مؤرخ إسرائيلي: الفلسطينيون سيتغلبون علينا في غضون 30 إلى 50 عاماً
توقّع المؤرخ الإسرائيلي «بني موريس»، والذي يُعَدّ من رواد تيار المؤرخين الجدد، أن يصبح اليهود «أقلية مضطهدة» داخل إسرائيل، وبزوال الدولة العبرية في غضون 30 إلى 50 عاماً، وذلك في حوار موسع أجرته معه صحيفة «هآرتس» ونشرته بتاريخ 15 كانون الثاني الجاري.
يشير التقرير إلى أنه في الشهر الماضي، احتفل موريس بعيد ميلاده السبعين. وقبل وقت قصير، كان قد أقام حفل تقاعده من جامعة بن غوريون، منزله الأكاديمي.
مَن هو موريس؟
وُلد موريس في عام تأسيس إسرائيل في كيبوتس عين هحورش لوالدين هاجرا من إنكلترا كصهيونيين. ترعرع في القدس ثم انتقل مع والديه إلى نيويورك حيث تم إرسال والده من قبل وزارة الخارجية.
وفي نهاية مرحلة دراسته الثانوية، عاد إلى إسرائيل، وتجنّد في لواء ناحال وقاتل في مرتفعات الجولان خلال حرب الأيام الستة، وفي حرب الاستنزاف أصيب
بقذيفة مصرية.
بدأ موريس دراسة التاريخ في الجامعة العبرية وتخرج من جامعة كامبريدج. يقول: «يبدو أنني تدحرجت دون أي تخطيط أو نية، إلى المهنة الصحيحة، ولكن من العار أنّي لم أدرس علم الآثار».
بدايةً، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي عمل كصحافي. لاحقاً اكتشف أنه مهتم بالأبحاث التاريخية أكثر من التحقيقات الصحافية. عندما أجرى بحثاً في أرشيف البلماح (قوات الصاعقة في الجيش غير الرسمي للمستوطنين اليهود أيام الانتداب البريطاني على فلسطين)، تعرّض للمرة الأولى لمواد تتعلق باللاجئين الفلسطينيين. اللحظة الفارقة، التي حوّلته من صحافي إلى لمؤرخ، وقعت هناك، بين رفوف الأرشيف، عندما وجد أمر الطرد الذي أصدره إسحق رابين لسكان اللد والرملة خلال ما يسمّيه الإسرائيليون بـ»حرب الاستقلال» ويسمّيه العرب بـ»نكبة 1948».
«أدركت أن هناك مادة مثيرة هنا تقوّض تأريخ الصهيونية بشكل عام وتغيّر الصورة، بحيث لا يوجد هنا فقط طيّبون وأشرار، ولكن هناك جانبين قاما بأشياء خاطئة وغير جميلة»، كما يقول.
هكذا وُلد كتابه الأول، الذي مرّ 30 عاماً على نشره، بعنوان «ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين»، والذي رأى النور أولاً باللغة الإنكليزية، اللغة التي يكتب بها جميع كتبه، وتُرجم في ما بعد إلى العبرية وصدر عن دار نشر عم عوفيد.
يتذكر قائلاً: «في البداية، تم رفض الكتاب من قبل العديد من الناشرين، وكان من الصعب عليّ نشره بالعبرية، وكان هناك جدل كبير أيضاً في إدارة عم عوفيد حول نشره، واستغرق الأمر وقتاً حتى تلاشت المقاومة».
بالتزامن مع ظهور باكورة كتبه، وُلد مصطلح «المؤرخون الجدد» أيضاً، والذي استخدمه موريس لوصف عمل مجموعة من الباحثين الرائدين الذين اقترحوا إعادة قراءة تاريخ النزاع، قراءة «مشاغبة، تصحيحية، تعيد النظر في كل ما حدث عام 1948»، على حد قوله، و»تصف أيضاً الجانب المظلم من الجمال والوسامة، وتضع على الطاولة كلمات مثل مجزرة وطرد».
