراع مستمر بين كرهها للرجل ومحبتها لابنتها.
في مجال الموسيقى يعد دامر إماموفيتش أحد رموز الجيل الجديد من الموسيقيين، الذي يحاول مزج بعض الفنون الموسيقية الجديدة مثل الجاز مع الموسيقى التقليدية في البوسنة والمعروفة باسم Sevadah، وكان والده زعيم إماموفيتش، أحد رموز هذا اللون الموسيقي التقليدي البوسني في أرجاء يوغسلافيا. كون دامر فريقا موسيقيا من اثنين من العازفين بالإضافة إليه حيث يغني ويعزف على الجيتار، ويحظى هو وفريقه بشعبية كبيرة في سراييفو وفي البلقان، ويقوم بجولات فنية في بلجراد والعديد من العواصم الأوربية. وهناك العديد من الفنانين الموسيقيين البوسنيين من أمثال جرافكو كوليتش، وخالد باشليتش الذي يعد نجما كبيرا هنا، وغيرهم كثير من الفنانين.
بالإضافة إلى «شتاء سراييفو» سنجد مهرجان سراييفو السينمائي الذي يعقد في اغسطس من كل عام، والذي بدأ لأول مرة عام 1995 على يد السينمائي والأكاديمي ميرساد بوريفاترا، والمهرجان الآن يعد واحدا من أهم مهرجانات السينما في منطقة جنوب شرق أوربا (التسمية الشائعة الآن للبلقان في إطار الاستعداد للدخول في عضوية الاتحاد الأوربي)، وفي شهر نوفمبر يعقد مهرجان موسيقى الجاز الذي يجمع فرقا غنائية وموسيقية من الولايات المتحدة وأوربا والبلقان لتقدم لجمهور البوسنة عروضا حية تتمتع بنسبة إقبال كبيرة من الشباب.
كما ينظم اتحاد الكتاب مهرجانا شعريا سنويا تقوم وزارة الثقافة والرياضة بتمويله، يهتم بدعوة أهم وأبرز الأصوات الشعرية في أرجاء العالم، وتقام أمسيات شعرية وندوات خلال فترة المهرجان. وهو تقليد يرتكز على أن البوسنة على مدى تاريخها أنجبت عددا من كبار الكتاب والمفكرين مثل إيفو اندريتش الحائز على نوبل في الآداب عام 1961، وميشا سليموفيتش الذي ترجمت روايته «الموت والدراويش» للعربية، وجيفاد كاراهاسان، وميلينكو جارافيتش، ونجاد ابروشيموفيتش، وألكساندر هامون ونيناد فيلكوشوفيتش وغيرهم.
دعم السينما
هذا ما أوضحه لنا نائب رئيس الحكومة ووزير الثقافة والرياضة جافريلو جروهافاش. أما فيما يتعلق بالسينما فقال إن الوزارة أقامت عددا من الصناديق الخاصة بتمويل أنشطة فنية وثقافية مختلفة، وبينها صندوق مخصص لدعم الإنتاج السينمائي، لكن المبلغ السنوي المخصص لا يزيد عن عشرة ملايين يورو سنويا، فالدولة تمر بظروف اقتصادية صعبة بسبب إعادة البناء التي استلزمتها مرحلة ما بعد الحرب. هذا المبلغ يكفي تقريبا لتمويل ثلاثة أفلام، بينما هناك ثلاثة عشر مشروعا سينمائيا لمخرجين من أجيال مختلفة تقدمت بطلبات لدعم إنتاجها.
يقول: «عندما توليت الوزارة كان المبلغ المخصص لدعم السينما أقل بكثير، استطعنا أن نصل به إلى هذا المبلغ، والآن نحاول عمل تعاون مشترك في الإنتاج السينمائي مع بعض الدول الأوربية والدول الصديقة مثل إيران التي شاركت في إنتاج الفيلم الحاصل على الأوسكار، وغيرها. نحن نعرف أهمية السينما، سواء كمجال فني مهم في رفع المستوى الثقافي، وكوسيلة تعبير فني مهمة، أو كوسيلة فنية تعرف بالبوسنة، فالقنوات الإخبارية العالمية لا تهتم بالبوسنة إلا إذا وقع انفجار أو حدثت كارثة».
كما يوضح أن الصناديق الثلاثة الأخرى خصصت لدعم النشر وإقراض الناشرين لعملية الترجمة، وصندوق للفنون الموسيقية، وآخر لدعم الكتاب وصيانة المكتبات وتطويرها.
هذا المهرجان السنوي الكبير في الحقيقة واحد من المعالم البارزة في سراييفو، إذ تتحول المدينة خلاله إلى كرنفال فني تمتلئ مسارحها بالعروض الفنية الموسيقية والغنائية والمسرحية من أرجاء العالم، وبالإضافة لهذا كله يوفر المهرجان فرص عمل موسمية للطلبة ومحبي الفنون، ومن هؤلاء شابة تدرس علم النفس هي إمينا أومانيفيتش.
