فضائل القدس ومكانتها الدينية عند المسلمين
فضائل القدس:
للقدس فضائل عظيمة، ومكانة سامية في قلوب المسلمين؛ فهي قِبلة المسلمين الأولى، ومسرى نبيِّهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ومُصلاه ليلة الإسراء، وملتقى الأنبياء والرُّسل به، ومِعْراجه - صل الله عليه وسلم - من الأرض إلى السماء، وقد دلَّت الشواهد النقليَّة: من آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، إلى فضل هذه البقعة المقدسة من الأرض، وما حباها الله من بَرَكة معنوية وبَرَكة حِسيَّة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه البركة التي وهبها الله - سبحانه - لأرض بيت المقدس وما حوله في قوله - تعالى -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
وقوله - سبحانه -: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]؛ أي: إن الله نجَّى إبراهيم ولوطًا - عليهما السلام - إلى الأرض المباركة، وهي أرض فلسطين بعد أن كانا في العراق.
وقوله - تعالى -: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾[الأنبياء: 81]
؛ أي: إن الله سخَّر لسليمان الريح تهب بشدة وتجري بسرعة، ثم تعود إلى الأرض التي بارك الله فيها وهي أرض الشام
[1].
ويقول الله - تعالى - في قصة سبأ: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]، فهذه القُرى التي بارك الله فيها هي قُرى الشام وفلسطين.
قال الألوسي: "المراد بالقُرى التي بُورك فيها قُرى الشام؛ لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها، وعن ابن عباس، قال: هي قُرى بيت المقدس"
[2].
وقد ذهب عددٌ من مفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله - تعالى -: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1- 3] إلى أن التين والزيتون يُقْصد بهما الأرض أو البلدة التي تنبتهما، وهي بيت المقدس.
قال ابن كثير: "قال بعض الأئمة: هذه محالٌّ ثلاثة بعث الله من كلِّ واحدٍ منها نبيًّا مرسلاً من أُولي العَزْم أصحاب الشرائع الكِبار، فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم - عليهما السلام - والثاني طور سيناء الذي كلَّم الله عليه موسى بن عِمران، والثالث مكَّة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنًا"
[3].
وبركة أرض بيت المقدس حِسِّيَّة ومعنوية، فالحسيَّة بالخصب والثمار والأشجار والأنهار وعذوبة الماء، والسهول والجبال والمنخفضات وبموقعها المتوسط؛ فهي قلب الوطن الإسلامي، وهي بوَّابة القادمين من أسيا في طريقهم إلى إفريقيا وبالعكس، وهي الممرُّ الذي لا بد من اجتيازه منذ قرون وقرون لمعظم القوافل المتحركة من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، وهي - فضلاً عن ذلك - ذات موقع وسط بين بلدان العالم القديم على المستويين الحضاري والعسكري.
"ومن مظاهر البركة الحِسيَّة لأرض فلسطين النشاط الزراعي الكثيف الذي تمخض عن وفرةٍ في البحار والعيون والأنهار، قال ابن كثير في بيان معنى قوله - تعالى -: ﴿ بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1] بالزروع والثمار
[4].
وقال ابن الجوزي: "ومعنى﴿ بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾: أن الله أجرى حوله الأنهار وأنبت الثمار، وقيل: لأنه مقرُّ الأنبياء ومهبط الملائكة "
[5].
"ولقد لفت هذا النشاط نظرَ الرحَّالة والجغرافيين الذين زاروا فلسطين، فأشاروا إليه وقالوا عن فلسطين: إنها من أخصب بلاد الشام، وأكثرها عُمْرانًا على صِغَر رقعتها"
[6].
"ثم وقفوا عند أشهر مُدنها فحدثونا عمَّا شاهدوه من زروع وثمار، فالقدس تُعدُّ من أخصب بلدان فلسطين، تحيط بها بساتين وكروم ومزارع وأشجار فاكهة وزيتون"
[7].
أما البركة المعنوية فتتمثل في أن هذه الأرض مبعث الأنبياء ومهبط الملائكة، وهي العش الذي يرقد فيه الأنبياء، والأرض التي يُبْعَثون منها، وهي أرض المحشر والمنشر والحساب، وأرض الرِّباط والجهاد والنصر إلى يوم القيامة.
قال الزمخشري: "وقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة، وحُقَّت أن تكون كذلك؛ فهي مبعث الأنبياء - صلوات الله عليهم - ومهبط الوحي إليهم، ومكانهم أحياءً وأمواتًا"
[8].
ويقول أبو عبدالله المنهاجي: "وجعل – أي: الربُّ سبحانه - صفوته من الأرض كلها أرض بيت المقدس، وقال - تعالى - لموسى: انطلقْ إلى بيت المقدس، وتاب الله على داود وسليمان - عليهما السلام - في أرض بيت المقدس، وسخَّر الله لداود الجبال والطير ببيت المقدس، وكانت الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يقرِّبون القرابين ببيت المقدس، وتهبط الملائكة - عليهم السلام - كلَّ ليلةٍ إلى بيت المقدس، وولد عيسى - عليه السلام - ببيت المقدس، ورفعه الله - تعالى - إلى السماء من بيت المقدس"
[9].