على مدى السنوات الثلاثين التالية، تعمّق في دراسة العلاقات بين إسرائيل وجيرانها وأصبح أحد المؤرخين الإسرائيليين البارزين. «أنا أشعر بتقدم العمر، ولم يعد وصف ‘المؤرخ الجديد’ يناسبني، فكيف يمكنك أن تكون جديداً في عمر السبعين؟»، يتساءل.
موريس وانتفاضات الفلسطينيين
كجندي احتياط، رفض موريس الخدمة في الأراضي الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى، وزُج به في السجن. يقول: «فعلت ما اعتبرته صواباً عام 1988، كانت الانتفاضة الأولى عنيفة، لكنها لم تكن فتاكة. كانت انتفاضة شعبية. ألقوا القليل من الحجارة وربما قُتل شخص أو شخصان. لكن بشكل عام قُتل نحو ألف فلسطيني ولم يُقتل يهود، لأنهم (الفلسطينيون) لم يستخدموا أسلحة نارية. قالوا إنهم لا يريدون العيش تحت نظام عسكري وقمع إسرائيلي. رفضت الاستمرار في هذا القمع عندما نشروا كتيبتي في (حي) القصبة بنابلس. وضعوني في السجن لعدة أسابيع. وذلك عقاب هين. في جيوش أخرى يلقون مَن يرفض تنفيذ الأوامر في السجن لسنوات».
*هل كنت لتكرر رفض تنفيذ الأوامر في الانتفاضة الثانية؟
"-لا. في الانتفاضة الثانية، اعترضت على رفض تنفيذ الأوامر، لأنها لم تكن فقط ثورة ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل كانت أيضاً محاولة لإسقاط إسرائيل. الكثير من الهجمات وقعت على جانبنا من الحدود وشملت قتلاً جماعياً. مع ذلك أنا أتفهم الجنود الذين لا يريدون الخدمة على الحواجز، واقتحام المنازل في منتصف الليل وقلب خزائن الملابس بحثاً عن الأسلحة. هذا عمل مزعج للغاية وينطوي على إشكاليات أخلاقية، لكن المشكلة الأخلاقية أيضاً هي الرغبة العربية في تدمير إسرائيل".
الخروف الأسود
نُشر كتاب موريس "من دير ياسين إلى كامب ديفيد" (دار عم عوفيد)، عام 2018. لا يحوي نصوصاً جديدة، بل مجموعة من المقالات الشخصية والسياسية والتاريخية التي كتبها. هو نوع من ملخص للفصل الإسرائيلي العربي في مسيرة موريس المهنية. اتهمه اليمين في البداية بأنه "يساري" و"خائن"، عندما كشف عمّا يخالف الموقف الرسمي الذي كان مسلماً به حتى ذلك الوقت وقال إن الكثيرين من الفلسطينيين لم يغادروا طوعاً، بل تم طردهم وفرّوا، وبعضهم أيضاً قُتلوا واغتُصبوا على يد جنود الجيش الإسرائيلي.
وفي نهاية مسيرته المهنية، تم تتويجه على يد اليسار كـ"يميني" و"رجل بنيامين نتنياهو"، عندما شهد "تحولاً" سياسياً، وألقى باللوم على الفلسطينيين عن الوضع الذي تدهور إليه الصراع.
"ملت إلى اليمين في السياق السياسي، وليس في التاريخي. أنا ما زلت مؤرخاً ولست سياسياً"، يوضح ويجيب على المشككين في نزاهته المهنية. "التغيير الذي حل بي يتعلق بمسألة واحدة. الرغبة الفلسطينية في قبول حل الدولتين، والتنازل عن جزء من أرض إسرائيل".
على حد قوله، "أدرك في أعقاب الانتفاضة الثانية أن الفلسطينيين لن يوافقوا على التنازل عن مطلبهم الأصلي وهو الحصول على كل أرض إسرائيل لتكون بحيازتهم وتحت سيادتهم. لن يكون هناك حل وسط جغرافي، لن يكون سلام على أساس تقاسم الأرض، خاصة لأن الفلسطينيين مقيّدون برغبتهم في السيطرة على كل أرض إسرائيل والقضاء على الصهيونية".