بيت البوسنة التقليدي
بعد أن هبطنا في ميدان فراتنيك Vratnik mejdan، اكتشفنا أن علينا السير صعودا في زقاق تصطف على جانبيه البيوت المكونة من طابقين, حتى وصلنا أخيرا إلى بيت صغير من طابقين تحيط به حديقة صغيرة. استقبلتنا إمينا على الباب الخشبي الخارجي، ومنه إلى الباب الداخلي. خلعنا الأحذية فور دخولنا, ودلفنا إلى غرفة جلوس صغيرة بجوار الباب تضم المطبخ ومائدة الطعام وأريكة صغيرة.
عندما حضرت الأم، السيدة فاطيما، والعمة والأب، منيب اومانوفيتش، لتحيتنا، بادرت الأخير قائلا: «أخيرا تخلصت منهما فكيف تشعر»؟، لكنه تلقى مزحتي بشيء من الحزن نافيا أنه تخلص منهما، وأنه بعد مرور عام على استقلالهما عن البيت (إمينا وشقيقتها نادية) فلايزال غير متكيف مع الوضع.
أعدت إمينا لنا القهوة وأحضرت حلوى بوسنية أشبه بالكعك، وشيكولاتة بيضاء، وانتقلنا إلى الطابق العلوي على سلم خشبي أنيق، وجلسنا في بهو فسيح، يضم أريكة صغيرة وكرسيين من أثاث يناسب طابع البيت البوسني، وينتهي بنافذة تطل على المدينة، بينما يؤدي أحد الأبواب إلى غرفة نوم كبيرة.
تحدث السيد منيب وزوجته السيدة فاطيما عن الفارق بين العصر الاشتراكي في ظل يوغسلافيا وبين الأمور اليوم، وما حدث من تغيير، وكيف ان العصر القديم كان يوفر فرصا جيدة للعمل، وأن لكل وقت مميزاته، كما أوضحت الأم أنها عاشت في منزل أهلها حتى تزوجت، وأن هذا لايزال شائعا اليوم، لكن الجيل الجديد لو تمكن اقتصاديا من الاستقلال فسوف يفعل ذلك بلا تردد، واكتفت العمة بالإنصات، والتدخين، مؤمنة على كلامنا، بينما تتحرق شوقا ليصل ابنها الذي يتقن العربية بسبب دراسته بكلية الدراسات الإسلامية، وهي ترقب نادية التي التصقت بأمها، بينما إمينا تشير لها بسخرية مرحة وهي تردد «هذه هي ابنة أمها المدللة التي تثير غيرتي باستمرار»، وبين الضحكات أسرعت العمة تحتضن إمينا.
أوضح الأب أن اقتناعه بأن هذا الوضع أفضل لكلتا الابنتين بسبب قرب السكن من مكان دراستهما (شقيقة إمينا، نادية أومانوفيتش، تعكف على الدراسة لساعات طويلة بسبب تخصصها في دراسة الطب)، هي التي جعلته يقبل فكرة سكنهما المستقل عن اقتناع، وأضاف أنه مرتبط بهما بشكل كبير، وهذا ما أمنت عليه إمينا واصفة إياه بأنه أب عظيم.
في حوار لاحق مع مجموعة من الطلبة هم: أمير تشوليتش، وعزالدين إيزيتش، وستانيسلاف ستييبيتش، أوضحوا أن أصعب ما يواجهونه جميعا هو البطالة، ففرص العمل قليلة، وهناك صعوبة في الحصول على وظائف، أما إعانات البطالة فهي تخضع لشروط قاسية وصعبة، قد لا تتحقق في أغلب الأوقات، وبالتالي يضطر البعض للعمل كنادل في مقهى، أو بائع في أحد المحال.
لكن أمينا تتحفظ عن التعميم وترى أن محاولة العمل منذ ابتداء الدراسة الجامعية يوفر الاحتكاك وتكوين علاقات تساعد في المستقبل. وبينما يبدي عز الدين تحفظه موضحا أن الواسطة لها دور في التوظف، بل قد يحدث كذلك أحيانا أن يتحكم الانتماء العرقي للشخص في تحديد فرصه في الحصول على وظيفة. وهي الفكرة التي يؤيدها أمير تشوليك رغم أنه التحق منذ عامين بإحدى الصحف للعمل بها كمحرر وحقق نجاحا ملحوظا.
ويقول ستانيسلاف ستييبتش إن هذه الأوضاع عادة ما تجعل الفرد يفكر في البحث عن فرصة خارج البوسنة، سواء في منطقة جنوب شرق أوربا أو في أوربا نفسها.