ويتناول "المقدسي" البركتين معًا: المعنوية والحسيَّة عند حديثه عن بيت المقدس، فيقول: " كنت يومًا في مجلس القاضي المختار "أبي يحيى بن بهرام" بالبصرة، فجرى ذكر "مصر" إلى أن سُئِلْتُ: أيُّ بلدٍ أجَلّ؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيُّها أطيب؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيُّها أفضل؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيُّها أحسن؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيُّها أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيُّها أكبر؟ قلت: بلدنا، فتعجَّب أهلُ المجلس من ذلك، قالوا: أنت رجل محصل، وقد ادَّعيت ما لا يقبل منك، وما مثلك إلا كصاحب الناقة مع الحجاج، قلت: أمَّا قولي: أجلّ؛ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد، ومن كان من أبناء الآخرة فدعته نفسُه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب الهواء، فإنه لا سُمَّ لبردها ولا أذى لحرِّها، وأما الحُسن فلا ترى أحسن من بُنْيَانها ولا أنظف منها، ولا أنزه من مساجدها، وأما كثرة الخيرات فقد جمع الله - تعالى - فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال والأشياء المتضادة: كالأُتْرج، واللوز، والرطب، والجوز، والتين، والموز، وأمَّا الفضل فلأنها عرصة القيامة ومنها المحشر وإليها المنشر، وإنما فضلت "مكة والمدينة" بالكعبة والنبي - صل الله عليه وسلم - ويوم القيامة تزفان إليها، فتحوي الفضل كله، وأما الكِبَر فالخلائق كلهم يحشرون إليها، فأيُّ أرض أوسع منها؟! فاستحسنوا ذلك، وأقرُّوا به"
[10].
مكانة القدس عند المسلمين:
لقد رأينا مما سبق كيف وصف لنا القرآن الكريم البركة التي منحها الله لبيت المقدس، وميَّزها بها عن سائر البلاد والأماكن، وهي دعوة صريحة من الله - عز وجل - للمسلمين بأن يتمسكوا بهذه الأرض المباركة، وأن يقيموا ما استطاعوا في رحابها كما أقام الأنبياء، وأن يدفعوا عنها كلَّ ما يُهين قداستها، أو ينشر الفساد في ربوعها.
ورغم وجود هذه النصوص القرآنية الصريحة، فإن اليهود وأعوانهم من المستشرقين لا يزالون يشككون في قداسة بيت المقدس عامة، والمسجد الأقصى بخاصة عند المسلمين، ولا تزال جهودهم تتضافر من أجل الوصول إلى هذه الغاية المنشودة عندهم، ألا وهي التدليل على المكانة الهامشية التي تحتلها مدينة القدس وبيت المقدس في الشريعة الإسلامية، ومقابل ذلك السعي لإثبات أهميتها ومكانتها المركزية في التصورات اليهودية!
ومما باتوا يرددونه بين الحين والحين: أن ثَمَّةَ معارضة قد برزت بين المسلمين منذ القِدَم لتعظيم حُرْمة المسجد الأقصى، وعبَّر "إسحق حسون" - الباحث اليهودي في مقدمة تحقيقه لكتاب "فضائل البيت المقدس"؛ للواسطي - عن هذا الاتجاه، فقال: "إن مضمون هذه الأحاديث يؤكد حقيقة وجود بعض المعارضة في صفوف علماء المسلمين في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة للاعتراف اعترافًا كاملاً بحُرْمة المسجد الثالث، وإعطاء بيت المقدس مكانة مساوية لمكانة المدينتين المقدستين في الإسلام: وهما "مكة والمدينة".
واتَّكأ هؤلاء المشككون على رسالة لشيخ الإسلام "ابن تيميَّة" مُسمَّاة: "قاعدة في زيارة بيت المقدس" واتَّبعهم في ذلك غالبية المستشرقين، الذين اتخذوا من مادتها وسيلةً للنيل من مكانة القدس والمسجد الأقصى، ودليلاً على مكانتهما الهامشية في الشريعة الإسلامية.
والحقيقة الجليَّة أن شيخ الإسلام "ابن تيميَّة" لم يقلل من مكانة المسجد الأقصى، بل أثبت مكانته الصحيحة وفضائله العديدة، وأَجْر الصلاة فيه، وشد الرحال إليه، وحذَّر من البِدَع والمبالغات في هذه الفضائل التي أشاعها بعض القصاصين الذين غلوا في مكانة المسجد الأقصى، بل إن تخصيص شيخ الإسلام "ابن تيميَّة" رسالة عن زيارة بيت المقدس يدل على مكانته في نفوس المسلمين المستمدة من صريح كلام الله - تعالى - وصحيح السُّنة النبوية في فضله وعِظَم شأنه.