*لكن ماذا عن دور إسرائيل في فشل المفاوضات؟ يزعم مؤرخون آخرون أن (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق) إيهود باراك اقترح على (الزعيم الفلسطيني) ياسر عرفات عام 2000 خريطة تقسم الضفة الغربية إلى رقع، بحيث لا يستطيع الموافقة عليها منذ البداية.
-"كاذب مَن يقول إن باراك و(الرئيس الأمريكي الأسبق) بيل كلينتون قدّما للفلسطينيين عرضاً لم يكن بوسعهم الموافقة عليه. دنيس روس المفاوض (الأمريكي) الرئيسي، أوضح في كتابه أن هذا الادعاء هراء. عدم وجود تواصل جغرافي هو فقط بين غزة والضفة. في الضفة عُرضت عليهم كتلة جغرافية متصلة تبلغ مساحتها 95% من أرض الـ67 ورفضوها. القصة هنا ليست تلك الخطة أو غيرها، بل حقيقة أنهم يريدون 100% من جغرافيا أرض إسرائيل الانتدابية. لقد لعبوا لعبة عندما قالوا إنهم مستعدون لحل وسط. الحركة الصهيونية الوطنية وافقت بالفعل على حل وسط في 1973 و1974 و1977 وفي 2008، على أساس دولتين لشعبين. وصحيح أن في إسرائيل الآن حكومة ليست على استعداد للتنازل".
"هناك مَن يقولون لو كان (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق) رابين حياً لكنا وصلنا إلى تسوية مع الفلسطينيين. هذا هراء. رابين أيضاً لم يكن قادراً على تغيير الروح الأساسية للحركة الوطنية الفلسطينية التي تقضي بأن كل أرض إسرائيل لهم وبأن اللاجئين يجب أن يعودوا إلى بيوتهم وأرضهم. وإذا ما حدث ذلك، فسوف يأتي فقط على أساس تدمير إسرائيل".
هذا الفهم هو الذي جعل موريس، وفق قوله، أقرب إلى اليمين. "أصبحت متشائماً حيال هذا الأمر، وبطريقة ما يمينياً"، يقول ويسارع إلى إبداء تحفظات: "ما زلت أعتقد أن الحل الوحيد لتحقيق العدالة لكلا الجانبين هو تقسيم الأرض إلى دولتين. وللأسف، هذا الحل غير واقعي ولن يحدث".
*أنت الخروف الأسود لـ"المؤرخين الجدد". آفي شلايم، توم سيغف وإيلان بابي لم يسيروا في طريقهم يميناً. إذن إما أنك الوحيد الذي رأى النور، أو أنك الوحيد الذي أخطأ.
- "فهم بعضهم من الانتفاضة الثانية أن إسرائيل دولة قمعية، تواصل السيطرة على شعب آخر، وتستخدم القوة المفرطة رداً على الإرهاب. بابي تحوّل إلى معادٍ بشكل كامل للصهيونية. أنا أمثل رأي الأقلية، لكن الأقلية بشكل عام صادقة عندما يدور الحديث عن العالم الفكري. الهدف هو الدخول في رأس الجانبين وفهم دوافعهما. وأنا أزعم أنني أفهم جيداً كلاهما. خذ على سبيل المثال توم سيغف، الذي يزعم في كتاب "1967" أننا خرجنا للحرب انطلاقاً من شهوة الأرض والتوسع، بدلاً من قول الحقيقة: إن تلك الشهوة وُلدت في أعقاب الحرب وليس قبلها".
مع ميله نحو اليمين تأتي أيضاً تصريحات موريس في مدح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهو مشهد نادر في منطقة العلوم الإنسانية في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية. "في الأفق، لا يكاد يوجد أحد اليوم يستطيع أو يجب أن يحل محل نتنياهو ويكون رئيس وزراء مقبولاً من الشعب"، يقول.
*أليس لديك أي انتقاد له؟
- "انتقدته في كل الأمور، مثل إدارة لمنزله في شارع بولفور والفساد العام الذي يدعمه أو حتى يجسده. كذلك، إني أرفض تصريحاته المعادية للديمقراطية تجاه عرب إسرائيل. أفعاله في مجال الدين، وتوسيع المستوطنات وتعريف الأمة اليهودية تؤدي إلى اغتراب يهود الولايات المتحدة، ومعظمها تحتقر الأرثوذكسية والقومية المتطرفة".