سراييفو أولاً وأخيراً
أما ليلا كوربيجوفيتش التي تعمل إعلامية في القناة الثقافية بتلفزيون البوسنة فترى أنها كانت تفكر بهذه الطريقة في الماضي، لكنها الآن ترى أنها يجب أن تبقى وتعمل أكثر وتحافظ على وجودها في المكان، وأن تسعى لتغييره مع جهد المتفائلين. وتقول إنها في أثناء الحرب كان عمرها 12 عاما وعاشت فترة طويلة مع عائلتها في محلات تحت الأرض قريبة من منطقة الاستاد، لأن والدها رفض أن يترك سراييفو آنذاك، وهي تقول إنها شهدت أوقاتا صعبة وبالتالي فإنها يمكن أن تحتمل أي وضع، لكنها توضح أيضا أن ذلك يستلزم عملا يوميا مضنيا يأتي على حساب العلاقات العاطفية، فالميديا التي تنتمي للقطاع الخاص تعطي رواتب أكبر، لكنها في المقابل تحمل الشخص بما يفوق طاقته من العمل، أما الإعلام الحكومي فالمرتبات فيه أقل، وغير مستقرة أيضا، وهو ما يؤثر على الاستقرار والابتكار. لذلك هناك فرق كبير في مستوى الثقافة التي كانت تقدم في الميديا في زمن يوغسلافيا، حيث كانت ذات مستوى رفيع وقوي، وبين ما يقدم الآن.
وعلى ذكر العلاقات العاطفية فإن الشباب الذين التقيناهم أوضحوا جميعا أنهم لا يمكن أن يستقلوا بالسكن مع صديقاتهم أو حتى زوجاتهم، كما هو شائع في أوربا، لأنهم لا يستطيعون الاستقلال وهم جميعا يعيشون مع أهلهم، مع التأكيد أن هناك بعض الحالات التي يستقل فيها بعض الشباب، بل ويتزوجون باكرا (يقول ستانسيلاف ضاحكا: الزواج شائع في البوسنة أيا كانت الظروف، حتى في أثناء الحرب لم تتوقف الزيجات ولا إنجاب الأطفال)، أما فيما يتعلق بالزواج بين الأعراق المختلفة فقد أوضحوا أنهم كجيل تجاوز تماما هذا الطرح، ولا يهتم أي منهم للزواج بشخص طرف ينتمي لدين مختلف، لكن المشكلة في الأجيال الأقدم التي مازال الكثير منهم يرفضون زواج بناتهم أو أبنائهم من أصحاب ديانة مختلفة والعكس. لكنهم جميعا يرون أن المجتمع يحتاج إلى مزيد من الوعي ليتغير كل هذا ويصبح من الماضي.
موستار.. جسر المصلى
بعد يومين قضيناهما في سراييفو ارتحلنا إلى موستار: المدينة الثانية في البوسنة والهرسك والتي تعد عاصمة لإقليم الهرسك، والخامسة من حيث المساحة، وتطل على نهر نيرتيفا، وهي مدينة لا تقل جمالا عن سراييفو، وهي سمة عامة في البوسنة والهرسك، فعلى امتداد الطريق تتضافر الطبيعة الجميلة الخضراء في تشكيل لوحة نادرة من التلال والجداول والأنهار، بينما كانت قمم بعض الجبال مازالت تتوهج بالأبيض، حيث لم تكن الثلوج قد ذابت من فوق القمم بعد.
في موستار قمنا بزيارة جسر المصلى الذي كان قد تهدم تماما في أثناء الحرب وأعيد ترميمه وبناؤه بالتصميم القديم نفسه، وبالتعاون مع صندوق التنمية الكويتي الذي قدم دعما لعملية الترميم. وأقيمت في الحديقة المتاخمة للجسر لوحة تذكارية في ساحة تعرف باسم ساحة الصداقة الكويتية البوسنية، إضافة لنموذج مجسم لأبراج الكويت.
هذا الجسر العتيق الجميل يصل بين المدينة من جهة والسوق القديم الذي يعتبر مزارا سياحيا يمتلئ بالبازارات والمطاعم، وبسياح من أوربا. والجسر مقام على ارتفاع كبير، يبلغ حوالي 27 مترا، وهو يعود إلى زمن الأتراك إبان الحكم العثماني، ويقال إن موستار تعني «المحافظون على الجسر»، أو الجسر القديم، الذي عُدَّ أحد معالم المدينة منذ القرن الخامس عشر، وقد تهدم على يد القوات الكرواتية خلال الحرب، وتمت محاكمة القائد العسكري الكرواتي دوليا على هذا القرار إضافة لتهم أخرى اتهم بها بعد الحرب. وقد استغرق تشييده الفترة بين عامي 2003 و2008 حين تم افتتاحه.