فَفَهِمَ - هؤلاء الحاقدون - من قول شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "وأما المسجد الأقصى فهو أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدُّ إليها الرِّحال، وهو الذي يسميه كثيرٌ من العامة اليوم: الأقصى، والأقصى اسم للمسجد كله، ولا يُسمَّى هو ولا غيره حَرَمًا، وإنما الحرم "بمكة والمدينة" خاصة، وقد ثبت أن عبدالله بن عمر كان إذا أتى بيت المقدس دخل إليه وصلَّى فيه، ولا يقرب الصخرة ولا يأتيها، ونقل عن غير واحد من السلف المعتبرين: كعمر بن عبدالعزيز، والأوزاعي، وسفيان الثوري وغيرهم" - أن هذا انتقاص للمسجد الأقصى، وإقرار بألا فضيلة له على غيره!
وقد عارض علماء المسلمين الأحاديث الموضوعة المفرطة في تقديس هذه الأماكن، ومنهم شهاب الدين المقدسي صاحب كتاب "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام"، فقد أنكر تلك العبارات من القُصَّاص والوضَّاعين؛ لغلوِّهم في الحديث عن قَدَاسة المسجد الأقصى.
وكذلك أنكر عبدالله بن هشام الأنصاري صاحب كتاب "تحصيل الأنس لزائر القدس" ذلك بقوله: "قد بلغني أن قومًا من الجُهلاء يجتمعون يوم عَرَفةَ بالمسجد، وأنَّ منهم مَن يطوف بالصخرة، وأنهم ينفرون عند غروب الشمس، وكل ذلك ضلال وأضغاث أحلام".
وما تدل عليه عبارة الأنصاري: إن تجاوزات وقعت وتقع لبعض عامة الناس في تقديس المسجد الأقصى، فكان رفضًا واضحًا من علماء المسلمين لهذه التجاوزات، وتحذيرًا للعامة منها
[11].
ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ من الافتراء، بل إن مؤسس رابطة الدفاع اليهودية "دانيال ياسبس" يَدَّعي أنَّ القدس لا تمثل أيَّ مركزٍ دينيٍّ للمسلمين، وعندما يدافع المسلمون عن حقِّهم في القدس، إنما يكون دفاعهم هذا نابع من رؤية سياسية لا من رؤية دينية؛ فالقدس - على حدِّ زعمه -: "ليست قِبلة المسلمين في الصلاة، ولم تُذْكر باسمها مرة واحدة في القرآن، ولا تذكر على الإطلاق في صلوات المسلمين، وهي ليست مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالأحداث التي جرت في حياة الرسول، ولم تتحول القدس في يوم من الأيام إلى مركز ثقافي إسلامي، أو عاصمة لدولة إسلامية، هي فقط اتَّخذت أهمية بالنسبة للمسلمين بصورة متقطعة طوال القرون الثلاثة عشر الماضية، وكان السبب في تلك الفترات المتقطعة - كما هي الحال اليوم - سياسيًّا، والعكس صحيح أيضًا، كلما تضاءلت المنفعة السياسية من القدس، ضعفت الحماسة وخمدت المشاعر تجاهها وتراجعت وضعيتها لدى المسلمين، ففي القرن التالي لوفاة "محمد" دفعت السياسة دولة الأمويين المؤسسة في "دمشق"، والتي كانت القدس تحت سيادتها - إلى جعل المدينة مقدسة في الإسلام، حيث فكَّر الأمويون في تقليل أهمية الجزيرة العربية بإعلاء قيمة القدس إثر تورّطهم في منافسة ضارية مع قائد "مكة" المناوئ لهم
[12]، فرعوا ضربًا من الأدب يمتدح مزايا القدس وفضائلها، وعملوا على ذيوع وترويج أحاديث وأفعال للرسول تُعْلي من شأن القدس، وفي السنوات 688م حتى 691م أقاموا أول بناءٍ ضَخْم في الإسلام هو "قبة الصخرة" على قِمَّة بقايا المعبد اليهودي.
أي: إن القدس تصبح مهمة دينيًّا فقط عندما تبزغ أهميتها السياسية، وعندما انهارت الدولة الأموية في العام 750م، دخلت القدس فيما يشبه الظلام الدامس، ففي القرون الثلاثة ونصف القرن التالي فَقَدتِ الكتب التي تشيد بمدينة القدس الدَّعم الذي كانت تحظى به.
إن مسألة الادِّعاءات الدينية والتاريخية في القدس تمثِّل معادلاً متكافئًا للوثائق القانونية في أيِّ مكانٍ آخرَ في العالم، ومن يستطع أن يثبت صلة أعمق وأكثر امتدادًا بالمدينة تكنْ له فرصة أفضل في كَسب الدَّعم الدولي لحُكْمِه لها، وفي هذا السياق فإن حقيقة دور السياسة في إلحاق المسلمين القدس إلى أنفسهم تتضمن جزئيتين:
الأولى: أنها تثبت الضَّعف النسبي للصلة الإسلامية بالمدينة، وهي صلة مصدرها اعتبارات مؤقَّتة لاحتياج دنيوي، أكثر من كونها دعاوى عقائديَّة ثابتة وغير قابلة للتغيير.
والثانية: أنها تثبت أن اهتمام المسلمين لا يتركَّز في السيطرة على المدينة بقدر ما يتركَّز في إنكار أيِّ سيطرةٍ أخرى عليها.