نقطة أخرى ينتقد فيها نتنياهو تبدو مفاجئة من شخص يدّعي أنه لا توجد فرصة للسلام مع الفلسطينيين: "عدم استعداده للحديث مع الفلسطينيين حول تسوية. لم يضع أي شيء على الطاولة تجذبهم للنقاش"، يقول.
*لكنك نفسك تقول إنه ليس هناك مَن نتحدث معه. إذن لماذا تغضب على نتنياهو بشأن ذلك؟
- "حتى إذا ما كانت مسألة التسوية الإقليمية (تتعلق بالأراضي) مع الفلسطينيين ليست منطقية في هذا الجيل، مثل سابقه أيضاً، عليك أن تلعب اللعبة الدبلوماسية، حتى إنْ كنت تدرك أنها لن تقود إلى أي مكان، حتى تحافظ على تعاطف الغرب. عليك أن تظهر كأنك ساع للسلام، حتى إنْ لم تكن كذلك".
*كيف تنظر إلى التقارب بين نتنياهو و(الرئيس الأمريكي) دونالد ترامب؟
- "أتوقع أن سقوط ترامب والإطاحة به، هذا العام أو عام 2020، سيضعف بالضرورة، إنْ لم يكن من شأنه تقويض، العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بسبب تماهي بيبي الكامل مع ذلك الأحمق. وغني عن القول إن العديد من اليهود في أمريكا يشيرون إلى وجود تشابه بين ترامب وبيبي في ما يتعلق بالتعامل مع القانون. من دون قصد، يعمل نتنياهو على عدة مستويات على تدمير العلاقة بين إسرائيل ويهود أمريكا وتقويض العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية".
في المقابل، يقدّر موريس نتنياهو على موقفه الهجومي الذي أبداه تجاه إيران ومشروعها النووي، وهو الموضوع الذي كتب عنه عام 1992 في مقال بعنوان "التهديد النووي". لكن لو كان الأمر متروكاً لموريس، لكانت إسرائيل قد خرجت للحرب. يقول: "أحد أكبر أخطاء نتنياهو هو عدم قصف المنشآت الإيرانية"، ويضيف: "كان ذلك من شأنه أن يشعل حريقاً هائلاً، لكن حزب الله وحماس ليسا مسألة وجودية، وعلى أي حال كان يمكننا غزو لبنان مجدداً والقيام بالمهمة على نحو أكثر جدية مما فعله (رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق) إيهود أولمرت خلال فترة ولايته".
*إنْ كان بإمكانك العودة إلى الوراء، ماذا كنت لتصحح في التاريخ؟
-"إذا انتهت حرب الاستقلال بالفصل التام بين السكان، عرب إسرائيل على الجانب الشرقي من الأردن واليهود على الجانب الغربي من الأردن، لكان الشرق الأوسط أقل انفجاراً، ولكانت معاناة الشعبين في السنوات السبعين الماضية أقل بكثير. كانوا سيأتون راضين مع دولة معيّنة لهم، ليس بالضبط ما أرادوه، وكنا نحن سنحصل على كل أرض إسرائيل".
*هل تقول إنه كان يجب أن يجري تطهير عرقي للعرب في ذلك الوقت؟
-"لا أستطيع الدخول في عقول الناس وتفكيرهم. ديفيد بن غوريون أراد أن يكون هناك أقل عدد ممكن من العرب في الدولة اليهودية في نهاية عام 1948، وحرص على التلميح لضباطه بأن هذا ما يريده، لكنه علم أن الأمر بطرد العرب ليس من الصواب القيام به لحظة تأسيس الدولة. لذلك فعل الأمرين: في اللد والرملة صادق على الطرد، لكن في الناصرة أوقف التهجير. وبذلك بقي في نهاية الحرب 160 ألف عربي في إسرائيل".
*وهل تعتقد أنه من المؤسف حدوث ذلك؟
-"هناك مَن يقولون إنه من المؤسف. أعتقد أن أقلية عربية كبيرة في الدولة اليهودية، إنْ كانت متضامنة مع المكوّن الفلسطيني والإرادة الفلسطينية في التخلص من إسرائيل، مثلما يفعل بعض أعضاء الكنيست، وممثلون منتخبون من المجتمع العربي، فهي تمثل مشكلة".