والقدس لن تكون أبدًا أكثر من مدينة ثانوية بالنسبة للمسلمين، وعلى النقيض منها تقف (مكة) المدينة الأبدية للإسلام، وقِبْلتهم التي يصلون إليها خمس مرات، ومن المحرَّم على غير المسلمين دخولها"
[13].
إن ما يدعيه "ياسبس" في وثيقة الدفاع ما هو إلا ترديد لافتراءات بعض المستشرقين اليهود المتعصبين من أمثال "جولد تسيهر"، الذي زعم أن "عبدالملك بن مروان" أراد أن يُعطي مكانةً للمسجد الأقصى؛ حتى يصرفَ الناس عن الحج في "مكة"؛ لكيلا يلتقوا بابن الزبير فيقتنعوا بآرائه، وينشقوا على عبدالملك، فوجد صديقه الزُّهري - وهو ذائع الصيت في الأمة الإسلامية - مستعدًّا لأن يضعَ له أحاديث كحديث: "لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد...".
وزعم أن الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مرويَّة من طريق الزُّهري فقط.
لقد أراد "جولد تسيهر" أن يطعن في أول من دَوَّن السُّنة من التابعين، والذي يُعدُّ من كِبار أئمة السُّنة في عصره، وقد هاجم من قَبْلُ أبا هريرة - رضي الله عنه - وهو ركن من أركان السُّنة في عصر النبي - صل الله عليه وسلم!
حتى إذا تمَّ له ذلك انهارت السُّنة بعد أن وجَّه إليها الْمِعْوَل من ناحيتين: من ناحية رواتها وأئمتها، وناحية الشك بها جملة، ولولا أن الإسلام دين الله - تعالى - الذي تكفَّل بحفظه، لكانت بعض مؤامرات أعدائه كافيةً للقضاء عليه ومحو أثره.
إن نظرة في كُتب التراجِم كفيلة بأن تبيِّن مكانة الزُّهري في عِلْم الحديث، وأنه لا يمكن بأية حالٍ من الأحوال أن يكذب على رسول الله - صل الله عليه وسلم - إرضاءً لأحد مهما كانت مكانته؛ بشهادة كلِّ علماء الجَرح والتعديل، فضلاً عن أن الإمام "الزُّهري" ولد سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين، ومقتل عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه - كان سنة ثلاث وسبعين، فيكون عُمْر الزُّهري - حينذاك على الرواية الأولى - اثنين وعشرين عامًا، وعلى الثانية خمسة عشر عامًا، فهل من المعقول أن يكون الزُّهري في ذلك السن ذائعَ الصيت عند الأمة الإسلامية، بحيث تتلقى منه بالقبول حديثًا موضوعًا يدعوها فيه للحج إلى القُبَّة بدلاً عن الكعبة؟!!
إن نصوص التاريخ قاطعة بأن الزُّهري في عهد ابن الزبير - رضي الله عنه - لم يكن يعرف عبدالملك بن مروان ولا رآه بعد، فالذهبي يذكر لنا: أن الزُّهري وفد لأول مرة على عبدالملك في حدود سنة ثمانين، وابن عساكر روى: أن ذلك كان سنة اثنتين وثمانين، فمعرفة الزُّهري لعبدالملك لأول مرة، إنما كانت بعد مقتل ابن الزبير - رضي الله عنه - ببضع سنوات، وقد كان يومئذ شابًّا بحيث امتحنه عبدالملك، ثم نصحه أن يطلب العلم من دُور الأنصار.
فكيف يصحُّ الزعم بأن الزُّهري أجاب رغبة صديقه عبدالملك، فوضع له حديث بيت المقدس؛ ليحج الناس إلى القُبَّة في عهد ابن الزبير؟! وابن الزبير - رضي الله عنهما - كان قد قُتِل قبل بضع سنوات، وبالتحديد في سنة ثلاث وسبعين للهجرة، ولا حاجة لبناء قُبَّة أو وضع حديث ليحج الناس إليها بعد أن سيطر الأمويون على الحجاز كله، وقتلوا عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهما - الذي بويع هناك، فهذا كذب ملفق مفضوح قد كشفته أحداث التاريخ ووقائعه.
وهذه الدعاوى الخبيثة من المستشرقين - وعلى رأسهم "جولد تسيهر" - حرصوا على سردها؛ ليصوروا لنا الأمويين كجماعة دنيوية مقاصدهم، ليس لهم همٌّ إلا الفتح والاستعمار وحياة التَّرف، وأنهم في حياتهم العادية لا يَمتُّون إلى تعاليم الإسلام وآدابه بصلة.
والثابت خلاف ذلك، فقد روى ابن سعد - رحمه الله - في "طبقاته" عن نسك عبدالملك وتقواه قبل الخلافة ما جعل الناس يلقِّبونه بـ"حمامة المسجد"، وبعد الخلافة أصبح التاريخ يذكر بكثير من الإعجاب فتوحات الأمويين، وكان أبناء خلفائهم على رؤوس الجيوش الفاتحة الغازية في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر شريعته
[14].