*أنت تتحدث عن طبيعة عربية تجعلهم يقتلون كما لو أن ليس لهذه الأشياء سياق: التمييز في الميزانيات الاجتماعية والحرمان والاستبعاد من مواقع القوة.
-"هناك في العالم العربي، وعرب إسرائيل جزء منه، غياب للنقد الذاتي. دائماً الأجنبي هو المذنب: البريطاني، الأمريكي، الروسي، اليهودي، الإسرائيلي. أحد آخر هو المتهم بالتسبب في مشاكلك. تزدهر لديهم الجريمة بشكل كبير مقارنة بالمجتمع اليهودي. إنْ قلت لي إنهم أكثر فقراً لذا هناك الكثير من جرائم السرقة، لقلت لك صحيح، المجتمعات الفقيرة تزدهر فيها جرائم خطيرة. لكن نحن هنا بصدد قتل بأعداد كبيرة جداً. لا يتعلق ذلك بالمال. هذا طابع مجتمع".
*في الخطاب الفلسطيني هناك مَن يتحدث عن "الإبادة الجماعية" التي تقوم بها إسرائيل ضدهم. حتى بين المؤرخين الإسرائيليين، مثل البروفيسور دانييل بلاتمان، هناك مَن يحذّرون من أن إسرائيل تتبنى إيديولوجيا يمكن أن تؤدي في النهاية إلى الإبادة الجماعية.
-"ما حدث للفلسطينيين منذ عام 1948 هو قمع معيّن، تضمّن، هنا وهناك، جرائم صغيرة، لكن هذا حدث في إطار حرب بين حركتين قوميتين، يمكن القول إنهم المذنبون فيها. نتيجتها كانت عدداً معيّناً من القتلى، لكن هذه ليست إبادة جماعية، حتى إنْ تحدثت الدعاية الفلسطينية عن ذلك، وشبهها أشخاص مثل بلاتمان بالنازيين. يجب أن تكون دقيقاً وتلتزم الحقائق. قتل النازيون ستة ملايين شخص لم يكونوا يقاتلونهم، وهو ما يختلف عن القتل خلال الحرب مع الفلسطينيين الذين يقاتلونك ويسقطون ضحايا لديك. المذابح جرائم. في الحروب يُقتل الناس ويُذبح بعضهم أيضاً. ليس هذا جميلاً، لكنه ما يحدث. لكن عندما تنظر إلى المذابح في حروب أخرى، خاصة في الحروب الأهلية الأخرى، سترى أن ما حدث هنا عام 1948 كان حرباً نظيفة جداً بشكل عام. عدد القتلى العرب من بين المواطنين أو أسرى الحرب كان نحو 800. وذلك خلال الحرب التي شنوها والتي قتلوا خلالها يهوداً. هذا رقم ضئيل مقارنة بما حدث في حرب يوغوسلافيا في التسعينيات، في وقت أكثر استنارة بكثير، هناك قُتل خلال يومين سبعة آلاف شخص".
*وماذا بالنسبة إلى العنصرية، والتطرف والعنف السياسي؟ هناك مَن يحذّرون من ظهور علامات هنا ظهرت في ألمانيا النازية.
-"هذا في الغالب خطأ وغير عادل. لا أعرف إلى أين تذهب إسرائيل. صحيح أنها تنحو يميناً وتصبح دينية وهذا لا يبدو جيداً، لكننا بعيدون جداً عن أن نكون مثل ألمانيا، حيث كانت هناك حركة نازية قوية قتلت الناس في الشوارع. إذن المقارنة في غير محلها".