ويجدر بنا في هذا المقام أن نعرض لبعض الأحاديث النبوية الصحيحة التي تبيِّن للمسلمين، وتوضِّح للعالم أجمع فضلَ الأقصى، وبيت المقدس، وفلسطين، والشام عمومًا؛ كي يعلم هؤلاء المرجفون أننا حينما نطالب بحقوقنا في القدس، فإننا ننطلق من ثوابت دينية وتاريخية، وحقائق علمية وجغرافية وأثرية وثقافية.
1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال:
((لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى))
[15].
أي إن المسجد الأقصى على نفس الدرجة من الأهمية عند المسلمين؛ لأنه ثالث الحرمين الشريفين، وهو قِبلة المسلمين الأولى؛ إذ ظلوا طوال ستة عشر شهرًا يصلون تجاهه، وكانت الحكمة من ذلك أن الله - سبحانه - أراد أن يلفت أنظار المسلمين إلى أن الدين الخاتم وهو دين الإسلام، إنما هو نفس الدين الذي جاء به "إبراهيم وموسى وعيسى" من قبل، وقد خرجت الديانات الثلاث من مِشكاة واحدة، ولهذا فالقبلة ينبغي أن تكون واحدة، ولما استغل اليهود هذه النقطة ضد المسلمين زاعمين أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يتودد إليهم ويتبع دينهم المحرَّف، أمر الله نبيه - صل الله عليه وسلم - بالتوجه في صلاته إلى المسجد الحرام "بمكة"، البيت الذي بني قبل المسجد الأقصى بأربعين عامًا.
2 - وعن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((لما فرغ سليمان بن داود - عليهما السلام - من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حُكْمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحدٌ لا يريد إلا الصلاة إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمه، فقال النبي - صل الله عليه وسلم -: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة
))[16].3 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "تذاكرنا ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّهما أفضل: مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله - صل الله عليه وسلم -:
((صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلَّى هو، وليوشكنَّ أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض؛ حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعًا - أو قال: خير من الدنيا وما فيها))"
[17].
4- وعن ابن حوالة، قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -:
((سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودًا مجندة: جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق))، قال ابن حوالة: خِرْ لي يا رسول الله إن أدركت ذلك، فقال: ((عليكم بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم، فعليكم بيمنكم، واسقوا من غُدُركم؛ فإن الله توكَّل لي بالشام وأهله
))[18].5 - وعن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أُمَّتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا ما أصابهم من لأواء - أي: أذى - حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس
))[19].6
- وعن ميمونة مولاة النبي - صل الله عليه وسلم - قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، فقال:
((أرض المنشر والمحشر ائتوه فصلوا فيه؛ فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه، قالت: أرأيت من لم يطق أن يتحمَّل إليه أو يأتيه؟ قال: فليهد إليه زيتًا يسرج فيه؛ فإن من أهدى له كان كمن صلَّى فيه
))[20].7- وعن زيد بن ثابت، قال: "سمعت رسول الله - صل الله عليه وسلم - يقول
: ((طُوبَى للشام، طُوبَى للشام، قالوا: يا رسول الله وَبِمَ ذاك؟ قال: تلك ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام
))[21]؛ أي: إن الملائكة تحفها وتحوطها بإنزال البركات، ودفع المهالك والمؤذيات
[22].
8 - وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -
: ((ستخرج نارٌ من حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام
))[23].9 - وعن معاوية بن قرة عن أبيه، قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -:
((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة
))[24].10 - وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -:
((صفوة الله من أرضه الشام، وفيها صفوته من خلقه وعباده، وليدخلنَّ الجنة من أُمَّتي ثلة لا حساب عليهم ولا عذاب
))[25].11- وعن سلمة بن نفيل، قال: كنت جالسًا عند النبي - صل الله عليه وسلم - فقال
: ((يوحى إليّ أني مقبوض غير ملبث، وأنكم متبعي أفنادًا؛ (أي: جماعات متفرقين) يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يزال ناسٌ من أُمَّتي يقاتلون على الحق ويزيغ الله بهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وعقر دار المؤمنين بالشام))
[26].12- وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: ((بينا أنا نائم، إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوبٌ به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام
))[27].13- وعن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "ستكون فتنة يحصل الناس منها كما يحصل الذهب في المعدن، فلا تسبوا أهل الشام وسبوا ظلمتهم؛ فإن فيهم الأبدال، وسيرسل الله إليهم سيبًا من السماء، فيغرقهم حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم، ثم يبعث الله عند ذلك رجلاً من عترة الرسول - صل الله عليه وسلم - في اثني عشر ألفًا إن قلُّوا، وخمسة عشر ألفًا إن كثروا، أمارتهم أو علامتهم أمت أمت على ثلاث رايات، يقاتلهم أهل سبع رايات ليس من صاحب راية إلا وهو يطمع بالملك، فيقتتلون ويهزمون، ثم يظهر الهاشمي فيرد الله إلى الناس إلفتهم ونعمتهم وقاصيهم ودانيهم، فيكونون على ذلك حتى يخرج الدَّجال))
[28].