*في أحد فصول كتابك الأخير، بعنوان "تاريخ دير ياسين"، تحاول أن تصف الجدل المستمر منذ عقود حول ما حدث في قرية غرب القدس في منتصف حرب عام 1948. كيف يحدث أنه حتى بعد مرور عقود، لم يتحدد ما إذا كانت هناك مذبحة؟
-"الجدل دلالي. إذا أخدت 50 أسيراً، وألصقتهم بالحائط وقتلتهم، مثلما حدث في قرية الجش عام 1948، فإن هذه مذبحة. في دير ياسين لم يحدث ذلك، لكنهم قتلوا بعضهم هنا وبعضهم هناك، أمسكوا بضعة أسرى وقتلوهم، وهناك آخرون لم يُقتلوا. محصلة القتلى هناك نحو مئة مدني. لذا فإن السؤال هو ما إنْ كنت تجمع معاً بعض الفظائع التي ارتُكبت بحق مئة شخص وتطلق عليها اسم مذبحة، أو تقول: لقد قتلوا عدة عائلات هنا وهناك، ليس مع سبق التعمد، في أماكن مختلفة وفي لحظات مختلفة، فإن ذلك ربما قتل مدنيين وليس مذبحة".
*ماذا يعني ذلك إذن؟ ألا توجد حقيقة واحدة؟
-"هناك حقيقة. هناك وقائع لا يمكن الجدال بشأنها. يجب أن يعمل المؤرخون على أساس المستندات، ليستخلصوا منها ما يوضح الحقيقة، ويكشفوا ما حدث. على المؤرخ أن يستعين بأكبر عدد ممكن من المصادر كاليوميات والمذكرات، التقارير الرسمية وشهادات الناس من أرض الحدث. يتعين عليه ألا يخفي أدلة لا تتفق مع ما يعتقد أنه يحدث. وفي نهاية الأمر، عليه أن يقدّر إلى أين تميل معظم الأدلة والمستندات.
هناك تحفظات حول الشهادات الشفوية. لكن في بعض الأحيان تكون ذكرى طفولة شيخ القرية أو انطباعات المحارب المخضرم قادرة على وصف ما حدث بشكل أفضل من وثيقة أو أخرى، تم محوها أو إعادة كتابتها أو لم تكتب من الأساس.
يجب أن ننظر في دوافع الشخص الذي كتب هذه الوثائق، في مصلحته لتعزيز حقيقة دون أخرى، ولكن ليس هناك شك في أن وثيقة من ذلك الوقت، كتبت في نفس يوم وقوع الحدث، بقرب جغرافي وتسلسل زمني لما تصفه، أكثر موثوقية من شخص تتحدث معه بعد 50 عاماً. أستمع إلى ألف صيغة من القصة.
"هناك أيضاً مشكلة فقدان الذاكرة أو كبت الأحداث التي لا نريد تذكرها. عندما بدأت الكتابة عن قضية اللاجئين قصدتُ يغال يادين، قائد الهاغاناه والجيش الإسرائيلي عام 1948. سألته بعد 30 عاماً عن أكبر تهجير نفّذه الجيش خلال الحرب، في اللد والرملة في تموز 1948. لم يتذكر أن هناك تهجيراً حدث. أخبرته أن بحوزتي المستندات التي أمر رابين خلالها بالتهجير، وأن لواء يفتاح موديعا هو مَن نفّذ التهجير إلخ، فرد على "لا أذكر شيئاً من ذلك". وهذا شخص مطلع على التاريخ وكان في مركز الأحداث. كان مشغولاً بألف شيء، وربما مصير 70 ألف عربي لم يكن يشغله. احتمال آخر أن يكون كبت تلك الذكريات لأنها ليست من النوع الذي يريد تذكره".
*أيضاً قضية "مذبحة الطنطورة"، وهي اسم فصل آخر في كتابك الأخير، هي نموذج لصعوبة التأريخ الشفوي. تيدي كيتس ناشط السلام من كيبوتس مغال، أجرى مقابلات مع 135 من لاجئي الطنطورة وجنود الجيش الإسرائيلي، وجزم بأن جنود اللواء ألكسندروني ارتكبوا مذبحة بحق أهل القرية العربية. قدامى المحاربين رفعوا دعاوى قضائية ضده وأثبتوا أنه لفق أدلة.
-"في قضية الطنطورة، تذكّر هؤلاء الناس أشياء حدثت قبل 40 عاماً، لكن الوثائق نفسها تجاهلتها تماماً. بيت القصيد أنه عليك التمسك بالمستند. ولأن البيروقراطية الحديثة واسعة للغاية وتوزع الكثير من الأوراق، إذا بذلت ما يكفي من الجهد، ستصل إلى نتائج. إنْ كانت هناك نار فسوف يظهر الدخان حتماً. من واقع خبرتي، تظهر الوثائق في النهاية".