14- وعن سلمة بن نفيل الكندي، قال: "كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجلٌ: يا رسول الله أذال الناس الخيل
[29]، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد؛ قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله - صل الله عليه وسلم - بوجهه وقال:
((كذبوا، الآن جاء القتال، ولا يزال من أُمَّتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحي إليّ أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني أفنادًا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين بالشام
))[30].فالشام وقت اشتداد الفِتَن هي المكان الآمن لأهل الإسلام.
ومن مظاهر بركة أرض الشام: أن المقيم فيها يعتبر مجاهدًا في سبيل الله ومرابطًا؛ لأن هذه الأرض عُرْضة للغزو في كلِّ وقت لمكانتها وشرفها؛ فهي محل أطماع الغزاة والفاتحين، ولذلك فهي تحتاج إلى أن يرابط فيها المرابطون، فيكونوا على أهبة الاستعداد لأيِّ طارئ، ولهذا كان قدر أهل الشام وفلسطين أنهم مرابطون إلى يوم القيامة.
15 - فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: ((أهل الشام وأزواجهم وذريَّاتهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله، فمن احتل منها مدينة من المدائن، فهو في رباط، ومن احتل منها ثغرًا من الثغور، فهو في جهاد
))[31].والثغور التي يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الإسلام يجب أن تُحصَّن تحصينًا منيعًا؛ حتى لا تكون جانبَ ضَعفٍ يستغله العدو ويجعله منطلقًا له، ولهذا جعل الله للمرابطين في سبيله الثواب العظيم، وقد بيَّن رسول الله - صل الله عليه وسلم - فضل الرِّباط ومنزلة المرابطين وما أعده الله لهم في أحاديث كثيرة، منها:
ما رواه سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صل الله عليه وسلم - يقول:
((رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه وأمن الفتَّان))
[32].
وروى سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال:
((رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها
))[33].ومن الأكاذيب التي بات يرددها علماء اليهود وباحثوهم، وبعض الفِرَق الباطنيَّة في مراجعهم وتفاسيرهم وسِيَرهم، وأدبياتهم: أن المسجد الأقصى المذكور في أول سورة الإسراء ليس هو المسجد الموجود ببيت المقدس، وإنما هو مسجد في السماء فوق الكعبة أو فوق القدس، كل هذا من أجل التقليل من مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين.
يقول "بوهل" - المستشرق اليهودي الذي كتب مادة القدس في الموسوعة الإسلامية - تحت مادة القدس في الموسوعة الإسلامية: "إن ما حدث للرسول - صلى الله عليه وسلم - في رحلته إلى بيت المقدس يدخل في باب الرؤية والكشف، ورجح أن الرسول محمد - صل الله عليه وسلم - ربَّما فَهِم منذ البداية أن المسجد المذكور في الآية الكريمة إنما هو مكان في السماء، وليس المسجد الذي بُنِي فيما بعد في مدينة بيت المقدس.
ويقول "إسحاق حسون" - العضو في معهد الدراسات الأسيويَّة والإفريقية في الجامعة العِبْرية وهو باحث ومؤلِّف يهودي - في مقدمة تحقيقه لكتاب "فضائل البيت المقدس"؛ لأبي بكر محمد بن أحمد الواسطي، والذي قامت بطباعته الجامعة العِبْرية في القدس باللغة العربية ما يأتي:
"كانت ثَمَّةَ اتجاهات لتعظيم حُرْمة "مكة والمدينة"، والتقليل من حُرْمة القدس، وأن علماء المسلمين لم يتفقوا جميعًا على أن المسجد الأقصى هو مسجد القدس؛ إذ رأى بعضهم أنه مسجد في السماء يقع مباشرة فوق القدس، أو مكة".
ويستعين في هذا الصدد بأقوال كاتب فرنسي هو "ديمومين"، حاول من خلاله التمييز بين القدس السماوية والقدس السفلية.
وتتردد هذه المقولة في كتابات العديد من المستشرقين المشككين في مكانة المسجد الأقصى في النصوص الإسلامية؛ ويُستشهد بها كحقيقة مسلَّمَة دون مناقشة أو تقويم؛ للتدليل على مركزية القدس في التصورات اليهودية، وإثبات مكانتها الثانوية في العقيدة الإسلامية.
وخرج علينا كذلك القاديانيُّون - فرقة باطنية ضالَّة - بقدسية "قاديان" في "الهند"، فهم يعتقدون بأن المسجد الأقصى هو مسجد "الميرزا" في "قاديان"، وليس الذي في بيت المقدس!
فقد جاء في صحيفة "الفضل" القاديانية عدد (3) (سبتمبر سنة 1935م): "لقد قدَّس الله هذه المقامات الثلاثة: مكة، والمدينة، وقاديان، واختار هذه الثلاثة لظهور تجليِّاته"، وفي عدد (23): "إن المراد بالمسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله هو مسجد قاديان"
[34].
وهذه الادِّعاءات بلا شك كاذبة يفندها هذا الحديث الذي رواه أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - يقول أبو ذر - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال:
((المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلِّ؛ فإن الفضل فيه
))[35].فالحديث صريح في أن المسجد الأقصى الموجود ببيت المقدس هو المقصود في آية الإسراء، وليس ثَمَّ مسجدٌ آخرُ في السماء يُطلق عليه الأقصى، ولكنَّ كلَّ ما في الأمر أن اليهود والمستشرقين يريدون أن يقطعوا كلَّ صِلةٍ بين الإسلام والمقدَّسات الإسلامية في القدس؛ حتى تصبح هذه الأرض خالصة لهم من دون المؤمنين.
وبعد، فإن ما يفتريه أحبارُ اليهود وعلماؤهم وباحثوهم، ومن سار على شاكلتهم من المستشرقين، وما يقوم به الاحتلال الصِّهْيَوني على أرض فلسطين من قتل وتشريد وتهجير واعتقال وهدم للآثار وتدنيس للمقدَّسات الإسلامية - ليبشِّر بقُرب هلاكهم وتدميرهم وإزالتهم من الوجود وَفق القانون الإلهي: ﴿ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ﴾ [الإسراء: 8].
وقد اقترب تنفيذ هذا القانون الربَّاني؛ لأنهم عادوا إلى الفساد الذي كان سببًا في تدميرهم وتشريدهم مرتين، كما ذكر القرآن الكريم وكما أخبرنا به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: ((تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، يا عبدَ الله، هذا يهودي ورائي فاقتله
))[36].
وها هم يجتمعون بعد شتات، وبعد أن قضى الله عليهم بالتفرُّق في كلِّ بِقاع الأرض، وها هم يعودون إلى الإفساد في الأرض، ويهلكون الحرث والنسل، ويفعلون كلَّ ما يستوجب غضب الجبَّار، فلا يبقى إذًا إلا أن يشحذ المسلمون هِمَمَهم، ويجددوا العهد والميثاق مع ربِّهم، وينطلقوا بقوة الإيمان كأسود استبيحت عرائنها، أو كنسور نُهِشَت لحوم أفراخها فانطلقت تثأرُ، وتنتقم شرَّ انتقامٍ ممن مزَّق شملها واستباح أرضها، من غير أن يرقب فيها إلاًّ ولا ذِمَّة.
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -:
((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود))
[37].
إن القدس الشريف كانت وستظل عروس الإسلام وشرف الأمة الإسلامية، وهي أمانة في أعناق أكثر من مليار ونصف مليار مسلم؛ حتى تعود حُرَّةً عزيزةً كريمةً إلى كنف المسلمين، وترفرف فوق ربوعها الطاهرة رايات الحريَّة والعدالة والتوحيد، كما كانت لآلاف السنين، ومهما طال ليلُ الاحتلال والعدوان الصِّهْيَوني - المدعوم أمريكيًّا وغربيًّا - فهو إلى زوال واندحار بإذن الله - تعالى - هكذا نؤمن عن يقين، وهكذا علمتنا دروس التاريخ: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النور: 55].
ولا يزال للحديث بقية، فإلى حلقة أخرى قادمة إن شاء الله - تعالى.
ـــــــــــــــــ
[1] انظر: ابن الجوزي؛ "زاد المسير"، (5/ 374)، ط (3)، المكتب الإسلامي: بيروت، 1404هـ ، والقرطبي؛ "الجامع لأحكام القرآن"، (11/ 322)، دار الشعب: القاهرة .
[2] الألوسي؛ "روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني"، (22/ 129)، ط. دار إحياء التراث العربي: بيروت، وابن عطية في "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، (4/ 415)، دار الكتب العلمية: لبنان، ط (1)، 1993م .
[3] ابن كثير؛ "تفسير القرآن العظيم"، (4 / 527)، ط. دار الفكر: بيروت، 1401هـ .
[4] ابن كثير؛ "تفسير القرآن العظيم"، (3/ 2).
[5] ابن الجوزي؛ "زاد المسير في علم التفسير"، (5/5).
[6] ابن حوقل؛ "صورة الأرض"، منشورات دار مكتبة الحياة: بيروت، ص (159).
[7] إسحاق بن الحسين؛ "آكام المرجان"، ص (13)، نقلاً عن بحث فلسطين في الأدب الجغرافي العربي؛ للدكتور عماد الدين خليل، ضمن كتاب "دراسات تاريخية"، المكتب الإسلامي: بيروت، ط (1)، 1983م، ص (126).
[8] الزمخشري؛ "الكشاف"، (3/ 355)، دار إحياء التراث العربي: بيروت؛ تحقيق: عبد الرزاق المهدي.
[9] أبو عبدالله محمد المنهاجي السيوطي: "إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى"؛ تحقيق أحمد رمضان أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب: القاهرة، 1982م، (1 / 105 - 106)، نقلاً عن: د . محمد عثمان شبير؛ "بيت المقدس وما حوله"، ط (1)، مكتبة الفلاح: الكويت، 1987م، ص (21).
[10] المقدسي؛ "أحسن التقاسيم"، مرجع سابق، ص (154 – 155).
[11] عيسى القدومي؛ القدس عاصمة الثقافة.... وأكاذيب اليهود (1)، مقال منشور بموقع: مؤسسة فلسطين للثقافة الإلكتروني، بتاريخ : 15/4/2009م.
[12] يقصد عبدالله بن الزبير الذي احتمى بالكعبة، وبويع خليفة للمسلمين.