*ما لم يقرر أرشيف الجيش الإسرائيلي أو أرشيف الدولة فرض الرقابة عليها...
-"فرضوا الرقابة مرة، ويفرضونها أيضاً اليوم، بل أكثر من ذلك. هذه مشكلة تجعل من الصعب الوصول إلى الحقيقة. ملفات كانت مفتوحة أمامي في التسعينيات من القرن الماضي أغلقت الآن أمام باحثين آخرين. مثلاً، حيال دير ياسين. أحد الملفات التي كانت مغلقة حينذاك أيضاً هي صور الضحايا. هذا الملف موجود في أرشيف الجيش ولم يُفتح أبداً. بصفتي مؤرخاً، أظن أن ذلك أمر رهيب، لأنهم عندما يخفون موادَّ كهذه يحاولون تشويه صورة الماضي لجعله أكثر لطفاً. إذا ما فعلوا ذلك حيال دير ياسين، فربما فعلوا ذلك أيضاً حيال سلسلة طويلة من الوثائق الأخرى، كسياسة".
ندم
يعتزم موريس وهو متزوج، وأب لثلاثة وجد لتسعة، كتابة سيرته الذاتية "حول موضوع لا علاقة له بالنزاع" كما يقول. وعندما سُئل إنْ كان هناك شيء في سيرته يندم عليه أشار إلى بعض تصريحاته في حوار أجراه معه آري شفيت عام 2004.
في ذلك الحوار، قال موريس من بين أمور أخرى: "هناك ظروف في التاريخ يكون فيها مبرر للتطهير العرقي"، وأوضح: "أعرف أن هذا المفهوم سلبي تماماً في خطاب القرن الواحد والعشرين. ولكن عندما يكون الاختيار بين التطهير العرقي والإبادة الجماعية، أفضل التطهير العرقي".
وقال أيضاً: "علينا أن نقيم شيئاً مثل القفص للفلسطينيين، أعلم أن ذلك يبدو رهيباً، إنه قاس في الحقيقة، لكن ليس هناك بديل، هناك حيوان متوحش يجب أن يُسجن بطريقة أو بأخرى".
الحديث مع موريس ينزلق بسرعة إلى مناطق متشائمة جداً. "أنا لا أرى كيف نخرج من ذلك"، يقول، في إشارة إلى استمرار وجود إسرائيل كدولة يهودية. "الآن هناك بين البحر والأردن عرب أكثر من اليهود. المنطقة كلها تتحوّل بشكل لا يمكن منعه إلى دولة واحدة فيها أغلبية عربية وتطلق على نفسها اسم دولة يهودية، لكن الوضع الذي نسيطر فيه على شعب محتل ليس له حقوق لا يمكن أن يستمر في القرن الحادي والعشرين، في العالم الحديث. وفي اللحظة التي يتمتعون فيها بحقوق، لن تكون الدولة يهودية".
*إذن ماذا سيحدث؟
-"سينتهي هذا المكان إلى دولة شرق أوسطية ذات أغلبية عربية. وسيزداد العنف بين مختلف السكان داخل البلاد. وسيطالب العرب بعودة اللاجئين. وسيظل اليهود كأقلية صغيرة في بحر عربي كبير من الفلسطينيين، أقلية مضطهدة أو مذبوحة، مثلما حدث عندما عاشوا في الدول العربية، ومَن سيستطيع من بين اليهود سيهرب إلى أمريكا والغرب".
*متى يمكن أن يحدث ذلك وفق تقديرك؟
-"ينظر الفلسطينيون إلى كل شيء من منظور واسع وطويل المدى. فهم يرون أن هناك حالياً حوالي 5 أو 6 أو 7 ملايين يهودي محاطين بمئات الملايين من العرب، وليس لديهم سبب للتنازل، لأن ذلك لن يدوم طويلاً. عليهم أن ينتصروا علينا. سيتغلبون علينا في غضون 30-50 عاماً".