[13] انظر: نص هذه الوثيقة في كتاب: "القدس بين اليهودية والإسلام"؛ للدكتور محمد عمارة، ص (10 – 23)، ط. نهضة مصر: القاهرة، 1999م.
[14] عيسى قدومي؛ القدس عاصمة الثقافة ..وأكاذيب اليهود (3)، مقال منشور بموقع : مؤسسة فلسطين للثقافة، بتاريخ: 18/4/2009م.
[15] رواه البخاري، ح (1132)، ومسلم ح (1397)، وأبو داود ح (2033)، والترمذي ح (326)، النسائي ح (700)، وابن ماجه ح ( 1409)، وأحمد في "مسنده" ح (7191 - 7248 - 7722)، وابن حِبَّان في "صحيحه" ح (1617).
[16] رواه ابن ماجه ح (1408)، والنسائي في "السنن" ح (693)، وابن حِبَّان في "صحيحه"، (4/512)، ح (1633)، والطبراني في "الأوسط"، (7/ 49)، ح ( 6815)، وقال الألباني: صحيح.
[17] رواه الحاكم في "المستدرك"، (4/ 554)، ح (8553)، والطبراني في "الأوسط"، (8/ 148)، ح (8230)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
[18] رواه أبو داود ح (2483)، وأحمد (4/110) ح (17046)، وابن حِبَّان في "صحيحه" (16/295) ح (7306)، والحاكم في "المستدرك" (4/555) ح (8556)، وقال الألباني: صحيح.
[19] رواه أحمد (5/269) ح (22374)، والطبراني في "المعجم الكبير" ح (7643)، وانظر: "فضائل القدس"؛ لابن الجوزي، ص (94)، "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل"؛ للقاضي مجير الدين الحنبلي، ص (28).
[20] رواه أحمد في "المسند" ح (27498)، قال حمزة الزين: إسناده صحيح، ورواه أبو يعلى في "مسنده" ح (7088)، وقال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح.
[21] رواه الترمذي ح (3954)، وأحمد في "مسنده" (5/ 184) ح (21646)، وابن حِبَّان في "صحيحه" (16/293) ح (7304)، والحاكم في "المستدرك" (2/249 ) ح (2900)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (502)، وفي "المشكاة" برقم (6624).
[22] المناوي؛ "فيض القدير"، دار المعرفة: بيروت، (4/ 274).
[23] رواه الترمذي ح (2217)، وأحمد (2/
ح (4536)، وابن حبان (16/294) ح ( 7305).
[24] رواه الترمذي ح (2192)، وابن ماجه ح (6)، وقال الألباني: صحيح؛ "السلسلة الصحيحة"، رقم (403).
[25] رواه الطبراني في "الكبير"، (8/ 194) ح (7796)، وفي "مسند الشاميين" (2/280) ح (1341)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (1909).
[26] رواه الطبراني في "الكبير"، (7/ 52) ح (6357)، وفي "مسند الشاميين"، (1/56) ح (57)، وقال الألباني: صحيح، انظر: "السلسلة الصحيحة"، رقم (1935).
[27] رواه أحمد في "المسند" (5/ 198) ح (21781)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 555) ح (8554)، والطبراني في "الكبير" (8/ 170) ح (7714)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثِقات رجال الصحيح.
[28] رواه الحاكم في "المستدرك" (4/ 596) ح (8658)، والطبراني في "الكبير" (18/ 65) ح (120)، وفي "الأوسط" (1/ 96) ح ( 291)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي في "التلخيص" : صحيح.
[29] أذال: أهان، وقيل: أراد أنهم وضعوا أداة الحرب عنها وأرسلوها كما في "النهاية".
[30] رواه النسائي في "السنن" (6/ 214) ح (3561)، وابن حبان في "صحيحه" (16/ 297) ح (7307)، وأحمد في "المسند" (4/ 104) ح ( 17006)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (1935).
[31] رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 282)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/60)، والهندي في "كنز العمال" (12/ 123) ح ( 35027).
[32] أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرِّباط في سبيل الله - عز وجل، برقم (1913) .
[33] متفق عليه؛ البخاري، كتاب الجهاد، باب الغدوة والروحة في سبيل الله، برقم (2794)، ولفظه من الطرف رقم (2892)، وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله برقم (1881).
[34] نقلاً عن: عيسى قدومي: القدس عاصمة الثقافة ... وأكاذيب اليهود (4)، مقال منشور بتاريخ 20/4/2009م في موقع : مؤسسة فلسطين للثقافة الإلكتروني.
[35] رواه البخاري (3/ 1231) ح (3186)، ومسلم (1/370) ح (520)، والنسائي ح(690)، وابن ماجه (753)، وأحمد ح (21371).
[36] رواه البخاري في "صحيحه" (3/ 1316) ح ( 3398)، والترمذي (4/ 508) ح ( 2236)، وأحمد في "مسنده" (2/ 149) ح (6366).
[37] رواه البخاري في "الصحيح" ( 3/ 1070) ح (2768)، ومسلم في "صحيحه" (4/ 2239) ح (2922)، وأحمد في "مسنده" (2/ 417) ح (9387) .